حضارة وفكر

الصِّلات العلمية والتربوية عند أعلام المدرسة الإصلاحية في الشام

تميزت المدرسة الإصلاحية في بلاد الشام بامتداد صِلات الرحم والمعرفة والعلم بين رموزها، وقد حملت صور ترابطهم وتواصلهم لوحات عظيمة من العلم، والتربية، وصفاء الروح، وفيما يلي وقفات مع عدد من هذه اللوحات.

شعبان 1441 هـ – نيسان/أبريل 2020 م

د. ياسين جمول[1]

قيل: العلم رَحِمٌ بين أهله. وأهلُه هم المشتغلون به؛ معلِّمين ومتعلِّمين، وعلى نحو ما تكون الصلات بين أرحام الدم يحسُن أن تكون بين مَن يجمعهم رحِم العلم، بل أفضل؛ لأنَّهم حمَلَة الدِّين، وقد قال شيخ الـمُصلحين في الشام القاسميُّ رحمه الله: «إنَّ الأساتذةَ آباءٌ في الدِّين؛ فجديرٌ بالعاقل أن يقدّرهم أقدارهم، وينشر مآثرهم وآثارهم، ويمحّضهم الشكرَ والدعاءَ لهم في السرّاء والضرّاء؛ والنَّسَبُ الرُّوحاني لا يقلّ -إنْ لم يتفوّق- عن النَّسَبِ الجِسمَاني»[2].

وحيث إنَّ المدرسة الإصلاحية في الشام نهايةَ القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين انطلقت مع البيطار والقاسمي والجزائري في ثورة إصلاحية في العلم والتعليم والدعوة والتأليف والجهاد[3]؛ فإنَّ النظر في الصِّلات العلمية لهذه المدرسة من الأهميَّة بمكان؛ لأنَّ رموزها قادوا نهضةً أعادت للشام ألقها وتصدُّرها، فامتدَّت ثمارها شرقًا وغربًا.

إنَّ الأساتذةَ آباءٌ في الدِّين؛ فجديرٌ بالعاقل أن يقدّرهم أقدارهم، وينشر مآثرهم وآثارهم، ويمحّضهم الشكرَ والدعاءَ لهم في السرّاء والضرّاء
جمال الدين القاسمي رحمه الله

وتظهر الصلات العلمية عمومًا في ثلاثة مستويات: مع الشيوخ، ومع الطلاب، ومع الأصحاب والمتعاصرين، ولكثرة التشعُّب في هذه المستويات عند رموز المدرسة الإصلاحية، نقف معها وقفات تعطي ملامح تلك الصلات، ونستقي منها الدروس والعِبَر:

أولاً: مع الشيوخ والمعلِّمين:

الشيوخ من الأهل:

ما زال واقراً في النفوس أنَّ العلوم عامة -والشرعية منها خاصة- لا يمكن لمتعلِّم التميّز فيها إن كان شيخُه كتابَه فحسب، فكان الحثّ على أخذ العلم عن أهله، ومِن كرم الله على المرء أن ينشأ في بيئة علمية تكون تربةً خصبةً له ليَنمُوَ ويَسمُوَ. ولعل هذا أوّل ما يطالعنا في أعلام المدرسة الإصلاحية في الشام؛ فهذا الشيخ عبد الرزاق البيطار يذكر شيوخه في إجازاته فيقول: «إني بحمد الله قد أخذتُ عن مشايخ كثيرين، واتصل سندي بهم بسيد المرسلين…، منهم، بل أفضلُهم لديَّ وأجلُّهم مِنَّةً عليَّ: سيدي الوالد الشيخ حسن بن إبراهيم بن حسن البيطار تغمّده الله برحمته وأحسن إليه في دار القرار؛ فإني قد حضرت عليه جملة من الفنون»[4]، ويترجم لوالده­ في كتابه «حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر» ترجمةً وافيةً بين الأعلام[5]، بل يزيد في ذكر شيوخه فيسمّي بعد والده أخاه محمدًا أمين فتوى الشام وأخاه عبد الغني[6] .

وصاحبُه في الدعوة والإصلاح الشيخ جمال الدين القاسمي أفردَ ترجمة والده وشِعرَهُ بكتاب مستقل بعنوان: «بيت القصيد في ترجمة الإمام الوالد السعيد»، ومما قاله فيه: «وكم غذّاني بعوارف معارفه الحِسان، وأذاقني من حلاوة آدابه ما تجهَد فيه يدُ الإمكان، وبذلَ قصارى اجتهاده في إمدادي وإسعادي»[7]، وقال: «وكان سيدي الوالد رضي الله عنه حينما يراني مواظبًا على دروسي ومطالعتي يزداد في دعواته الصالحة للفقير، وينظم في رضائه عني أبياتًا يشوّقني في دوام الاجتهاد…؛ وأعظم شيء عندي من جليل أدعيته قوله لي أغلب الأوقات: الله يرضى عليك كما رضي على الصّدِّيق»[8]؛ فما أجملها من تربية وما أجلّها من دعوات!

ومن بعدهما ربيبُهما معًا الشيخ بهجة البيطار، أخذ عن أبيه الشيخ بهاء الدين وأخذ أكثرَ عن جدّه لأمّه الشيخ عبد الرزاق البيطار[9].

ونجد في سيرة الشيخ بدر الدين الحسني أنَّه بدأ الطلب على والده أولاً، فلما مات دفعته أمّه -وكانت من أسرة علمية عريقة من آل الكزبري- إلى أبرز شيوخ عصره[10]؛ فكانت أمُّه خيرَ موجّه له حتى صار محدِّث الشام.

لكنّ الآباء ليسوا سواءً في العناية بأبنائهم كما هو حالنا اليوم، لذا نجد الطنطاوي وهو يكتب كلماتٍ بماء العيون عن والده الشيخ مصطفى، لا يُخفي أن غيره انتفع بعلم والده أكثر منه، فيقول: «كان حظّي من علم أبي دون حظوظ الآخرين؛ وما كنتُ أراه إلا طرفَي النهار، وإنْ كان في الدار لم يخلُ من أصدقاء أو زوّار؛ ولو أنَّ الله ألهمَه أن يتفرّغ لي أو يُوليَني مثل الذي كان يوليه المقرّبين من تلاميذه، لَرجوت أن أنتفع به أكثر مما انتفعوا»[11]، وكان أبي «من صدور الفقهاء ومن الطبقة الأولى من المربّين والمعلّمين؛ ولكنه كان كأكثر المدرِّسين والدعاة ربما شغلته مدرستُه ومسجدُه عن الإشراف الدائم على أولاده»[12]؛ فهذه رسالة للآباء في التنبُّه للأبناء، وللأبناء للحملِ عن آبائهم، فلا يتركوا خيرًا هم أَولى الناس به.

ومن تأكيدهم لأهمية حفظ العلم في الأبناء ما قاله الشيخ بهجة البيطار للشيخ بهجة الأثري في رسالة تعزيته بعلّامة العراق محمود شكري الآلوسي: «ولذا رجوتُ.. في كتابي السابق أن ينوب عنّي بتعزيتهم؛ ولعلَّ فيهم مَن يشتغل في العلم فيسدّ بعض فراغ الفقيد إن شاء الله»[13].

كانت الإجازات العلمية بمثابة الشهادات الجامعية اليوم
علي الطنطاوي رحمه الله

الإجازات:

ومما يستوقف في صلات الـمُصلحين بشيوخهم: الإجازات؛ فهي الرابطة التي تؤكّد قرابة العلم للمرء بشيخه، فكانت الإجازات بمثابة الشهادات الجامعية اليوم كما يقول الطنطاوي[14]، لذا نجد تأكيدهم على تحصيلها من شيوخهم، قال القاسمي: «وقد أجاز لي إجازةً عامةً كثيرٌ من كبار الشيوخ»، ثم ذكر مَن أجازوه مِن الدمشقيّين وغيرهم[15].

وفي الإجازات أدبٌ جمٌّ وعلمٌ وتاريخٌ، يحسن بها بحث مستقل[16].

الأدب في مخالفة الشيوخ.. والوفاء لهم:

والإجازات لهم من شيوخهم لا تعني التقليد الأعمى دون مخالفة للشيوخ أبداً؛ وإلا كانوا استمرارًا لِمَا كان عليهم عامة أهل الشام دون النهضة الإصلاحية التي قاموا بها، فقد قرأ أستاذ القاسمي الشيخ بكري العطّار حديثًا صحيحًا ثمَّ قال بعد قراءته: «إنَّ هذا الحديث مُشكِل؛ لأنَّه يخالف مذهب الشافعي الذي نحن عليه، فأجابه قائلاً: يا أستاذ! هل الإشكال في الحديث الصحيح الصريح في الحكم؟ أم الإشكال في المذهب الذي خالفَه؟! فتنبَّه عند ذلك الشيخ العطّار وأدرك خطأه وقال له: صدقت؛ فإنه لا إشكال في الحديث، إنَّما الإشكال في مذهبنا الذي خالفَه»[17].

 ويَذكُر القاسميّ شيخَه الخاني بكل إجلال، وإنْ تركَ طريقتَه النقشبنديةَ التي التزمها معه، ليسلك منهج السلف، دون أنْ يُفسد هذا صلته بشيخه، فيقول: «ولم أنقطع عن زيارته، وكان يتودّد إليّ ويعظّمني… وبالجملة فهو من أفضل أشياخي الذين انتفعتُ بمجالسهم وتأدّبت بآدابهم واغتبطت بصحبتهم»[18].

 وهذا الوفاء بين العلماء وشيوخهم أمرٌ بادٍ فيهم؛ إذ يصف الإمام محمد رشيد رضا القاسميَّ فيقول: «وكان تقيًّا ناسكًا… وفيًّا للإخوان، يأخذُ ما صفا ويدعُ ما كدر… ومن وفائه أن لم يقطع مراسلتنا ولا مراسلة الأستاذ الإمام[19] في إبّان ثقل وطأة الاستبداد الحميدي؛ إذ كانت مراسلتنا تُعدّ من الجنايات السياسية التي تعاقب الحكومة صاحبها أشد العقاب»[20].

لِيعلم هذا الجيل الذي نقوم على تربيته أنَّ في هذه الدنيا بقايا من الوفاء والمحبة، تتماسك بها أجزاء هذا الكون الإنساني، وأنَّه لولا هذه البقايا لانحدر الإنسان إلى حيوانية عارمة، كالتي بَدَت آثارها في الجماعات التي جفّت نفوسها من الوفاء والمحبة
محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله

ويكأنّ هذا الوفاء للشيوخ دَينٌ ووفاءٌ؛ فقد جاء في ترجمة الشيخ حامد التقيّ النصُّ على وفائه الشديد لشيخه القاسمي[21]، وحكَى الشيخ عاصم البيطار عن والده الشيخ بهجة: «لم يكن يذكره في بيته أو على ملأ من قومه إلا بقوله: شيخنا علّامة الشام، أو شيخنا القاسمي…، وكنت أشعر بسعادة والدي رحمه الله وهو يعمل فيما طُبع من كتب شيخه، وكم كنتُ أراه يبكي وهو يعمل، ويبكي وهو يذكر أستاذه القاسمي»[22]؛ فما أعظمه من وفاء!

وفي الوفاء مع مُصلحي الشام يقول العلّامة محمد البشير الإبراهيمي بعد رسالةٍ من الشيخ بهجة البيطار: «لِيعلمَ هذا الجيل الذي نقوم على تربيته أنَّ في هذه الدنيا بقايا من الوفاء والمحبة، تتماسك بها أجزاء هذا الكون الإنساني، وأنَّه لولا هذه البقايا لانحدر الإنسان إلى حيوانية عارمة، كالتي بَدَت آثارها في الجماعات التي جفّت نفوسها من الوفاء والمحبة…، وإنَّ منبعَ الوفاء الشرقُ، وإن زارعَه وساقيَه والقيّمَ عليه هو الإسلامُ، وعسى أنْ تحمل البصائر هذه الذكريات إلى الإخوان في دمشق فنتنادم على البُعد ونلتقي على الذكريات ونتناشد»[23].

طلاب تقدّموا شيوخهم.. والشيوخ يقرّون بتفوّقهم:

ولهذه الصلة الصحّية بين الـمُصلحين وشيوخهم، نجد شيوخهم الكبار يحضُرون دروسهم، فذكرَ القاسمي شيخَه عبد الرحمن المصري الذي قرأ عليه القرآن أول عمره، وقال: «وبعدما كبرتُ حضر كثيرًا من مجالس دروسي الفقهية والتفسيرية، وكان رُبما أراد تقبيل يدي، فأُجلّ ذلك لمشيخته»[24]. بل يعترف له شيخه الخاني بالتقدُّم عليه[25]، ويعترف الشيخ أبو الخير الخطيب أمام الوالي العثماني -وأمام الزعماء تُعرض الدعاوى وتزداد!- فيقول عن الشيخ بدر الدين الحسني: «إن الشيخ بدر الدين هو تلميذي؛ ولكنه فاق عليَّ كثيرًا في العلم»[26].

ثانياً: مع الطلاب:

إجلال الطلاب ومحبّتهم:

لا يُتصوَّر ممن كانوا مع شيوخهم على نحو ما سبق في الوفاء والإجلال أن يكونوا أقلّ من ذلك مع طلابهم؛ وهم الروَّاد السابقون في الحثّ على التعلُّم والتميّز فيه، وأنه ليس للتبرّك[27]، ومما يجلّي الأبوّةَ التي ذكرها القاسمي مع الطلاب والنهجَ الإصلاحيّ مع ما سبق: حرية البحث والرأي، فجاء في كلام طلاب القاسمي عنه: «وكان رحمه الله مع طلابه كالصديق مع صديقه، يعطيهم الحرية في البحث، قال تلميذه: باحثتُه مرةً وخالفتُه في رأيه، فأبطلَ رأيي بالأدلة، فلم أقتنع، وقلت له: لم أقتنع، فقال لي: أنت حرّ؛ لك رأيك ولي رأيي»[28]، وقال الأستاذ محمد المبارك عن الشيخ تاج الدين الحسني نحو ذلك[29]. وقال الشيخ حامد عن القاسمي أيضًا: «وكان من ديدنه رحمه الله تقوية شخصية طلابه ورفع مكانتهم، فلم يكن يدعوهم بالتلامذة، بل بالأصحاب أسوةً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا منتهى الأدب وحُسن التربية…، ومِن عظيم توجيهاته وإخلاصه أنه -خلافًا لكثير من الشيوخ- كان يأمر طلابه بالذهاب إلى بعض المتخصصين ببعض العلوم الشرعية التي لم يتخصَّص بها، بل يأخذُهم بيده إليهم ويُوصيهم بتعليمهم؛ فأين هذا الصنيع من بعض الشيوخ الذين يُعاقبون طلابهم إذا بلغهم أنَّهم يقصدون غيرهم من العلماء؟!»[30]. ومن ذلك ما حكاه الشيخ عبد الرزاق البيطار عن شيخه الملّا أبي بكر الكردي: «وكان كثيرًا ما يُذاكرني -مع صغر سنّي- في المسائل العلمية والنوادر الأدبية»؛ وبسبب هذه المرونة والحيوية كان الـمُصلحون قدوةً لطلابهم في المراجعة والتصحيح، فقال الشيخ بهجة عن شيخه القاسمي: «إن مما يقضي بالعجب من أمر أستاذنا المؤلف رحمه الله هو كونه خلّف زهاء مئة مصنَّف أو أكثر..، وندرَ جدًا أن ترى كتابًا في خزانته الواسعة مخطوطًا كان أو مطبوعًا خاليًا من التعليقات الكثيرة، والتصحيح على الأصول الخطية الصحيحة..؛ فإنَّ أستاذنا رحمه الله كان في تجدُّد مستمر»[31].

كان أعلام المدرسة الإصلاحية يبنون طلابهم مُصلحين من بَعدهم؛ فكانوا كما أحبّوا منهم

تربية.. وتعليم:

أعلام المدرسة الإصلاحية كانوا يبنون طلابهم مُصلحين من بَعدهم؛ فكانوا كما أحبّوا منهم، حتى قال العلّامة الإبراهيمي في الشيخ بهجة البيطار: «وله في الإصلاح سلفُ صدقٍ؛ حقّقوه علمًا وطبّقوه عملاً، يعتمد في تحصيله وتربيته على طودَين شامخَين من أطواد العلم والعمل، أحدهما: الإمام عبد الرزاق البيطار، والثاني: الإمام المحدِّث جمال الدين القاسمي؛ عنهما أخذ، وفي كنفهما نشأ، وعلى يدهما تخرّج، فجاء عالمًا من ذلك الطراز الذي نقرؤه في التراجم ولا نجده فيمن تقع عليه العين من هؤلاء العلماء الذين يقرؤون ويحفظون وينقلون ولكنهم لا يفقهون»[32]. لذا لم يقبلوا من الطالب أن يُسرع في سؤال شيخه عن المسألة قبل البحث فيها[33]، وارتفعوا بهممهم وحذّروهم اللهو والعبث[34]. فكانوا حريصين على تربية طلابهم في أنفسهم حرصَهم على تعليمهم، فقال أحد الطلاب عن شيخه القاسمي: «وكان رحمه الله يستصحبني في حضره وسفره للإشراف على تربيتي…، وهكذا كان رحمه الله يتولى مراقبة طلابه وحسن توجيههم، فلا يكتفي بتعليمهم العلوم كما هي حال كثير من أساتذة اليوم دون الإشراف على تربيتهم؛ لِمَا للعلم من خطر دون أدب»[35]!

وكانوا يربّونهم على قَبول الناس وحُسن دعوتهم والرفق بهم[36].

تعلّموا العلم، وتعلّموا صناعة تعيشون بها؛ حتى لا تقفوا على أبواب السلطان تستجدون الوظائف والجرايات
طاهر الجزائري رحمه الله

تربية الطلاب على الإباء وعزّة النفس:

ومما تكاثر عن أئمة المدرسة الإصلاحية في الشام مع طلابهم في التربية تأكيدهم عليهم عزّةَ النفس والإباءَ وعدمَ الخنوع، فجاء عن الشيخ القاسمي قُبيل وفاته لأحد تلامذته: «إنني ذاهب إلى ربّي، وأريد أن أحمّلك شهادةً قبل أن أُفارق الحياة لتشهد بها لي أمام الله يوم القيامة؛ وهي أنَّني منذ اشتغالي بالعلم إلى هذه اللحظة من الحياة ما أكلتُ بديني، وإنَّما من كسب يدي بالتجارة»، وأكملَ تلميذُه: «وكان القاسمي يُريد من روايته لنا بهذه القصة أن يغرسَ في نفوس تلاميذه حبّ الاعتماد على النفس، وعدم الركون إلى السلطة ومسايرتها على ضلالها رغبةً وعبدًا بالراتب»[37]، وفي موضع آخر ذكر أنه كان يعلّمهم الاعتماد على النفس والبعد عن قبول الصدقات ويأمرهم بالسعي والعمل، «فكان إذا أراد أن يتصدَّق على بعض هؤلاء التلاميذ يأمرهم أن ينسخوا له بعض مسودَّاته ثم يُكرمهم باسم الأجرة لا باسم الصدقة»[38]، فلا عجب إن جاء في ترجمة تلميذه الشيخ توفيق البزرة: «كان يكتسب بعمل يده؛ فهو يعمل السكاكر ويبيعها، فلا يتعيّش بوظيفة؛ إنَّه يعيش حرًّا ويعمل حرّاً»[39]، وفي ترجمة تلميذه الشيخ رشيد شميس أنَّه «كان لا يأكل إلا من كسب يده في متجره بسوق الخيّاطين»[40]. ومن كلام الشيخ طاهر الجزائري: «تعلّموا العلم، وتعلّموا صناعة تعيشون بها؛ حتى لا تقفوا على أبواب السلطان تستجدون الوظائف والجرايات. وعلى كل طالب علم إسلامي أنْ يتعلّم صناعةً أو تجارةً أو نحو ذلك من أسباب المعاش؛ ليستغني عن الناس، وعن تكفّف العظماء ومدّ اليد إلى الأوقاف»[41].

تجاوزت صِلاتُ روّاد المدرسة الإصلاحية الصلاتِ العلمية البحتة، فكانت مع مختلف المتنوّرين ورموز الحركة الوطنية في الشام وقتها

ثالثاً: مع الأصحاب والمعاصرين:

رَحِم الإصلاح مع رَحِم العلم:

أكثرُ ما يُشتهر عند الحديث عن المتعاصرين النُّفرة أو الطعن، حتى قيل قديماً: «المعاصرة حرمان» و«كلام الأقران يُطوى ولا يُروى»؛ لشدَّة ما جاء من العلماء الأقران أو المتعاصرين، ولا يبعد هذا كثيرًا عمّا نراه في ساحتنا العلمية مع الأسى والأسف، ولكنّ النظر في سِيَر أئمة المدرسة الإصلاحية في الشام يخرج بنا إلى خارطة من الصلات العلمية المتميزة جمعتْهم فيما بينهم برحِم العلم ثم الإصلاح؛ فلم يكن العلم وحدَه رابط الصلات المميزة، بل كان الشرط الآخر هو «الإصلاح»، فلا عجب أن تفتر الصلات وتضعف الروابط مع علماء معاصرين لهم حازوا العلم وأبطؤوا عنهم في ركب الإصلاح[42]. فالدعوة الإصلاحية التي انطلق بها البيطار والقاسمي وطاهر الجزائري جمعت إليهم كوكبةَ الـمُصلحين آنذاك في الشام، فكان مجلسهم معروفًا بنهجه الإصلاحي مميزًا من مجالس الشام[43]. قال محمود العطّار: «كنتُ فتىً في حدود الخامسة عشرة، وأنا أسمع بشهرة الشيخ جمال الدين وتأثير دروسه في الطبقة العليا من مثقفي أبناء عصره، وكان يُلقي دروسه الإصلاحية في بيته وفي جامع السنانية..، فيمَّمت وجهي شطر المسجد بعد صلاة العشاء، فإذا بي أراه غاصًّا بأعلام البلاد الشامية وقادة الفكر والإصلاح من المستمعين، ولم يكُ بالمسجد موطئ قدم لإنسان»[44]؛ فتجاوزت صِلاتُ روّاد المدرسة الإصلاحية الصلاتِ العلمية البحتة، فكانت مع مختلف المتنوّرين ورموز الحركة الوطنية في الشام وقتها، يقول ظافر القاسمي تعليقًا على مجلس والده: «إنّ التفافَ فئةٍ من الجيل المثقف تعلَّمَتِ الطبَّ أو القانون أو الهندسة أو غير ذلك من العلوم في أرقى المعاهد المعروفة في ذلك العصر…، واستئناسها بمجالس الشيخ وحرصها عليها ودُؤوبها على متابعتها أمرٌ يستدعي كثيرًا من الوقوف والتأمُّل؛ فما كان لهذه الفئة من الشباب أن تأنَس بغير مجالسها ومواضيعها وما ألِفت من بحوث.. لولا أن هناك حسًّا عميقًا لدى هذه الفئة بفضائل القاسمي ومزاياه وإمكان الانتفاع منها»[45]، ويلفت رشيد رضا إلى أن التفاف هؤلاء حول القاسمي أفادَه في نفسه بتعزيز ميوله الإصلاحية[46]. مع أنَّها صلاتٌ دفعَ الإصلاحيون الأئمة ثمنَها من أنفسهم وحريتهم كما سبقت الإشارة[47].

مُعاصرة سامية:

وإذا أردنا توصيف علاقتهم فيما بينهم فهي: إما لتدارُس العلوم بينهم كما كان في الحلقة التي أدّت إلى حادثة المجتهدين[48]، وإما لتبادل المعارف بين مختلفي التخصصات[49]، بل يطلبون الإجازة من بعضهم فيما يُتقنون ويُسندون كما مرّ في إجازة البيطار للقاسمي، أو ما يكون بينهم من تقاريظ كتب بعضهم ومراجعتها وتقديمها[50]. وعلى قرب مجالسهم لم نعدم نماذج من رسائل الإخوان فيما بينهم من أرقى المراسلات وألطفها[51]، ولعل أرقاها ما جاء في ترجمة البيطار لصاحبه القاسمي[52]. وليس أقل منها ما كان من صلات للشيخ بهجة البيطار بمعاصريه من العلماء[53]، دون أن يكتم هؤلاء الأعلام ما يكون من خلاف بينهم لا يفسد للودّ قضية[54]؛ إذ ضربوا أروع الأمثلة في التواضع وحُسن الخُلق فيما بينهم[55].

مع الـمُصلحين في العالم الإسلامي:

ومما امتازت به هذه المدرسة أنَّها خَرَجت عن دائرة الشام نحو العالم الإسلامي شرقه وغربه، فكانت لهم مراسلات وزيارات وإجازات كسرت الحدود – التي نعرفها اليوم – مع رموز الإصلاح الإسلامي في شبكةٍ من العلاقات يحسن أن تكون محلّ درس مُفرد[56]؛ فالقاسمي وعبد الرزاق البيطار كانا على صلة ومراسلة مع رموز الإصلاح في مصر كالإمام محمد عبده، ورشيد رضا صاحب «المنار»، وأحمد تيمور باشا، وغيرهم[57]، وكانت بينهم مراسلاتٌ كثيرةٌ عالية، ومثل ذلك مع الأمير شكيب أرسلان[58]، ومع علماء الإصلاح في العراق[59]، وفي بلاد المغرب العربي[60]؛ يتحاورون معهم في أخبار العالم الإسلامي، وما يجدّ في طباعة الكتب والمخطوطات؛ فهم تجاوزوا حدود الشام إلى العالمية؛ حتى كانت لهم من بعض الزعماء والولاة رسائل ودعوات[61]، ومن مستشرقين يسألونهم في بعض المسائل[62].

وقد مرّ كلام العلّامة الإبراهيمي في البيطار الجدّ والحفيد والقاسمي، ويقول الأمير شكيب أرسلان عن عبد الرزاق البيطار والقاسمي: «كان هذان الجِهبِذان فرقَدَين في سماء الشام، يتشابهان كثيرًا في سجاحة الخُلق ورجاحة العقل ونَبَالة القصد وغَزَارة العلم..، ولم يكن في وقتهما أعلى منهما فكرًا وأبعدُ نظرًا وأثقبُ ذهنًا»[63].

كان هذان الجِهبِذان (عبد الرزاق البيطار وجمال الدين القاسمي) فرقَدَين في سماء الشام، يتشابهان كثيرًا في سجاحة الخُلق ورجاحة العقل ونَبَالة القصد وغَزَارة العلم..، ولم يكن في وقتهما أعلى منهما فكرًا وأبعدُ نظرًا وأثقبُ ذهنًا
الأمير شكيب أرسلان

خاتمة:

وبعدُ: فهذه ملامحُ المدرسة الإصلاحية في الشام من حيث الصلات العلمية، يكفي النظر فيها لإدراك مسيس احتياجنا إلى ما كان عليه أئمتنا الأعلام مع شيوخهم، ومع طلابهم، ومع المعاصرين لهم، من حُسن الخُلق والوفاء، ومن الجدّ والاجتهاد في دعوة الإصلاح، التي تجمع أهل العلم وشُداة الحرية والصلاح الصادقين، وإن كانوا من الـمُخالفين؛ ليمضوا بالناس نحو الخلاص والنجاة.


[1] دكتوراه في الدراسات الإسلامية والأدب العربي، معيد في جامعة حمص سابقاً، باحث ومدقق في التراث.

[2] جمال الدين القاسمي، العجمي، ص(107).

[3]  سبق في العدد الأول من مجلة رواء مقال بعنوان: “من ملامح المدرسة الإصلاحية في الشام” يحسن الرجوع إليه؛ فما في هذا المقال تفصيل لبعض المجمل هناك وإضافات لجوانب أخرى.

[4]  عبد الرزاق البيطار، للعجمي، ص(17).

[5]  حلية البشر، (1/463).

[6]  عبد الرزاق البيطار، ص(18).

[7]  القاسمي، للعجمي، ص(32).

[8]  جمال الدين القاسمي، ظافر القاسمي: ص(31)، والقاسمي، للعجمي، ص(58).

[9]  الشيخ محمد بهجة البيطار وجهوده في الدعوة والإصلاح، أحمد الشهري، ص(63).

[10]  محدِّث الشام الشيخ بدر الدين الحسني، للرشيد، ص(15).

[11]  الذكريات، للطنطاوي، (1/248).

[12]  الذكريات (2/99).

[13]  الرسائل المتبادلة بين جمال الدين القاسمي ومحمود شكري الآلوسي، للعجمي ص(38).

[14]  الذكريات (1/179).

[15]  القاسمي، للعجمي، ص(52). وذكر ظافر عن أبيه العلامة القاسمي في أول درس له في المسجد مكان والده رحمه الله سَرْدَه لشيوخه في الكتاب الذي يدرّسه على طريقة الشيوخ والمعلّمين وقتذاك. يُنظر: القاسمي، لظافر، ص(38).

[16] من عيون الإجازات إجازة الشيخ عبد الرزاق البيطار لصاحبه الشيخ جمال الدين القاسمي، ينظر: عبد الرزاق البيطار، للعجمي، ص(32).

[17]  جمال الدين القاسمي، للإستانبولي، ص(28)، وثمة موقف آخر لمخالفة القاسمي شيخه العطار ورجوع الشيخ لرأي القاسمي في المصدر ذاته، ص(80).

[18]  جمال الدين القاسمي، لظافر، ص(28).

[19]  يعني: الأستاذ محمد عبده.

[20]  جمال الدين القاسمي، للإستانبولي، ص(22).

[21]  القاسمي، للعجمي، ص(32).

[22]  القاسمي، نزار أباظة، ص(215). ويذكر الطنطاوي بعض قصص وفائه لشيوخه في: رجال من التاريخ، ص(540-541).

[23]  مَجمعيّ افتقدناه محمد بهجة البيطار، عدنان الخطيب، ص(16).

[24]  القاسمي، لظافر، ص(24)، والقاسمي، لأباظة، ص(217).

[25]  القاسمي، للإستانبولي، ص(37).

[26]  محدّث الشام، للرشيد، ص(82).

[27]  يُراجع مقال: “من ملامح المدرسة الإصلاحية في الشام” العدد الأول من مجلة رواء.

[28]  القاسمي، للإستانبولي، ص(88)، والمراد بتلميذه هنا الشيخ حامد التقي الذي سرد الإستانبولي أكثر كلامه عن القاسمي في كتابه عنه. وينظر: القاسمي للعجمي: ص(271)، وص(273).

[29]  محدّث الشام، للرشيد، ص(144). وَ: رجال من التاريخ، ص(488).

[30]  القاسمي، للإستانبولي، ص(90).

[31]  قواعد التحديث، مقدمة الشيخ بهجة البيطار، ص(22).

[32]  مَجمعيّ افتقدناه، للخطيب ص(11).

[33]  القاسمي، للإستانبولي، ص(92).

[34]  ولذلك صور عديدة في سير أعلام المدرسة الإصلاحية، يُنظر منها في: القاسمي، للإستانبولي: ص(88)، ومحدّث الشام، للرشيد ص(100).

[35]  القاسمي، للإستانبولي، ص(89).

[36]  المرجع السابق ص(18-19)، وص(47).

[37]  القاسمي، للإستانبولي، ص(86).

[38]  المرجع السابق، ص(88).

[39]  القاسمي، للعجمي، ص(281).

[40]  المرجع السابق، ص(290).

[41]  مقالات الدكتور مازن المبارك، (2/499).

[42]  القاسمي، لأباظة، ص(203)، والقاسمي، للعجمي، ص(268).

[43]  مازن المبارك، (2/355)، والحياة الأدبية في دمشق في: فكر ومباحث، للشيخ الطنطاوي، ص(202).

[44]  القاسمي، للعجمي، ص(187).

[45]  القاسمي، لظافر، ص(93).

[46]  القاسمي، لأباظة، ص(203).

[47]  يُراجع مقال: «من ملامح المدرسة الإصلاحية في الشام» العدد الأول من مجلة رواء.

[48]  ظافر، ص(43)؛ وملخصها: أن بعض الشيوخ الجامدين غاظهم اجتماع القاسمي والمصلحين وتدارُسهم العلوم، فأوقعوا بهم عند الوالي العثماني بتهمة سياسية، فأنقذهم الله من المحنة وأعلى شأنهم عند أهل الشام الذين هبّوا لنصرتهم والمطالبة بالإفراج عنهم.

[49]  القاسمي، للإستانبولي، ص(19).

[50]  عبد الرزاق البيطار، ص(101).

[51]  المصدر السابق، ص(42).

[52]  حلية البشر، (1/435).

[53]  الشهري، ص(73).

[54]  الذكريات، (2/361).

[55]  رجال من التاريخ، ص(482).

[56]  معتز الخطيب، الإصلاح الإسلامي في سوريا في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، بحث في معهد العالم للدراسات، 2017م.

[57]  القاسمي، لأباظة، ص(193).

[58]  مقدمة الأمير شكيب لكتاب القاسمي قواعد التحديث مثلاً.

[59]  كتاب الرسائل المتبادلة بين جمال الدين القاسمي ومحمود شكري الآلوسي.

[60]  القاسمي، لأباظة، ص(203)، والقاسمي، للعجمي، ص(268).

[61]  حلية البشر (3/1432)، والشهري، ص (241)، ومحدّث الشام، للرشيد ص(29-30).

[62]  القاسمي، لأباظة، ص(197).

[63]  عبد الرزاق البيطار، ص(35).

1 تعليق

  • ابوجمال أبريل 22, 2020

    جزاك الله خيرا دكتور ياسين ونفع بعلمك وفتح عليك مغاليق العلم

التعليقات مغلقة

X