عُرِّف «فقه التغيير» في الماضي بعناوين عدّة، ثم ازداد طرحه مع انطلاق المسارات التغييرية الحديثة، فكان مجالاً واسعاً للاجتهاد الذي تناول تحرير مفاهيم الاحتجاج والتغيير والتمكين والأمة الوسط، ونتيجة لذلك ومن أجل تأطير ما يطرح في هذا الباب، ازدادت الحاجة لاستنباط ضوابط مستمدة من المقاصد والأصول التشريعية، مع اعتماد عنوان لا يعيق العمل في مآل الاجتهادات
الحاجة كبيرة إلى دراسات محكمة وبحوث منهجية حول موضوعٍ مِن قبيل ما ينوه له تعبير «فقه التغيير»، أي من خلال استخدامه بما يتجاوز المعنى اللغوي للفهم والعلم والتدبر، إلى ما أصبح غالبًا عليه في نطاق استخدام التعبير في العلوم الشرعية. والحاجة إلى دراسات وبحوث لا تتضارب مع طرح أفكار وخواطر في حدود مقالة، قد تساهم في صياغة تساؤلات أساسية بصدد ما يرجى من مسارات لتلك الدراسات والبحوث، عسى أن تتفاعل مع متطلبات عصر لم تشمل خصائصه المتشعبة تسارعًا بوتيرة متصاعدة فحسب، بل شملت أيضًا – وهذا أهم وأخطر – تشابكًا متضخمًا ومعقدًا في متطلبات التطور على كل صعيد فكري وعملي، ومن دون مراعاة ذلك يصعب تحقيق أهداف كبيرة في مجالات مؤثرة على واقع الإنسان ومستقبله، من حيث الواجبات والمسؤوليات والأداء والإنجاز.
كتابات أولية:
غالبًا ما وجدت أطروحات العمل الإصلاحي والدعوي والحركي عبر أكثر من قرنين تصنيفها في باب التغيير ومساراته من منطلق إسلامي، هذا معروف ولكنه غير مقصود هنا بالقول: ليس جديدًا ما طرح ويطرح تحت عنوان «فقه التغيير» تحديدًا، وإن كانت البداية لذلك قبل عقود من انطلاقة مسارات التغيير الثوري أواخر عام ٢٠١٠م.
إن تأطير فكر التغيير تحت عنوان فقه التغيير ليس من قبيل ردود الأفعال بل من قبيل الحاجة الناتجة عن واقع متغير باستمرار
بتعبير آخر:
إن سعي الأقلام ذات المنطلق الإسلامي لتأطير فكر التغيير تحت عنوان فقه التغيير ليس من قبيل ردود فعل على أحداث بعينها، بل هو نتيجة واقع متغير باستمرار، أثار تدريجيًا الإحساس بالحاجة إلى «تأطير فعل التغيير» على مختلف الأصعدة.
ربما كانت النشأة الأولى لطرح منهجي قبل نصف قرن أو أكثر، مع التركيز على «التغيير الحضاري» الأشمل من سواه، وتوجد أمثلة عديدة على ما اشتهر من ذلك، أولها على الأرجح ما ورد متفرقًا تحت عنوان (النهضة) في كتابات مالك بن نبي رحمه الله، وقد وجد بعضها طريقه إلى كتاب «فقه التغيير في فكر مالك بن نبي» مما صنّفه عبادة عبد اللطيف، ونشرته «مؤسسة عالم الأفكار» الجزائرية عام ٢٠٠٦م، إنما لم يجد تداولًا واسعًا، ومن العسير الحصول عليه حاليًا.
ومن الصيغ المتميزة ما طرحه الدكتور طارق سويدان عام ٢٠١١م تحت عنوان «مشروع التغيير الحضاري»، وتناول فيه فهم الواقع والرؤية الذاتية له، ثم آليات الانطلاق في عملية التغيير الهادف والتدريبات العملية لها، وقد جمّد العمل بالمشروع عام ٢٠١٤م.
بدأ استخدام تعبير «فقه التغيير» لأول مرة على وجه الاحتمال في منتصف تسعينات القرن الماضي ثم انطلقت الموجة التالية من الكتابات حوله تزامنًا مع انطلاقة المسارات التغييرية عام 2011 م
ومن الأمثلة التي ربطت التغيير الحضاري باجتهادات فقهية ما جمعه كتاب «المنهج النبوي والتغيير الحضاري»، تحرير برغوث عبد العزيز مبارك، وقد صدر عام ٢٠١٥م في سلسلة كتاب الأمة عن رئاسة المحاكم الشرعية في الدوحة، ويلمس محتوى الكتاب التأطير الفقهي في أكثر من موضع، مثل ما ورد في الفصل الأول تحت عنوان جانبي «طبيعة الجهد النبوي من الوجهة الحضارية»، وفي الفصل الثالث «المنهج النبوي كمركّب حضاري».
أما استخدام تعبير «فقه التغيير» تحديدًا فكان لأول مرة على وجه الاحتمال عام ١٩٩٥م عنوانًا لكتاب «من فقه التغيير – ملامح من المنهج النبوي» بقلم عمر عبيد حسنة، وقد صدر عن المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، وذلك بعد أن طرح المؤلف رؤيته في كتاب «رؤية في منهجية التغيير» الصادر عام ١٩٩٤م في بيروت عن الدار العربية للعلوم – ناشرون والمكتب الإسلامي للطباعة والنشر.
وانطلقت الموجة التالية من الكتابات حول «فقه التغيير» مع انطلاقة المسارات التغييرية عام ٢٠١١م، ومن أمثلة ذلك:
«فقه التغيير» بقلم د.علاء عبد العزيز، صدر عام ٢٠١١م عن دار النشر للجامعات، في القاهرة، ويشرح الكاتب في المقدمة ما يعتبره فترة التغيير قبل التمكين، أي الفترة الممتدة من اللحظة الآنية إلى انتشار العدل كسمة غالبة في ديار المسلمين.
مجموعة كتابات د. أحمد الريسوني حول الاحتجاجات وحركات التغيير منذ عام ٢٠١١م وقد صُنفت في كتاب «فقه الاحتجاج والتغيير» الذي صدر عام ٢٠١٣م عن دار الكلمة للنشر والتوزيع في القاهرة، ويشمل ما كتبه الريسوني حول الحركة الاحتجاجية في المغرب والتحركات الثورية التي انطلقت من تونس وشملت سواها.
مقالة بعنوان: قراءة في «فقه التغيير» من وحي الأحداث الأخيرة، بقلم الباحث نبيل الفولي نُشرت في شبكة الجزيرة، يوم ١٦/٤/٢٠١٥م، وركزت على مناقشة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع نقد الوقوف عند النظرة الفقهية وحدها.
ومثال أخير: «فقه التغيير وبناء الأمة الوسط» بقلم د.المثنى عبد الفتاح محمود، من إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في الدوحة، وقد صدر الكتاب عام ٢٠١٦م، إنما يستند إلى سلسلة أطروحات سنوية سابقة، تناولت التغيير الحضاري في إطار شمل العديد من ميادين الدعوة، وركزت على أهمية الانطلاق من تحرير المفاهيم ثم التركيز على الأمة الوسط.
هناك انطباع عام أن الدعوة إلى إحياء الاجتهاد واستئناف عصوره الماضية، قد وجدت الاستجابة بولادة «فروع» فقهية جديدة مثل فقه الأولويات وفقه الواقع وفقه التغيير، لكنه انطباع غير كافٍ للتعبير عن الواقع
حول منهجية التنظير الفقهي:
من المستجدات في العقود الماضية عنونة اجتهادات وأطروحات فكرية إسلامية باستخدام كلمة «فقه»، وهي ذات مكانة خاصة في الوعي المعرفي الإسلامي، صادرة عن موقع علم الفقه بين العلوم الإسلامية، وتطبيقها على مستوى الأفراد والمجتمعات. هذا مما ينشر الانطباع لدى عموم المسلمين أن الدعوة إلى إحياء الاجتهاد واستئناف عصوره الماضية، قد وجدت الاستجابة بولادة «فروع» فقهية لم تُعرف في العصور الأولى من تاريخ التشريع الإسلامي، مثل فقه الأولويات وفقه الواقع وفقه التغيير، وليس هذا كافيًا ليكون الانطباع معبرًا عن واقعنا.
قد لا يضير كثيرًا اعتبار ما ينشر كدراسات فقهية منهجية تحت عنوان فقه التغيير (وكذلك فقه الأولويات وفقه الواقع..) فرعًا فقهيًا قائمًا بذاته أم لا، لا سيما وأن من يبحثون تحت هذه العناوين يشيرون نصًا أو ضمنًا إلى أن الأسس والمنطلقات لاستنباط الأحكام موجودة على كل حال في التوجيهات والتطبيقات من العصر النبوي وفي عصور التشريع الأولى، إنما يقتصر العمل الجديد على نظرات «فكرية اجتهادية» تشمل استخراج تلك التوجيهات والمنطلقات وربطها ببعضها بعضًا، وبالمستجدات من الواقع المعاصر، وهذا ما يكوّن تدريجيًا «فروعًا فقهية» مستقلة عن سواها.
وهنا يستحسن التساؤل، هل نعزو هذا «التطور الفقهي» إلى:
- منهجية الانطلاق من الفقه نفسه كعلم مستقر، فالاقتناع بضرورة إضافة فروع مستحدثة لتلبية احتياجات وتطورات جديدة، أم إلى:
- آلية تحريرية تنطلق من رغبة ذاتية لإعطاء أطروحات فكرية جديدة صبغة إسلامية عبر توظيف مصطلح «الفقه» لتأكيد تلك الصبغة؟
يوجد في واقعنا المعاصر أمور مختلفة متعددة يستدعي البحث فيها سلوك أحد السبيلين أو كليهما، إنما ترتبط قيمة النتائج بأن يكون الاختيار مستندًا إلى خصائص المادة المقصودة واحتياجات التعبير عنها، وليس إلى مظهر لفظي إذا صح التعبير.
ودون أي تعريض بمقاصد من يركّز على آلية التوصيف حسب مصطلحات إسلامية الصبغة، فالواقع أنه يحصر كلمة «إسلامي» دون قصد في إطار ما يوصف بالتراثي، علمًا بأن الإسلام نفسه أوسع من ذلك وأشمل، ومكمن قوته في دراسات مقارنته بسواه، ظاهر في القدرة على العطاء المتجدد انطلاقًا من مصادره الأولى لكل عصر وكل مكان بما يشمل قابلية التفاعل مع كل حال، فهو لا يندثر بمرور الزمن، ولا يندثر بحصره في مجال دون مجال أو مكان دون مكان.
المادة المقصودة بالبحث هي فيما تطرحه هذه المقالة: عملية التغيير، ولنتأمل على ضوء ذلك بالمنظور الفقهي أن كلمة العبادة تشمل كل أبواب الطاعات، ومنها مثلًا العلاقات الأُسرية، ولكن لا تصنف هذه العلاقات فقهيًا تحت عنوان عبادات بل عناوين خاصة بها، فنتحدث تحديدًا عن فقه الزواج وفقه الطلاق وما شابه، ومعظم ذلك ثابت بأصوله الفقهية، كما هو الحال مثلًا مع اعتبار الزواج محصورًا في زواج الذكر والأنثى، وهنا لا تسمح المنهجية الفقهية بتعديل أحكام فقهية قديمة بدعوى ما طرأ من مستجدات في العلاقات البشرية، كما هو الحال مع بعض التفاصيل، مثل كيفية تحقيق الإشهار شرعًا وقانونًا في عصرنا الحاضر.
غالبية من تناولوا «فقه التغيير» من منطلق إسلامي، وجدوا أن المحتوى الذي وصلوا إليه يرتبط مباشرة بعملية التغيير «قليلًا» فلجؤوا إلى ربط معظم ما ورد في اجتهاداتهم بعناوين كبرى مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الأمة الوسط.
شبيه ذلك يسري على جانب ولا يسري على جوانب أخرى من عملية «التغيير» بالشروط الإسلامية فهو عبادة أيضًا بالمفهوم العام لكلمة عبادة، وفقهيًا تسري عليه المقاصد والثوابت الكلية، أما عند اختيار عناوين فقهية للتفاصيل فلا نجد كمًّا كافيًا من الثوابت شبيهة بحالات الزواج والطلاق والميراث، بل نجد فيما يتفرع عن كلمة التغيير ثوابت محدودة نسبيًا، نجدها في المقاصد والأصول التشريعية بصياغة عامة وجامعة مانعة، مما يشمل «عملية التغيير» وسواها، ومن ذلك مثلًا قاعدة «لا ضرر ولا ضرار»، أما النسبة العظمى مما يتجاوز ذلك في عملية التغيير فلا نجد له في تراثنا الفقهي إلا اجتهادات غير ملزمة، أي دون مستوى النصوص الشرعية القطعية الورود والدلالة، من قرآن كريم وحديث صحيح. وإذا أضفنا الإجماع بوصفه في المرتبة الثالثة بين مصادر التشريع، فعلماء الأصول ينوهون إلى تعدد الاجتهادات في مسألة متى ينعقد الإجماع وكيفيته، فضلًا عمن يقول: إنه لم يحصل بالفعل بصيغته المطلقة.
وواقعيًا نجد أن غالبية من تناولوا «فقه التغيير» بالبحث والدراسة من منطلق إسلامي، وجدوا أن المحتوى الذي وصلوا إليه ويرتبط مباشرة بعملية التغيير «قليلًا» ولهذا لجؤوا – لهذا السبب على الأرجح – إلى ربط معظم ما ورد في اجتهاداتهم بعناوين كبرى أخرى، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الأمة الوسط.
وبقليل من التأمل يمكن أن نستخدم عناوين فقه الأمر والنهي أو فقه الأمة الوسط بدلًا من عنوان «فقه التغيير» دون أن يتغير الكثير من المحتوى، هذا وإن لجأ بعض مَن كتب في الموضوع إلى البحث عن مخرج بإضافة كلمة توضيحية كالقول «فقه التغيير السياسي»، ووقع في فخّ «ضيقتَ واسعًا».
ليس عيبًا انتشار رغبة ذاتية لتأكيد الصبغة الإسلامية التشريعية في ميادين عديدة وعلى صعيد اجتهادات متوازنة منهجية، ولكن لا يكفي ذلك دون مراعاة جوانب أخرى في التعامل مع قضية واسعة النطاق كقضية التغيير.
ضوابط لفكر التغيير:
توجد كتابات تربط عملية التغيير بالآيتين الكريمتين:
قوله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد: ١١].
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: ٥٣].
وليس صحيحًا أن نفهم من الآيتين أن تغيير ما بالنفس هو التغيير، إنما هو مفتاح يرتبط بالإنسان صانع التغيير، فلا تتحقق دون سلامة هذا المفتاح عمليةُ التغيير الأكبر والأوسع بمختلف معانيها وميادينها، حضاريًا وسياسيًا واقتصاديًا ومعيشيًا واجتماعيًا، وثقافيًا وأدبيًا وفنيًا، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، ونهوضًا وتقدمًا ونشرًا للحق والعدل والإحسان… إلى آخره، فنحن لا نواجه في هاتين الآيتين خيارًا بين تغيير ما بالنفس أو عدم التغيير، بل نتلقى توجيهًا ربانيًا لمعرفة الوصول إلى مفتاح دروب التغيير جميعًا، للتكوين الذاتي، عقيدة وعبادة وفقهًا وعلمًا وفكرًا وتعاملًا بين البشر.
في هذا الإطار الأوسع نطاقًا تواجهنا مع عنوان «فقه» التغيير كفرع فقهي عدة معطيات تتعلق باختيار العنوان وبشروط تحوّله إلى مصطلح محكم من حيث المفهوم وضوابط الاستخدام. وأهمها:
- قلة الثوابت التشريعية القطعية التي تصلح للاستخدام منطلقًا لتشريع فقهي حول عملية التغيير، وهذا إيجابي بحد ذاته فهو ما يؤدي إلى توسيع مجال الاجتهاد، ولو كان كثيرًا لغدا سلبيًا نتيجة الإحساس بوطأة ما يبدو قيودًا وموانع من القول والعمل للتغيير. والمقصود بالثوابت هنا كمثال ما يقتضيه الحديث الصحيح (لا طاعةَ في معصية، إنما الطاعة في المعروف)[1]، فمقتضاه من الثوابت السارية المفعول على الأقوال والأعمال عمومًا، فتسري تلقائيًا على ما يتعلق بالتغيير سواء نظرنا إليه تحت عنوان «فقه» أو تحت عنوان آخر.
- تسارع وقوع المتغيرات التي تستدعي تنشيط حركة الاجتهاد وسرعة عجلة عطائها، وهو ما يمكن عند التقصير في تطبيقه أثناء عملية التغيير أن يصبح مصدر تأثير سلبي على عدم اللحاق بتلك المتغيرات وتوجهاتها بدلًا من ضمان سلامة غاياتها ومساراتها.
- تعدد المتغيرات نوعًا وأهمية وتعدد ظروف كل منها في عالمنا المعاصر جغرافيًا وإداريًا، وبالتالي يفتح الأخذ بضبط عملية التغيير تحت عنوان «فقه التغيير» أبوابًا واسعة لتعدد الاجتهادات تعددًا لا يراعي حاجة عملية التغيير إلى توافق متجدد في التأثير القيادي على مساراته الشاملة والفرعية.
تبقى الحاجة قائمة إلى التركيز على ضوابط فقهية كبرى، مستمدة من المقاصد والأصول التشريعية، للتأطير العام لتفاعلات المسارات الفكرية بين ما يطرح بين أيدينا على درب التغيير
مجموع ما سبق في هذه الفقرة يبين أن اختيار عنوان «فقه التغيير» يمكن أن يحوّل طرح المطلوب تحت هذا العنوان إلى معضلة، من جوانبها:
- الحرص على الوصول إلى إطار متكامل لفقه التغيير يدفع الباحث إلى الاستغراق في البحث في التراث الفقهي عما يكمل في نظره المقاصد الكبرى ذات العلاقة المباشرة بالموضوع وهي محدودة العدد نسبيًا، ومرتبطة بمعطيات صياغتها الأولى، وهنا قد يضيف الباحث ما قد يميّع المقصود من العنوان، أو ما يفقد مفعوله إن كان اجتهادًا يتعلق بظروف مكانية وزمانية وحالية أخرى.
- الخلط دون قصد بين ما لا يقبل التعديل من الثوابت وبين ما هو من الاجتهادات، وقد يقع الضرر إن كانت الأخيرة مما كان مقبولًا وممكنًا عند ظهوره الأول، وأصبح بمنزلة ما لا يطاق الأخذ به في الأوضاع المستجدة، أي أصبح خارج نطاق قواعد كبرى من قبيل «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها» أو «لا حرج في الدين»، ولا يخدم ذاك الخلل العلاقة بين الاجتهاد الفقهي وبين المستهدفين به للأخذ بمقتضياته والتزامها، وهذا في مجال لا تتحقق أهدافه دون اتساع نطاق هذا الالتزام.
- الحاجة المتجددة لتغيير بعد تغيير في نصوص اجتهادات «فقه التغيير» بسبب تسارع المتغيرات التي تقتضي ذلك، ولا يفيد هنا تجنب الخلل عبر تعميم صياغة مدلولات نصوص الاجتهادات، فعملية التغيير تحتاج إلى الدقة في الصياغة والتوجيه، والوضوح في المدلول، والحسم في شروط التطبيق.
- الحاجة الماسة إلى تعدد التخصصات وتشبيكها وتكاملها، أكثر مما كان في عصور ماضية، فنحن لا نواجه في عملية التغيير وسواها مجالًا تخصصيًا واحدًا، كما أن عصرنا لم يعد عصر العلاّمة الذي يمسك بيديه أزمّة معظم علوم عصره، فلا بد من التخصصات وتفريعها المتزايد باستمرار، ليراعي العمل في ميادين التغيير العديدة كافَّةَ ما نحتاج إليه، ولا بد من تشبيكها ليراعي كل متخصص ما يصنعه آخرون في نطاق تخصصاتهم، ثم لا بد من تكاملها ليكون الناتج التغييري الشامل منسجمًا مع نفسه وفيما بين ميادين تأثيره.
يمكن تعداد المزيد من هذه النقاط والتفصيل فيها، إنما المطلوب في هذه المقالة هو الاقتصار على تعداد الخواطر والأفكار والتساؤلات بعناوينها الكبرى، فيكفي ما سبق للقول:
الأجدى وضع عنوان «فكر التغيير» على جميع ما هو مطلوب في عمليات التغيير وضبط مساراتها، بدلًا من عنوان «فقه التغيير» مع الاعتقاد الجازم بأن الفكر أيضًا لا يكون إسلاميًا دون ضوابط والتزام.
يساعد عنوان «فكر» التغيير على طرح الأفكار بصفة أنها أفكار، وبالتالي تجنب وقوع خلل في التعامل معها، ناجم عن اعتقاد البعض بأن كل ما يذكر تحت عنوان «فقهي» له صفة تقديس، حتى وإن كان اجتهادًا يحتمل الصواب والخطأ
بتعبير آخر: إن الحديث عن وجوب أداء أمر أو تجنبه تحت عنوان «أفكار» يفتح الباب أمام مشاركة أوسع في التنظير لأطروحات التغيير وتوجيهه، وهو في حاجة إلى معارف وتخصصات ومؤهلات متعددة ومتفرعة، فيكون مثله في ذلك مثل طرح الأفكار المتعلقة – كمثال- بالعلاقات الاجتماعية في ميدان من ميادين التربية والتعليم أو الفنون، أما النظر إلى ما يطرح بعنوان «فكر التغيير» من حيث توافقه مع الأحكام الفقهية الشرعية أو تناقضه معها فيبقى من اختصاص المجتهدين من أصحاب العلم الشرعي.
ويساعد عنوان «فكر» التغيير على طرح الأفكار بصفة أنها أفكار، وبالتالي يساعد في تجنب وقوع خلل في التعامل معها، ناجم عن اعتقاد بعض أهلنا بأن كل ما يذكر تحت عنوان «فقهي» له صفة تقديس، حتى وإن كان اجتهادًا يحتمل الصواب والخطأ.
وتبقى الحاجة قائمة إلى التركيز على ضوابط فقهية كبرى، مستمدة من المقاصد والأصول التشريعية، للتأطير العام لتفاعلات المسارات الفكرية بين ما يطرح بين أيدينا على درب التغيير.
إن صياغة الضوابط الكبرى هذه ضرورية ومطلوبة في ميدان التغيير وسواه، كالدعوة، والإعلام، والبحث العلمي، والتعامل مع الآخر عقديًا، والآخر قوميًا، والعلاقات بين النقابات وأصحاب العمل، والفنون، والقائمة طويلة.
إنما لا يكفي تعداد مثل تلك الضوابط لميدان معين كفكر التغيير في مقالة أو دراسة جانبية، فالمقصود بالكلمة يحتاج للجمع بين ما يجتهد به العلماء بالشرع وما يجتهد به العلماء والمتخصصون وأصحاب الخبرة في الميدان المعني، للتوافق على صياغات مرنة، حتى إذا تم نشرها وتداولها كانت مراعاتها مستمدة من مراعاة الأحكام الفقهية، كما يبقى تعديلها لتوافق مشابه مع تبدل المعطيات والظروف، وهذا أوسع أفقًا من تعديل أحكام فقهية.
إن صياغة الضوابط الكبرى ضرورية في ميدان التغيير وسواه، كالدعوة، والإعلام، والبحث العلمي، والتعامل مع الآخر عقديًا وقوميًا، والعلاقات بين النقابات وأصحاب العمل، والفنون، والقائمة تطول
وفي ميدان التغيير تحديدًا، نعلم أنه يجري على كل حال، بجهودنا أو جهود سوانا، أو بهذا وذاك معًا، ويبقى الرجاء ألا نكون من المقصرين في هذه الطريق، وألا نجد أنفسنا يومًا بعد يوم في أوضاع قسرية أكثر من سابقاتها، للقبول كارهين بواقع متغير باستمرار، في اتجاه الأسوأ بعد الأسوأ، مما يصنعه أعداء الإنسان، جنس الإنسان، بغض النظر عن هوياتهم وانتماءاتهم ومعتقداتهم ومواقعهم.
ولله الحمد من قبل ومن بعد وعليه يتوكل العاملون الصادقون.
أ.نبيل شبيب
باحث إسلامي، وصاحب موقع «مداد القلم».
[1] أخرجه البخاري (٧٢٥٧) ومسلم (١٨٤٠).