دعوة

طلب الآيات المحسوسة والإيمان بالغيب

تواجه الأمة تيارًا كبيرًا من الانحراف والإلحاد، مما يدفع بالبعض أثناء مواجهة ذلك إلى التكلُّف في الرّبط بين الظّواهر الكونية والنصوص الشرعية دون ضوابط، والإغراق في طلب الآيات المحسوسة إلى حدِّ إغفال منزلة الإيمان بالغيب، وهذا يحدو بنا إلى مشروعية هذا الطلب وأنواعه وأسبابه، وهو ما سيتناوله المقال الذي بين أيدينا.

مدخل:

تعاني الأمة الإسلامية اليوم من ضعفٍ وتأخُّرٍ عن ركب الأمم في العلوم الدنيوية، وقد أدّى هذا –عند بعض الناس– إلى شعور بالهزيمة النفسية أمام تلك الأمم، ومن آثارِ تلك الهزيمة: تحفيزُ فكرة التحدِّي لإثبات صحة تعاليم الإسلام والردِّ على الشُبهات التي أُلصقت به، فظهر فريقٌ يعتمد في قراءة النصوص وتحليلها على العدول عن أصل التَّسليم بالغيب إلى التأويل العقلي، ولَيِّ معاني النصوص لتوافق المنهج العقليَّ في الاستدلال.

كما أنَّ العديد من عامّة الناس وبعض طلبة العلم لديهم مُغالاة في طلب الآيات المحسوسة، وهم إنّما يطلبونها ليُقوُّوا بها إيمانهم، أو يزيدوا بها عاطفتهم الدينية فيَشعروا بحلاوة الإيمان ولذّة الطاعة.

والمقصود بطلب الآيات المحسوسة: محاولة إدراك أدلة في عالم الشهادة للدلالة على صحة ما أُمرنا بالإيمان به من الغيبيات.

الإيمان بالغيب هو أصل الإيمان بالله:

الأصل في إيمان المسلم تسليمُه بالغيب لله، قال الله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِين ٢ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢-٣]، فالإيمان بالغيب أول ما تنعقد عليه القلوب ويتميز به المؤمن، وهو أصلٌ في قضايا الإيمان الكُلية.

أما طلبُ الآيات المحسوسة وجعلها مرتكزًا للإيمان ففيه مضاهاةٌ لحال المشركين في طلبهم للآيات ليبرروا بها كفرهم، وقد ورد في القرآن الكريم طلبُ بني إسرائيل للآيات المحسوسة على سبيل الذم، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٥].

مع أنَّ تقوية الإيمان بإدراك الآيات ومعايشتها أمرٌ مقبول حينما يبقى ضمن حدود الشعور؛ ولا ينتقل إلى جعل طلب الأمور الخارقة المحسوسة هي الأصل الذي يبني عليه المرء إيمانه، فمن تخيَّل وجود الملائكة معه عند الذكر والتلاوة فازداد إيمانًا ليس كمن زعم أنه رأى صورًا تكلمه أو تحمله في الهواء؛ فإنّ طلب المحسوسات مما لا سبيل لحصوله لغير الأنبياء، وهو من أمور الغيب التي لا تُعرف إلا عن طريق الوحي الذي انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم، ومثال ذلك ما كان لنبي الله إبراهيم عليه السلام حين قال: ﴿بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠]، فإبراهيم عليه السلام كان مؤمنًا راسخًا في إيمانه، وإنما سأل لطرد الخواطر الطارئة على قلبه كي لا تعلق به.

عالَم الغيب وعالَم الشهادة ضدّان يعيش الإنسان بينهما في رحلة حقائق يدل عليها دليل شرعي أو عقلي فيأخذ به المسلم، أو أوهام تتسرَّب إلى ذهن الإنسان فيتعلق الجاهل بها

منزلة الإيمان بالغيب:

الإيمان بالغيب سمة العقلاء، وعليه تُبنى حقائق الإيمان وكلياته، وهو القاعدة التي يرتكز عليها الإيمان بالأركان الستة، فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر؛ إيمان بالغيب، وأهلية الأداء في الإنسان مناطها (أي محلها) العقل، والعقل لا يكون سليمًا إلا بالإيمان بالغيب، فمن أنكر وجود أمور غائبة عن إدراكه ليس عاقلًا[1]، وأهلية الوجوب مناطها وجود الإنسان، ووجود الإنسان من عالم الشهادة.

وعالَم الغيب يقابله عالَم الشهادة، فهما ضدان يعيش الإنسان بينهما في رحلة الحقائق والأوهام، حقائق يدل عليها دليل شرعي أو عقلي فيأخذ به المسلم، أو أوهام تتسرب إلى ذهن الإنسان فيتعلق الجاهل بها.

قال الله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: ٧٣] أي: عالِم ما تعاينون أيها الناس فتشاهدونه، وما يغيب عن حواسكم وأبصاركم فلا تحسونه ولا تبصرونه[2].

وما زال الإنسان يتشوّف إلى معرفة عالَم الغيب من خلال الانتقال إلى عالم الشهادة في مختلف مجالات الحياة عبر الاكتشاف والاختراع، والبحث والتنقيب، والارتحال لكسب المعرفة، فيحظى بجزء من المراد؛ كاستكشاف علوم الطبيعة والفضاء ونحوها، ويتطاول في سبيل إدراك ما غاب عنه مما لا سبيل إليه كمحاولات الاطلاع على الغيب لدى الكهنة والعرافين، فيبذل المال والجهد، ليجد نفسه أمام أسرارٍ لا يستطيعُ الاقتراب من عتباتها، قال الله تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: ٩٥].

إنَّ استعمال أدوات البحث الدنيوية لاستكشاف الكون وسننه أمر مهم، وأهم منه استعمالها في جانب التديُّن وزيادة الإيمان وتعظيم الخالق، ليَعبُر بها من جانب عالَم الشهادة إلى عالَم الغيب للإقرار بفقر وعجز الإنسان، والناس يطلبون هذه الأدوات تارة على سبيل التحدي، وتارةً على سبيل الفضول، وتارةً لينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، ولكن الخلل في إغفال سُنن ونواميس الكون في طلب البراهين والأدلة والانتقال إلى الأوهام والخرافات وجعلها هي الدليل إلى عالم الغيب، ويظهر هذا جليًا فيما ينتشر بين الناس من أحوال خوارق العادات التي ينسبها أصحابها للعلوم الشرعية تارة كمن يزعم أن آثار انشقاق القمر رآها رواد الفضاء، أو ينسبونها لأشخاص يحبونهم تارة أخرى كمن يزعم أن مَن يقدِّسُه يعلم وقتَ موته.

قد تظهر بعض الحقائق المحسوسة المؤيدة لإيمان العبد بالغيب دون طلبها، وظهور هذه المحسوسات لا يدل على مشروعية طلب الآيات بالجملة، ولا على صحة ما ابتدع، فحصول النتيجة لا يدل على صحة الوسيلة

طلب الآيات وتعليل الأحكام التعبدية:

تعليل الأوامر والأفعال التي تعبدنا الله بها تعبدًا محضًا لا علة فيه، وربطُها بأمر محسوس، كالزعم بأنّ السجود شُرع للتخلص من شوائب الدماغ أو لتفريغ الشحنات الزائدة ونحو ذلك هو نوع من «طلب الآيات»، وتشويش على مفهوم التعبد الخالص لله تعالى، وكذا من يبالغ في تعداد منافع الصوم الصحية… وهكذا بقية العبادات.

وقد تظهر بعض الحقائق المحسوسة المؤيدة لإيمان العبد بالغيب دون طلبها، كمن يشفيه الله بسبب فعل عبادة كالصوم، وقد يُستجاب دعاؤه عند ابتداع عبادة ما، وظهور هذه المحسوسات لا يدل على مشروعية طلب الآيات بالجملة، ولا على صحة ما ابتدع، فحصول النتيجة لا يدل على صحة الوسيلة.

طلب الكرامات وطلب الآيات:

إنَّ طلب الآيات المحسوسة أشبه بطلب الكرامات[3] لدى فريق من الناس؛ حيث يبقى أحدهم مقيمًا على الطاعات قاصدًا بها حصول خوارق العادات نتيجة لطاعته، وكان من كلام السلف (كن طالب استقامة ولا تكن طالب كرامة؛ فإن الاستقامة عين الكرامة) فلا يصح للمسلم طلب الكرامة -وهي الأمر المحسوس- لذاتها، بل هي أمر قد يجريه الله على يد عبد ظاهر الصلاح، تأييدًا للمسلم وتثبيتًا له في طاعته وقت ما يشاء، وليست لازمة لكل صالح، ولا يعد تخلفها دليل عدم صلاحه.

طلب الآيات في عهد النبوة:

ورد في القرآن الكريم الإخبار عن بعض ما طلبه المشركون من الآيات؛ قال الله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ٩٠ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ٩١ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا ٩٢ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: ٩٠-٩٣]، فقد طلب المشركون الآيات من رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التحدي والمعاندة، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ونؤمن بك. قال: (وَتَفعلونَ؟) قالوا: نعم قال: فدعا، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن ربك عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئت أُصَبِّحُ لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة؟ قال: (بل باب التّوبة والرّحمة)[4]، وهذا يدل على كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته بالناس؛ فاختار باب التوبة والرحمة خشية عليهم من العذاب.

انتشر استخدام طلب الآيات المحسوسة باسم الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، مع التفلُّت من ضوابطه التي نصَّ عليها أهل العلم، وحقيقة هذا الفعل: استخدام العقل المجرَّد في فهم النصوص من غير نظر في كلام المفسرين والشُّرَّاح

تنوُّع طلب الآيات في هذا العصر:

إذا كان تعلق العوام بخوارق العادات والآيات المحسوسة لتقوية الجانب الروحي لديهم، قد يوصل إلى حد توهم وجود هذه الخوارق، فينظر أحدهم إلى شجرة منحنية ليعتبر ذلك سجودًا منها، أو إلى رغيف خبزٍ فيتخيل أنه كُتب على وجهه لفظ الجلالة، فإن بعض الدعاة يستخدم بعض الظواهر العلمية ويربط بعض الأحداث الكونية بالإسلام -ويتكلف في هذا الربط- ويخترع علاقة بين هذه الظواهر وتفسير بعض الآيات القرآنية باسم الدعوة إلى الله، وكثيرًا ما ينتشر هذا الاستخدام في دعوة غير المسلمين للدخول في الإسلام.

ولعل أقل ما يُحمل عليه فعلُهم من الخطأ أن المدعو يربط إيمانه بهذه الظواهر فإذا تبين له خلاف ما تعلَّم نكص على عقبيه.

كما انتشر بين بعض الدعاة استخدام هذا الأسلوب باسم الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، مع التفلُّت من ضوابطه التي نصَّ عليها أهل العلم، وحقيقة فعلهم: استخدام العقل المجرَّد في فهم النصوص من غير نظر في كلام المفسرين والشُرّاح.

وهذا التوجُّه نحو طلب الآيات وعرضها باسم الإعجاز له أسباب، منها: ضعف سُلطة علماء المسلمين الربانيين، والتصدِّي لهذا الأمر ممن ليس أهلًا له، مع ضعف الجانب العلمي، وعدم الأخذ من العلماء الراسخين، وعدم الرجوع إلى قواعد التفسير والعقيدة وكلام أهل الاختصاص في ذلك، ورغبة عوام المسلمين في إظهار هذا الدين.

وقد انساق مع هذه الموجة أفاضلُ نَحَوا منحى التفسير العقلي البعيد عن الغيب للعديد من الآيات الغيبية، ومن ذلك:

  • تفسير قوله تعالى: ﴿وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ بمعنى طلع وانتشر نوره[5]، ويكون في الآية بمعنى ظهر الحق ووضح كالقمر يشق الظلام بطلوعه ليلة البدر.
  • تفسير (السِّجِّيل) الذي أصاب أصحاب الفيل في قوله تعالى: ﴿تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ﴾ بالأمراض والأوبئة، «وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة، قال عكرمة وهو أول جدري ظهر في بلاد العرب، وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث: إن أول ما رُؤيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام، وقد فعل ذلك الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله فكان لحمهم يتناثر ويتساقط، فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين، وأصيب الجيش»[6].
يتكلَّف بعض الدعاة في الربط بين بعض الأحداث الكونية والآيات القرآنية؛ فيخترع علاقة أو تفسيرًا يستخدمه في الدعوة إلى الإسلام، مما يؤدي لربط الإيمان بهذه التفسيرات، فإذا تبيَّ لاحقًا خلاف ذلك كان من أسباب النكوص

وهذا الوجه في تأويل الغيبيات القطعية للمعجزات يتوافق مع البحث عن المعاني الظنية لإلباسها ثوب المعجزة، كما سار على دربه أشخاصٌ اشتهروا إعلاميًا تحت مسمى التفسير العلمي للقرآن.

كما يلحق بهذا المسار ربط معاني النصوص بالفرضيات العلمية الحديثة وأوضح مثال عليه: (تفسير الجواهر) للشيخ طنطاوي جوهري رحمه الله.

كفاية الآيات التي دلنا عليها الشرع:

المسلم تكفيه الأدلة التي أشار إليها القرآن الكريم للدلالة على القضايا الغيبية الكلية، فالقرآن الكريم يوجهنا إلى النظر في آيات الله المبثوثة في الكون والتي تأتي وفق السنن الكونية وهي أولى بتثبيت المؤمن وتحقيق صريح الإيمان والشعور بحلاوته، ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ١٩٠ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: ١٩٠-١٩١]، والنظر في دقائق الآيات الكونية وسنن الله التي أودعها فيه غنية عن طلب الخوارق والتكلف لاستجلابها.

ومما خص الله به هذه الأمة دون الأمم السابقة أن جعل آيتها الكبرى ومعجزتها الخالدة هي الذكر الحكيم الذي لا تنقضي عجائبه ولا يخلَق على كثرة الردّ، قال تعالى: ﴿وقالَ الَّذينَ لا يعلمُونَ لولَا يكلِّمُنا اللَّهُ أَو تأتِينَا آيةٌ كذَٰلكَ قالَ الَّذينَ من قَبلِهِم مِثلَ قَولِهِم تشَابَهَت قلوبُهُم قَد بيَّنَّا الآياتِ لقومٍ يُوقنُونَ﴾ [البقرة: ١١٨]، وتبيين الآيات هو: ما جاء من القرآن المعجز للبشر الذي تحدى به جميعهم فلم يستطيعوا الإتيان بمثله[7]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما مِن الأنبياء من نبيٍّ إلا قد أُعطي من الآيات ما مِثله آمنَ عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)[8].

إنّ أبناء الأمة الإسلامية اليوم وهم يواجهون تيارًا كبيرًا من الإلحاد والانحراف العقدي، والطعن والتشكيك في مسلّمات هذا الدين، بحاجة إلى تعميق مفهوم الإيمان بالغيب والتسليم لما ورد من الحقائق الإيمانية، إلى جانب إظهار السنن الكونية القطعية، وإعمال فريضة التفكير والنظر في آيات الله ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [الشورى: ٤٦].


د.جمال الفرا

داعية وخطيب


[1]  قال سيد قطب رحمه الله: «والإيمان بالغيب هو العتبةُ التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوانِ الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيِّز الصغير المحدَّد الذي تُدرِكه الحواسُّ -أو الأجهزة التي هي امتدادٌ للحواس- وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله، ولحقيقةِ وجوده الذاتي، ولحقيقة القُوَى المنطلقة في كيان هذا الوجود، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير، كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض، فليس مَن يعيش في هذا الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمَن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته…». وقال: «لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرِق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالمِ البهيمة، ولكن جماعة الماديِّين في هذا الزمان -كجماعة الماديين في كل زمان- يُريدون أن يعودوا بالإنسان القهقَرَى، إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس، ويسمون هذا (تقدمية)، وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها، فجعل صفتَهم المميزة صفة ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: ٣]، والحمد لله على نعمائه». في ظلال القرآن (١/ ٣٩-٤٠).

[2]  تفسير الطبري (١١/٤٦٤).

[3]  الكرامة: «ظهور أمرٍ خارقٍ للعادةِ من قبل شخص غير مقارنٍ لدعوى النبوة». ينظر: التعريفات، للجرجاني، ص (١٨٤).

[4]  أخرجه أحمد (٢١٦٦).

[5]  ينظر: مجلة المنار (٣٠/ ٢٦٢).

[6]  الأعمال الكاملة، للشيخ محمد عبده (٣/ ٤٧٣).

[7]  التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور (١/٦٩١).

[8]  أخرجه البخاري (٤٩٨١)، ومسلم (٢٣٩).

X