حضارة وفكر

إضاءات على الحوكمة في القرآن الكريم

من آثار غياب الحوكمة الرشيدة في مجال وضع الرجل الصحيح في المكان الصحيح: تعثّر أهداف المنظمة والنفع المنتظَر منها، وبنظرة في كتاب الله تعالى يمكننا استلهام المؤهلات الأساسية التي ينبغي أن يتحلى بها كل مستوى من مستويات القيادة، فنجاح أي مؤسسة يبدأ من تمكين أصحاب المؤهلات الحقيقية فيها، بدءًا من إطار الأسرة وصولًا إلى كيان الأمة.

مدخل:

خلال حرب استخباراتية بين دولتين، اكتشفت إحداهما أن أحد ضباطها يتعامل مع الدولة الأخرى، فراقبوه ليعرفوا طبيعة العمل الذي يقوم به لصالح الدولة الأخرى، فلم يجدوا عليه عملًا مشبوهًا، أو دليلًا على خيانته أو أنه يقوم بشيء لصالح الدولة الأخرى. وكان الاكتشاف بعد سنوات!

لقد كان ذلك الخائن يضع الشخص المؤهل في المكان الذي لا يناسبه، ويضع في المناصب الحساسة أشخاصًا غير مؤهلين. لقد كان يُقدم للعدو أكثر مما يحتاج؛ وهو تدمير المنظومة من الداخل وبشكل يصعب إصلاحه، وكان هذا أهم إنجاز لجهاز المخابرات ذاك!

من أكثر القضايا إيلامًا في العمل على جميع المستويات: عدم قدرة القيادة على وضع الشخص الصحيح في المكان المناسب؛ حيث إن أقصى ضرر قد يقع على منظومة عمل ما هي في وضع الشخص غير المؤهل أو غير الكفء في منصب حساس وتسليمه مسؤوليات أكبر من قدرته على حملها.

الحوكمة:

إن الحوكمة في العمل الإداري هي: العمل الذي من خلاله يتم ضمان تحقيق أهداف المنظمة بما يتوافق مع متطلبات المستفيدين (مواطنين، وعملاء، وغيرهم) بما في ذلك تحديد التوجهات التنفيذية والأولويات واتخاذ القرارات ومن ثم مراقبة الأداء ومدى التقدم في التنفيذ وتحقيق الأهداف المتفق عليها وذلك لجميع المستويات من خلال كيان حوكمة مختصص[1].

يحتوي التعريف على عدد من العناصر الأساسية أهمها: تحقيق الأهداف، ومتطلبات المستفيدين، وإطار العمل الذي ينظر إلى أي منظمة على أنها تعمل على خدمة فئة من الناس لا أنها تحقق الاستفادة منهم.

إن أساس قيام أي منظمة هو القائمون عليها في خدمة المستفيدين وتحقيق الأهداف، لهذا فإن تركيز الأعداء يكون على ذوي المناصب والمسؤوليات الهامة.

وقد حدد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تسعة مبادئ أساسية للحوكمة، وهي: المشاركة، سيادة القانون، الشفافية، الاستجابة، الإجماع العام، المساواة، الفاعلية والكفاءة، المساءلة، والرؤية الاستراتيجية[2].

وهذه المبادئ ينبغي العمل عليها لتحقيق الحكم الرشيد الذي تطمح إليه أي منظمة أو دولة أو مجتمع.

تعمل منظومة الحوكمة على مستويين اثنين: مستوى الكيانات عندما تتعامل مع بعضها، ومستوى الأفراد داخل الكيان الواحد، وسيكون صلب الحديث هنا عن المستوى الثاني.

إن أساس قيام أي منظمة هو القائمون عليها (من رأس الهرم حتى أدناه) في خدمة المستفيدين وتحقيق الأهداف، ولهذا فإن تركيز الدول المعادية يكون على ذوي المناصب والمسؤوليات كما في حادثة ضابط المخابرات السالفة الذكر، فالعمل في منصب أو مسؤولية ما له رونقه وجاذبيته الخاصة به للشخص المرشح، ومن النادر وجود من يرفض منصبًا يُعرض عليه حتى وإن كان غير مؤهل له، إلا إن كان في قلبه من تقوى الله ومخافته ما يتجاوز ما لديه من حظوظ نفسه، وقليلٌ ما هم.

أما السواد اﻷعظم فهم يركضون ركضًا للمناصب المتاحة ويتعلقون بها سعيًا للاستفادة منها، بغض النظر عن قدرتهم على تحقيق الغاية المرادة من المنصب الذي يشغلونه، وله أسبابه الكثيرة التي يطول الحديث عنها وتحتاج لإفراد بمقال خاص.

«إن وضع الشخص المناسب في المكان المناسب هو عماد قيام المنظمات والمؤسسات والدول وجميع أشكال العمل الجماعي. ولم يأخذ هذا اﻷمر حقه من التركيز والبحث كما ينبغي في الدراسة الجامعية الأكاديمية والمناهج الدراسية»[3]، فمعظم المناصب تعطى لمن يثق به القائد أو تتم تزكيته له، بل أصبح المؤهل اﻷساسي للمناصب والترقيات هو الولاء للمنظمة أو قيادتها وليس القدرة الحقيقية على إشغال المنصب وتحقيق الحق الذي يستحق.

أضواء على المناصب ومؤهلاتها في القرآن الكريم:

ورد في تعريف الحوكمة أن المحرك الرئيسي لدى جميع العناصر البشرية هو في «خدمة من يتحكمون بمواردهم وتحقيق الأهداف»، ويكون ذلك في عدد من المستويات والمناصب، وبنظرة في كتاب الله تعالى نجد إشارات لثلاثة أنواع من المؤهلات لثلاثة أنواع من المناصب يمكن النظر لها والاسترشاد بها في هذا المجال:

  1. النوع اﻷول: القيادة العليا (الملك):

﴿وَقالَ لَهُم نَبِيُّهُم إِنَّ اللَّهَ قَد بَعَثَ لَكُم طالوتَ مَلِكًا قالوا أَنّى يَكونُ لَهُ المُلكُ عَلَينا وَنَحنُ أَحَقُّ بِالمُلكِ مِنهُ وَلَم يُؤتَ سَعَةً مِنَ المالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصطَفاهُ عَلَيكُم وَزادَهُ بَسطَةً فِي العِلمِ وَالجِسمِ وَاللَّهُ يُؤتي مُلكَهُ مَن يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَليمٌ﴾ [البقرة: ٢٤٧].

نستلهم من هذه اﻵية المؤهل من بني إسرائيل الذي استحق به المنصب القيادي، (البسطة في العلم والجسم)؛ وذلك ﻷن العمل القيادي كان يستدعي الكثير من الحركة والتواصل والجهد الهائل الذي يجب أن يبذله القائد ليقوم بمهام القيادة فهو بحاجة إلى الصحة والقوة الجسدية والذهنية، إضافة إلى العلم في أمور القيادة والتوجيه واﻹدارة وغيرها من العلوم التي يحتاجها القائد ليحقق لمن يقوم عليهم اﻷهدافَ التي يسعون إليها.

قد يكون المرء أمينًا وقادرًا على حفظ اﻷمانة لكن ليس لديه ما يكفي من العلم كي يضع اﻷمور في موازينها الصحيحة والعكس كذلك، وكلا الحالتين تقضيان على كوادر وموارد المنظمة.

إن لم تجتمع تلك الصفتان -على اﻷقل- في الشخص فلن يكون مؤهلًا ﻷن يكون قائدًا. فقد يكون المرء عالمًا ولكنه غير قادر صحيًا وجسميًا وذهنيًا على متابعة الكثير مما يدور حوله فيتلاعب مَن تحته وهو غافل، أو أن يكون صحيحًا جسميًا ويبذل الكثير من الجهد وليس لديه ما يكفي من العلم الذي يجعله يتخذ القرارات الخاطئة فيتوجه بالسفينة إلى حتفها.

 

2. النوع الثاني: الإدارة الوسطى (الإدارة الرابطة بين القيادة والتنفيذ)

﴿وَقالَ المَلِكُ ائتوني بِهِ أَستَخلِصهُ لِنَفسي فَلَمّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ اليَومَ لَدَينا مَكينٌ أَمينٌ ٥٤ قالَ اجعَلني عَلى خَزائِنِ الأَرضِ إِنّي حَفيظٌ عَليمٌ﴾ [يوسف: ٥٤-٥٥].

العمل التنفيذي أو ما يسمى حاليًا بـ (العمل اﻹداري) هو العمل الذي يتحكم من خلاله بالموارد المتاحة للكيان بما تراه القيادة، وهذا واضح في الآية (أستخلصه لنفسي)، وحتى يكون صاحب هذا المنصب قادرًا على الوصول إلى الموارد فعليه أن يتحلى بأن يكون (حفيظًا) على ما تحت يديه من الموارد والقدرات واﻷموال والعلاقات وغيرها فلا يضيع منه شيء في غير محله.

ويجب أن يكون (عليمًا) حتى يكون على علم ومعرفة بما يقوم به من تدبير وإعطاء ومنع والتصرف في جميع أنواع التصرفات.

وذلك ليس حرصًا على الولاية ولكن رغبة في النفع العام فأصبح يوسف عليه السلام على خزائن الأرض (تفسير السعدي)، فإن لم تجتمع تلك الصفتان به على اﻷقل فلن يكون مؤهلًا ﻷن يكون مديرًا، فقد يكون المرء أمينًا وقادرًا على حفظ اﻷمانة ولكن ليس لديه ما يكفي من العلم كي يضع اﻷمور في موازينها الصحيحة والعكس كذلك، وكلا الحالتين تقضيان على كوادر وموارد المنظمة. وهذا المستوى هو الأخطر والأشد حرجًا.

إن انعدام اﻷمانة في العمل الذي يتضمن مسؤولية ما يجعل المنظمة أو الدولة مكشوفة بأدق التفاصيل؛ لانعدام اﻷمانة في المناصب والوظائف التنفيذية والإدارية والقيادية على حد سواء.

3. النوع الثالث: العمل التنفيذي (الأعمال اليومية)

﴿قالَت إِحداهُما يا أَبَتِ استَأجِرهُ إِنَّ خَيرَ مَنِ استَأجَرتَ القَوِيُّ الأَمينُ﴾ [القصص: ٢٦].

المستوى الثالث من مستويات العمل هو المستوى التنفيذي العملي، وهو استئجار من يقوم بالعمل موظفًا طالت المدة أم قصرت، فالعمل في هذه الحالة بحاجة إلى القوة واﻷمانة، والقوة هنا هي القدرة على تنفيذ العمل المطلوب وليست القوة الجسدية فحسب، وهي تختلف عن المراد به في البسطة في الجسم المذكورة في المستوى القيادي. كما أن العامل في القطاع التنفيذي بحاجة ﻷن يكون أمينًا على ما يشاهده من أسرار العمل وأخباره والكيفية التنفيذية التي يقوم بها، كما يجب أن يكون مؤتمنًا على أن يقوم بعمله باﻹتقان الصحيح المطلوب. إن لم تتوفر تلك الصفتان على اﻷقل بالعامل في التنفيذ فلن يكون مؤهلًا لشغل المنصب التنفيذي المطلوب منه.

إنَّ قوة التنظيمات العالمية والدول العظمى تكمن في جمع المعلومات الدقيقة من داخل الطرف الآخر، فإن وجد من يحفظ الأمانة فلن يكون للعدو مجال للاقتحام كالذي حصل في القصة مستهل هذا المقال، إن انعدام اﻷمانة في العمل الذي يتضمن مسؤولية ما يجعل المنظمة أو الدولة مكشوفة بشكل شبه كامل وبأدق التفاصيل؛ وذلك بسبب انعدام اﻷمانة في المناصب والوظائف التنفيذية والإدارية والقيادية على حد سواء.

إذا أردنا بناء منظمة قادرة على تحقيق أهداف بناءة ضمن منظومة حكم رشيد، فعلينا تمكين من يستحق في المكان المناسب، على أن يكون مكملًا للآخرين ضمن إطار عمل واضح منظم يتبناه الجميع بلا استثناء.

لأجل ذلك، على من يرى في نفسه الأهلية والقدرة في إمساك مسؤولية ما أن يبادر إليها؛ سعيًا وراء المصلحة العامة كما فعل سيدنا يوسف عليه السلام، فهذا ليس مكان التواضع وإلا خلا الجو للطامعين ومن ليس لديهم مؤهلات أو استحقاق.

وعلى من يرى في غيره التأهيل المطلوب أن يقوم بترشيحه كما فعلت الفتاة الصالحة ابنة الرجل الصالح مع سيدنا موسى عليه السلام.

إذا أردنا بناء دولة قوية ومؤسسات قادرة على صناعة وتحقيق أهداف بناءة وتخدم مستفيديها حق الخدمة ضمن منظومة حكم رشيد، فعلينا تمكين من يستحق في المكان المناسب بالتوجه الصحيح وبما يساعد كل كادر على أن يكون مكملًا للآخر ضمن إطار عمل واضح ومنظم يتبناه الجميع بلا استثناء. ولا يمكن ذلك إلا باتباع المنهج القرآني الذي استلهمنا منه قطرات ندى بسيطة تعطينا توجيهًا عامًا في هذا الموضوع الكبير. لن نتمكن من التخلص من الوضع الأليم الذي نعاني منه في المجتمعات والمؤسسات والدول الإسلامية إلا بإيجاد منظومة حوكمة وتأهيل بشري متكاملة، يقع على عاتق كل إنسان الحرص على تنفيذها على نفسه وعلى أسرته ومجتمعه ومؤسسته وأعماله وأمته التي ينتمي إليها.


م. جهاد بوابيجي

خبير إدارة تقنية معلومات، استشاري تحليل أعمال وإدارة مشاريع.


[1]          ISACA©, COBIT5® Reference Guide

[2]          United Nations Development Programmer (UNDP), Governance and Sustainable Human Development (New 7 York: UNDP, UNDP policy document, 1997). p.14-15.

[3]          The Personal MBA, Josh Kaufman

X