حضارة وفكر

مسألة رضا أهل الاختيار في ولاية العهد في كتب السياسة الشرعية

تناول أهل العلم مسألة عهد الإمام لمن بعده بالولاية، هل تنعقد بها الإمامة؟ وهل يشترط فيها رضا أهل الاختيار لانعقاد إمامة ذي العهد، أم لا يشترط؟ وفي المقال التالي إضاءة على هذه المسائل من كتب السياسة الشرعية.

البحث في طرق إثبات الإمامة العظمى – أي: وسائل إسنادِ السُّلطَة – من البحوث التي تناولها أهل العلم في كتب الاعتقاد وكتب الفقه والكتب المفردة في السياسة الشرعية، ومما بحثوه: إثبات الإمامة بطريق الاستخلاف أو ولاية العهد، وهي أعم من مسألة ولاية العهد للأبناء؛ إذ يدخل فيها استخلاف الإمام لمن يراه الأصلح للإمامة مِن بعده، وإن لم يَكُنِ ابنَه، كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه في استخلاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ومن المسائل المتعلقة بولاية العهد: الصلة بين عهد الإمام وبين رضا أهل الاختيار، وسنتناول ما يتعلق بهذه المسألة بالنظر أساسًا في ما ورد في كتابين مهمين من كتب السياسة الشرعية:

  • الأول: كتاب «الأحكام السلطانية» للقاضي أبي يعلى الحنبلي (ت: ٤٥٨).
  • والثاني: كتاب «الغياثي» لأبي المعالي الجويني (ت: ٤٧٨).

والمقصود إجالة الفكر والنظر في المسألة، لتجويد التعامل مع التراث الإسلامي في مسائل السياسة الشرعية.

أولًا: ما ورد في كتاب «الأحكام السلطانية» للقاضي أبي يعلى:

تولية العهد عند الحنابلة ليست عقدًا للإمامة، فلا تحتاج إلى شهادة أهل الحل والعقد ولا إلى رضاهم، وإنَّما يُعتَبَر حضورهم بعد وفاة الإمام للاتِّفاق على المولَّى، هذا حاصل ما ذكره القاضي أبو يعلى (ت: ٤٥٨) في تولية العهد، وسار عليه المصنفون من الحنابلة من بعده[1].

وإذا كانت تولية العهد ليست عقدًا للإمامة عند الحنابلة فما تكون؟

الجواب: أنها وصيةٌ يُوصي بها الإمام إلى المولَّى، له أن يرجع عنها فيعزل المولَّى في حياتِه، وللمولَّى أن يقبلَها أو يَردَّها، ووقت ذلك بعد موتِ الإمام[2]، فولي العهد له حكمُ (المُوصَى إليه)، و(المُوصَى إليه) – عندهم- هو: «المأذون له بالتصرُّف بعد الموت في المال وغيره مما للوصي التصرف فيه حال الحياة، وتدخله النيابة بمُلكِه وولايته الشرعية»[3]، قال أبو يعلى: «ولما كان الإنسان مالك التصرف في ماله وعلى أولاده وفي بُضعِ بناته، ملك أن يوصي بذلك غيرهُ، كذلك الإمام لما كان مالكًا لذلك ملك أن يعهد به إلى غيره»[4].

وبذا يتبيَّنُ أن توليةَ العهد عند أبي يعلى والحنابلة إذنٌ بالتَّصرُّف، وليست مجرَّدَ ترشيح[5].

«لا تنعقد الإمامة للمعهود إليه بنفس العهد، وإنما تنعقد بعهد المسلمين» القاضي أبو يعلى الحنبلي

 

وقد يُعتَرَض بأن اختيار الإمام حق للأمة، فكيف يأذن الإمام بالتصرف في ما لا حق له فيه؟ وكيف يكون ذلك كتصرفه بماله وعلى أولاده وفي بضع بناته؟

ويمكن أن يجاب بالتفريق بين ابتداء عقد الإمامة، وبين الإيصاء وولاية العهد لدى الحنابلة[6]، والشأن في ذلك كشأن سائر النيابات بالولاية الشرعية في حال حياة الإمام، كنيابة من ينوب عن الإمام في الإمارة أو القضاء أو غير ذلك.

على أنَّ اعتبارَ الحنابلة لحضور أهل الاختيار بعد وفاة الإمام للاتفاق على المُولَّى – كما تقدم – ينفي عن الإمام تُهمة المحاباة لمن أوصى إليه في الصور التي هي مظنة لذلك، كالعهد إلى الأبناء. قال أبو يعلى: «ويجوز أن يعهدَ إلى من ينتسبُ إليه بأبوَّةٍ أو بنوَّة، إذا كان المعهودُ له على صفات الأئمة؛ لأنَّ الإمامة لا تنعقد للمعهود إليه بنفس العهد، وإنما تنعقد بعهد المسلمين، والتهمةُ تُنتَفى عنه»[7].

قطع الجويني رحمه الله بعدم اشتراط رضا أهل الاختيار على تولية ذي العهد ونفى أن يكون هناك خلاف في المسألة

ثانيًا: ما ورد في كتاب «الغياثي» لأبي المعالي الجويني (ت: ٤٧٨):

ذكر أبو المعالي الجويني (ت: ٤٧٨) هذه المسألة في «الغياثي» فقال: «فإن قيلَ: إذا ولَّى الإمامُ ذا عهد، فهل يتوقَّفُ تنفيذُ عهده على رضا أهل الاختيار في حياتِه أو من بعده؟»[8].

وجوابه لهذا السؤال تضمن أمورًا:

  • الأول: أنه قطعَ بعدم اشتراط ذلك.
  • الثاني: أنه استدلّ للقطع بما عُلِم اضطرارًا من عدم وقُوع ذلك من أبي بكر في توليتِهِ عمرَ رضي الله عنهما: «فإنَّا على اضطرارٍ نعلمُ أن أبا بكر رضي الله عنه لما وَلَّى عمر رضي الله عنه لم يُقَدِّمْ على توليته مُراجعةً واستشارةً ومطالعةً، وإذ أمضى فيه ما حاوَلَهُ لم يسترض أحدًا من أهل الاختيار على توافر المهاجرين والأنصار»[9].
  • الثالث: ثم أشار إلى خبرٍ يدل على وقوع ذلك، وسيأتي ذكره.
  • الرابع: أنه انتقد الماوردي (ت: ٤٥٠) لحكايته الخلاف في المسألة، دون أن يُسمِّيه.
  • الخامس: أنه انتقل من ذلك إلى انتقاد مجمل منهجية الماوردي في «الأحكام السُّلطانيَّة»، دون أن يُسمِّيه أيضًا.

فالتسليم للجويني بالقطع في المسألة مبني على أمرين: القطع بكذب الخبر الذي ذكره، والقطع بنفي الخلاف في المسألة.

أمَّا الخبرُ الذي جاء في استرضَاء أبي بكرٍ للصحابة رضي الله عنهم في اختيار عُمَرَ، فقد روى القاسم بن محمد عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها –وهي حينئذٍ تحت أبي بكر رضي الله عنه – قالت: جاء طلحةُ حتى دخل على أبي بكر وقال: استخلفتَ على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف إذا خلا بهم، وأنت ملاقٍ ربك فسائلك عن رعيتك، فقال أبو بكر: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أبالموت تفرقوني؟ أم بالله تخوفونني؟ إذا لقيت الله فسألني قلت: استخلفتُ عليهم خير أهلك[10].

ورواه يوسف بن ماهَك عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بنحو ما رواه القاسم عن أسماء رضي الله عنها، وفيه أنّ عليًّا رضي الله عنه دخل مع طلحة[11].

والخبر ثابتٌ بمجموع طُرُقِه.

أما حكاية الخلاف في المسألة، فقد حكى الماوردي الخلاف فيها في كتابين:

ذهب الماورديّ وغيره من الشافعية إلى اشتراط الاسترضاء لانعقاد الإمامة، وبذلك لم تكن المسألة عند الشافعية إجماعية قطعية، بل فيها خلاف.

الأول: «الأحكام السلطانية»[12] قال فيه: «اختلفوا: هل يكون ظهور الرضا منهم شرطًا في انعقاد بيعته أو لا؟ فذهبَ بعضُ علماء أهل البصرة إلى أنَّ رضا أهل الاختيار لبيعتِه شرطٌ في لزومها للأمة، لأنَّها حقٌّ يتعلَّقُ بهم، فلم تلزمهم إلا برضا أهل الاختيار منهم».

والثاني: «الحاوي الكبير»[13]، وهو شَرْحُه على مختصر الإمام المزني في فروع الشافعية، قال فيه: «على أن من أصحابنا من جَعَلَ صحَّةَ استخلاف الإمام بعده لإمام، مُعتَبَرًا برضا أهل الحل والعقد، ورضاهم أن يعلَمُوا به فلا يُنكروه، كما علمتِ الصحابةُ باستخلاف عمر رضي الله عنه، فجعل إمساكهم عن الإنكار[14]، رضا به انعقدت به الإمامة له.

فعلى هذا الوجه: لو استخلف إمامًا بعده، ولم يعلم به أحدٌ من أهل الحل والعقد: لم يصح استخلافه، ولم تنعقد إمامَتُه، إلا أن يُجمع عليه ويرضى بعد موت الأول ممن يصح اختياره من أهل الحل والعقد.

وهذا النصّ نقله عن الماوردي من أئمة الشافعية الشارحين لمختصر المزني: أبو المحاسن الرُّويَاني (ت: ٥٠٢)[15].

والخلاف حكاه القاضي أبو سعد الهروي (ت: ٥٠٠ تقريبًا) في كتابه «الإشراف على غوامض الحكومات»[16] الذي شرح به كتاب «أدب القضاء» لشيخه أبي عاصم العبادي (ت: ٤٥٨) فقال: «وإن استخلف إمامٌ عادل خليفةً جاز؛ لأن أبا بكر t فَعَلَه».

«ومن أصحابنا من قال: إنه لا يجوز إلا برضا الناس، لأنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه استرضى الناس فسَكَتُوا ورَضوا، ولأنَّ معاوية لما استخلف قيل له: قد جعلت الخلافة إمارةً كسروية يرد الأب إلى الابن».

فتبين من هذا: أن حصول مُراجعة من بعض الصحابة، واسترضاءٍ لهم من أبي بكر رضي الله عنه، حتى رجعوا إلى قوله، ليس من المعلوم اضطرارًا نفيُه، وأن من الفقهاء من ذهب إلى اشتراط الاسترضاء لانعقاد الإمامة، وبيَّنوا مرادهم بذلك، فالقول بأن المسألةَ إجماعيَّةٌ قطعيَّةٌ -كما ذهب إليه الجويني- محلُّ نظرٍ، لما تقدم، والله أعلم.


أ. محمد براء ياسين

كاتب وباحث شرعي.


[1]  ينظر: مختصر المعتمد، لأبي يعلى ص (٢٥١-٢٥٢)، والأحكام السلطانية، له، ص (٢٥-٢٦)، وإيضاح طرق الاستقامة، لابن عبدالهادي، ص (٨٨-٨٩)، ولوامع الأنوار البهية، للسفاريني (٢/٤٢٢)، وشرح منتهى الإرادات، للبهوتي (٣/٣٨٧).

[2]  الأحكام السلطانية، لأبي يعلى، ص (٢٥)، وإيضاح طُرُق الاستقامة، لابن عبدالهادي، ص (٨٩).

[3]  شرح منتهى الإرادات، للبهوتي (٢/٤٩٣).

[4]  مختصر المعتمد، ص (٢٥١-٢٥٢).

[5]  في كلام بعض الباحثين في السياسة الشرعية – كما في كتاب النظام السياسي الإسلامي مقارنًا بالدولة القانونية للدكتور منير البياتي ص(٣٣٢)- تكييف ولاية العهد على أنها مجرد ترشيح، ونسبة ذلك لأبي يعلى.

[6]  مما يدل على التفريق بين المقامين قول ابن الزاغوني (ت:٥٢٧)، وهو من أتباع القاضي أبي يعلى (ت:٤٥٨): «انعقاد بيعة عمر رضي الله عنه كان بتقليد أبي بكر رضي الله عنه له والوصية إليه، وعندنا أنه يكفي في انعقاد الخلافة ذلك، وإنما كلامنا (يعني في قضية عدد أهل الحل والعقد) في من يبتدأ بانعقاد الإمامة له على الناس، وذلك أمر آخر». الإيضاح في أصول الدين (ص٦٢٣).

[7]  الأحكام السلطانية، لأبي يعلى ص (٢٥).

[8]  غياث الأمم في التياث الظلم، للجويني ص (٢٩٨).

[9]  المرجع السابق.

[10]  أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» برقم (٩٧٦٤) عن معمر [ورواه من طريق عبد الرزاق: إسحاق بن راهويه في «مسنده» برقم (٢١٤٦)، والأزرقي في «أخبار مكة» (٢/١٥٢)، والفاكهي في «أخبار مكة» برقم (١٨٠٨)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (٤٤/٢٤٩-٢٥٠)]، وأحمد في «فضائل الصحابة» برقم (٤٨٥) من طريق الوليد بن محمد الموقري (وهو متروك)، والآجري في «الشريعة» برقم (١٢٠١) من طريق شعيب بن أبي حمزة، وأبو نعيم في «تثبيت الإمامة» برقم (٦١) و«فضائل الخلفاء» برقم (٢٠٢) عن يونس [وأخرجه من طريق أبي نعيم: ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (٤٤/٢٤٩-٢٥٠)]، وأبو نعيم في «فضائل الخلفاء» برقم (٢٠٢) عن ابن إسحاق (واللفظ له)؛ خمسَتُهم (معمر وشعيب ويونس ومحمد بن إسحاق والوليد) عن الزهري به. وقال معمر: فقلت للزهري: ما قوله: خير أهلك؟ قال: خير أهل مكة. وللحديث شاهدان منقطعان: (الأول): أخرجه سعيد بن منصور في «تفسيره» برقم (٩٤٢) من طريق سعيد بن المرزبان، وأبو نعيم في «تثبيت الإمامة» برقم (٦٤) وفي «فضائل الخلفاء» برقم (٢٠٤) وفي «حلية الأولياء» (١/٣٦) من طريق فطر بن خليفة كلاهما عن عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط. (والثاني): أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» برقم (٣٢٠١٣) والخلال في «السنة» من طريق إسماعيل ابن أبي خالد عن زبيد اليامي.

[11]  أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (٣/٢٧٤) [ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (٤٤/٢٥١)] من طريق يوسف بن ماهك عن عائشة رضي الله عنها. وجاء من طريق آخر عن عائشة رضي الله عنها، وهو ما أخرجه محمد بن سعد في «الطبقات الكبرى» (٣/٢٧٤)، وأبو بكر الرزاز كما في «مجموع فيه مصنفاته» برقم (٤٨٤) [ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» برقم (١٦٥٧٥)، ومن طريق البيهقي ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (٤٤/٢٥٠)] من طريق الحسن بن مكرم البغدادي، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (٤٤/٢٥٠) من طريق بكار بن قتيبة ومحمد بن يزيد أربعتهم (ابن سعد والحسن وبكار وابن يزيد) عن سعيد بن عامر عن صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها.

[12]  الأحكام السلطانية، للماوردي ص (٣١).

[13]  الحاوي الكبير، للماوردي (٨/٣٣٩-٣٤٠).

[14]  ولا يُعارِض ما ذكراه من إمساك الصحابة عن الإنكار لما جاء عن طلحة في الخبر المتقدم ذكره، وفي ذلك يقول ابن تيمية جوابًا على دعوى الرافضي الاختلاف في تولية عمر: «جعل مثل هذا خلافًا! فقد كان مثل هذا على عهد النبي ﷺ: قد طعن بعضُ الصحابة في إمارة زيد بن حارثة، وبعضُهم في إمارة أسامة ابنه، وقد كان غير واحد يطعن فيمن يولِّيه أبو بكر وعمر، ثم إنَّ القائل لها كان طلحة وقد رجع عن ذلك وهو من أشد الناس تعظيمًا لعمر، كما أنَّ الذين طعنوا في إمارة زيد وأسامة رجعوا عن طعنهم طاعة لله ورسوله ﷺ». منهاج السنة النبوية، لابن تيمية (٦/٣٥٠).

[15]  بحر المذهب، للروياني (٨/١٤٥-١٤٦).

[16]  ص (٧٤٦).

X