قضايا معاصرة

قواعد الرُّشد الاستهلاكي

قواعد الرُّشد الاستهلاكي

وُضعت قواعد الرشد الاستهلاكي لتحقيق المنافع الظاهرة للفرد والمجتمع، فشكلت الأساس الذي يحقق للأفراد الكفاية والرفاهية، بطريقة منضبطة تجنبهم السقوط في هاوية الفقر، كما كان لهذه القواعد الدور الرئيس في تنمية المجتمع وازدهاره. فما هي هذه القواعد؟ وما آثار الالتزام بها؟ وما هي عواقب مخالفتها؟

المقدمة:

حفِل التشريع الإسلامي بأحكامٍ عديدة، ترمي في مجملها إلى حماية المال وحفظه وتثميره؛ لأن به قوام الحياة وصلاحها، فجاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لتوجيه المسلم إلى السلوك السوي في جمع المال، وضبط إنفاقه وصرفه، والتشجيع على سلوكيات استهلاكية رشيدة متينة، تشكّل التدابير الواقية والأسوار الحصينة التي يتحقق من خلالها العمران المقصود والخلافة المنشودة.

ولأهمية هذا العنصر المهم في الحياة، طُلِب من المؤمن التعرّف على مصدر ماله، والتبصّر في موضع إنفاقه، فقال الرسول ﷺ: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسألَ عن عمره فيما أفناه، وعن عِلمه فِيمَ فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفِيمَ أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه)[1].

فالجدير بالمؤمن أن ينتبه لطرق كسب ماله، فيتحرى المشروعة منها، ويتفقّد قنوات تصريف ماله، ليضعه في الطريق القويم، ولا يتّبع به سبيل الشيطان الرجيم.

يمكن تعريف الرشد المالي بأنه: «عملية ضبط المستويات الاستهلاكية أثناء إشباع الحاجات المشروعة بما يحقق الكفاية»

مفهوم الرشد الاستهلاكي:

لم يترك الإسلام للإنسان إنفاق المال دون ضابط أو توجيه، فأولاه عناية كبرى، وجعل المحافظة عليه من مقاصده الكلية، فشرع من الأحكام ما يضبطه، وحثّ لأجله على الإنتاج وشرّع لاستمراريته التبادلات التجارية، وجعل الاستهلاك عبادة وطاعة إذا ما قُرن بالنية الصادقة السليمة.

ومن خلال ذلك يمكن تعريف الرشد المالي بأنه: «عملية ضبط المستويات الاستهلاكية أثناء إشباع الحاجات المشروعة بما يحقق الكفاية»[2].

إن طبيعة الإسلام تحرص على إقامة مستوىً معيشي محترم لأفراده، كون الإنسان خليفة على هذه الأرض، ولذا فقد كان من الواجب إكرام هذا الخليفة، وتحقيق الكفاية له

قواعد الرشد الاستهلاكي:

الاستهلاك أمر فطري ضروري للإنسان، وما كان كذلك فلا يمنعه الإسلام[3]، بل يحث عليه ويرغب فيه، ضمن حرصه على تحقيق المستوى الكريم من العيش لجميع أبنائه، وكيف لا يهتم التشريع الحنيف بالاستهلاك في وقتٍ يُعدّ فيه صمامَ أمانٍ لحفظ ضروريات الإنسان، ولقد دلّ التشريع الإسلامي على العديد من القواعد التي من شأنها تحقيق الرشد الاستهلاكي، وتؤدي لحماية المستهلك.

القاعدة الأولى: الحض على تحقيق حد الكفاية:

إن طبيعة الإسلام تحرص على إقامة مستوى معيشي محترم لأفراده، كون الإنسان خليفة على هذه الأرض، ولذا فقد كان من الواجب إكرام هذا الخليفة[4]، وتحقيق الكفاية له.

وتعرّف الكفاية بأنها سدُّ الضروريات والحاجيات للإنسان[5]. وهي أول مراتب الغنى، ومن خلال هذا المستوى تُشبع الحاجات الأساسية المشروعة للإنسان[6]، ولمّا كان المستوى المعيشي والكفاية يعبّر عنه في الزمن الماضي بالمأكل والمشرب والملبس والمأوى بالدرجة الأولى، فإن حد الكفاية في المفهوم المعاصر تطور ليشمل الدواء والعلاج ووسائل التنقّل والسفر، وأجهزة الاتصالات ووسائل الإنتاج وغيرها من المعدّات التي تدخل في صلب الحاجة اليومية.

وعليه فلا تتحقق الكفاية في العصر الحاضر إلا من خلال توفير المنتجات الغذائية والأدوية والألبسة، وتحقيق المسكن والمأوى، ووسائل النقل، وأجهزة التواصل الحديثة التي تخفف عبء الحياة ومشاقها.

خلافة الأرض تحتاج ساعدًا قويًّا يبني، وعقلاً متفتحًا يفكّر، وذهنًا صافيًا يخطط، وهذا لا يتحقق بالابتعاد عن الطعام والشراب والمنافع والمباحات؛ بل بطلبها أيضًا ليقوى الإنسان على الوقوف والصمود مواجهًا التحديات والصعوبات

القاعدة الثانية: النهي عن الزهد المذموم:

إذا كان الزهد الواعي هو حرمان النفس من كثرة المباحات، والقناعة بما رزقه الله من نِعم، لقول النبي ﷺ: (يا أبا هريرة كن ورعًا تكن أعبدَ الناس، وكن قَنعًا تكن أشكرَ الناس)[7]، ولقوله ﷺ: (اللهم اجعل رزقَ آلِ محمد قوتًا)[8]، أي على قدر الحاجة والضرورة، إلا أن حرمان النفس من التمتع بجميع المباحات هو زهد مذموم[9]، حتى لو كان القصد منه الأجر الأخروي[10]، فقد ثبت عن النبي ﷺ نهيه عن ذلك، حيث قال: (أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)[11].

وحيث كان القصد هو الآخرة، فيقال لأصحاب الزهد المذموم هؤلاء: أليس في الطعام والشراب واللبس أجر إذا جاء مقترنًا بنية التقوي على الطاعة!

ولا يخفى على بصير أن الخلافة في الأرض تحتاج ساعدًا قويًّا يبني، وعقلاً متفتحًا يفكّر، وذهنًا صافيًا يخطط، وهذا لا يتحقق بالابتعاد عن الطعام والشراب وما إلى من ذلك من المنافع والمباحات؛ بل بطلبها أيضًا ليقوى الإنسان على الوقوف والصمود مواجهًا التحديات والصعوبات.

وتظهر أهمية هذا التدبير الوقائي (النهي عن الزهد المذموم): بسبب تعدد المنتجات والمخترعات الحديثة في الوقت المعاصر التي كانت تُعدّ ترفًا في أوقات مضت، لكن دخولها في تفاصيل الحياة اليومية جعل منها أدوات لا بد منها للتواصل الثقافي والاجتماعي والبناء الدعوي والحضاري الذي يحقق معنى الخلافة في الأرض، وصار من يمتنع عنها مع قدرته عليها بحجة الزهد، ناقص الفقه في معنى عمارة الأرض.

لا يقتصر الإسراف على الأكل والشرب فقط؛ بل يتعدى إلى جميع التصرفات والنفقات الاستهلاكية والمباحات التي تتجاوز حدَّ الاعتدال

القاعدة الثالثة: النهي عن الإسراف:

يعرّف الإسراف بأنه: تجاوز الحد المتعارف عليه في الشيء[12]. وقيل هو بذل للمال فيما لا ينبغي[13].

ولقد نهى الإسلام عن هذا السلوك الاستهلاكي، وحذّر من تفشّي هذه الظاهرة بالنص الصريح، وبيّن أنه لا يحب القوم الواقعين فيها، فقال الرب الحكيم: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: ٣١]. ولقد أرشد النبي ﷺ إلى معنى يؤيّد هذه الفكرة، فقال: (إِن الله كَرِهَ لكم ثلاثًا: قِيلَ وقال، وإضاعةَ المال، وكثرة السُّؤال)[14]. وإضاعة المال تتمثّل في عدة وجوه، منها الإسراف في المباحات[15].

ولا يقتصر الإسراف على الأكل والشرب فقط؛ بل يتعدى إلى جميع التصرفات والنفقات الاستهلاكية التي تتجاوز حدَّ الاعتدال.

ولعلّ المطالع في صفحات الفقه يجد أن هناك صورًا متنوعة للإسراف: «ومن الإسراف في الطعام الاستكثار من المباحات وأن يضع على المائدة من ألوان الطعام فوق ما يحتاج إليه،… ومن الإسراف أن يأكل وسط الخبز ويدع حواشيه، أو يأكل ما انتفخ من الخبز كما يفعله بعض الجهّال ويزعمون أن ذلك ألذّ»[16].

وهناك صور كثيرة للإسراف المعاصر منها طلب الطعام الكثير الزائد عن الحاجة في المطاعم، والتسابق الكبير إلى ألوان الموضة في عالم اللباس برغم عدم الحاجة لها، إضافة إلى التغيير المستمر لأثاث المنازل وتبديل السيارات وأجهزة التواصل الحديثة بدون سبب مقبول، والقائمة تطول، لدرجة أن الكثير من الملابس قد لا يلبس إلا مرة واحدة فحسب!!

القاعدة الرابعة: النهي عن التبذير:

مِن أهل العلم مَن جعل التبذير كالإسراف، ومنهم من قال: إنَّ التبذير إنفاق المال في غير حقّه، وهو مروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما. ومنهم من قال: إن الإسراف الزيادة في الحلال، وأما التبذير فلا يكون إلا في الحرام[17].

وقد نهى الإسلام عن هذا السلوك الاستهلاكي نهيًا صريحًا، فقال الله تعالى: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: ٢٦-٢٧].

ومن صور التبذير المعاصرة:

إنفاق المال في الحرام: كإنفاقه في المشتريات المحرمة من مأكولات أو مشروبات، أو في ملبوسات محرمة كالذهب المخصص للرجال، أو المقتنيات المحرمة في الشكل أو المصدر، أو في الألعاب، وكذلك الإنفاق فيما يحرم مما يُشاهد ويسمع، وأمثلته كثيرة لا تحصر.

«فالترف مُفسد للخَلْقِ بما يحصل في النّفس من ألوان الشّرّ وعوائدها… فتذهب منهم خِلالُ الخير الّتي كانت علامة على الملك ودليلاً عليه، ويتّصفون بما يناقضها من خلال الشّرّ، فيكون علامة على الإدبار والانقراض»

ابن خلدون

القاعدة الخامسة: النهي عن التَّرف:

يعرّف التَّرف بأنه التنعم والتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها[18].

ويجد المتأمل في صفحات التشريع الإسلامي أنه قد حذّر تحذيرًا شديدًا من ظاهرة الترف؛ وعدَّ انتشارها أمارةً على غضب الله؛ حيث قرنها مع وقوع العذاب الإلهي، فقال الرب الحكيم في محكم التنزيل: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: ١٦]. ولقد حذَّر النبي ﷺ من الترفِ في الاستهلاك، خاصة الطعام منه، فقال ﷺ: (ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطن، بحسب ابنِ آدم أكلاتٌ يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثُلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلث لنَفَسِهِ)[19]. والتَّرف له نتائج جدُّ سلبية على الصعيد الفردي والصعيد الجمعي «فالترف مُفسد للخَلْقِ بما يحصل في النّفس من ألوان الشّرّ وعوائدها… فتذهب منهم خِلالُ الخير الّتي كانت علامة على الملك ودليلاً عليه، ويتّصفون بما يناقضها من خلال الشّرّ، فيكون علامة على الإدبار والانقراض بما جعل الله من ذلك في خليقته، وتأخذ الدّولة مبادئ العطب وتتضعضع أحوالُها وتنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضى عليها»[20].

والترف ينافي العبودية المطلقة لله عز وجل، ومؤذِنٌ بالخراب والدمار، لذلك حذر منه الشارع الحكيم، وحث المستهلكين على التوسط والاعتدال وعدم التوسع المبالغ فيه.

ومن صور الترف المعاصرة:

الحرص على اقتناء أحدث أجهزة الاتصال لمن لا يكاد دخله يكفي أساسياته، واستدانة الأموال الطائلة لأجل الظهور أمام الناس بمظهر الغنى والوفرة، وقصد المطاعم والفنادق الفاخرة وازدراء من يذهب لغيرها، واشتراط العلامات التجارية الثمينة في اللباس والكماليات، والمبالغة في حفلات الزواج والتخرج والولادة وأعياد الميلاد وغيرها، والمزايدة فيها وإنفاق أموال طائلة فيها دونما حاجة، وتصويرها والتباهي بها وجعل الناس يتحدثون بها، إلى أن وصل الحال ببعض المستشفيات الخاصة لتقديم أجنحة فاخرة لمن يحبون التفاخر والتباهي، بل هناك مستشفيات تقدم خدمات فندقية بالفعل، فيا سبحان الله!!

القاعدة السادسة: النهي عن التَّقتير:

يُعرّف التَّقتير بأنه: «تقليل النّفقة، وهو مقابل الإسراف، وكلاهما مذمومان»[21].

وقد نهى الشرع عن الإسراف والتبذير والتَّرف، وكذلك نهى عن النقيض المتمثّل بالتَّقتير والبخل والإمساك، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٩]، «وهذا مجاز عبّر به عن البخيل، الذي لا يقدر من قلبه على إخراج شيء من ماله، فضرب له مثل الغلّ الذي يمنع من التصرف باليد… وضرب بسط اليد مثلاً لذهاب المال، فإن قبض الكف يحبس ما فيها، وبسطها يذهب ما فيها»[22].

«المحمود في العطاء هو الوسط الواقع بين طرفي الإفراط والتفريط، وهذه الأوساط هي حدود المحامد بين المذام من كل حقيقة لها طرفان. وقد تقرر في حكمة الأخلاق أن لكل خُلق طرفين ووسطًا، فالطرفان إفراط وتفريط وكلاهما مقر مفاسد للمصدر وللمورد، وأن الوسط هو العدل، فالإنفاق والبذل حقيقة أحد طرفيها الشح وهو مفسدة للمحاويج ولصاحب المال إذ يجر إليه كراهية الناس إياه وكراهيته إياهم. والطرف الآخر التبذير والإسراف، وفيه مفاسد لذي المال وعشيرته لأنه يصرف ماله عن مستحقه إلى مصارف غير جديرة بالصرف، والوسط هو وضع المال في مواضعه وهو الحد الذي عُبّرَ عنه بالقوام»[23].

ولطالما كان التقتير يعطّل وظيفة المال في استخدامه وإنفاقه في إشباع الحاجة، ومن أجل ذلك أنذرت النصوص الشرعية المقتّر البخيل، بالعذاب الأليم[24]، فقرن النبي ﷺ البخلَ بالظلم، فقال ﷺ: (اتَّقُوا الظلمَ، فإن الظلمَ ظُلُماتٌ يوم القيامةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ، فإن الشُّحَّ أَهلَكَ مَن كان قبلَكُم، حَمَلَهُم على أَن سَفَكُوا دِماءَهُم واستَحَلُّوا مَحارِمَهُم)[25]. والشحُّ هو البخل مع الحرص الشديد، وهو يلتقي مع التقتير في معنى التضييق.

وتظهر أهمية هذه القاعدة في الوقت المعاصر؛ بسبب تيسر سبل المعيشة ووسائل الراحة، وأنّ الابتعاد عنها يورث مشقّة وضيقًا، فمن كان ذا مالٍ فليكرم نفسه وأهله برغد الحياة، وليقم بخلافة الأرض بما هو مطلوب لا بالإمساك بل بالنفقة الرشيدة، فلينعم بمسكن هادئ وسيارة مريحة وطعام طيّب وشراب هنيء.

من أنفق في طاعة الله تعالى بلا مباهاة ولا إسراف فهو القوَّام الذي امتدحه الله عزّ وجل في كتابه الحكيم إذ قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله، وخير الأمور أوساطها

القاعدة السابعة: القوام في الإنفاق:

وهذه قاعدة رائدة في بابها، فهي ترشد إلى التصرف الحكيم فيما يتعلق بالإنفاق، فتبيّن أنه من أنفق في معصية الله فهو مبذّر، ومن أمسك عن الإنفاق في طاعة الله عز وجل فهو مقتر، ومن أنفق في طاعة الله تعالى بلا مباهاة ولا إسراف فهو القوام الذي امتدحه الله عزّ وجل في كتابه الحكيم إذ قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: ٦٧] والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله، وخير الأمور أوساطها.

ومن تطبيقات هذه القاعدة: أن من كان معه سعة من مال ويحتاج لسيّارة لقضاء عمله وحاجات بيته، فلا يشتري سيارة متدنية الجودة ترهقه ولا تكاد تقوم بأعماله، وقد تأخذ من وقته وجهده في صيانتها والحفاظ عليها، وفي الوقت نفسه لا يشتري ذات الثمن المرتفع، أو الرفاهية المفرطة، بل تكون من النوعية الجيدة بما يتفق مع إمكانياته المادية، وبما يلبّي حاجاته.

ومن كان يرغب بشراء هاتف جوال ليستفيد من هذه التقنية في قضاء حاجاته، فلا يقصد جوالاً قديمًا قد تكلفه أعطاله وصيانته بما لا يساعده في توفير المال، ولا يقصد بالمقابل إلى جوال مرتفع القيمة باهظ الثمن لمجرد أنه حديث، بل يختار من الأمور أوسطها وأنسبها مع حاجاته وإمكانياته.

القاعدة الثامنة: الإنفاق من الدخل لا من رأس المال:

الحكيم في إنفاقه هو من يتبع سياسة الإنفاق من الدخل لا من رأس المال والأصول، فمن كان صاحب عمل فليعمل ولينفق على عياله من مدخوله، لا أن يبيع أصوله الثابتة ويجعل ثمنها في تلبية حاجاته، فعن سعيد بن حريث رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ، يقول: (من باع دارًا أو عقارًا فلم يجعل ثمنه في مثله، كان قَمِنًا أن لا يبارك فيه)[26]، وفي هذا إشارة إلى أهمية الحفاظ على رأس المال وعدم التصرف به لصالح النفقات اليومية.

فمن كان عنده بيت يسكن فيه، فلا يقوم ببيعه ويستبدل إقامته ببيت مستأجر، وينفق ثمن بيته ورأس ماله على حاجاته، بل يحرص أن تكون النفقة من المردود لا من رأس المال والأصول.

الاستهلاك في التصور الإسلامي يخضع لسلَّم الأولويات بدءًا من الضروريات ثم الحاجيات وأخيرًا الكماليات. فالمستهلك المسلم مطالب بالبدء بالضروريات بما يحقق له الكفاية منها، ثم تحقيق كفايته من الحاجيات، ويلي ذلك تحقيق كفايته من الكماليات

القاعدة التاسعة: مراعاة سلّم الأولويّات:

وجهت الشريعة الإسلامية إلى إشباع حاجات المستهلك من خلال الحضّ على تأمين حدّ الكفاية والنهي عن الزهد غير المحمود، والسلوكيات الاستهلاكيّة السلبية المتمثّلة في الإسراف، والتبذير والترف، والتقتير، ولمّا كانت حاجات المستهلك متنوعة، وليست على درجة واحدة من الأهميّة، فقد طلب مراعاة الأولى فالأولى، وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام رحمه الله:

«فأما مصالح الدنيا فتنقسم إلى الضرورات والحاجات والتتمات والتكملات. فالضرورات: كالمآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والمراكب الجوالب للأقوات وغيرها مما تمس إليه الضرورات، وأقل المجزئ من ذلك ضروري، وما كان في ذلك في أعلى المراتب كالمآكل الطيبات والملابس الناعمات، والغرف العاليات، والقصور الواسعات، والمراكب النفيسات ونكاح الحسناوات، والسراري الفائقات، فهو من التتمات والتكملات، وما توسط بينهما فهو من الحاجات»[27]. إن الاستهلاك في التصور الإسلامي يخضع لسلم الأولويات بدءًا من الضروريات ثم الحاجيات وأخيرًا الكماليات. فالمستهلك المسلم مطالب بالبدء بالضروريات بما يحقق له الكفاية منها، ثم تحقيق كفايته من الحاجيات، ويلي ذلك تحقيق كفايته من الكماليات[28]. وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي مبينًا أهمية الحفاظ على المراتب الثلاث لمصالح المستهلك: «إن كل واحدة من هذه المراتب لما كانت مختلفة في تأكد الاعتبار -فالضروريات آكدها ثم تليها الحاجيات والتحسينات- وكانت مرتبطة بعضها ببعض، كان في إبطال الأخف جرأة على ما هو آكد منه، ومدخل للإخلال به، فصار الأخف كأنه حِمى للآكد، والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه»[29].

وتبرز أهمية هذه القاعدة في الوقت الحالي؛ بسبب تعرض المستهلك لموجات عاتية من العروض والدعايات والإعلانات، فلا يكاد يستطيع الصمود بوجهها إلا بشقّ الأنفس، فلا بد أن يقوم المستهلك باتباع بوصلة سلّم الأولويات، فيبدأ بضروريات بيته، ثم الحاجيات وصولاً للتحسينيات، فمن لم يكن عنده مال يؤوي به أهله من برد الشتاء وحر الصيف، فلا يستدين لاستئجار فندق مطل على البحر ليقضي أيامًا هناك، ولا يشتري سيارة ليستمتع في التنقل والسفر، لا بد من وجود ميزان استهلاكي في كل بيت ومحاكمة شرائية لكل سلعة قبل الشراء، وسلم لترتيب الأهم ثم المهم من الأولويات.

أثر الالتزام بقواعد الرشد الاستهلاكي وعواقب مخالفتها على الفرد والمجتمع:

يدرك النبيه أن الالتزام بقواعد الرشد الاستهلاكي، يتعلّق به منافع ظاهرة للمستهلك خصوصًا، وللمجتمع عمومًا. فالله جلّ قدره قد خلق الإنسان محتاجًا للمنافع، ولا تستقيم حياته إلا بتحقيقها، وتحقيق الكفاية فيه الضمان لاستمرار مقومات الحياة لذلك المستهلك، ومن خلال هذا التدبير يتوفر المأكل والمشرب والملبس والمأوى للمستهلك، ولا يقتصر على ذلك فحسب؛ بل يشمل تأمين متطلبات الحياة المتجددة، والتي من خلالها يتحقق العيش الرغيد للإنسان لطالما كان هو الخليفة على هذه المعمورة، فتأمين وسائل التنقل والإنتاج، وأجهزة الخدمة، وأنواع العلاج وأشكال الدواء، يحقق رغيد العيش للمستهلك، وكلّ ذلك معلّقٌ بالأجر والثواب ما دامت النية هي التي تضع الأعمال في كفّة الميزان.

وعندما نهى الشرع عن الزهد المذموم والتقتير فإنه يؤكّد على حقيقة مهمّة تتمثّل بأن حفظ النفس واجب، وأن جعلها في جو الراحة أمر مطلوب، وأنَّ البُعد عن تأمين حاجات النفس الطبيعيّة ليس فيه أجر، وأيضًا ليس من الإيمان ولا على جادة السبيل المستقيم. فمن خلال هذا التدبير يضمن التشريع سير عملية الاستهلاك المرتبطة بقوامة صُلب المستهلك، ومما يعطيه القوة على مواجهة التحديّات القائمة والمتوقعة، على مرّ العصور.

وهذه القواعد تجنّب المستهلك خطر الإفلاس والسقوط في هاوية الفقر، جراء تصرفاته الطائشة، وانسياقه وراء لذاته وشهواته، دون إقامة أي اعتبار لمخاطر المستقبل، وتجاهل المصير المنتظر، لا سيّما أن التبذير ضياع للمال في المحرّمات والمنهيّات، ففي هذا النهي حماية للدين فضلاً عن حماية المال. وفي الالتزام بتلك القواعد تبرز الحماية لأموال الأمة وعدم ضياعها، فتكون هذه الأموال لها الدور الفعّال في التنمية والاستثمار، وتشغيل الأيدي العاملة فيزدهر البلد، وينشط المجتمع، ويقوى الاقتصاد، فيكون حصاد الفائدة والمنفعة لصاحب المال والعامل وللفرد وللمجتمع، على حد سواء.


[1] أخرجه الترمذي (٢٤١٧).

[2] حماية المستهلك من منظور إسلامي، لعبد الحق حميش، ص (١٥٧).

[3] أهمية الاستهلاك في الإسلام، د. زيد بن محمد الرماني، مقالة على شبكة الألوكة، تاريخ الإضافة: ٢٥/١/٢٠١٠م.

[4] دور الزكاة في علاج المشكلات الاقتصادية، للقرضاوي، ص (٢٤٩).

[5] الإسلام والمشــكلة الاقتصادية، لمحمد شوقي الفنجري، ص (٢٤).

[6] المفهوم الإسلامي للحاجات الأساسية للإنسان، لعبد السلام العبادي، ص (٣٢٥).

[7] أخرجه ابن ماجه (٤٢١٧).

[8] أخرجه مسلم (١٠٥٥).

[9] مفهوم الزهد في الدنيا، د. عبد التواب مصطفى خالد، موقع لها أون لاين، بتاريخ ٧ شعبان – ١٤٣٥ هـ، ٦/٦/٢٠١٤م.

[10] الاستهلاك وضوابطه، لعبد الستار الهيتي، ص (٢٣٧).

[11] أخرجه البخاري (٥٠٦٣).

[12] التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور (٨/٩٥).

[13] ينظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي (١١/٤٠٥).

[14] أخرجه البخاري (١٤٧٧) ومسلم (٥٩٣).

[15] ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (٤/٣٧٣).

[16] الكسب، لمحمد بن الحسن الشيباني، ص (٨١-٨٢).

[17] ينظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (١٠/٢٤٧)، والتعريفات، للجرجاني، ص (٢٤)، والكليات، للكفوي، ص (١١٣).

[18] ينظر: روح المعاني، للألوسي (٦/٣٥٥)، والترف: مظاهره وأسبابه وعلاجه، لمحمد حسين يعقوب، ص (١).

[19] أخرجه الترمذي (٢٣٨٠).

[20] مقدمة ابن خلدون (١/٢١٢) بتصرّف.

[21] ينظر: المفردات في غريب القرآن، للأصفهاني، ص (٦٥٥).

[22] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (١٠/٢٥٠).

[23] ينظر: التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور (١٥/٨٤) بتصرّف.

[24] مواجهة أزمة الغذاء العالمية من منظور إسلامي، لمحمد نايف عايض معيض العتيبي، ص (٢٤).

[25] أخرجه مسلم (٢٥٧٨).

[26] أخرجه ابن ماجه (٢٤٩٠)، ومعنى (قَمنًا): أي لائقًا.

[27] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعز بن عبد السلام (٢/٧١).

[28] قانون حماية المستهلك، للصغير محمد المهدي، ص (٧٨).

[29] الموافقات، للشاطبي (٢/٣٨).


د. سمير عبد القادر الجلول

باحث في القضايا المعاصرة.

X