تأصيل

النَّحو وأثره في فهم النص الشرعي

النصوص الشرعية – وخصوصًا القرآن الكريم – عليها مدار التشريع في الإسلام، ولا يتمكَّن المسلم من العمل بها إلا بعد فهمها ومعرفة المراد منها، ولا يتم ذلك على الوجه الصحيح إلا بمعرفة اللغة العربية؛ التي بها نزل الوحي، وارتضاها الله تعالى لمخاطبة عباده، وبمقدار معرفة هذه اللغة وضبط أساليبها تكون الإصابة في فهم المعنى المراد، والعكس صحيح، ومن أهم علوم اللغة العربية في ذلك: علم النحو.

لعلمِ النحو العربي أهميةً كبيرة في فهم النص الشرعي، فقد أنزل الله تعالى القرآن بلسان العرب وعلى قواعد لغتهم، قال تعالى:{ إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ٢} [يوسف: 2]، وأنزله على رجلٍ هو من أفصحهم؛ قال تعالى: {وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ١٩٢ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ ١٩٣ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ١٩٤ بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ١٩٥} [الشعراء: 192-195].

ولقد أدرك العلماء ذلك، فانبرى كلٌّ من أهل التفسير والفقه والأصول إلى دراسة هذا العلم، وعكفوا على تطبيق قواعده في فهم النصوص، حتى غدا النَّحوُ العربيُّ علماً ينبض بالحياة.

ولهذا فلا يُستغرب أن يجعل العلماء العلمَ بالنَّحو شرطًا في حق المجتهد والمفسِّر، يقول ابن حزم رحمه الله: «ففرضٌ على الفقيه أن يكون عالمًا بلسان العرب؛ ليفهم عن الله عز وجل وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويكون عالمًا بالنحو الذي هو ترتيب العرب لكلامهم، الذي به نزل القرآن، وبه يفهم معاني الكلام التي يعبر عنها باختلاف الحركات وبناء الألفاظ، فمن جهل اللغة، وهي الألفاظ الواقعة على المسميات، وجهل النحو الذي هو علم اختلاف الحركات الواقعة لاختلاف المعاني، فلم يعرف اللسان الذي به خاطبنا اللهُ تعالى ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم، ومن لم يعرف ذلك اللسان لم يحلّ له الفتيا فيه؛ لأنه يفتي بما لا يدري»[1].

ويرى الإمام الشاطبي رحمه الله أن بلوغ درجة الاجتهاد في الفقه تحتاج إلى مثلها في كلام العرب: «فالحاصل أنه لا غِنى للمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب، بحيث يصير فهم خطابها له وصفًا غير متكلَّف ولا متوقَّف فيه في الغالب، إلا بمقدار توقُّف الفطن لكلام اللبيب»[2].

من شروط المفسِّر للقرآن الكريم، والمجتهد في استنباط الأحكام الشرعية: المعرفة بلسان العرب، ومعرفة النحو؛ ليفهم معاني الألفاظ ودلالاتها

هذا، ولقد زلَّت عقولُ العديد من الناس في هذا الزمان، فخرجوا بأقوال واجتهادات غريبة في الأحكام الشرعية؛ وذلك لعدم تأهُّلهم التأهيل العلمي المطلوب، وعدم معرفتهم بلسان العرب، لغة النصوص الشرعية… فجاء هذا المقال مساهمة في بناء أسس الفهم الصحيح للنص الشرعي؛ فوسائل الفهم المنهجي متعددة، منها: تفسير النصوص بعضها ببعض، وتفسيرها بالآثار الواردة عن الصحابة والتابعين والأئمة الأعلام، ومنها تفسيرها بلغة العرب، وبما وضعه علماء الأصول من قواعد وضوابط، وكذا مراعاة المقاصد الشرعية، وغير ذلك من وسائل الفهم وطرائقه.

من أسباب الزلل في الأحكام الشرعية: الجهل بلسان العرب، وأساليب اللغة العربية، ومعاني ألفاظها

ولما كان للنحو العربي تلك المنزلة العظيمة في فهم النصوص ففي هذا المقال بيانُ أهمية علم النحو والإعراب، والتّنبيه على أهم وسائله في الفهم والإبانة عن المعاني، مع ذكر نماذج تطبيقية توضح المراد، وتكون عونًا للمتلقي عن رب العالمين والآخذ من سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.

النحو وأثره في المعاني:

يُطلق النحو في اللغة على معان عدة، منها: القصد، والجهة، والمثل. تقول: نحوت نحو المسجد، أي: قصدت قصده. والقصد هو المعنى الذي بُني عليه في تسمية النحو بهذا الاسم، فقد جاء عن أبي الأسود الدؤلي أنَّ عليًّا t كتب له: «الكلام: اسم، وفعل، وحرف…» وقال: انحُ هذا النحو[3].

 وأما في الاصطلاح فهو: «العلم بالقواعد التي يُعْرَف بها أحكامُ أوَاخِرِ الكلمات العربية في حال تركيبها، من الإعراب والبناء وما يتبع ذلك»[4]. فهو يهتم بنظم الكلام، وما ينتج عنه من آثار على أواخر الكلمات، من رفع ونصب وجر، وغيرها.

والإعراب: هو الإبانة والإفصاح عن المعاني، كما يذكر أهل اللغة، قال الزجّاج: «والإعراب أصله البيان. يقال: أعرب الرجل عن حاجته إذا أبانَ عنها، ورجل مُعرِب، أي مبيّن عن نفسه»[5]. وقال ابن فارس: «فأما الإعرابُ فبه تُميَّز المعاني، ويُوقَف على أغراض المتكلمين…»[6].

وقال الجرجاني: «قد عُلمَ أنَّ الألفاظَ مغلقةٌ على معانيها حتّى يكونَ الإِعرابُ هو الذي يفتحها، وأنّ الأغراضَ كامنةٌ فيها حتى يكونَ هو المستخرِجَ لها، وأنه المعيارُ الذي لا يُتبيَّنُ نُقصانُ كلامٍ ورُجحانهُ حتى يُعرضَ عليه. والمقياسُ الذي لا يُعرف صحيحٌ من سقيمٍ حتّى يُرجَعَ إليه»[7].

فحركةُ الإعراب دليلٌ على مكان الكلمة في الجملة وعلى محلها، وهي بعد ذلك علامة على معنى التركيب كله؛ إذ بالإعراب نفرِّق بين الفاعل والمفعول، والمضاف والمضاف إليه، وبين التعجب والاستفهام… فقولك: ما أجملَ زيدًا! تدل فتحة لام (أجمل) على تعجُّبِك من جمال زيد، ويدلُّ رفعُها في قولك: ما أجملُ زيدٍ؟ على سؤالك عن أجمل شيء فيه[8].

ومن الوسائل النحوية المؤثرة في فهم النص: وجوه الإعراب المتنوعة، والتقديم والتأخير في نظام الجمل وتراكيبها، والحذف والتقدير فيها، وكذا دلالات حروف المعاني، وأسماء الإشارة والمعارف وغيرها، فتقديم المفعول به على الفعل والفاعل له تأثير في المعنى تخصيصاً وحصراً، وكذا لحذف الفاعل والمبتدأ والخبر والمفعولات وغيرها آثار ظاهرة في ذلك.

من الأمور المؤثرة في فهم النص: ضبط حركة إعراب الألفاظ، وتقدير الكلام فيها.

نماذج في وجوه الإعراب وأثرها في فهم المعنى:

أولاً: الاختلاف في إعراب (وَرَهْبَانِيَّةً):

قال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27].

قوله تعالى: «ورهبانيةً»، اختلف العلماء في إعرابها إلى قولين، وانعكس هذا الاختلاف على المعاني المستفادة من النص القرآني[9]:

1-الأول: أنها معطوفة على الأسماء المنصوبة قبلها، وعليه يكون المعنى: (وجعلنا في قلوبهم رأفةً ورحمةً ورهبانية…)، وعلى هذا فأصل الرهبانية عمل منزَّل عليهم من الله تعالى، وهي لزوم الصوامع للعبادة واعتزال الخلق واطّراح اللذات، ولكنهم لم يلتزموا بها على الصورة المنزَّلة عليهم، وإنما ابتدعوا فيها وغيَّروا، وجاؤوا بأشياء لم يكتبها الله تعالى عليهم.

2-الثاني: أنها مفعول به لفعل محذوف، يفسره المذكور بعدها، والتقدير: ابتدعوا رهبانية. والمعنى يكون على هذا الإعراب: (وجعلنا في قلوبهم رأفةً ورحمةً، وابتدعوا رهبانيةً من عند أنفسهم، لم نفرضها عليهم، إنما أمرناهم بما يرضي الله تعالى، وهم مع ذلك حولوا هذه الرهبانية إلى وسيلةٍ لطلب الرياسةِ وأكل أموال الناس بالباطل).

وثمة أقوال أخرى في توجيه هذه الآية الكريمة، نكتفي بما ذكرنا، ففيهما الكفاية على بيان أثر الإعراب في فهم النص وبيانه.

ثانياً: الاختلاف في إعراب (وَأَرْجُلَكُمْ):

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ…} [المائدة: 6].

قوله تعالى: (وأرجلكم) فيه قراءات ثلاث: الأولى بالنصب، والأخرى بالجر، والثالثة بالرفع، ولقد كان لقراءتَي النصب والجر أثر كبير في فهم هذه الآية الكريمة[10]:

1-الأولى: قراءة النصب، وعليها تعرب (أرجلَكم) اسمًا منصوبًا معطوفًا على (وجوهكم)، والتقدير: «فاغسلوا وجوهكم وأرجلَكم». وبناء عليه يكون معنى الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم الصلاة، وأنتم على غير وضوء، فاغسلوا وجوهَكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم، واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين). فهي تدل على الأمر بغسل الرجلين إلى الكعبين.

2-الثانية: قراءة الجر، وعليها تُعرَب (أرجلكم) مجرورةً معطوفةً على (رؤوسكم)، والتقدير: (وامسحوا برؤوسكم وامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين)، وبناء عليه: فمعنى الآية يدل على وجوب مسح الرجلين.

ولمَّا كانت النصوص الشرعية تأمر بغسل الرجلين إلى الكعبين، ولا تُجيز مسحهما إلا في حالات خاصة، كأن يكون الشخص لابسًا خفَّين، قام العلماء بالنظر في الوجوه والقواعد النحوية لفهم الآية فهمًا، لا تتعارض فيه النصوص الشرعية من ناحية، ولا يَخرُج عن قواعد لغة العرب من ناحية أخرى، فقالوا:

أ-قوله تعالى: (وأرجلِكم) بقراءة الجر، ليست معطوفةً على (رؤوسكم) عطفَ حكمٍ ومعنى، وإنما عطف لفظٍ وجوار، وعلى هذا يظلُّ معنى (أرجلكم) تابعًا إلى (وجوهكم) في حكم الغسل، ويكون تابعًا لرؤوسكم في الإعراب تأثرًا بالجوار، وهذا على قول بعض النحويين. وذكروا أنَّ للجوار هنا فائدة لطيفة، وهي التنبيه على الاقتصاد في استخدام الماء؛ لأنَّ الأرجل مظنة الإسراف.

ودليل هذا التأويل النحوي القياس على قول العرب: «هذا جُحْرُ ضبٍّ خَرِبٍ»، فحقُّ (خَرِب) الرفع؛ لأنها صفة لجُحْر، ولقد جُرَّت حملاً على الجوار[11]. لكن جمهور النحويين ردَّ هذا القياس، فهذه القاعدة تكون عندهم في الصفة والتوكيد، ولا يدخل العطف فيها؛ لأن حرف العطف يمنع التجاور[12].

ب-أن قراءة الجر تفيد جواز مسح الرجلين، ولكنها مقيَّدة بالقرينة الشرعية، وهي قوله وفعله عليه الصلاة والسلام، إذ لا يُعلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مسح على رجليه، وهما مكشوفتان، ولقد توعد النبيُّ الأعقابَ التي لم يستوعبها المتوضئون بالنار، واستيعاب العضو لا يجب في المسح، فدلَّ ذلك على وجوب الغسل، وبهذا يكون المراد بمسح الرجلين هو حالة لبس الخفين.

كلما ازداد علم الإنسان في النحو ازدادت المعاني وضوحاً أمامه

ثالثاً: الاختلاف في رجوع الاستثناء:

قال تعالى: {وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ٤ إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 4-5].

قوله تعالى: (إلا الذين تابوا…) في محل نصب على الاستثناء، وللنحويين أقوال عدة في رجوع الاستثناء، إذا جاء بعد جُمَل، عُطِفَ بعضُها على بعض[13]:

1-الأول: أن الاستثناء يعود إلى الجملة الأخيرة منها فقط، وعلى هذا يكون معنى الآية: (والذين يرمون أهل العفَّة من الرجال والنساء بالفاحشة، ثم لم يأتوا بأربعة شهود على ذلك، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة، وأولئك الخارجون عن طاعة الله، إلا الذين تابوا إلى الله وأصلحوا أعمالهم، فإن الله يقبل توبتهم، ويرفع عنهم صفة الفسق، ولكن لا تقبل شهادتهم).

فالاستثناء رفع عنهم الصفةَ الأخيرة، وهي الفسق والعصيان لله تعالى، ولم يستثن ما قبلها.

2-الثاني: أن الاستثناء يرجع إلى جميع الجمل المعطوفة قبله، ولكنَّ الجلدَ لا يسقط عن القاذف بالتوبة، فهذه تخرج من الاستثناء بالقرينة الشرعية، وهي الإجماع على ذلك. ويكون المعنى على ذلك: (والذين يرمون أهل العفَّة من الرجال والنساء بالفاحشة، ثم لم يأتوا بأربعة شهود على ذلك، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة، وأولئك الخارجون عن طاعة الله، إلا الذين تابوا إلى الله وأصلحوا أعمالهم، فإنَّ الله يقبل توبتهم وشهادتهم، ويرفع عنهم صفةَ الفسق).

3-الثالث: أن الاستثناء في الآية الكريمة منقطع، وليس متصلاً، أي لا يُراد منه إخراج شيء من الحكم السابق، وإنما إثبات لأمر آخر، وهو: أن التائب من هذه المعصية لا يظل فاسقًا [14]، وهذا الإعراب يعطي معنى الوجه الأول.

وبهذا يظهر كيف يفصح النحو عن المعاني، ويعين في فهم النص الشرعي، فأثره بيِّن في ذلك.

رابعًا: الاختلاف في عائد الضمير:

قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ مَتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِلسَّيَّارَةِۖ وَحُرِّمَ عَلَيۡكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَرِّ مَا دُمۡتُمۡ حُرُمٗاۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ٩٦} [المائدة: 96].

قوله تعالى: (وطعامُه)، في بيان عودة الضمير قولان للعلماء[15]:

1-الأول: يعود الضمير في (طعامه) إلى كلمة (البحر)[16]، والتقدير: (أحلَّ لكم صيد البحر وطعام البحر، وعليه يكون المعنى: أحلَّ لكم ما تصطادونه من حيوانات البحر، التي لا تعيش إلا في الماء، وكذا أُحِلَّ لكم طعامه، وهو ما طفا عليه من ميتة، أو ما قذفه البحر، أو نَضَبَ عنه).

2-الثاني: يعود الضمير في (طعامه) إلى كلمة (صيد)[17]، والتقدير: (أحلَّ لكم صيد البحر وطعام الصيد. وعليه يكون المعنى: أحلَّ لكم ما تصطادون من حيوان البحر، وما تباشرون صيدها بأنفسكم، وأما ما وجدتموه طافيًا أو مقذوفًا فلا يحل).

والضمير عند النحويين يعود إلى أقرب مذكور في الكلام، مالم يكن الأقرب مضافًا إليه، فيعود إلى المضاف، وقد يعود إلى المضاف إليه[18]. وعلى هذا فكلا القولين محتمل، والذي يرجِّح أحدهما القرائن الأخرى، والذي يظهر -والله أعلم- أن رجوع الضمير إلى البحر هو الأولى، لأمور؛ منها:

أ-الأخذ بعموم القاعدة النحوية، وهي أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو البحر.

ب-أن الأدلة الشرعية صريحة في حلِّ ميتة البحر، قال صلى الله عليه وسلم في البحر: (هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ)([19])، وبناء على هذا فرجوع الضمير إلى البحر هو الأولى نحوًا وفقهًا.

خامسًا: الاختلاف في الحذف والتقدير:

قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [النساء: 171].

قوله تعالى: (ولا تقولوا ثلاثة)، فيه حذفٌ وتقدير، وللعلماء فيه أقوال:

1-الأول: حذف المبتدأ فقط، والتقدير: (ولا تقولوا الأرباب ثلاثة، أو الآلهة ثلاثة، أو الأقَانِيمُ ثلاثةٌ)[20]. ولقد نبّه ابن عاشور رحمه الله على فائدةٍ لهذا الحذف، وهي أن النصارى كانوا مضطربين في حقيقة الإله، فجاء حذف المبتدأ مناسبًا لحالهم؛ وبه يكون تقدير المبتدأ على حسب ما تقتضيه الأخبار الواردة عنهم في كيفية التثليث[21]، إذ فِرَقُ النصارى متفقة في عقيدة التثليث، ولكنها مختلفة في كيفيته[22].

2-الثاني: حذف المبتدأ والخبر، وقيام المضاف إليه مقام المضاف، والتقدير: (ولا تقولوا اللهُ ثالثُ ثلاثة)[23]، وهذا التقدير مستفادٌ من قوله تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73].

3-الثالث: إعراب (ثلاثة) صفة لمبتدأ محذوف، والتقدير: (ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة). والدافع لهذا التقدير أن المعنى عند القائل به هو نفيُ أصلِ تعدد الآلهة، وليس نفيَ عددٍ بعينه، أي: (ولا تقولوا: لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان)[24].

ولقد بدا من هذا المثال تأثير الحذف النحوي في تنوُّع تقديرات المفسِّرين، وفي فسح المجال لتقدير عموم ما ورد عن هؤلاء النصارى من أقوال، ولو ذُكر المبتدأ لما استوفى الكلامُ هذه المعاني كلَّها.

وفي الختام تتضح فوائد ونتائج عديدة، منها:

1-أهمية دراسة النحو والإعراب، فكلما ازداد علم الإنسان فيه ازدادت المعاني وضوحًا أمامه، وأن دراسة النحو ليست ترفًا فكريًا، إنما وسيلة مهمة في فهم النصوص الشرعية.

2-أن وجوه الإعراب واختلافات النحويين لها أثرها في فهم النصوص وتوجيهها، وعلى الدارس ألا ينتقل إلى التأويل النحوي إلا بقرائن صحيحة.

3-أن القرائن الشرعية لها أثرها في توجيه الحكم النحوي واختيار الإعراب الصحيح، ولهذا لا بد من الاعتناء والاهتمام بهذا الضابط في فهم النصوص الشرعية.


[1] الإحكام، لابن حزم، (5/117).

[2] الموافقات، للشاطبي، (5/57).

[3] توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك، حسن بن قاسم المرادي، (1/265).

[4] التحفة السنية بشرح المقدمة الآجرومية، محمد محيي الدين عبد الحميد، ص (4).

[5] الإيضاح في علل النحو، عبد الرحمن الزَّجَّاجي، ص (91).

[6] الصاحبي في فقه اللغة، محمد بن عبد الله الضالع، ص (47).

[7] دلائل الإعجاز، ص (42).

[8] الإيضاح في علل النحو، للزَّجاجي، ص (69). ومقال: أثر التأويل النحوي في فهم النص، غازي مختار طليمات، مجلة كلية الدراسات العربية والإسلامية، عدد 15، سنة 1418ه، ص (257).

[9] الجامع لإحكام القرآن “تفسير القرطبي”، (17/263). وفتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، للشوكاني، (5/252). وأنوار التنزيل وأسرار التأويل، للبيضاوي، ص (304). والتفسير الكبير، للرازي، (1/304). واللباب في علوم الكتاب، عمر بن علي، ابن عادل الدمشقي، (18/503). ونيل المرام من تفسير آيات الأحكام، محمد صديق حسن خان، ص (430). والاعتصام، للشاطبي، ص (227).

[10] أثر الصنعة النحوية عند ابن هشام في استنباط الأحكام الفقهية، حامد محمد الغامدي، ص (143). وتفسير آيات الأحكام، محمد علي السايس، ص (357). والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، (6/91). والدر المصون في علم الكتاب المكنون، للسمين الحلبي، ص (1304).

[11] التبيان في إعراب القرآن، للعكبري، (1/209)، والدر المصون، للسمين الحلبي، ص (1304).

[12] حاشية الصبان على شرح الأشموني لألفية ابن مالك، (3/83)، ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام، ص (895).

[13] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان “تفسير ابن سعدي”، للسعدي، (1/561)، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، (12/178)، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشنقيطي، (27/131)، وأحكام القرآن، للشافعي، (2/135)، وإعراب القرآن، لابن سيده، (7/27)، وإعراب القرآن وبيانه، محيي الدين الدرويش، (6/560). وحاشية الصبان على شرح الأشموني، (2/226)، وتفسير آيات الأحكام، للسايس، ص (558).

[14] إعراب القرآن وبيانه، للدرويش، (6/560).

[15] أثر الدلالة النحوية والبلاغية في استنباط الأحكام الفقهية، هارون محمد الربابعة، ص (117)، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد، (1/77)، جامع الدروس العربية، للغلاييني، ص (125). وإعراب القرآن وبيانه، (3/23)، وأنوار التنزيل، ص (369). والتحرير والتنوير، (7/52)، والتسهيل لعلوم التنزيل، (1/383).

[16]التحرير والتنوير، (7/52)، وبداية المجتهد، (1/77)، وأنوار التنزيل، ص (369).

[17] بداية المجتهد ونهاية المقتصد، (1/77)، أنوار التنزيل، ص (369).

[18] جامع الدروس العربية، الغلاييني، ص (125).

[19] أخرجه الترمذي (69)، وأبو داود (83).

[20] جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري، ص (422)، وأنوار التنزيل، للبيضاوي، ص (283)، إعراب القرآن وبيانه، للدرويش، (2/390).

[21] التحرير والتنوير، لابن عاشور، (6/54).

[22] اللباب في علوم الكتاب، لابن عادل، (7/146)، والتحرير والتنوير، لابن عاشور، (6/54)، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للزمخشري، (1/627)، فتح القدير، للشوكاني، (1/815).

[23] إعراب القرآن، للزجاج، (1/42)، اللباب في علوم الكتاب، لابن عادل، (7/146).

[24] إعراب القرآن وبيانه، للدرويش، (2/391).

باحث في الدراسات العربية والإسلامية.
X