تأصيل

رد شبهات الطاعنين في صحة أسانيد السنة النبوية

الأدلة على موثوقية نقل السنّة النبوية أدلّة قطعية مستندة إلى دلالات النصوص الشرعية على حفظ السنّة، وإلى المنهج المتميّز الذي وضعه المحدّثون لنقد الأخبار والرواة، مع قطع العقل السليم بأنّ السنّة لا بدّ أن تُنقل إلى المسلمين على مرّ العصور ليحصل لهم امتثال أمر الله بطاعة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا كلّه يُوجد في النفس اطمئنانًا لا يتطرّق إليه شكّ في أنّ السنّة قد وصلت إلينا بطرق صحيحة، تورث العلم بصحّة نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتوجب العمل بها.

تعرضت السنة النبوية منذ بدايات القرن الثاني الهجري للطعن فيها وإيراد الشبهات حولها.

من هذه الشبهات القديمة والتي أعيدت وكرر الكلام عنها في العصر الحديث: شبهة الطعن في ثبوت السنة النبوية.

وقد أثَّرت هذه الشبهة -للأسف- في بعض المسلمين، وألقَوا سمعَهم لما يقوله أصحاب هذه الشبهة، وشكَّ بعض المسلمين في دينهم، متأثرين بحملات التشكيك والتشويه بالسنة النبوية عموماً، أو بكتب خاصة كصحيح البخاري وغيره خصوصاً، مما ينتشر على الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، ويقدمه مَن لا علمَ لهم ولا درايةَ عندهم بكتب الإسلام عموماً، وبكتب السنة والعلوم المساعدة خصوصاً.

فما الذي يُراد من هذه الحملات التي توجَّه للسنة النبوية غير التشكيك بمكانتها تمهيدًا للتشكيك بمكانة القرآن الكريم، في محاولة من أعداء الإسلام لهدم الدين والقضاء عليه! وهذا ما لن يحدث مادامت السماوات والأرض، ثقةً من المسلم ببقاء دين الله حتى يرث الله الأرض ومَن عليها.

وخطابنا في هذا المقام إنَّما هو للمسلم الذي تأثر بهذه الشبهة، فأحدثت عنده شكاً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لعله إذا ظهر له تهافُتُ أقاويل المشككين، وبان له قوة حفظ سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، صحَّحَ اعتقاده في السنة النبوية، وعدَّلَ مساره في العمل بما صح منها.

عرض الشبهة:

تقوم هذه الشبهة على أصول تُعَدُّ منطلقاً لكل مَن ينكر السنة النبوية، مهما اختلفت انتماءاتهم الدينية والفكرية، ومهما تعددت طرقهم في عرض الشبهة وإلقائها، ومن هذه الأصول:

دعوى أن الله تعالى لم يتكفل بحفظ السنة النبوية كما تكفل بحفظ القرآن الكريم.

دعوى أن السنة المنقولة إلينا لم تُنقل بطريقٍ صحيحٍ موثوق.

دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة السنة، وأن تدوين السنة النبوية تأخر حتى القرن الثاني للهجرة.

الأدلة على بطلان هذه الشبهة:

أما الأدلة على بطلان هذه الشبهة فهي أكثر من أن تحصر، ونكتفي منها بما يكفي طالبَ الحق، ويُظهِرُ له أن السنة النبوية لا سبيل للتشكيك فيها مهما حاول المستشرقون وأتباعهم، ومهما أوردوا من شبهات، فنقول:

أولاً: السنة محفوظة بحفظ القرآن الكريم:

 يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، والذكر المراد في هذه الآية إما أن يكون الوحي بنوعيه: القرآن والسنة، وظاهر هذا أن السنة في الجملة محفوظة بحفظ الله تعالى لها. ويؤيد هذا العدول في النص القرآني عن كلمة (القرآن) إلى كلمة (الذكر) لتشمل القرآن الذي هو الوحي المتلوُّ، والسنة التي هي الوحي غير المتلوّ.

السنة وحي، والله يحفظ وحيه

وإما أن يكون المراد به القرآن وحده، وتكون السنة محفوظة تبعاً لحفظ القرآن الكريم، لأن فيها بيانه، وحفظُ القرآن دون حفظ بيانه لا يؤدي الغرض من كون القرآن مصدرَ التشريع الأساسي في الإسلام، ولا يصدُقُ عليه أنه محفوظ إلا بحفظ بيانِه معه، ولا يمكننا الاستغناء بنصوص القرآن في فهم الدين؛ لأن القرآن نفسه يحيل في مواضع كثيرة على السنة النبوية في فهمه وتصور ما فيه، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44].

وإذا أردنا أن نعرض بعض الأمثلة على هذا نقول:

أمرَ اللهُ تعالى بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وليس في القرآن الكريم بيانُ مقدارِ الصلوات، ولا أوقاتها، ولا شروطها، ولا أركانها، ولا مبطلاتها، فلا يمكن القيام بها إلا بالطريقة التي بيّن فيها النبي صلى الله عليه وسلم كل هذا، فقد بيّن عليه الصلاة والسلام عددَ الصلوات المفروضة، وأوقاتَها، وشروطَها، وأركانَها، ومبطلاتِها. وهذا ما يقال في الزكاة، حيث لم يبين القرآنُ مقدارَ الواجب منها، ولا زمن أدائها، ولا أنواع المال التي تجب فيها وأنواع المال التي لا تجب فيها، ولا يمكن القيام بهذا الأمر إلا بالطريقة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم كلَّ هذا.

ومثل هذا يقال في الأوامر الأخرى التي في القرآن الكريم، ويحتاج بيانها للسنة النبوية.

ثانياً: السنة النبوية محفوظة لتحقيق طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم التي أمر الله بها في كتابه:

أمر الله سبحانه بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر من عشرة مواضع في القرآن الكريم، والأمر موجه للمؤمنين بالله تعالى في كل الأزمنة، سواء ممن عاصر الرسول صلى الله عليه وسلم أم لم يعاصره، وهذا واضح بين لا يختلف فيه اثنان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الناس كافةً، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، ويقول الله سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32]، ويقول سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:132]، وغيرها من الآيات التي تأمر بطاعة الله تعالى وتأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

فطاعة الله تعالى هي طاعة أوامره التي في القرآن الكريم كما هو بَيِّنٌ، مما أتى واضحاً لا يحتاج إلى بيان، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعةُ أوامره فيما لم ينزل فيه قرآن.

السنة بيان للقرآن، وحفظ القرآن يستلزم حفظ بيانه

قال الإمام الشافعي رحمه الله وهو يبين وجوهَ بيانِ ما في كتاب الله:» منها: ما أتى الكتابُ على غاية البيان فيه، فلم يَحْتَجْ مع التنزيلِ فيه إلى غيرِه.

ومنها: ما أتى على غاية البيانِ في فرضِهِ، وافترَضَ طاعةَ رسولِه، فبين رسولُ الله عن الله كيف فرْضُهُ، وعلى من فرْضُهُ، ومتى يزول بعضُه وَيَثبُتُ وَيَجِبُ.ومنها: ما بينه عن سنةِ نبيِّهِ بلا نصِّ كتاب.

وكل شيء منها بيانٌ في كتاب الله.

فكل مَنْ قَبِلَ عن الله فرائضَهُ في كتابه: قَبِلَ عن رسول الله سننه، بفرْض الله طاعةَ رسولِه على خلقِه، وأن ينتهوا إلى حكمه، ومَن قَبِلَ عن رسول الله، فَمِنَ اللهِ قَبِلَ؛ لِمَا افترض الله من طاعته.

فيجمعُ القَبولُ لما في كتاب الله، ولسنة رسول الله: القبولَ لكل واحد منهما عن الله، وإن تفرقت فروعُ الأسباب التي قُبِل بها عنهما، كما أحل وحرم، وفرض وحدَّ بأسباب متفرقة، كما شاء جل ثناؤه، {لَا يُسۡـَٔلُ عَمَّا يَفۡعَلُ وَهُمۡ يُسۡـَٔلُونَ٢٣} [الأنبياء:33]»[1].

وقال رحمه الله وهو يناقش أحد الذين ردوا حجية السنة في عصره:» فَهَل تَجِدُ السبيلَ إلى تَأديةِ فرضِ الله عز وجل في اتِّباعِ أوامرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو أحد قبلَك أو بعدَك مِمَّن لم يُشاهدْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلا بالخَبَرِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟»[2].

وطاعة هذه الأوامر لا يمكن للناس أن يمتثلوا بها، ولا تكون حجةً عليهم، إلا إن وصلتهم بطريق صحيح موثوق، مما يدل على أن ما يَلزَمُ الناسَ لتحقيق طاعة النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث السنة النبوية محفوظٌ بحفظ الله تعالى.

ثالثاً: إن عدم العمل بالسنة النبوية الواصلة إلينا عن طريق السند يقتضي وجوب بعض الشرع على بعض الأمة دون بعض:

وبيان هذا كما يلي:

إن الأوامر التي أمر بها عليه الصلاة والسلام لم تصل إلى كل المؤمنين بطريقة واحدة، فالمعاصرون له عليه الصلاة والسلام ليسوا كلهم ملازمين له على كل حال، فالذي يسمع منه مباشرةً، والذي يكون في عمله من تجارة أو زراعة أو رعي ماشية، وما شابه، والذي يكون مسافراً، والذي يكون في بيته مريضاً، والذي يكون في بيته دون مانع يمنعه من السماع من النبي صلى الله عليه وسلم، فكل هؤلاء كيف يتحقق لديهم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم؟

تتحقق هذه الطاعة ببلوغ أمره لهم عن طريق الخبر الصادق، من بعضهم لبعض، ويعملون بما وصلهم من الخبر.

ومنهم من لم يجتمع به عليه الصلاة والسلام، من الذين أَرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفداً إلى المدينة يبايعونه على الإسلام عنهم، ويكونون صلة الوصل بين قبائلهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فيعملون بما يخبرونهم من أوامره عليه الصلاة والسلام، روى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْر[3].

وروى عَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا، فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا، قَالَ: «ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ»[4].

ومنهم من رآه مرةً ثم لم يره بعدها حتى مات.

ومنهم من أسلم في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه ما قاله قبل إسلامه.

ومنهم من كان يسافر في السرايا التي يرسلها النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يسمع منه ما قاله أثناء غيابه عنه.

ومنهم من كان يبقى في المدينة والرسول صلى الله عليه وسلم مسافر في غزوة، فلم يسمع منه ما قاله أثناء سفره.

ومنهم من سافر ليلتقي بالنبي صلى الله عليه وسلم فوصل إلى المدينة يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أو بعدها بأيام، كعبد الرحمن بن عُسَيلة المُرادي، رحل من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكنه وصل المدينة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ببضعة أيام[5].

وهكذا فكل هؤلاء كانوا ملزمين بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر به، ونقل إليهم بطريق صحيح، ونحن مثل هؤلاء في الحكم، ملزمون بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يصلنا من أوامره بطريق نقلٍ صحيح.

الأمر بطاعة الرسول يقتضي حفظ ما يطاع فيه، وهي سنته

وما لم تصل إلينا أوامر النبي صلى الله عليه وسلم بطريقٍ صحيح فلن تقوم بها علينا لله حجةٌ، وقد قطع الله تعالى بهذا وأوضح أن له سبحانه الحجة على الناس، وليس للناس عليه حجة، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} [النساء:163-165].

رابعاً: السنة النبوية محفوظة بمنهج نقد الأخبار الذي وضعه المسلمون:

أمر الله تعالى في كتابه بالتثبت من الأخبار قبل قبولها والعمل بمضمونها، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، وهذا أصل عامٌ في كل الأخبار، لا يقبل منها شيء إلا بعد التثبت.

وأَولى الأخبار بالتثبت فيها وعدم الأخذ إلا بما صح منها هي الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها ينبني عليها عمل شرعي، كأمر بعمل على سبيل الوجوب أو الندب، أو نهي عن عمل على سبيل الكراهة أو التحريم، أو حكم بصحة عمل أو بطلانه، ونحو ذلك.

وبهذا الأصل العام عَمِلَ علماءُ المسلمين على مر العصور، منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى عصرنا هذا، وأنشؤوا علوماً يقيسون بها الأخبار التي تَرِدُ إليهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمنهج علمي دقيق رصين، فيقبلون منها ما يتحقق لديهم ثبوته، ويردون ما سوى ذلك.

وهذا المنهج يعتمد على عدة أسس، وعلى شروط لا يُقبَلُ الحديثُ إلا بتوافرها جميعاً:

1- منها ما يتعلق بالصفات الشخصية للرواة، من ناحية الديانةِ التي تمنعُ صاحبَها من الكذب المعلوم في دين الإسلام تحريمُه وكونُه من كبائر الذنوب التي يجب على المسلم الابتعاد عنها. فلا يقبل المسلمون الحديث الذي ينقله الكاذب.

2- ومنها ما يتعلق بالصفات الشخصية للرواة من ناحية الضبط والإتقان لما يحفظونه واستحضارهم له، أو ضبط وإتقان ما يكتبونه عن شيوخهم حتى يؤدوه لتلاميذهم الآخذين عنهم. فلا يُقبل حديث سَيِّءِ الحفظ أو مَن لا يضبط كتابَه أو لا يحفظه من تدخل يد غيره فيه.

3- ومنها ما يتعلق باتصال الإسناد بين الراوي ومَن يروي عنه، ومعرفة اتصال الإسناد بين الراوي وشيخه تكون بمعرفة شيوخه الذين أَخَذَ عنهم، وتلاميذه الذين أخذوا عنه، سواء أكان هذا الأخذ في بلده التي ولد ونشأ فيها، أم في غيرها من البلدان التي رحل إليها، ومعرفة رحلاته إلى البلدان لطلب العلم، ومن التقى بهم من الرواة في رحلاته، ومدة مصاحبته لهم، وكم من الأحاديث أخذ عنهم، وما يتعلق بهذا، ومعرفة مواليد الرواة ووفياتهم، وغير ذلك من المعلومات التي لا بد منها في معرفة اتصال السند بين الرواة.

فلا يقبل حديثٌ لم يأخذه كل راوٍ عَمَّن فوقه مباشرةً بطريقة صحيحة من طرق التحمل.

من اطلع على المنهج المحكم للعلماء في نقل الأخبار وتمحيصها يجزم بحفظ السنة

وقد ميز العلماء في مصنفاتهم الخاصة بهذا أسماءَ الرواة، وأسماءَ شيوخهم، وأسماءَ الآخذين عنهم، ومن روى عمَّن لم يسمع منه قالوا فيه: روى عن فلان ولم يسمع منه، أو روى عنه ولم يسمع منه إلا كذا حديثاً، وميزوا في الواقع الأحاديث التي سمعها الراوي مباشرةً من شيخه أو عن طريق واسطة، وبينوا بدقة كبيرة عدد هذه الأحاديث، قال الإمام الترمذي رحمه الله: قَالَ شُعْبَةُ: لَمْ يَسْمَعْ قَتَادَةُ مِنْ أَبِي العَالِيَةِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: حَدِيثَ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى»، وَحَدِيثَ عَلِيٍّ: «القُضَاةُ ثَلَاثَةٌ»[6]، وهذا كثير في مصنفاتهم، رحمهم الله تعالى.

4- ومنها ما يتعلق بتمييز ما ضبطه الراوي مما أخطأ فيه، فبعض الرواة يكونون ضابطين مستقيمي الحديث، لكن يطرأ على ضبطهم خللٌ بسبب مرضٍ أو كِبَرِ سنٍ أو حزنٍ شديد، فيكشف العلماء هذا الخلل، وما سبب هذا الخلل، وكم درجة هذا الخلل، وهل حَدَّثَ الراوي بأحاديث أثناء طروء هذا الخلل على حفظه أم امتنع من التحديث، وهذا الخلل يسمى في علم الحديث (الاختلاط)، فيقبلون من الراوي ما حدث به قبلَ اختلاطه، ويتوقفون فيما حدث به بعد اختلاطه، وكل هذا إذا تميز لديهم الزمن الذي حدث فيه الاختلاط إما بالسنين وإما بأشخاص الآخذين عنه، فإن لم يتميز زمنُ الاختلاط قَضَوا على جميع مروياته بالتوقف فيها حتى يتبين لهم موافقتها لأحاديث الثقات فيقبلون ما وافق، ويردون ما خالف.

وإليك أيها القارئ الكريم بضعة أمثلة عن هذا، ننقلها من كتاب (تقريب التهذيب) للحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله:

911-جريرُ بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزدي، أبو النضر البصري، وَالدُ وهب، ثقةٌ، لكن في حديثه عن قتادة ضَعفٌ، وله أوهامٌ إذا حدث من حفظه،….، مات سنة سبعين بعد ما اختلط لكن لم يحدث في حال اختلاطه.

1958-رَوَّاد، بتشديد الواو، ابنُ الجراح، أبو عصام العسقلاني، أصله من خُراسان، صَدوقٌ اختَلَطَ بِآخِرِهِ فَتُرِكَ.

2273-سعيدُ بن إياس الجُريري، بضم الجيم، أبو مسعود البصري، ثقةٌ،…، اخْتَلَطَ قبل موته بثلاث سنين.

2892-صالحُ بنُ نبهان المدني، مَولى التَّوْأمة،….، صَدوقٌ اخْتَلَطَ بِآخِرِهِ، قال ابن عدي: لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي ذئب وابن جريج.

يلاحظ من هذه الأمثلة (وغيرها كثير في كتب التراجم) دقةُ العلماء في تمييز حالات الراوي من حيثُ الضبطُ وقوتُه وضعفُه، فالراوي الثقةُ الضابطُ قد يَعرضُ له في مرحلة من مراحل عمره ما ينزل بضبطه عن درجة قَبولِ أحاديثه في تلك الفترة الاستثنائية، فيستثني العلماء الأحاديث التي رواها في حال ضعف ضبطه، ويتوقفون في قبولها حتى يعرضوها على حديث غيره من الثقات.

5- وأنشأ علماءُ المسلمين فرعاً من العلم يَعرِضون عليه ما رواه الثقاتُ المتقِنونَ الضابطون على روايات مَن هو أكثر منهم عدداً أو أعلى منهم ضبطاً، ويقارنون رواياتهم بروايات الأكثر عدداً والأعلى ضبطاً ليقيسوا أخبار الرواة الثقات: هل أخطأ الثقة في هذا الخبر أم أصاب؟

وهذا من أدق أنواع علم الحديث؛ ويمثل المرحلة المتقدمة من التحقق من صحة الحديث؛ لأن الظاهر في روايات الثقات صحتُها وسلامتُها من العِلَلِ الخَفِيّةِ، لكن علماء الإسلام لم يكتفوا بهذا الظاهر، صيانةً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم أن يَدخُلَ فيه بالخطأ ما ليس منه، وبينوا أن في بعض أحاديث الثقات عِللاً خفيةً تمنعُ من الحكم بصحتها، فردوا ما أخطأ فيه الثقات، وبينوا سببَ ردِّهم له، وأن كون الراوي ثقة لا يعني قَبولَ كل ما يرويه، بل قَبول ما يرويه ما لم يكن حدث منه خطأ ما، وهذا الفرع من العلم يعد الأعمق والأكثر صعوبةً في علوم الحديث، لأنه يتطلب حفظاً واسعاً للأحاديث النبوية وللرواة وصفاتهم ورحلاتهم وشيوخهم وتلاميذهم، ولذا تصدى له الكبارُ من علماء السنة النبوية، الحافظون لِمَا روي في سائر العصور، المستحضرون لروايات كل واحدٍ من الرواة، فيتبين لهم استقامة حديثه من عدمها.

 قال ابن حجر رحمه الله:» وهو مِن أَغْمضِ أنواعِ علومِ الحديثِ وأدقِّها، ولا يقومُ بهِ إلَّا مَنْ رَزَقَهُ اللهُ تعالى فهْماً ثاقِباً، وحِفْظاً واسِعاً، ومعرفةً تامةً بمراتب الرواة، وملكةً قويةً بالأسانيد والمتون؛ ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشأن: كعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ويعقوب بن شيبة، وأبي حاتم، وأبي زرعة، والدارقطني»[7].

وقال الإمام الذهبي رحمه الله:» وقال أبو بكر البرقاني: كان الدارقطني يملي علي (العلل) من حفظه. قلت (الذهبي): إنْ كَانَ كِتَابُ (العِلَلِ) الموجودُ قَدْ أَمْلاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حِفْظِهِ كَمَا دلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الحكَايَةُ، فَهَذَا أَمرٌ عظيمٌ، يُقْضَى بِهِ للدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ أَحفظُ أَهْلِ الدُّنْيَا»[8].

خامساً: دعوى النهي عن كتابة السنة وبيان حقيقة هذه الدعوى:

إن دعوى النهي عن كتابة السنة النبوية فيها انتقاء من الأخبار التي وردت في هذا الموضوع، فقد وردت أحاديث في النهي عن الكتابة، ووردت أحاديث فيها الأمر بالكتابة، وأحاديث فيها الترخيص بالكتابة.

أما أحاديث النهي عن الكتابة فهي ضعيفة كلها إلا حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم، وقد رجح البخاري وغيرُه وقفَه على أبي سعيد (أي إن أبا سعيد نهى من عند نفسه عن الكتابة عنه غير القرآن الكريم).

وأما أحاديث الأمر بالكتابة فقد ثبتت في البخاري ومسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي ومسند الإمام أحمد (اكتبوا لأبي شاه)، وأحاديث الإذن بالكتابة ثبتت بالسند الصحيح في سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد، وعلى هذا فدعوى النهي عن كتابة السنة لا تثبت ولا تُسَلَّم، وهي معارضة للأمر بالكتابة وللإذن بها.

ثم إن المسلمين في القرن الأول وكعادة العرب في ذلك العصر كانوا يعتمدون أولاً على الحفظ في الرواية، سواء كانت الرواية للقرآن أو الحديث أو أخبار وأشعار العرب، وقليل منهم مَن كان يعرف الكتابة.

وأما شبهة تأخر تدوين السنة، فإن التدوين الذي يقال إنه تأخر حتى القرن الثاني للهجرة هو التدوين الرسمي للسنة النبوية، الذي أمر به الخليفة عمر بن عبدالعزيز (توفي101هـ)، وهذا لا يقتضي أنه لم يكن ثمة تدوين غير رسمي للسنة يقوم به الرواة المحدِّثون، لأنفسهم ولتلاميذهم، لتوثيق مروياتهم ونقلها لتلاميذهم كما تلقوها عن شيوخهم، وهذا كثير جداً في المحدثين.

الخلاصة:

إن الأدلة على موثوقية نقل السنة النبوية (في الجملة) أدلة قطعية مستندة إلى القرآن الكريم أولاً، وإلى منهج نقد الأخبار ثانياً، وإلى العقل السليم ثالثاً، فلا يمكن أن يُترك الناس دون بيان شرعي من الله تعالى يضبط أعمالهم وأقوالهم مهما بعد الزمن عن وقت حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حجة لمن يريد الاقتصار على القرآن الكريم؛ لأن القرآن يحيل على السنة النبوية، ولا يمكن أن يحيل القرآن على شيء ثم يضيع هذا الشيء المحال عليه، فيبقى الناس دون بيانٍ شرعي.

وعلى المسلم أن يطمئن إلى ما أجمعت عليه كلمة علماء الأمة الإسلامية، من وجوب الاحتجاج بالأخبار الصحيحة التي تنقل إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير نكير منهم، قال ابن عبد البر رحمه الله:» أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الفِقْهِ وَالْأَثَرِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ فِيمَا عَلِمْتُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَإِيجَابِ الْعَمَلِ بِهِ، إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثرٍ أو إجماعٍ، على هذا جميع الفقهاء في كل عصرٍ من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع شرذمةٌ لا تعد خلافًا» [9].


[1] الشافعي، محمد بن إدريس، الرسالة، ص:33-34.

[2] الشافعي، محمد بن إدريس، جماع العلم، ص:8.

[3] البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، رقم :63.

[4] المرجع السابق، (1/138)، رقم:628.

[5] المِزِّي، يوسف بن عبد الرحمن، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، (17/283).

[6] الترمذي، محمد بن عيسى بن سَوْرَة، الجامع الكبير، (1/225)، رقم:183.

[7] العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر، نزهة النظر في توضيح نخبة الفِكَر، ص:92.

[8] الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء،(16/455).

[9] ابن عبد البر، عمر بن يوسف، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، (1/2).

X