تمثِّل القصص خلاصة تجارب الإنسان وخبراته في الأحداث المماثلة، كما أنها من أفضل أساليب إقناع المدعوِّين، وإيصال الرسائل لهم بطريقة غير مباشرة؛ لما تحويه من أساليب تصويرية تُقرب المعاني، وتُبرز الأحداث، وتُظهر أنَّ ما يمرُّ به الشخص قد مرَّ به آخرون من قبله، فيتشجع على تقفي آثارهم والأخذ بما ساروا عليه. ولما كانت فئة من الناس قد أساءت لهذا الأسلوب التربوي الراقي، وجب النظر في وضع ضوابط له، وهذا المقال في هذا السياق.
تنتشر القصص وتُتداول بين مختلف شرائح المجتمع؛ لما لها من أثر كبير في تقريب المعنى، وتوضيح المقصود، كما تعد من أهم وسائل التربية والتعليم. وقد حكى القرآن قصص الأمم الماضية، وأخبار الرسل والأنبياء مع أقوامهم، وحدَّث النبي ﷺ بالقصص؛ لما في ذلك من خلاصات التجارب والدروس والعبر. ولقيت القصص وآداب روايتها وشروط تلقيها العناية الكبرى من أهل العلم، ووُضعت فيها المصنفات العديدة من أجل ضبط روايتها وحكايتها، وحمايتها من الخطأ فيها؛ لما لها من أثر كبير على الناس.
وفي المقابل تهاوَن البعضُ في رواية القصص وتداوُلها دون توثُّقٍ منها، أو تأكُّدٍ من صحة أحداثها، فكان لذلك أثر سيء في إشاعة الأخبار غير الصحيحة والشائعات وانتشارها، وأخطرُ ما فيها ما كان متعلقًا بأمور دينية.
واليوم مع سهولة التداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتوسُّع في تناقل الأحداث والوقائع والقصص، تظهر الحاجة للتأكيد على صحة المعلومات المتداولة، والتأكد منها قبل نقلها.
وفي هذا المقال إضاءاتٌ على أهم جوانب هذا الموضوع.
للقصص أثر في الناس، وفي توجيههم، وترغيبهم في الخير ومنعهم من الشر، وهي من الوسائل الدعوية، وأدوات التبشير والترغيب في فعل الخير
تعريف القصة والقُصَّاص:
القصص: تتبع الأثر، يقال: قصصت الشيء إذا تتبعت أثره شيئًا بعد شيء، ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: ١١][1]. والقِصة: الجُملة من الكلام[2].
والقُصَّاص: جمع قاص، والقاص كما قال البغوي: «هو الذي يروي أخبار الماضين، ويسرد عليهم القصص»[3].
وغالبًا ما يخلط القاصُّ كلامَه بالمواعظ، قال السُّبكي: «القاصّ: هو من يجلس في الطُرُقات يذكُر شيئًا من الآيات والأحاديث وأخبار السلف»[4].
أهمية القصص:
للقصص أثر في الناس، وفي توجيههم، وترغيبهم في الخير ومنعهم من الشر، وهي من الوسائل الدعوية، وأدوات التبشير والترغيب في فعل الخير.
قال المروزي: «سمعت أبا عبد الله يقول: يُعجبني القُصَّاص؛ لأنَّهم يُذكِّرون الميزان وعذاب القبر. قلت لأبي عبد الله: فترى الذهاب إليهم؟ فقال: أي لعمريّ إذا كان صدوقًا؛ لأنهَّم يذكرون الميزان، وعذاب القبر. قلت له: كنت تحضر مجالسهم أو تأتيهم؟ قال: لا»[5].
وقال مالك بن دينار رحمه الله: «الحكايات تُحَفُ الجنَّة»[6].
فهذه نصوص السلف في جواز القصص، ومدح أهلها الذين يُذكِّرون الناس بربِّهم، وُيرقِّقون قلوبهم، ويهذِّبون أخلاقهم؛ بشرط ألا يكون في هذه القصص مخالفة الشرع؛ وإلا فهي مردودة، ويُهجر أصحابُها كما فعل السلف مع مثل هذه النماذج.
ومن هنا يتبيَّن أن استخدام القصص في الدعوة إلى الله، من أنجع الأساليب الدعوية وأكثرها حبًّا، وأقربها إلى الناس عامةً، فينبغي على الداعية الناجح أن يستخدم هذا الأسلوب في ترغيب الناس بالخير، وترهيبهم من الشر.
أنواع القصص:
إنَّ الناظر في القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، وفي كتب التراجم والسير، يستنبط أن للقصص أنواعًا عدة، يمكن للداعية أن يستخدمها في دعوته، وهي:
- قصص الأنبياء والمرسلين، في الحديث عن نبواتهم وإرسالهم إلى قومهم، ومعجزاتهم، وغير ذلك.
- والقصص المتعلقة بالأمم الماضية، كقصة أهل الكهف، وأصحاب السبت، وذي القرنين، وقارون.
- وقصص متعلقة بالحوادث التي وقعت في زمن النبي ﷺ، كالإسراء والمعراج، والغزوات.
- وقصص الصحابة والتابعين، من التعريف بهم وبمناقبهم، وأعمالهم في خدمة الدين.
- وقصص العلماء الربانين، ورجال الإصلاح والدين، كالإمام أحمد والعز بن عبد السلام، وشيخ الإسلام، والإمام النووي، وغيرهم.
- كما يمكن للداعية أن يستخدم المتداوَل من القصص التي يتناقلها الناس وخاصة قصص من عُرفوا بالصلاح أو حسن السيرة، وتلك التي تروى في كتب التاريخ والأدب ونحوها؛ للاعتبار بما فيها من دروسٍ وعظات، وهي بابٌ واسع.
تطورت علوم الأدب والرواية منذ قديم الزمان، وقد استخدم الأنبياء عليهم السلام القصصَ في دعوة أقوامهم وتعليمهم، وقصَّ النبي صلى الله عليه وسلم قصص الأقوام السابقين وأخبارهم
أسباب انتشار القصص:
ظهور القصص وانتشارها قديمٌ قِدمَ الإنسانِ نفسِه، وتطورت علوم الأدب والرواية منذ قديم الزمان، وقد استخدمها الأنبياء عليهم السلام في دعوة أقوامهم وتعليمهم، وقصَّ النبي ﷺ قصص الأقوام السابقين على أهل مكة، وقرأ عليهم الآيات التي وردت فيها، قال تعالى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٦]، وقال: ﴿نَحن نقص عَلَيْك أحسن الْقَصَص﴾ [يوسف: ٣]، وقال: ﴿إِن هَذَا لَهو الْقَصَص الْحق﴾ [آل عمران: ٦٢]، فسمّاها المشركون بأساطير الأولين تنقصًا منها وتكذيبًا لها.
وكان ﷺ يأمر بعض أصحابه أن يقصُّوا بعض ما وقع لهم من أحداث، كحادثة تميم الداري مع الدابة والدجال.
وروى الصحابة القصص التي سمعوها من الرسول ﷺ، روى عبيد الله بن عبد الله بن عباس عن أبيه: «ولقد كنَّا نحضر عنده، فيحدثنا العشية كلَّها في المغازي، والعشية كلَّها في النسب، والعشية كلَّها في الشعر»[7].
كما رووا القصص تلك التي وردتهم عن الأقوام السابقين، والتي عُرفت باسم أخبار بني إسرائيل، ووضع لها أهل العلم الضوابط لروايتها والتحديث بها.
وسار التابعون وأهل العلم على هذه السيرة في قصِّ القصص والتعليم بها والتذكير، ثم شاع اختصاص بعض الأشخاص لرواية القصص فيما عُرف بظاهرة «القُصاص»، وكان لذلك أسباب عديدة، من أهمها:
1- الوعظ والتذكير:
كعوف بن مالك، وعبيد بن عمير، وموسى بن يسار وغيرهم، وكذا مَن بعدهم كمحمد بن مصعب[8].
وقد توسَّع بعض القصاص في رواية القصص دون التثبت منها أو عرضها على قواعد الشرع في علم الحديث ومصطلحه، فوقع أصحابها بطوامَّ وتكلَّموا بمناكير، لا يقبلُها الصغير قبل الكبير.
2- التكسُّب والثراء:
وذلك باتخاذ رواية القصص مهنةً يتكسّب منها الشخص، وقد توسَّعت هذه المهنة في عهد الخلافة العباسية، وأصبحت تُدرُّ المال الكثير على البعض بسبب ما يلقاه صاحبُها من مكانةٍ عند الأمراء والخلفاء، وعامة الناس، فاندفع العديد من الناس للعمل في هذه المهنة، وأصبحوا يروون المكذوبات والموضوعات والغرائب بهدف جذب الناس وزيادة التكسُّب، ومن هنا بدأ مصطلح «القُصَّاص» يأخذ معناه الدالَّ على عدم الدقّة والكذب في المرويّات.
3- الشهرة وحب الظهور:
والتي قد تظهر عند البعض، روى أبو بكر المروزي في كتاب «العلم» والطبراني عن يحيى البكاء قال: «رأى ابن عمر قاصًّا يقصُّ في المسجد الحرام ومعه ابنٌ له، فقال له ابنه: أيُّ شيء يقول هذا؟ فقال: هذا يقول اعرفوني اعرفوني»[9].
وقد توجد أسبابٌ أخرى تختلفُ من شخصٍ لآخر، وهذه الأسباب وغيرُها مما نلحظُها في المتصدِّرين للحديث ونقل الأخبار في وسائل التواصل المعاصرة.
والسبب الأول يدخُلُ في باب الجواز، ويختلف حكمه بحسب الحاجة فهو في العموم في دائرة الاستحباب، ما لم يتضمَّن كذبًا.
وأمَّا الثاني والثالث، فأقلُّ أحواله الكراهة؛ لما يترتَّب عليه من الرغبة في التصدُّر والظهور، وقد يصل للتحريم بسبب ذلك، أما إن خالطه الكذب ورواية ما لم يصح فهو من المحرَّم بلا شك.
لما استغل البعض إباحةَ الشرع لرواية القصص بحجة الوعظ والتذكير؛ جاعلين منه سبيلً للتكسب، ومرتعًا للظهور والشهرة، صارت هذه الظاهرة سلاحًا ذا حدَّين، من كونها:
1- وسيلة للدعوة إلى الله: بالوعظ والتذكير وترقيق القلوب.
2- معول هدم في صرح الدين: من خلال رواية الحكايات المكذوبة، أو غير المعقولة أو المخالفة للشرع.
جهود أهل العلم في ضبط رواية القصص وحكايتها:
كان لأهل العلم جهودٌ في خدمة مصادر التشريع (القرآن والسنة) من الضياع أو الاختلاط، وبخاصة السنة النبوية، من خلال قوانين علم الحديث، ومعرفة الرجال والعلل، والجرح والتعديل، وضبط مسائل السماع والرواية، وشروط التلقي والرحلة، وغير ذلك.
وفي ظل توسع «ظاهرة القصاص» التي كان لها أثر بالغ في واقع الناس، انتهج أهل العلم سبيلًا في بحث هذه الظاهرة، والنظر فيها، ومن سار على دربها، من خلال محاكمتهم إلى القواعد الشرعية تارة، والتحذير من دعاتها إن كانوا أهلَ سوء وإعلامًا كاذبًا تارة أخرى، وصنفوا فيها التآليف تبيينًا وتوضيحًا، فمن تلك الكتب التي عالجت هذه القضية وتكلم أهلها في القصص والقصاص جرحًا وتعديلًا: «كتاب القصاص والمذكرين» للحافظ أبي الفرج ابن الجوزي البغدادي، و«أحاديث القصاص» لشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية الحراني الدمشقي، و«الباعث على الخلاص من حوادث القصاص» للحافظ زين الدين أبي الفضل العراقي، و«تحذير الخواص من أكاذيب القصاص» للحافظ جلال الدين السيوطي، فضلًا عما جاء بعدها من المؤلفات، مع ما هو مذكور ومنثور في بطون الكتب بخصوص هذا الموضوع.
ولما امتطى البعض إباحةَ الشرع لرواية القصص بحجة الوعظ والتذكير؛ جاعلين منه سبيلًا للتكسُّب، ومرتعًا للظهور والشهرة، صارت هذه الظاهرة سلاحًا ذا حدَّين، من كونها:
1- وسيلة للدعوة إلى الله:
وتذكير الناس بالحقوق الشرعية، قال ابن الجوزي: «وقد كان جماعة من السلف يرون تخليط القصاص، فينهون عن الحضور عندهم، وهذا على الإطلاق لا يحسُنُ اليوم؛ لأنَّه كان الناس في ذلك الزمان مُتشاغلين بالعلم، فرأوا حضور القصص صادًّا لهم، واليوم كثُر الإعراض عن العلم، فأنفعُ ما للعامّي مجلسُ الوعظ، يردُّه عن ذنب، ويحركه إلى توبة؛ وإنما الخلل في القاصّ، فليتَّق الله عز وجل»[10].
2- معول هدم في صرح الدين:
من خلال رواية الحكايات المكذوبة، أو غير المعقولة أو المخالفة للشرع، وقد أعان على ذلك ما يحوزه بعض دعاتها والمتكلمين بها من قوة البيان، فضلًا عن تسهيل وسائل الإعلام لنشرها وترويجها.
ولما كان الحال كذلك وأشد، كان لأسلافنا وعلمائنا موقف حاسم في التعامل مع القُصَّاص الذين يُكثرون من رواية الكذب وما لا يجوز، أو الذين لا يتحرَّون الصحة والدقة في كلامهم، فمن ذلك:
«وقد كان جماعة من السلف يرون تخليط القصاص، فينهون عن الحضور عندهم، وهذا على الإطلاق لا يحسُنُ اليوم؛ لأنَّه كان الناس في ذلك الزمان مُتشاغلين بالعلم، فرأوا حضور القصص صادًّا لهم، واليوم كثُر الإعراض عن العلم، فأنفعُ ما للعامّي مجلسُ الوعظ، يردُّه عن ذنب، ويحركه إلى توبة»
ابن الجوزي رحمه الله
تحذير السلف من القُصَّاص الذين لا يتحرَّزون من رواية الكذب:
1- هجرهم وعدم الاستماع لهم:
قال مجاهد: «كنا جلوسًا في المسجد، فجاء قاصٌّ، فجلس قريبًا من ابن عمر يقصّ، فأرسل إليه ابن عمر أن لا تؤذِنا، قم عنّا، فأبى، فأرسل إلى صاحب الشرط، فبعث شرطيًا فأقامه»[11].
وأخرج العقيلي، وأبو نعيم، عن عاصم قال: كنا نجالس أبا عبد الرحمن السلمي فكان يقول: «لا يجالسنا حَروري ولا من يجالس القُصاص»[12].
2- منع رواية الحديث عنهم:
فعن أبي الوليد الطيالسي قال: «كنت مع شعبة، فدنا منه شاب. فسأل عن حديث فقال له: أقاصّ أنت؟ قال: نعم. قال: اذهب؛ فإنّا لا نحدث القُصاص. فقلت له: لِمَ يا أبا بسطام؟ قال: يأخذون الحديث منا شبرًا فيجعلونه ذراعًا»[13].
3- تبيين حقيقة ما هم عليه:
مما يكون سببًا في تمييز الناس لهم عن أهل العلم والدعوة، قال أبو قلابة: «ما أمات العلمَ إلا القُصاص. يجالس الرجل القاصَّ سنة فلا يتعلق منه بشيء، ويجالس العالمَ فلا يقوم حتى يتعلق منه بشيء»[14].
وقال ابن الجوزي: «فكم قد أفسد القصاص من الخلق بالأحاديث الموضوعة، كم لون قد اصفرَّ بالجوع وكم هائم على وجهه بالسياحة، وكم مانع لنفسه ما قد أبيح، وكم تارك رواية العلم زعمًا منه مخالفة النفس في هواها في ذلك، وكم موتم أولاده بالتزهد وهو حي، وكم معرض عن زوجته لا يوفيها حقها فهي لا أيِّم ولا ذات بعل»[15].
فإذا أراد القاصُّ أن يحدث الناس فلا بدَّ أن ينتقي من الأحاديث ما يكون صحيحًا وصريحًا، ولا يحدثهم بالضعيف أو الموضوع من الأحاديث في ثنايا قصصه، وهم جاهلون بهذه الشروط والمراتب، فيتعلقون بهذه الأحاديث ويعتقدونها دينًا، ويروونها ثقةً بمن حدّثهم بها
شروط رواية القصص وحكايتها:
إذا كانت القصص من الوسائل الدعوية، فلا بدَّ من ضوابط وشروط، ومن خلال تتبع كلام أهل العلم المانعين للقصص، وكذا المجوزين، تبين أنَّ هناك شروطًا ينبغي أن تتوفر للقاص الذي يتولى هذه المهمة، ومنها:
1- الابتعاد عن غرائب الأخبار، التي هي مظنة الكذب والمبالغات:
روى الرامهرمزي في «المحدث الفاصل» عن إبراهيم، قال: «كانوا يكرهون غريب الحديث والكلام»[16]، وقال الإمام أحمد: «ما أحوج النَّاس إلى قاصٍ صدوق». وقال: «إذا كان القاص صدوقًا فلا أرى بمجالسته بأسًا»[17].
2- ذكر القصص الواضحة البيّنة:
ينبغي أن تكون القصص واضحة بيّنة، حتى لا تختلط الأمور ببعضها، وتكون النتائج بعكس الذي يراد منها، روى مسلم في «مقدمة صحيحه»، بسندهِ عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «ما أنت بمحدثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»[18].
وروى البخاري في «كتاب العلم» من صحيحه، عن علي رضي الله عنه قال: «حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يُكذَّب اللهُ ورسولُه»[19].
3- البعد عن القصص الركيكة في اللفظ والمعنى:
والتي تفسد الذائقة واللغة، روى الحاكم في «معرفة علوم الحديث» عن الربيع بن خثيم قال: «إنَّ من الحديث حديثًا له ضوء كضوء النهار نعرفه به، وإنَّ من الحديث حديثًا له ظلمة كظلمة الليل نعرفه بها»[20].
4- البعد عن الأحاديث الضعيفة:
فإذا أراد القاصُّ أو الواعظ أو المذكِّر أن يحدث الناس فلا بدَّ أن ينتقي من الأحاديث ما يكون صحيحًا وصريحًا، ويبتعد عن الضعيف، فإن العلماء انقسموا في روايته على قولين: الأول المنع، والثاني: الجواز، وحصروا ذلك في نطاق ضيق، كباب المواعظ والرقائق، والترغيب والترهيب، وبشروط عديدة من أهمها: أن لا يخالف ما هو صحيح، وألا يعتقد ثبوته عند روايته، وأن يروى بصيغة التمريض كقوله: قيل ويروى، لا بصيغة الجزم، وأن يكون مندرجًا تحت أصل عام، بحيث لو أراد أن يروي يصدر الصحيح ثم الضعيف، وأن يكون أساس ضعف الحديث من قبل حفظ الراوي لا عدالته، فإنَّ ضعيف العدالة مضروب عليه ولا يتقوى بغيره، وتركه أولى، وهذه الشروط معلومة في رسم المحدثين، لكنها كثيرًا ما تخفى على عامة الناس.
فينبغي على من يُحدث الناس أن يتَّقي الله فيهم، فلا يحدثهم بالضعيف أو الموضوع من الأحاديث في ثنايا قصصه، وهم جاهلون بهذه الشروط والمراتب، فيتعلقون بهذه الأحاديث ويعتقدونها دينًا، ويروونها ثقة بمن حدثهم بها.
5- التوقي في رواية القصص بحيث يرويها كما هي دون تغيير:
فقد يعمد بعض القصَّاص إلى تغيير وقائع القصص، أو الزيادة فيها، رغبةً في إضافة مزيد من التشويق أو الغرابة عليها، وجذب الناس، ويُخشى على فاعله من الوقوع في الكذب.
أما إن كانت هذه القصص مما هو ثابت بالكتاب أو السنة، أو التاريخ، فإن تغيير وقائعها وأحداثها من الكذب المنهي عنه.
ولا مانع من رواية هذه القصص بالمعنى بما لا يغير وقائعها ولا يُحرِّف أحداثها.
«إنَّ من الحديث حديثًا له ضوء كضوء النهار نعرفه به، وإنَّ من الحديث حديثًا له ظلمة كظلمة الليل نعرفه بها»
الربيع بن خثيم رحمه الله
6- حسن سلوكه، وبعده عن السفه والكذب والابتداع.
كما روى الخطيب في «الكفاية»، بسـنده عن معن بن عيسى، قال: كان مالك بن أنس يقول: «لا تأخذ العلم من أربعة، وخذ ممن سوى ذلك، لا تأخذ من سفيه معلن بالسَّفَه وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس إذا جرِّب ذلك عليه، وإن كان لا يُتَّهم أن يكذب على رسول الله ﷺ، ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من شيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث»[21].
وختامًا:
من أراد رواية القصص أو السماع لأهلها، فعليه أن يتثبت من شخص المتكلم وسلامته من الكذب والتدليس، وأن يتأكد من صحتها قبل تصديقها أو روايتها، وذلك بالرجوع لأهل الاختصاص وسؤالهم عنها، وأن تكون موافقة للمنقول والمعقول.
وألا يغتر بجمال القصة، أو كثرة كلام القاص، وحلاوة منطقه، وجمال مظهره، فهذا في الحقيقة عند العلماء العارفين ليس بكافٍ في تزكيته والسماع منه، وتصديق أخباره، قال الجوزجاني: «سمعت أبا قدامة، يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ربَّ رجل صالح لو لم يحدث كان خيرًا له، إنَّما هو أمانة، تأدية الأمانة في الذهب والفضة أيسر منه في الحديث»[22].
أ. محمود الزويّد
طالب علم، وباحث شرعي، ومدرس في بعض المعاهد الشرعية.
[1] لسان العرب، لابن منظور (٧/٧٣).
[2] تهذيب اللغة، للأزهري (٨/٢١٠).
[3] شرح السنة، للبغوي (١/٣٠٥).
[4] معيد النعم، للسبكي ص (٨٩).
[5] الآداب الشرعية، لابن مفلح (٢/٨٢).
[6] ينظر: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي (٢/١٣١، رقم ١٣٩٧).
[7] سير أعلام النبلاء، للذهبي (٣/٣٥٠).
[8] ينظر: العلل ومعرفة الرجال، للإمام أحمد (١/٣١٧).
[9] تحذير الخواص من أكاذيب القصاص، للسيوطي ص (١٧٧-١٧٨)، و الباعث على الخلاص من حوادث القصاص، للعراقي ص (١٣٨-١٣٩).
[10] صيد الخاطر، لابن الجوزي ص (١١٥).
[11] شرح السنة، للبغوي (١/٣٠٥).
[12] تحذير الخواص، للسيوطي ص (٢٣٦)، والحلية، لأبي نعيم (٤/١٩٣).
[13] كتاب القصاص والمذكرين، لابن الجوزي ص (٣٠٨).
[14] أخرجه أبو نُعيم في الحلية (٢/٢٨٧).
[15] الموضوعات، لابن الجوزي (١/٣٢).
[16] المحدث الفاصل، للرامهرمزي ص (٦٢٧).
[17] الآداب الشرعية، لابن مفلح (٢/٨٢).
[18] مقدمة صحيح مسلم (١/١١).
[19] أخرجه البخاري (١٢٧).
[20] معرفة علوم الحديث، للحاكم ص (٦٢).
[21] الكفاية في علم الرواية، للخطيب البغدادي ص (١٣٤).
[22] شرح علل الترمذي، لابن رجب الحنبلي (١/٩٥).