قراءات

قراءة في كتاب «حجاب الرؤية» للدكتور: عبد الله بن رفود السفياني

مع الاتفاق على أهمية عمل الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية من أدلة الوحيين نصًا ومفهومًا وروحًا، يحق لنا أن نتساءل حول الأمور التي يمكنها أن تؤثر في اختيارات الفقهاء نظرًا لطبيعتهم البشرية ومحيطهم الاجتماعي والثقافي، ألا يمكن أن تكون هذه الأمور وغيرها حجابًا لهم يحول دون الرؤية العلمية الخالصة والمتجردة؟ هذا ما يبحثه هذا الكتاب، وتحاول هذه القراءة تقريبه من ثنايا الكتاب وصفحاته.

نبذة عن المؤلف:

عبد الله بن رفود السفياني: ولد عام ١٩٧٥م في الطائف، أكاديمي وباحث مهتم بالنقد في الخطاب الإسلامي، نال الماجستير في التربية الإسلامية برسالة (تربية الإرادة في الفكر الإسلامي)، والدكتوراه برسالة (ضوابط النقد التربوي عند شيخ الإسلام ابن تيمية). عمل في التعليم العام، وله عددٌ من الكتب المنشورة([1]).

وصف الكتاب:

يقع الكتاب في (١٧٤) صفحة من القطع المتوسط، والطبعة الأولى منه لمركز نماء للبحوث والدراسات في بيروت، عام ٢٠١٣م.

موضوعه:

العلماء ورثة الأنبياء، علمهم هو ميراث النبوة وشريعتها وأخلاقها، أضافوا إليه من عقولهم قبسات معرفية تراكمت عبر الأجيال، وهم في الوقت نفسه ليسوا معصومين، بل بشر يعتريهم النقص. وهنا يلحُّ السؤال حول تأثر اختياراتهم الفقهية بطبيعتهم البشرية وبمحيطهم الاجتماعي والثقافي والجغرافي: ألا يمكن أن تكون هذه الأمور حجابًا يحول دون الفقيه ودون الرؤية العلمية الخالصة؟ وبقدر سماكة هذا الحجاب وقوته يقترب أو يبتعد عن معرفة الحق، أو قد يصل إليه لكن لكونه وافق شيئًا في النفس فتمكَّن منه؟.

الكتاب الذي بين أيدينا عنوانه (حجاب الرؤية قراءة في المؤثرات الخفية على الخطاب الفقهي) وهو يعالج عددًا من القضايا المتعلقة بالفقيه واختياراته الفقهية، من خلال بيان أثر العوامل المختلفة على فتاواه، وقد عالج أربعة من تلك العوامل المؤثرة وسماها حُجُبًا، وهي: (حجاب النفس، والعادة، والبيئة، والاستبداد). دون أن يتطرّق لقضية الهوى الظاهر والتعصّب، فهو ليس محلَّ بحثه.

محتوى الكتاب:

يتألف الكتاب من:

  1. مقدمة: تحدث فيها الكاتب عن النطاق الموضوعي للكتاب والأسباب التي دعته لكتابته، وخطة الكتاب وأبرز مكوناته.
  2. الفصل الأول: مداخل منهجية لفهم الحُجُب: تضمن ثلاثة مباحث، هي: (العلماء بين المكانة والتقديس، طبيعة الخطاب الفقهي، أسباب اختلاف العلماء .. مدخل لرؤية مغايرة).
  3. الفصل الثاني: الحجب المؤثرة على الخطاب الفقهي: وهي أربعة: (حجاب النفس، والعادة، والبيئة، والاستبداد).
  4. الخاتمة: كشف الحجب نحو رؤية فقهية أوسع: وتحته خلاصتان: (نتائج ما قبل الحجاب، وتوصيات كشف الحجاب).

القراءة في الكتاب:

الفصل الأول: مداخل منهجية لفهم الحُجُب:

أولًا: العلماء بين المكانة والتقديس:

يتبوّأُ العلماء في الإسلام مكانة عظيمة باعتبارهم حملة الرسالة وأوعية العلم؛ لذلك فإنَّ الحطَّ من قدرهم أو تتبع عثراتهم التي لا يخلو منها بشر هو طريقة وخيمة لا يقع فيها إلا من في قلبه مرض ووهن.

وهذا لا يعني الغلوَّ فيهم والتعصُّب لآرائهم من غير علم، وتقديسهم جرَّ إلى نفور طائفة أخرى فقدحت فيهم من غير ذنب منهم، والواجب أنْ نُنزلهم منازلهم اللائقة بهم وبعلمهم، دون أن ندَّعي العصمة لأحد منهم.

ولقد كان لبعض العلماء أخبار ونُقولات تدل على إدراكهم لهذه الطبيعة النفسيّة والحياتية، يكشف ابن تيمية رحمه الله عن حقيقة هذا الهوى الخفي الذي لا يكاد يَسلم منه أحد فيقول: «إنّ الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة… قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونًا بالظن ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه وإن كان من أولياء الله المتقين، ومثلُ هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحًا في ولايته وتقواه… بل وفي إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان وكلا هذين الطرفين فاسد»([2]).

يتبوّأُ العلماء في الإسلام مكانة عظيمة باعتبارهم حملة الرسالة وأوعية العلم؛ لذلك فإنَّ الحطَّ من قدرهم أو تتبع عثراتهم التي لا يخلو منها بشر هو طريقة وخيمة لا يقع فيها إلا من في قلبه مرض ووهن. وهذا لا يعني الغلوَّ فيهم والتعصُّب لآرائهم من غير علم.

وقال عبد الله بن عمرو: «كنت أكتب كلَّ شيءٍ أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله، ورسول الله بشر يتكلم في الرضا والغضب! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فقال: (اكتب فوَ الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق([3]). وفيه دلالةٌ على أنّ مَن عدا رسول الله ﷺ خاضعٌ لما تخوَّفت منه قريش من تناوب الأحوال بين الرضا والغضب وغيرها، وهذا ليس منقصة في حقهم، بل على طالب العلم والفقيه وغيرهم أن يعرف هذه الحقيقة ويدركها، ويقدِّرها حق قدرها من غير غلو ولا تفريط.

ينبغي التركيز على ضرورة الفصل بين النص والوحي، وبين الفقه والعلم بهذا الوحي؛ فالأول إلهي المصدر معصوم، والآخر رؤية بشرية تصيب حينًا وتخطئ حينًا.

ثانيًا: طبيعة الخطاب الفقهي:

إذا كان الفقه بمعناه اللغوي يعني الفهم والعلم بالشيء، فالفهم والعلم شيء آخر غير النص أو الوحي؛ وذلك لأن الوحي هو ميدان الفهم والعلم ومن خلاله يتكون الخطاب الفقهي، فينبغي التركيز على ضرورة الفصل بين النص والوحي، وبين الفقه والعلم بهذا الوحي؛ فالأول إلهي المصدر معصوم، والآخر رؤية بشرية تصيب حينًا وتخطئ حينًا.

وعلى هذا: توجد نصوص مُحكمة يقابلها فهم محكم لا يختلف فيه؛ فهي قطعية الثبوت قطعية الدلالة والفهم، وتوجد نصوص متشابهة دلالتها ظنية ويقابلها فهم متشابه ظني، وهي كثيرة في نصوص الشريعة.

وهذا ما أشار إليه الحديث في قوله ﷺ: (إذا حَكم الحاكم فاجتهدَ ثمَّ أصاب فله أجران، وإذا حَكم فاجتهدَ ثمَّ أخطأَ فلَه أجر)([4]).

ومن طبيعة الأدلة الشرعية الظنيَّة أنها أدلة حمّالة أوجه، مما يعطيها سعة في مدلولاتها، ويسمح بتعدد الرؤى حولها، وهو سبب جوهري من أسباب اختلاف العلماء قديمًا وحديثًا.

ثالثًا: أسباب اختلاف العلماء:

الناظر في أمور الناس وحقيقة الخلق يعلم أنَّ الاختلاف هو الأصل فيهم والاتفاق التامُّ طارئ، وما جاء على أصله لا يُسأل عن سببه كما يقول النحويون، وهذا مؤكَّد في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ١١٨ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [يوسف: ١١٨-١١٩]، ولأهل التفسير في تأويل قوله تعالى: (ولذلك خلقهم) أقوال، واختار الحسن البصري وغيره أنه خلقهم للاختلاف، وهذا يدل على أن الاختلاف سنة كونية، فالكون قائم على الاختلاف ولكنه الاختلاف المبني على التنوع، وليس المفضي إلى الفتنة والدمار.

ولمّا حصل التدفق الإعلامي الهائل على الأمة، وتيسر الحصول على المعلومة بيسر حصل اضطراب شديد وتساءلَ بعضهم: كيف تنضبط الفتوى؟ وكيف نمنع الاختلاف؟ وكيف نجعل الناس على قول واحد؟ ولماذا يختلف العلماء والدين واحد؟

دون أن يدركوا أن الاختلاف سنة الله الماضية مع تباين درجات الاختلاف بين الناس، والاختلاف المقبول ليس أمرًا سلبيًا كما يتوهَّمه البعض، بل هو دليلُ ثراء الشريعة وسعتها، فالجمود على القول الواحد يعني الموت البطيء للمذهب والفكرة، ولا يُمكن للتجديد -الذي هو من سمات هذا الدين- أن يؤتي ثمرته في ظل الالتزام بالقول الواحد، هكذا فهم السلف رضوان الله عليهم، حتى قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «ما أحب أن أصحاب رسول الله ﷺ لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولًا واحدًا كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، ولو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة»([5]).

وأرجع ابن حزم وابن تيمية أسباب اختلاف العلماء إلى سببين:

  1. النصوص الشرعية وما يلحقها من احتماليات تتعلق بثبوتها أو معانيها ومآلاتها أو وصولها للمجتهدين من عدم ذلك.
  2. الاختلاف في مدارك المجتهدين وقراءتهم لدلالات الأدلة واجتهاداتهم فيما لا نصّ فيه.

وهذه لا شك أنها أسباب موضوعية تفسر الخلاف في مسائل بعينها إلا أنّ هناك أسبابًا أخرى للخلاف قامت المدارس الفقهية والمذاهب عليها، وكوّنت حجبًا مختلفة أدت دورها في بيئات دون أخرى، ومن أهم هذه الأسباب:

أ- تشكيل الذهنية الفقهية:

ويقصد به أن المدارس الفقهية والمذاهب المعتمدة تُشكّل ذهنيات أصحابها بتأثير مباشر من مؤسسي هذه المدارس التي بدأت بالصحابة الأبرار.

لذلك فإن أئمة المذاهب طَبع كلٌّ منهم شخصيته على طريقة المذاهب من بعده في سمت معين، فقد كان لكراهية الإمام مالك الشديدة للبدع وتحذيره منها تأثير في عناية علماء المالكية بتتبع المحدثات والبدع المخالفة للهدي النبوي.

ب- اختلاف البيئات وتنوعها:

لو استقرأنا كل بيئة على حدة لملاحقة ظروفها الاجتماعية والتاريخية والثقافية، لوجدنا أن هذه البيئات -بطريقة أو بأخرى- فرضت على الفقهاء نمطًا معينًا من النظر، وأمدّتهم ببعض الأدوات وحرمتهم من أخرى، واضطرتهم للنظر في أمور لم يرها غيرهم ممن لم يتعرض لهذا التأثير أو ذاك.

ولذلك فأهم الأسباب التي أدت إلى اختلاف نزعتي الأثر والرأي ما يلي:

  1. أنّ الأحاديث وفتاوى الصحابة لم تكن كثيرة في العراق كثرتها في الحجاز.
  2. أنّ العراق كان موضع الفتن التي أدت إلى افتراء الأحاديث وتحريفها.
  3. بيئة كل من العراق والحجاز مختلفة؛ فالأقضية والحوادث اختلفت مع اختلاف البيئتين.

الملاحظ للعقل الفقهي هنا وهناك سيجد فروقًا جوهرية مردّها إلى نوعية النشاط الفكري والثقافي الذي يمارسه المجتمع.

ج- أنماط التفكير والنشاط العقلي:

يُقصد بذلك طرائق التفكير وأساليبه، فقد أثرت في تشكيل العقليات؛ لأنها تختلف من بيئة لأخرى، وطبيعة النشاط الفكري وما يدور من أحداث مختلفة في كل بيئة وكل بلد من بلاد المسلمين يسهم في البناء العقلي للفقيه في ذلك البلد، وتتباين رؤى الفقهاء وتختلف تبعًا لهذه المؤثرات، وعليه فإن الملاحظ للعقل الفقهي هنا وهناك سيجد فروقًا جوهرية مردّها إلى نوعية النشاط الفكري والثقافي الذي يمارسه المجتمع.

الفصل الثاني: الحُجُب المؤثرة على الخطاب الفقهي:

أولًا: الحجاب النفسي:

الدراسات التي كُتبت عن النفس البشرية تكشف كل يوم عن جهل الإنسان بكثير من جوانبها، ومن هذه الجوانب: عملية الاختيار التي يمارسها الإنسان في حياته، هل هو حرّ فيها بشكل مطلق؟ أم تؤثر فيها عوامل داخلية وخارجية؟

وبالتحول إلى الاختيارات الفقهية؛ فالفقهاء بشر يدخلون ضمن منظومة الطبع الإنساني المتغيّر والمتقلّب بكل ما فيه من نزعات خير وشر، ومن هذه النزعات:

١الانفتاح على الذات:

كثير من العلماء كان منفتحًا على ذاته قادرًا على مصارحتها، فاعترف بوجود شهوة غالبة وعادة طاغية انتصر عليها بقوله، وعجز عنها في فعله، يظهر ذلك في تقريره لحكم شرعي فقهي بأدلته، ثم الاعتراف أمام الملأ بأنه يقع في خلاف ما يقرر لسبب أو لآخر، وهذا ما يسمى بالانفتاح الذاتي.

إن الانفتاح على الذات والتصالح معها ليس بهذه السهولة التي يمكن لكل أحد أن يدعيها لأسباب عدة من أهمها:

  1. وقعه الشديد على النفس خاصة كلما كان التناقض بين الرغبة والاختيار العقلي صارخًا.
  2. أن بعض هذا التناقض خفي جدًا ويمر عبر مسارب نفسية لا يكاد يشعر الفقيه بها.
٢الأنا والهُو:

الهُو: هو المنطقة التي تختزن عالم الرغبات والشهوات وما تطلبه النفس من غرائز طبيعية وهو منطقة لاشعورية تعمل على مبدأ جلب اللذة ودفع الألم.

أما الأنا: فهي منطقة تلعب الدور المنظم بين (الأنا العليا) و(الهُو)، فهي تقبل بعض طلبات (الهُو) لكن وفق رؤية اجتماعية مقبولة، ويعتبر مركز الشعور، ولذلك غالبًا ما تكون واعية وواقعية.

أما الأنا العليا: فهي منطقة واعية جزئيًا، تشكِّل الضمير الأخلاقي والوازع، وهي صورة الشخصية في تحفّظها وعقلانيتها المتناهية، لذلك فهي مثالية وتتجه للكمال، وتتشكل عبر التربية والتنشئة الاجتماعية التي يتلقاها الفرد من مجتمعه.

إن الأنا العليا ومدى قوتها وتنشئتها ومثاليتها قد تفسر لنا مثلًا اختيار الفقهاء لقاعدة (سدِّ الذرائع) على (فتح الذَّرائع)، وتفسر أيضًا نزوع بعض الفقهاء إلى القول بالأحوط والإكثار منه في فتاواه، بينما يرى آخرون أن الأحوط ترك الأحوط، ويفسِّر توقف بعض الفقهاء في مسألة معينة لأنه يرى خفاء الدليل فيها، بينما تكون في حقيقتها تعارضات بين المناطق الثلاثة وعدم الشعور بالارتياح النفسي في ذلك.

فالفقهاء كغيرهم من البشر مرّوا بتنشئة اجتماعية معينة زودتهم بكثير من القِيم والأخلاق والأفكار وهي تتفاوت من بيئة لأخرى.

النمط الشخصي يؤثر على صاحبه في اختيار وترجيح قول دون آخر وارتياحه له؛ لأنه ألصق بطبيعته النفسية، وليس هذا من قبيل الهوى والتشهي، بل هو أثر قد لا يدركه الفقيه

٣أنماط الشخصية:

يلعب الشعور واللاشعور والعلاقات الديناميكية القائمة بينهما عبر الأقسام الثلاثة السابقة دورًا كبيرًا في تشكيل نمط الشخصية، بالإضافة إلى العامل الوراثي الذي يرى بعض العلماء أنّ له إسهامًا لا يُستهان به في تشكيل نمط الشخصية من انطوائية وانبساطية وعدوانية وخجولة… إلخ.

فالنمط الشخصي يؤثر على صاحبه في اختيار وترجيح قول دون آخر وارتياحه له؛ لأنه ألصق بطبيعته النفسية، وليس هذا من قبيل الهوى والتشهي، بل هو أثر قد لا يدركه الفقيه، لذا نجد الشخصيات ذات النمط المتشدد الحاسم تميل تلقائيًا إلى الأقوال والآراء التي تتسم بالشدة والاحتياط والتحفظ؛ لتناسبها مع طبيعتها النفسية، والعكس صحيح.

وقد تحدث ابن القيم في زاد المعاد عن رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر، فقال: «وكذلك كان هذان الصاحبان الإمامان أحدهما يميل إلى التَّشديد والآخر إلى التَّرخيص، وذلك في غير مسألة»([6]).

وهذا ليس من باب الهوى أو الشهوة بل كان قائمًا على الدليل وطلب الحق، فعبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يسلك طريق التَّشديد والاحتياط، أما ابن عباس رضي الله عنهما فكان شخصية مبادرة، عالمًا بالتأويل والفقه والشعر والأنساب، ولم يكن يكتفي بمصدر واحد للمعرفة بل ينوّع في أخذها من مصادر متعددة، أما شخصية ابن عمر رضي الله عنهما فقد كانت شخصية نزّاعة إلى الزهد والورع والأخذ بالأحوط والرضا بالقليل، وكانت شخصية مجبولة على الاتباع والتقيُّد بظاهر النصوص والمبالغة في الاقتداء، واجتناب ما يعكّر صفوَ خلوته بالله وحبه له وإقباله عليه، وهذا التباين في الطبيعتين النفسيتين للإمامين العالمين رضي الله عنهما يتّضح بجلاء في طريقة تعاطيهما مع الفتوى.

٤الفكر والسلوك:

العلاقة بين الفكر والسلوك علاقة تبادلية ويؤثر كل واحد منهما في الآخر ويسهم في تكوينه؛ فالممارسات السلوكية تكون أفكارًا لتوجد لها مساحة جديدة في العقل البشري، والممارسة المتكررة للسلوك تولّد رغبة في إيجاد مبرر فكري ومخرج منطقي لهذا السلوك، وهذا يفسر تحول الفقيه بسبب ممارسته السلوكية الجديدة من قول متشدد إلى قول متساهل أو العكس؛ ليس لترجيح علمي بالدرجة الأولى، بل لأن السلوك المتكرر دفعه لتغيير الرأي ليتناسق مع سلوكه وفكره.

ثانيًا: حجاب العادة:

تتداخل العادات وتترابط رغم تنوعها، وتشكِّل منظومة متكاملة يصعب اختراقها، وتؤثر مباشرة في طرق التعليم وأساليبه، كما تؤثر بطريقة غير مباشرة فيما تُكسبه للأفراد من صفات تجعلهم أكثر تكيفًا مع مجتمعاتهم، بحيث يتلقَّون كثيرًا من الأفكار الشائعة بالتسليم والقبول، وإشكالية العادات تكمن في عدة مستويات منها:

  • تلقّي الفقيه لنمط معين من التعليم وطرائق الفهم والاستيعاب.
  • تعامل الفقيه مع العادات لتحرير اعتبار المعتَبر وإلغاء الملغى (فالعادة محكّمة).
  • اختلاف المصلحة والمنفعة من مكان إلى آخر.

فقد قدّم إمام دار الهجرة وعيًا في غاية الأهمية في نشوء المذاهب الفقهية حينما رفض ما أراده أبو جعفر المنصور من حمل الناس على الموطأ، خشية أن يصنع كتابًا يُحمل الناس عليه قسرًا وكرهًا، وهم قد اعتادوا العمل بما سبق إليهم من أقوال وأحكام، فقال له الإمام مالك: «لا تفعل، فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل وسمعوا أحاديث وروايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به ودالوا له من اختلاف أصحاب رسول الله ﷺ وغيرهم، وإنّ ردهم عما اعتقدوا شديد، فَدَع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم»([7]).

ثالثًا: حجاب البيئة:

البيئة هي الإطار الذي يعيش فيه الإنسان ويحصل منه على مقومات حياته من غذاء وكساء، ويمارس فيه علاقاته وصِلاته، فحياة الإنسان تجري داخل ظرف زماني ومكاني، والظرف المكاني يمكن أن يسمى: (بيئة الإنسان)، وقد كان من تقدير الله تعالى أن جعل هذه البيئات متباينة ومتنوعة شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، فللبيئة أثرٌ كبير وواضح على الإنسان، ويُعتبر ابن خلدون من أوائل من أشار إلى هذا التأثير في مقدمته الشهيرة حيث تحدث عنه في أكثر من موضع.

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (الفخر والخُيلاء في الفَدَّادِين أهلِ الوبر، والسكينة في أهل الغنم، والإيمان يمان، والحكمة يمانية)([8]).

فهذا الحديث يميّز بين بيئتين مختلفتين في تكوينهما وفي أخلاق من يعيش فيهما، فالأولى بيئة أهل الإبل الصحراوية، والأخرى بيئة أهل الغنم الجبلية، والشاهد هو كون البيئة الطبيعية لها أثر كبير في تشكيل وعي الفقهاء وطريقتهم في التعاطي مع النصوص بما أكسبتهم البيئة من لين أو قسوة وطبعته على سلوكهم كأفراد يتفاعلون مع هذه البيئات.

ويمكننا أن نتساءل: ألا يمكن أن تكون البيئات شكَّلت مع عوامل أخرى المذاهب الفقهية وأصولها وطرائق استدلالها؟

وللإجابة عن هذا التساؤل فلا شكّ أن دراسة البيئة الجغرافية للمجتمع الفقهي قد يكشف لنا علاقة هذه البيئة بخطابها الفقهي من حيث تناولها لمسائل دون أخرى، واهتمامها بقضايا دون غيرها بسبب ملابساتها الجغرافية لها في بيئتها.

بعض المذاهب والأفكار نشأت في ظروف استبدادية، أو سَمح ومهد لها الاستبداد واستفاد منها؛ فالإرجاء مثلًا والذي كان يسمى (دين الملوك) إنما نشأ في ظل القهر وحالة الإحباط التي أصيبت بها الأمة

رابعًا: حجاب الاستبداد:

الاستبداد: هو الانفراد بأمور الأمّة والتسلط عليها وقهرها وظلمها سياسيًا واقتصاديًا ودينيًا، بغضّ النظر عن قدر هذا الظلم والقهر ونوعه وطبيعته.

ومن مهمة الاستبداد في هذه الظروف أن يقدّم تعليمًا قادرًا على إنتاج أفراد وعلماء ومفكرين مُقَولبين لا يخرجون عن النسق السائد، ولا يمكنهم الرؤية إلا من خلال ما تسمح به مساحة الاستبداد، وهذا يعني أن تُصاغ أهداف التعليم والتربية على تقديس السلطة والتسليم لها، كالمفاهيم التي تتعلق بالسمع والطاعة والغلو فيها، وحق ولي الأمر… إلخ.

والعجيب أن بعضًا من المذاهب والأفكار نشأت في ظروف استبدادية، أو سَمح ومهد لها الاستبداد واستفاد منها؛ فالإرجاء مثلًا والذي كان يسمى (دين الملوك) إنما نشأ في ظل القهر وحالة الإحباط التي أصيبت بها الأمة.

المشكلة الكبرى التي يصنعها الاستبداد أنه يشوّه الواقع ويحوله إلى صورة غير طبيعية وغير صحيحة، فهو من خلال الإعلام المسيّس يعمد إلى أساليب مُلتوية ومتلونة تتفنَّن في صناعة أزمات فكرية، ويعمل على تخويف الناس على أمنهم وإيمانهم وحياتهم، وكم من العلم دُفن وتوارى بسبب هذا الاستبداد، ومن قرأ التاريخ الإسلامي ورأى ما عاناه العلماء من مشقة كلماتهم وفتاواهم، عرف الحجم الكبير الذي تشكّله البيئة الاستبدادية على فكر الفقيه ورؤيته، وكيف أن كثيرًا من القضايا يكون ظاهرها الفقه والعقيدة وباطنها رؤية سياسية تسيرها في الاتجاه المراد.

ختامًا: كشف الحُجُب نحو رؤية فقهية واسعة:

أولًا: نتائج ما قبل الحجاب:

حتى يظلّ الفقه حيًا في حياة الناس وعقولهم لا بد من الإشارة لبعض المقترحات التي تسهم في بناء العقل الفقهي:

  • التأكيد على مكانة العلماء الكبيرة من جهة، وبشريتهم من جهة أخرى.
  • الفقهاء كغيرهم من البشر يخضعون للعوامل النفسية والوراثية والطبيعية والاجتماعية.
  • الفقهاء يختلفون فيما بينهم في سِماتهم وطبائعهم وأنماطهم التي جبلوا عليها، وكل واحد منهم يميل بحكم طبيعته إلى ما يوافق هذه الطبيعة من الآراء والمذاهب في غالب أمره.
  • البيئة التي يعيشها الفقيه بأصنافها الثلاثة: الطبيعة الجغرافية والاجتماعية والثقافية تطبع كثيرًا من سماتها في نفس الفقيه وفكره وسلوكه، وذلك مؤثّر لا محالة على فقهه واختياره وترجيحه.

ثانيًا: توصيات كشف الحجاب:

لعلها تسهم بشكل أو بآخر في إزاحة هذه الحُجُب وتقدم للفقيه شيئًا يستعين به في كشفها، ومنها:

  1. الاتصال بالله تعالى: فهي طريقة أخذها أهل العلم من رسولهم الأكرم ﷺ الذي كان يَسأل الله في قيام ليله أن يوفّقه لما اختُلف فيه من الحق بإذنه، وتناقلها العلماء يوصي بها بعضهم بعضًا، وفي هذا دلالة واضحة على هذه النفوس الشفافة التواقة للحق.
  2. مكاشفة ومصارحة الفقيه لنفسه وإدراكه الواعي لعيوبها: دون أن يكون في هذا الإدراك حرج أو خجل؛ فهذه المكاشفة هي التي تتيح له الغوص في أعماقها والدراية بخباياها والرجوع إلى الحق، وهو ليس بالأمر الهين إلا لمن كان يُدرك كيف يتعامل مع نفسه بصدق ووضوح.
  3. التكوين الثقافي للفقيه، فالفقيه بحاجة إلى أن ينوّع مصادره على اتجاهين:
    – الأول: مستوى الفقه نفسه بالاطلاع على مصادر متنوعة فيه؛ فهذا الثراء هو الذي يقوي ملكته الفقهية ويمنحه أبعادًا لم يكن يعلم بها من قبل.
    – الآخر: الاطلاع الجيد والإلمام بما يعينه من العلوم بأنواعها؛ لأن الفقه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بواقع الناس ومعاشهم وتنزيل الأحكام الشرعية على هذا الواقع، ومعرفته بواقع الناس وماهم فيه وطبائعهم وأخلاقهم من الأمور التي تعينه على تحري الصواب.
  4. احتكاك الفقيه بالعلماء والفقهاء بتنوع مدارسهم ومذاهبهم ومناظرتهم واطلاعه على أقوالهم يكسبه ما لا يمكن حصره من الفوائد التي قد يعذرهم بها فيما قالوا، أو يكتشف فيها أمرًا كان غائبًا عنه في تناوله لقضية معينة.
  5. السفر والاطلاع على عادات الناس وتقاليدهم ورؤية ما هم عليه من أحوال، وهذا كفيل بتفتح عقله وتفريقه بين العادات والعبادات والتقاليد والدين والثابت والمتغير.
  6. الحذر من تشكُّل ذهنيّة الفقيه وفقًا لتأثره بشيخ أو عالم أو مذهب وانصهاره فيه، فهذا يؤدي إلى تعطيل القدرات العقلية عن النمو ويظل نموها محدودًا بحدود الشيخ أو المذهب، ولا يكاد يبصر الحق إلا من منظارهما، فإذا قوبل بقول آخر استنكره ونفر عنه لا لدليل وحجة بل لأن ذهنيته قد تبرمجت بطريقة لا تقبل غير ما غُذّيت به.

أ. أحمد بن أسامة حلاق

ماجستير في التفسير وعلوم القرآن، داعية وكاتب.


([1]) ويكيبيديا.

([2]) منهاج السنة النبوية، لابن تيمية (٤/٣٢٦).

([3]) أخرجه أحمد (٦٥١٠) وصححه أحمد شاكر.

([4]) البخاري (٧٣٥٢)، ومسلم (١٧١٦).

([5]) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (٢/٩٠١).

([6]) زاد المعاد، لابن القيم (٢/٤٢).

([7]) ترتيب المدارك وتقريب المسالك، للقاضي عياض (١/٦٠).

([8]) متفق عليه، أخرجه البخاري (٣٤٩٩)، ومسلم (٥٢).

ماجستير في التفسير وعلوم القرآن، مدير معهد الحِكمة في إسطنبول.
X