نظرات نقدية

كما تكونوا يولَّى عليكم… فقه التغيير بين الحاكم والمحكوم

صلاح المجتمعات ضرورة لا تستقيم حياة الناس دونها، ولا يستطيع المرء أن يحقق استخلاف الله له في الأرض إلا في مجتمع صالح يعينه على ذلك.
لذا فإن المطلوب ليس مجرد الصلاح الشخصي، وإنما المطلوب معه الإصلاح: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ ومن هنا كانت إقامة المجتمع المسلم ودولته، والقيام بالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم واجبات المسلمين، وفي هذا المقال حديث عن أحد أهم أجزاء المجتمع ألا وهم الرعية (الشعب)، وأثرهم في الإصلاح.

مدخل:

تتأثر المجتمعات في توجهاتها وسلوكها بالعديد من العوامل، من أهمها: شخصية الحكام القائمين عليها، لما في أيديهم من سلطة وقرار، وتبعية الناس لهم، فيكون أثرهم كبيرًا وعامًا، فإذا فسد هؤلاء الحكام كان ضررهم عظيمًا، لكن حصر فساد المجتمعات وتراجع الخير وانحسار الصلاح بالحكام وإخلاء مسؤولية المحكومين عنه نوع من التعامي عن رؤية الصورة كاملة، وتنصُّل من المسؤولية.

ولما كانت النفوسُ المظلومة تشتهي الحديث عن الظالمين، من حكامٍ مجرمين، أو أعداء متآمرين، وتنسى ظلمها لها ولغيرها؛ حسُن تذكيرها بنصيبها من تلك المسؤولية التي ستحاسب عليها وتُسأل عنها، قال تعالى لِخِيَارِ الخَلق بعد النبيين صحابةِ النبي ﷺ: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٦٥]، بل قال مخاطبًا نبيه وصفيه محمدًا ﷺ: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء: ٧٩]، وقال مخاطبًا الخلق كلهم: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: ٣٠].

والمقصود بالسيئة في الآيات السابقة: ما يسوء الإنسان من المصائب، فكلُّ مصيبةٍ وسيئة، صغيرةً كانت أو كبيرةً، من فقرٍ وجوع وذلّ وظلمٍ وتشريدٍ وسجون وقهر واحتلال، وغير ذلك حتى ما يكون من الفساد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والبيئي، إنما هو بسبب من الناس حكامًا ومحكومين، كما قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: ٤١].

وفي هذا المقال سنخصص الحديث عن المسؤولية الملقاة على الشعوب وعامة الناس؛ تنبيهًا على أثرهم الكبير والخطير على الدولة والمجتمع، وقدراتهم في الإصلاح والتغيير.

جملة «كما تكونوا يولَّ عليكم »، حكمةٌ سلطانيةٌ اجتماعيةٌ ثابتة بالاستقراء التاريخي؛ فالملوكُ والرؤساءُ والأمراءُ والمديرون صورةٌ وانعكاسٌ لما عليه المجتمع.

كلام أهل العلم حول كلمة «كما تكونوا يولَّى عليكم»:

شاع تداول جملة «كما تكونوا يولَّى عليكم»، وهي حكمةٌ سلطانيةٌ اجتماعيةٌ ثابتة بالاستقراء التاريخي؛ فالملوكُ والرؤساءُ والأمراءُ والمديرون صورةٌ وانعكاسٌ لما عليه المجتمع، وهذه الجملة لها علاقة بسنة كونية غفل عنها كثيرٌ من المسلمين فضلًا عن الكافرين، وهي: «أن ما أصابنا إنما هو بسبب منا؛ ذنوبنا وتقصيرنا في جنب الله»، وقد ذكرها أهل العلم وتواتر كلامهم فيها قديمًا وحديثًا، منذ زمن الصحابة وتابعيهم أجمعين.

ومن ذلك: ما ذكروه في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: ١٢٩]، فقد ورد في إحدى تفسيراتها:

  1. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: «هو أنّ الله تعالى إذا أراد بقوم خيرًا ولّى أمرهم خيارهم، وإذا أراد بقوم شرًّا ولّى أمرهم شرارهم»[1].
  2. وعن منصور بن أبي الأسود، قال: سألت الأعمش (المتوفى: ١٤٧هـ) عن قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا﴾، ما سمعتَهم يقولون فيه؟ قال: «سمعتُهم يقولون إذا فسد الناس أُمِّرَ عليهم شرارُهم»[2].
  3. وقال أبو الليث السمرقندي (المتوفى: ٣٧٣هـ): «ويقال: نسلّطُ بعض الظالمين بعضًا فيهلكه ويذلّه. وهذا كلامٌ لتهديد الظالم لكي يمتنع عن ظلمه، لأنه لو لم يمتنع يسلط الله عليه ظالمًا آخر، ويدخل في الآية جميع من يظلم، ومن ظلم في رعيته، أو التاجر يظلم الناس في تجارته، أو السارق وغيرهم»[3].
  4. وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي (المتوفى: ٥٢٠هـ): «لم أزل أسمع الناس يقولون: «أعمالُكم عمّالُكم، كما تكونوا يولَّى عليكم»، إلى أن ظفرتُ بهذا المعنى في القرآن؛ قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً﴾ [الأنعام: ١٢٩]، وكان يقال: ما أنكرتَ من زمانك فإنما أفسدَه عليك عملُك»[4].
  5. وقال فخر الدين الرازي (المتوفى: ٦٠٦هـ): «الآية تدلُّ على أنَّ الرعية متى كانوا ظالمين فالله تعالى يسلّط عليهم ظالمًا مثلهم، فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم»[5].
  6. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (المتوفى: ٧٢٨هـ): «وقد ذكرت في غير هذا الموضع أن مصير الأمر إلى الملوك ونوابهم من الولاة والقضاة والأمراء؛ ليس لنقص فيهم فقط، بل لنقص في الراعي والرعية جميعًا؛ فإنه «كما تكونوا يولّى عليكم» وقد قال الله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا﴾»[6].
  7. وممن بيّن هذه القاعدة العلامة ابن قيم الجوزية (المتوفى: ٧٥١هـ) في كتابه الماتع «مفتاح دار السعادة»، حيث استفاض في الكلام على حكمة الله في أفعاله وأقواله، قال رحمه الله: «وتأمّل حكمته تعالى في أنْ جعل ملوك العباد وأمراءَهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأنَّ أعمالهم ظهرت في صور وُلاتهم وملوكهم؛ فإن استقاموا استقامت ملوكهم، وإن عَدلوا عَدلوا عليهم، وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم، وإن ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك، وإن منعوا حقوقَ الله لديهم وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق وبخلوا بها عليهم، وإن أخذوا ممن يستضعفونه ما لا يستحقونه في معاملتهم أخَذت منهم الملوك ما لا يستحقونه وضَربت عليهم المكوس والوظائف، وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة؛ فعُمَّالهم ظهرت في صور أعمالهم، وليس في الحكمة الإلهية أن يولِّي على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم.
    ولما كان الصدر الأول خيارَ القرون وأبرَّها كانت ولاتهم كذلك، فلما شابوا شابت لهم الولاة، فحكمة الله تأبى أن يولي علينا في مثل هذه الأزمان مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز، فضلًا عن مثل أبي بكر وعمر، بل ولاتنا على قدرنا، وولاة من قبلنا على قدرهم، وكل من الأمرين موجب الحكمة ومقتضاها، ومن له فطنة إذا سافر بفكره في هذا الباب رأى الحكمة الإلهية سائرة في القضاء والقدر، ظاهرة وباطنة فيه، كما في الخلق والأمر سواء»[7].
  8. وقال العلامة السعدي (المتوفى: ١٣٧٦هـ): «كذلك من سنتنا أن نولي كل ظالم ظالمًا مثله، يؤزه إلى الشر ويحثه عليه، ويزهده في الخير وينفره عنه، وذلك من عقوبات الله العظيمة الشنيع أثرها، البليغ خطرها.
    والذنب ذنب الظالم، فهو الذي أدخل الضرر على نفسه، وعلى نفسه جنى ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ ومن ذلك، أن العباد إذا كثر ظلمهم وفسادهم ومنْعهم الحقوق الواجبة، ولَّى عليهم ظلمة، يسومونهم سوء العذاب، ويأخذون منهم بالظلم والجور أضعاف ما منعوا من حقوق الله وحقوق عباده، على وجه غير مأجورين فيه ولا محتسبين.
    كما أن العباد إذا صلحوا واستقاموا، أصلح الله رعاتهم، وجعلهم أئمة عدل وإنصاف، لا ولاة ظلم واعتساف»[8].

إذا كان الحكّامُ أكثرَ امتلاكًا للقوة الخشنة في التغيير، فإنَّ الشعوب أملك للقوة الناعمة في التغيير، وهذه القوة تبدأ من الفرد في عقيدته وعبادته وسلوكه ومعاملاته

تأثير المحكومين في التغيير:

إذا كان الحكّامُ أكثرَ امتلاكًا للقوة الخشنة في التغيير، فإنَّ الشعوب أملك للقوة الناعمة في التغيير، وهذه القوة تبدأ من الفرد في عقيدته وعبادته وسلوكه ومعاملاته في أسرته وجيرانه وفي مسجده وفي بلده، حتى يعم العالم كله، والعالم دول، والدول قرى ومدن، وتلك جماعات، حتى تعود إلى أسها وأساسها وهم الأفراد.

فالشعوب تملك مساحات كبيرة للتغيير، لكنها – للأسف – لا تعمل للتغيير في ساحتها المقدور عليها، وقد يتعذر بعضهم بالحكام الطغاة في منع التغيير! فيقال له: نتكلم عن المساحات المقدور عليها، وهناك قاعدة تقول: «الميسور لا يسقط بالمعسور»، فنفعل الميسور وبذلك نوسع مساحة الخير، فييسر الله لنا المعسور، ولكن أن نترك ساحة الميسور بحجة المعسور، أو أن نقتحم ساحة المعسور مع تركنا للميسور؛ فهذا يقدح في العقل وفي الإخلاص، فلا المعسور حققنا، ولا للميسور فعلنا.

وإذا كنا نُحمّل الحكّام تبعة الأنظمة المخالفة للشرع وفرضها على الناس، ولكن ما بال الأنظمة الشرعية والمباحة غير المخالفة التي تحقق المصالح وتدفع المفاسد، يخالفها العديد من الناس ولا يلتزمون بها؟![9].

فانظر على سبيل المثال نظام المرور، ثم انظر إلى أخلاقيات الناس وآدابها في التعامل مع هذا النظام، ستجدُ عجبًا، ويضيق صدرك عندما تسوق في شوارع المسلمين في كثير من البلدان الإسلامية، ولولا وجود المخالفات والعقوبات لوجدت العجب العجاب، وقس على ذلك باقي معاملات الناس.

بل من عجيب الأمور أن يكون للرعية أثر سلبي على ولاة الأمور، فإنه لما تولّى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ما استطاع أن يُغير كثيرًا من الأمور؛ خشية نفرة الرعية، وممن أردَته رعيته إلى القاع هرقل عظيم الروم، عندما أراد لهم الإسلام حاصوا كما تحوص الحُمُر ورضخ لرغباتهم، بعد أن أضله الله على علم.

ومثل ذلك النجاشي لما أسلم أخفى إيمانه خشية الرعية، وفي العصر الحديث كم رئيس ووزير وصل إلى القمة ولم يقدر على التغيير.

فالشعوب لهم مساحة كبرى في إصلاح الحال أو إفساده، ولهم الأثر الكبير في النقص والزيادة.

وإن البعض قد عطَّل بشعار «إصلاح الحكومات أولًا» كثيرًا من الإصلاح الشعبي، وزرع اليأس والأشواك أمام محاولات الإصلاح الإداري والاجتماعي والاقتصادي والتعليمي، مع أننا بحاجة ماسّة إلى إصلاحات كبيرة في هذه المجالات.

وإنَّ كثيرًا من إفساد الحكام وطغيانهم لن يجد صداه في الأمة، حتى تكون القابلية لذلك، فلولا القابلية لما كان هناك أثر، فالشعوب عندما تكون كالإسفنجة تمتص كل ما تلامس ستكون مثقلة بما تمتص، بخلاف الصخرة الصلدة التي تتكسر عليها رماح الفساد والإفساد، وقد بين الله ذلك في فرعون وقومه عندما قال: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [الزخرف: ٥٤].

من الإصلاح المنوط بالشعوب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

من أعظم خصائص هذه الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحسبة على المخالف، قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَونَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [آل عمران: ١١٠]، وإن من أنواع الحسبة: الحسبة على الحكام، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر؛ فالسكوت على الظالم من أسباب تعجيل العقوبات، فعن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (إنَّ الناس إذا رأوا الظالمَ فلم يأخذوا على يديه أوشكَ أن يعمهم الله بعقاب منه)[10]، وعن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (والذي نفسِي بيده لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشِكنَّ أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم)[11].

وقد أمر النبي ﷺ بمناصحة ولاة الأمر عندما قال: (الدِّينُ النصيحة، قلنا: لمَنْ يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين وعامَّتهم)[12].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ: (إنّ الله كَرِہ لكم ثلاثًا، ورَضي لكم ثلاثًا: رضي لكم أن تعبدوه ولا تشركوا شيئًا، وأن تعتصموا بحبلِ الله جميعًا، وأن تنصحوا لولاةِ الأمر، وكره لكم قِيلَ وقَال، وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال)[13].

ترك الاحتساب على ظلم الحاكم وتقصير الأمة في محاسبة الحكام بمناصحتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر سبب في زيادة الظلم والاستبداد والضلال في المجتمع

بل إن الإسلام قد جعل الاحتساب على الحاكم من أفضل الجهاد، سأل رجلٌ النبيَّ ﷺ: أي الجهاد أفضل؟ قال: (كلمةُ حقِّ عند سلطانٍ جائر)[14]، وجعل من يُقتل في ذلك من سادة الشهداء، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (سيِّد الشهداء حمزة، ورجلٌ قامَ إلى إمامٍ جائرٍ، فأمره ونهاه فقتله)[15].

وإن ترك الاحتساب على ظلم الحاكم وتقصير الأمة في محاسبة الحكام بمناصحتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر سبب في زيادة الظلم والاستبداد والضلال في المجتمع، ويُفضي إلى جرأة أهل الباطل وضعف أهل الحق، مما يُؤذن بنزول غضب الله تعالى ومقته، روى الطبراني عن العرس بن عميرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إنَّ الله تعالى لا يُعذب العامَّة بعمل الخاصَّة حتى تعمل الخاصَّة بعمل تقدِر العامة أن تغيره، ولا تغيره، فذاك حين يأذن الله في هلاك العامة والخاصة)[16]. فهل يعني هذا أن الحكام معذورون أو لا لوم عليهم ولا مسؤولية؟!

أثر الحاكم في المحكومين وفي تغيير الواقع:

ليس معنى ما سبق أن الظالمين المتسلطين من حكام وغيرهم معذورون ولا لوم عليهم، بل هم محاسبون على أعمالهم، وهم مسؤولون عن رعيتهم وحسابهم عريضٌ وشديدٌ، ولن ينجيهم يوم القيامة إلا العدل.

ومما يدل على تأثير الحكام قول عثمان بن عفان رضي الله عنه: (إنَّ الله يَزَعُ بالسلطانِ ما لا يَزَعُ بالقرآن)[17].

قال ابن كثير: «أي: ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام، ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن، وما فيه من الوعيد الأكيد، والتهديد الشديد، وهذا هو الواقع»[18].

قال سفيان الثوري: «صِنفان من الناس إذا صلُحا صلح الناس: القُرَّاء والأمراء»[19].

وقال المناوي: «فبصلاحهما صلاحُ الناس، وبفسادهما فسادُ الناس، فالعالم يقتدي الناس به في أفعاله وأقواله، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، والأمير يحمل الناس على ما يصلحهم أو يفسدهم، ولا يمكن مخالفته»[20].

ولا شك أنَّ في استقامة الحكام أثرًا في استقامة الشعوب، وفي فسادِهم فسادًا لهم، ففي صحيح البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه في حديثه للأحْمَسيَّة لما سألته: ما بقاؤُنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: «بقاؤكُم عليه ما استقامَت بكم أئمتكم»[21].

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنَّ الناسَ لم يزالوا مُستقيمين ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم»[22].

وذنوب الولاة لها أثر في الأمة، ففي الحديث: «يا معشر المهاجرين! خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تُدركوهن… وفيه: وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيَّروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسَهم بينهم»[23].

قال ابن القيم: «وأصل فساد العالم إنّما هو من اختلاف الملوك والخلفاء. ولهذا لم يطمع أعداء الإِسلام فيه في زمن من الأزمنة إلا في زمن تعدّد ملوك المسلمين واختلافهم وانفراد كل منهم ببلاد، وطلب بعضهم العلوّ على بعض»[24].

ليس في الحديث عن مسؤولية الشعوب عن الفساد أن الحكام معذورون، بل مسؤوليتهم أشدّ وحسابهم أكبر

وفي الختام:

ينبغي أن نعلم علم اليقين أنَّ أمور الخلق كلّها بيد الله رب العالمين، بيده الخير وإليه ترجع الأمور، وهو على كل شيء قدير، وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ تغيير أمور الناس من الشر إلى الخير وبالعكس هو بيد الله من بعد أن يغير الناس ما بأنفسهم، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: ٥٣]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد: ١١].

ولا يمكن السير في طريق التغيير المنشود إلا من خلال التشخيص الصحيح للواقع بإعمال التحليل الشرعي الذي جاء في القرآن، وذلك بمعرفة سنن الله في خلقه، والتي دلت على أن ما أصابنا إنما هو بأيدينا، وليس بأيدي أعدائنا.

وتغيير الواقع ليس مقصورًا على جماعةٍ دون جماعة، بل هو مسؤولية الجميع حكامًا ومحكومين، كلٌّ يقوم بواجبه وبما يقدر عليه، فإن الله سبحانه لم يخص التغيير بل عمم وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١].

والعلاقةُ بين الحاكم والمحكوم علاقةُ تأثرٍ وتأثير، والنقصُ في الأمة يأتي من كليهما، وإنَّ الله من عادته أن يُسَلّط الظالمَ على الظالم، ويُسلط على بعض الأمة من يُذلها من أعدائها؛ إذا انحرفت عن الجادة، ولا يلزم أن يكون المُسَلَّطُ أفضل عند الله من المُسَلَّطِ عليه.

ومن أعظم البيان والتفصيل في هذا المفهوم قول النبي ﷺ: (إذا تَبَايعتُم بِالعِينَة، وأخذتم أذنابَ البقر، ورَضيتُم بالزَّرع، وتركتم الجهادَ، سلَّط الله عليكم ذلًا لا ينزِعه حتى ترجعوا إلى دينكم)[25].


أ. فايز الصلاح

ماجستير في الشريعة، باحث متخصص في الدراسات الشرعية، عضو مجلس الإفتاء في المجلس الإسلامي السوري.


[1] موسوعة التفسير بالمأثور، لمساعد الطيار (٨/٦٠٨).

[2] أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (٥/ ٥٠).

[3] بحر العلوم، للسمرقندي (١/ ٤٨٢).

[4] سراج الملوك، للطرطوشي ص (٩٤).

[5] مفاتيح الغيب، للرازي (١٣/ ١٥٠).

[6] مجموع الفتاوى، لابن تيمية (٣٥/ ٢٠).

[7] مفتاح دار السعادة، لابن القيم (٢/ ٧٢١-٧٢٣).

[8] تيسير الكريم الرحمن، للسعدي (١/ ٢٧٣).

[9] بل يوجد فريق من الناس يقول: لا ألتزم بالإسلام إلا إن ظهرت دولة الإسلام، أو التزم الحكام بأحكام الشريعة. وجهل هؤلاء أن قيامهم بأمور الدين واجب عليهم، ومسؤولون عن عمله ومحاسبون على تركه، بغض النظر عن غيرهم من الحكام والمحكومين، وأن وقوع غيرهم في الحرام وترك الواجبات ليس مبررًا لهم ليفعلوا ذلك، لما أخبر النبي ﷺ عن فساد حكام آخر الزمان سأله الصحابة الكرام: (يا رسولَ الله فما تأمُرنا؟ قال: تؤدُّون الحقَّ الذي عليكم، وتسألونَ الله الذي لكم) أخرجه البخاري (٣٦٠٣).

[10] أخرجه أحمد (١/٥ رقم ١٦) بإسناد صحيح.

[11] أخرجه أحمد (٥/٣٨٨، رقم ٢٣٣٤٩)، والترمذي (٤/٤٦٨، رقم ٢١٦٩) وقال: حسن.

[12] أخرجه مسلم (١/٧٤، رقم ٥٥).

[13] أخرجه أحمد (٨٣٣٤).

[14] أخرجه النسائي (٤٢٠٩).

[15] أخرجه الحاكم في المستدرك (٤٨٨٤).

[16] أخرجه الطبراني في الكبير (١٧/١٣٨، رقم٣٤٣)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (٢٦٨/٧): «رجاله ثقات».

[17] أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (١/ ١١٨) بسنده عن مالك أنَّ عثمان.. بنحوه. والخطيب في التاريخ (٤/ ٣٢٩) عن عمر بن الخطاب.

[18] تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (٥/ ١١١).

[19] المجالسة وجواهر العلم، للدينوري (٢/ ٣٠٨).

[20] فيض القدير، للمناوي (٤/ ٢٠٩).

[21] أخرجه البخاري (٥/ ٤١ رقم ٣٨٣٤).

[22] أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (٣/ ٢٧٢ رقم ٣٨٧٤).

[23] أخرجه ابن ماجه (٢/١٣٣٢، رقم ٤٠١٩)، والحاكم (٤/٥٨٣، رقم ٨٦٢٣) وقال: صحيح الإسناد.

[24] الداء والدواء، لابن القيم (١/ ٤٧١).

[25] أخرجه أبو داود (٣/٤٧٤، رقم:٣٤٦٢) وأحمد (٢/٤٢) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

X