دعوة

الصراع بين تبكير الزواج وتأجيله

ينشر الفكر النسوي خطابًا يزعم فيه أن الزواج المبكر تقييد لحرية المرأة ومنع من بناء نفسها علميًا ومهنيًا، وأن عليها أن تحقِّق ذاتَها وتأخذ حظَّها من الحياة قبل هذا التقييد، وينتشر هذا الخطاب في مختلف الأوساط الاجتماعية والإعلامية والفكرية. وفي هذا المقال نقاشٌ علمي لصحة هذا الخطاب، مدعمًا بالدراسات والحقائق العلمية.

انتشرت في أوساط النساء رؤيةٌ مفادُها أن للمرأة حقًّا مفروضًا في “فترة عزوبية” تتيح لها تحصيل “الثلاثية النسوية” قبل التقوقع في قفص الزواج: الشهادة والكارير (المسار المهني) والنشور (السعي والانتشار) في الأرض (تحت شعار “رؤية الدنيا أو العالم”). ونظرًا إلى أن هذه الثلاثة لا تكتمل للفرد عامة –رجلاً أو امرأة– وتبلغ نضجها إلا بحلول الثلاثينيات في “أسرع” تقدير، غلب على التقدير النسوي وحتى العرفي السائد أن الزواج فيما بين سن البلوغ حتى أوائل العشرينيات خطر، وفيما بعد حتى بداية الثلاثينيات معيب، من حيث علو احتمال تعطيله للمرأة خاصة عن تحقيق ذاتها بتملك تلك الثلاثية!

وفيما يأتي تفنيد لأوهام ومحاذير كامنة في هذه الرؤية:

–      أثر الخطاب النسوي في ترويج وهم “جمع المحاسن” بين النساء:

على مدى عقود من الخطاب النسوي المبثوث في مختلف الأوساط المعرفية وعبر مختلف الوسائط، انتشر وسط النساء وهمان أساسيّان تزهد بسببهما النساء في مجرد التفكير في الزواج “مبكّرًا”، وهما: “ما يزال أمامي متسع من الوقتI still have time “، “يمكنني أن أكون ما أشاء I can be anything”. ومع أن التصدّي لهذين الوهمين بدأ منذ أمد وتنامى في الغرب، إلا أن فتياتنا ما يزلن أسيرات له بسبب ثقافة سطحية وأفهام مغلوطة واغترار بفورة الشباب، فصارت البنت تتخوّف مما سيفوتها من الدنيا إذا تزوّجت مبكّرًا، ولا يخطر لها أدنى هاجس بشأن ما يفوتها من طاقة الزوجية والإنجاب إذا انخرطت في الدنيا مبكّرًا!

وبعد مطالعة عدد من المواد([1]) في مسألة “الأضرار الواقعية” المترتبة على الزواج في سنّ متأخرة (بدءًا من 30 فما فوق) فالإجماع متحقق على ملاحظتين: الأولى أن للأمومة والإنجاب “عمرًا بيولوجيًّا” ثابتًا (وهذه بدهية متعلقة بطبيعة خِلقة المرأة وغاية خلقها)، ولن يتطوّع بانسيابية ليوافق تقويمها الشخصي ريثما تحقق ذاتًا أو تفرغ من بناء مسيرة. ثم الحقيقة الثانية والمترتبة على ذلك هي أن النسوية التي أقنعت المرأة بأنها يمكن أن تكون أي شيء تريد أن تكونه (وقد ثبت بُطلان هذا) أخفت عنها أنها لا يمكن أن تكون “كل” شيء، وأنها في سعيها للتألق في شيء تضحي في سبيله بأشياء.

وفيما يلي مقتطفات اخترت عرضها من إحدى الدراسات، التي وإن كان تاريخها قديمًا (أبريل 2002)، إلا أن اللافت أنه منذ وقت نشرها إلى اليوم تظل نفس المبادئ قائمة يزداد تعضيدها بالشواهد الحديثة، على عكس المتوقع. الدراسة نشرتها دوريّة هارفارد للبيزنيس، بعنوان: “المُديرات التنفيذيّات وخرافة الحصول على كل شيء”([2]). قامت الدراسة باستطلاعٍ لأعلى 10% من النساء ذوات الدخل العالي في مناصب إدارية، بالتركيز على فئتين عمريتين: الجيل الأكبر سنًّا، اللاتي تتراوح أعمارهن بين 41 إلى 55 عامًا، وقريناتهنَّ الأصغر سنًّا بين 28 إلى 40 عامًا. وشمل الاستطلاع النساء ذوات المؤهلات العالية اللاتي تركن مسيرتهن المهنية لأسباب عائلية في المقام الأول، وكذلك شملت عينة صغيرة من الرجال.

وجاء في الدراسة([3]):

  • “النتائج مذهلة ومثيرة للقلق؛ فهي توضح أن العديد من النساء وجدن ضغوطات المتطلبات القاسية للمهن العليا، وعدم التماثل في المهام بين الذكور والإناث [يعني يظل على المرأة غالب عبء العناية بالأطفال والمنزل]، فضلاً عن صعوبات إنجاب الأطفال في وقت متأخر من الحياة، كلها تتآمر على مزاحمة طاقة المرأة في إمكانية إنجاب الأطفال [أي لا يستطعن الجمع بين الإنجاب والمهنيّة بسهولة]. لكن عندما يتعلق الأمر بالمهنة والأبوة، فإن الرجال ذوي الإنجازات العالية لا يضطرون إلى التعامل مع مقايضات صعبة: 79% من الرجال الذين شملهم الاستطلاع أفادوا بأنهم يرغبون في إنجاب الأطفال، و75% منهم لديهم أطفال”.
  • “أظهرت الدراسة بشكل عام أنه كلما كان الرجل أكثر نجاحًا زاد احتمال عثوره على زوجة وصيرورته أبًا، وهذا على العكس بالنسبة للنساء، خاصة المتفوّقات مهنيًّا [إذ تقل فرص عثورهن على الشريك المناسب أو رغبة الرجال “العاديين” فيهن وبالتالي تقل فرص صيرورتهن أمهات]. فاتضح أن 49% من النساء الألمعيّات ليس لديهن أطفال، في مقابل 19% فقط من أقرانهن الذكور على نفس المستوى. هذه الأرقام تؤكد عمق ونطاق انعدام التساوي المستمر والمؤلم بين الجنسين في الميزان المهني؛ إذ تواجه النساء جميع التحديات التي يواجهها الرجال كالعمل لساعات طويلة وتحمل ضغوط الصعود أو الخروج من المهن الشاقة، ثم ينفردن بمواجهة التحديات الخاصة بجنسهن [المذكورة في البند السابق]”.
  • “تدفع النساء ثمنًا باهظًا مقابل ساعات العمل الطويلة لا يدفع مثله الرجال؛ لأن السنوات الأولى من بناء الحياة المهنية تتداخل بشكل شبه كامل مع السنوات الأخصب من عمر المرأة للإنجاب”.
  • “الفجوة المستمرة في الأجور بين الرجل والمرأة ترجع في المقام الأول إلى العقوبات التي تتعرض لها المرأة عندما تنقطع عن العمل من أجل إنجاب الأطفال…. لا يمكن أن يُعزَى سوى جزء صغير من هذه الفجوة في الأجور إلى التمييز على أساس الجنس. إلا أنه وفقًا للدراسات الحديثة يمكن الآن تفسير جزء كبير من فجوة الأجور بمسألة الإنجاب وتربية الأطفال، إذ هما ما يعطّلان الحياة المهنية للنساء دون الرجال، مما يؤدي إلى تقليص قدرتهن على الكسب بشكل دائم، بالتالي عندما تكون الفجوة بين ما يكسبه الرجال والنساء في بلد أوسع من أي مكان آخر، فهذا ليس لأن هذا البلد قصّر في مكافحة التمييز، بل لأنه فشل في تطوير السياسات التي تدعم الأمهات العاملات، سواء في بيئة العمل [غير المُعَدَّة للتوافق مع المرأة الأم بل مع المرأة العازبة] وفي المجتمع ككل”.
  • “تتمتع النساء المحترفات/ الناجحات بخيارات ضئيلة في قسم الزواج، خاصة مع تقدمهن في السن، إذ إن الرجال الناجحين عادة ما يسعون إلى الزواج من النساء الأصغر سنًّا [لا المماثلات كفاءة]! في حين يتحجّم اهتمام النساء الناجحات/ المحترفات في مجموعة متقلصة من أقرانهن الناجحين”.
  • “وفقًا لبيانات مكتب الإحصاء الأمريكي S. Census Bureau ، في سن 28 عامًا هناك أربعة رجال عازبين متعلمين جامعيًّا مقابل كل ثلاث نساء عازبات متعلمات جامعيًا. وبعد عقد من الزمان تغير الوضع جذريًّا، إذ في سن 38 عامًا هناك رجل واحد لكل ثلاث نساء! [أي بسبب التغيرات المجتمعية والمفاهيمية المذكورة آنفًا، تزايد عدد النساء العازبات بما فاق عدد الرجال العزّاب وبالتالي ارتفاع احتمالية العنوسة]” اهــ.

 

أظهرت الدراسات بشكل عام أنه كلما كان الرجل أكثر نجاحًا زاد احتمال عثوره على زوجة وصيرورته أبًا، وهذا على العكس بالنسبة للنساء، خاصة المتفوّقات مهنيًّا؛ إذ تقل فرص عثورهن على الشريك المناسب أو رغبة الرجال “العاديين” فيهن وبالتالي تقل فرص صيرورتهن أمهات

 

هذا وقد أدّت أجندة العبث الممنهج في الغرب بمبدأ الزواج والتهوين من شأن الحياة الزوجية في مقابل أشكال الحيوات الأخرى إلى ظاهرة “النضج المتأخر”: “صار المراهقون والشباب اليوم يستغرقون وقتًا أطول للنمو حتى مرحلة البلوغ، ولا يشمل ذلك تأجيل النشاط الجنسي فحسب، بل يشمل أيضًا تأجيل الأنشطة الأخرى المتعلقة بالتزاوج والإنجاب، بما في ذلك المواعدة dating والعيش مع شريك عاطفي living with a partner والحمل pregnancy والولادة birth. هذه الاتجاهات لم تحدث بمعزل، بل هي جزء من اتجاه ثقافي أوسع نحو تبطئة التطور delayed development” اهـ([4]).

ومن النسويات اللواتي انتقلن بالتجربة الشخصية من القناعة النسوية للفطرية: جين بابَاكان Jen Babakhan. وهي أمريكية مختصة في العلاقات العامة، وصارت مديرة في مجال التسويق والدعاية. قررت ترك العمل المهني بعد ولادة أول طفل لها للتفرّغ له، وألّفت كتابًا بعنوان “الرحلة الفوضوية المليئة بالنعم من الأم الموظفة إلى الأم المتفرغة لبيتها”([5])، والذي لاقى رواجًا في الأوساط المحافظة خاصة.

تدعو جين في كتابها إلى “اكتشاف هويتك الحقيقية التي لا علاقة لها بالمسمى الوظيفي، الشعور بالانتماء للمجتمع ومعرفة أنك لست وحدك في رحلة أمومتك. إن الأمومة في المنزل ليست بالأمر السهل، ولكنها يمكن أن تكون أجمل منعطف يمكنك القيام به على الإطلاق” اهـ.

وقد خصّصت في كتابها قِسمًا للكلام على وهم “الحصول على كل شيء” الذي يخدع صاحبته عن موازنة الكِفّة بين المهنية والأمومة خاصة، فلا تفيق إلا وقد خرجت بفُتات شيء من كل شيء! وفي لقاء بودكاست معها عن تجربتها([6])، كان كلامها محمَّلاً باصطلاحات الشعور الداخلي بالأمومة والحاجة الغريزية لمصاحبة الطفل وغيرها من الدوافع الفطرية، حتى علق المذيع على ذلك بمدى افتقار مجتمعاتهم إلى “الرؤية الطبيعية للأمور Natural view of things”.

–      الموازنة ودفع الثمن:

بالتأمل في كل “السيناريوهات” المحتملة للجمع بين الثلاثية النسوية والحياة الأسرية، ستجد دائمًا في كل حالة مُكتسبًا ومُفتقدًا: فالتي تتزوج مبكرًا قد تفتقد استكمال التعليم الجامعي أو بدء مسيرة مهنية، والتي تتزوج بعد الشهادة الجامعية قد تفتقد العمل في تخصصها، والتي تبني الكارير قد تفتقد عزوة وأنس الأسرة والأبناء في سن متأخرة، هذه سنّة الوجود وطبائع الأحوال، لا أحد يحصل على كل شيء في آن معًا، وإنما هي موازنة، ولكل ثمنه الذي ينبغي الرضى به. ولفظة “الثمن” هنا ليست تهديدًا بخسارة، بل إقرارًا بواقع.

 

ممن انتقلن من القناعة النسوية إلى الفطرية: جين بابَاكان Jen Babakhan. ألّفت كتابًا بعنوان “الرحلة الفوضوية المليئة بالنعمة من الأم العاملة إلى الأم الماكثة في المنزل”، حيث تدعو فيه المرأة إلى اكتشاف هويتها الحقيقية التي لا علاقة لها بالمسمى الوظيفي، والشعور بالانتماء للمجتمع ومعرفة أنها ليست وحدها في رحلة الأمومة، التي يمكن أن تكون أجمل منعطف يمكنها القيام به على الإطلاق

 

مبدأ الموازنة ودفع الثمن هذا يسري على الرجال كما النساء؛ فالذي يتزوج مبكّرًا من الرجال يتحمّل كذلك مسؤوليات الرجال بدوره، ويفوته ما يُحصّله الأعزب الذي يقرر الزواج لاحقًا، كما يفوت الأعزب ما يحصّله مبكّر الزواج من مؤاخاة أبنائه صغارًا وإمكان تفرغه لمشاريع شخصية وفيه فتوّة بعد وله عُزوة، في مقابل من يبدأ بالتفرغ لأهله بعد التقاعد ولعل العزوة تكون انفضت بزواج الأبناء أو استقلالهم. فعلى الرجال يسري نفس مبدأ الموازنة والارتضاء، ودفع ثمن العواقب تفويتًا واكتسابًا؛ هذه سنّة الوجود في حق كل موجود.

–      العواقب الواقعية المترتبة على تعمّد تأخير الزواج:

العواقب الوخيمة لتأخير الزواج وما يحققه من إعفاف وإشباع لغزيرة الأبوة والأمومة أشدّ وأنكى مما قد يترتب على تأخير ما يسمى “تحقيق الذات” لما بعد الزواج. فالأولى لا حلّ لها إلا بالصيام ومجاهدة خواطر النفس وتشوّفاتها، وتصبيرها بفرج قريب مع أن فرص الزواج تقلّ مع التقدّم في العمر لتعقيد المعايير والتوقعات الزوجية ضمن عوامل أخرى. فهذا جهاد شاق عسير، تضعف أمامه كثير من النفوس، فتلجأ إلى العادة السرية وإدمان الإباحيات والخيالات الشهوانية (وربما أفحش من ذلك) لتفريغ حاجتها، ويعيش أصحابها من الرجال والنساء مكدّرين أشقياء تعساء، لا يدفعُ عنهم “الكاريرُ” حَرَّ الشهوةِ ولا يُسْكِت فيهم تحقيقُ الذات المهني إلحاحَ الغريزة الفطري.

ومن يدّعي أن النساء غير الرجال في حاجات الشهوة وفورانها أصاب من وجه وأخطأ من آخر؛ فوجه الإصابة أن النساء غير الرجال في طبيعة الشهوة وصور تلبيتها، كأن يغلب على الرجل الانصراف للحسي والفعلي وتعتني المرأة بالمعنوي واللفظي. ووجه الخطأ أن النساء كالرجال في أمرين: أصل الشهوة وأصل الحاجة لإروائها بالشكل السويّ (أي مع الجنس المغاير)([7])، وكذلك في أصل المعاناة عند فورانها مع عدم القدرة على إروائها بالحلال.

ومن أظهر الأدلّة على ذلك تربّح صناعة الدراما عامة والرومانسية خاصة في كل الثقافات أجنبية وعربية من جيوب النساء ودموعهن بالأساس، إذ هنّ يمثّلن الغالبية الساحقة من جمهور المتابعين بثبات وازدياد، من مختلف الفئات العمرية من سنّ يافع (قُبَيْل المراهقة) Preteen (11/12 سنة) حتى العجائز! وتعجّ الأبحاث والدراسات برصد وبيان أثر الإرواء المعنوي الحسي لتلك المواد، لصِلَتها بإفراز هرمون الدوبامين المغذي للشعور بالنشوة وتهيّج الشهوة([8])، وما يترتب على هذا من الوقوع فريسة للإدمان، ضمن الظاهرة العصرية لإدمان النشوة Addictin to Pleasure، كما عبّرت صاحبة كتاب “أمّة الدوبامين: إيجاد التوازن في عصر اتباع الهوى”([9]). بل وصل الحال إلى تأثيرها في البرود الجنسي بين الزوجين، حتى تفشّت ظاهرة استغناء الأزواج بقضاء وقت فراغهم معًا في التفرج على ممارسة العشق التلفازي معنويًّا عن ممارسة المعاشرة الفعليّة بينهم([10]). فكيف يكون الوقع على غيرهم إذن ممن سيهيج فيهم ما لا سابق خبرة لهم به ولا مَنْفَسَ بالحلال؟!

وأما فورة تحقيق الذات فلا تقوم أصلاً في نَفْس امرأة أدركت خطر دورها في رِبَابة البيت على ما سبق بيانه([11])، فقامت بحقه إيمانًا واحتسابًا لما تنفقه من عمرها وطاقاتها، فضلاً عما تحظى هي به من كفاية مالية، وارتواء فيزيائي ومعنوي بذوق مختلف خبرات الزوجية والوالديّة، فهي بالفعل تعيش أوج تحقيق الذات وخوض غمار حياتها المخصوصة. (وكل أحد في أي دور يخوض غمار الحياة وفق ذلك الدور ومحيطه، ولا يملك أحد أن يخوض غمار كل الحياة في آنٍ معًا). ثم إذا شاءت بعد كل هذا الاستزادة فمجالات الشغل المأجور والتطوعي، والمهني والإبداعي، والتعلم الذاتي لمختلف أنواع المهارات كثيرة مفتّحة الآفاق، لا تستلزم شد الرّحال أو شهادة جامعية بالضرورة، بل المطلوب فحسب إتقان مهارة ما بالدرجة التي تتولد عنها طاقة إنتاج معتبر، ذي جودة وكفاءة في المجال([12]). وعند هذا المفترق، تجد كثيرًا من الشاكيات يكتفين باتخاذ الشكوى عملاً، ولا تقوم في أنفسهنّ همة ولا دافع حقيقي لأكثر من ذلك، وعادة ما تهمد هذه الفورات عندهن بعد نومة هانئة أو نزهة طيبة أو لقاء صحبة أو غيرها من النشاطات الترويحية، وتستمر في دورة حياتها بعدها الاستمرار الذي ترتضيه.

 

العواقب الوخيمة لتأخير الزواج وما يحققه من إعفاف وإشباع لغزيرة الأبوة والأمومة أشدّ وأنكى مما قد يترتب على تأخير ما يسمى “تحقيق الذات” لما بعد الزواج، ويعيش هؤلاء المتأخرون من الرجال والنساء مكدّرين أشقياء تعساء، لا يدفعُ عنهم “الكاريرُ” حَرَّ الشهوةِ ولا يُسْكِت فيهم تحقيقُ الذات المهني إلحاحَ الغريزة الفطري

 

–      تأخير الزواج عمدًا بدعوى التأهيل له:

يحتجّ البعض بمفهوم “المسؤولية” مسوّغًا لتعمّد تأخير سنّ الزواج، حتى يبلغ الفتى أو الفتاة من النضج ما يجعلهما مستعدين لتحمّل مسؤولياته. وهذه المعذرة تأخذ منحى الكلام إلى منهج التربية، ومناهج التربية اليوم عامرة بأوجه الخلل والقصور في تنشئة ناشئة الجنسين في كل المراحل العمرية، فتأخر العمر ليس هو ما يصلح التربية إذا لم تكن صالحة أصلاً من أول العمر، كما لا يصلح العطّار ما أفسد الدّهر!

وإن تنشئة الناشئة –ذكورًا وإناثًا– على معاني النضج الوجداني والفكري وتحمّل المسؤولية والقدرة على الكسب وغيرها لا تتحقق بمجرد رميهم في القوالب الدراسية على مدى سنوات هي أزهر سنوات عمر المرء، يليها قوالب وظيفية على مدى سنوات هي سنوات الفتوّة. والواقع خير شاهد بعدم تحقق تلك المعاني رغم الانتظام في القوالب المدرسية والوظيفية بولاء منقطع النظير، على مدى عقود خَرَّجت في النهاية أجيالاً من العُقَد المتحرّكة على رجلين رغم ما تحمله من شهادات في اليدين!

فلا بد من إصلاح مناهج التربية أولاً قبل طلب إصلاح المتربين بها([13])، وذلك بإعدادها وفق مراد الله تعالى من العباد والتصور الشرعي للوجود وأدوار الخلائق فيه. والذي يقول إنها دعوة للتخلف والرجعية ومخالفة فقه العصر وغيرها من دعاوى هو الذي ما فقه شيئًا حقيقة من العصر أو غيره، وإلا فأين التقدم والازدهار العلمي والنفسي والفكري في بنية الشخصية المسلمة اليوم بالمناهج العصرية المتبعة؟ وكيف حال بيوت المسلمين وتلاحم أهلها وصلاح أحوالها بعد أن انضبط كل أطرافها في كافة القوالب السائدة التي شبّعتهم بالتشوّشات الفكرية والعقد النفسيّة؟

ثم إن التقدم الحضاري والتقني والمعيشي اليوم ما عاد يتطلب صرامة الالتزام بالقوالب السائدة لا من حيث الشهادات الدراسية ولا من حيث المهن الوظيفية، فالرجعيّة تكمن حقيقة في الاعتقاد الأصمّ بضرورة الانتظام في القوالب لمجرد الانتظام، أو لمجرد القولبة، أو لمجرد الاستسهال كسلاً وتخاذلاً عن تأصيل نُظُم أصيلة وشقِّ طُرِق سويّة تهدف لتعبيد النفوس وفقًا لفطرتها لا عنادًا لها!

والسؤال الأكبر الذي ينبغي أن نلتفت له ويشغلنا حقيقة بعد كل هذا: ما الذي أوصلنا أصلاً لهذه الحال اليوم من الحاجة لهذا الكم من المعلمين والمعلمات والمؤسسات التعليمية خارج البيت، بالتوازي مع ضحالة النتاج العلمي والتربوي للمتخرّجين منها؟ ما العوامل التي جعلت المدارس لا مُكمّلاً تربويًّا لدور الوالِدِيّة بل بديلاً ينوب عن الوالديّة، التي اقتصرت بدورها على “تجهيز الأولاد للمدارس”! بل وحتى الأثر التربوي للمدارس هو نفسه إلى اضمحلال في ظل اكتساح الميديا الناعمة Soft Media للساحة، ويُسْر الوصول لمختلف أنواع مواد الفرجة والمطالعة والتواصل الأعلى جاذبية والأشد تأثيرًا.

 

إنَّ التقدم الحضاري والتقني والمعيشي اليوم ما عاد يتطلَّب صرامة الالتزام بالقوالب السائدة لا من حيث الشهادات الدراسية ولا من حيث المهن الوظيفية، فالرجعيّة تكمن حقيقة في الاعتقاد الأصمّ بضرورة الانتظام في القوالب لمجرد الانتظام، أو لمجرد القولبة، أو لمجرد الاستسهال كسلاً وتخاذلاً عن تأصيل نُظُم أصيلة وشقِّ طُرِق سويّة تهدف لتعبيد النفوس وفقًا لفطرتها لا عنادًا لها

 

–      أيهما أفضل في ميزان الشرع: تعجيل الزواج أم تأجيله؟

لا خلاف في التصور الشرعي على فضل الزواج وعِظَم مصالحه وتقدّم أولويته على نوافل العبادات، لمن قدر على مؤنته الأساسية واستوفى شروطه الشرعية من الطرفين. وعلى ذلك، لا تحريج في الشرع على ارتضاء موازنة من موازنات تأجيل زواج أو تعجيله، أو حتى الزهد فيه، وفق الضوابط الشرعية لكل منها.

والقصد في هذا المقام التنبيه على تمييز الأصل من الطارئ في التصور الشرعي لأدوار العباد نساء ورجالاً، وترتيب أولويات الإعداد التربوي والتهيئة النفسية والبدنية على أساس الترتيب الشرعي لها، لا وضع الزواج من البداية عمدًا على الهامش أو في الحاشية في منهج التربية وفي العُرف العام لترتيب الأدوار والأولويات. فالمطلوب تنشئة عبد مسلم على التصور الشرعي المتكامل لتصحّ حركته في الحياة بوصفه مسلمًا، وتكون قرارته فيها وانسجامه في مختلف الأدوار متسقًا مع هويّته الفطريّة والشرعية لا متناحرًا معها، ولا مدفوعًا بأثر عُقَد مستوردة وتصورات خاطئة.

والقصد كذلك عدم الاستهانة بالدور الأكبر على حساب أدوار لا تتساوى حال التعارض في ميزان أولويات التعبد، والتوقف عن شيطنة تصوير الدور الزوجي وربابة البيت بوصفهما “دفنًا” وجوديًّا، في مقابل تعظيم تحصيل الشهادة والكارير المهني بوصفهما “فرضًا” وجوديًّا! فيُقبِل الأطراف على الزواج يوم يقبلون بنفسيّة مشحونة بمُسلَّمات خاطئة، هي التي تؤدي لتحققها في النهاية: إلى الحبس والدّفن والضحية والسَّأم والكآبة.

 

المطلوب تنشئة المسلم على التصور الشرعي المتكامل لتصحّ حركته في الحياة بوصفه مسلمًا، وتكون قرارته فيها منسجمة في مختلف الأدوار ومتسقةً مع هويّته الفطريّة والشرعية لا متناحرةً معها، ولا مدفوعةً بأثر عُقَد مستوردة وتصورات خاطئة


هدى عبد الرحمن النمر
كاتبة ومؤلّفة ومتحدِّثة في الفكر والأدب وعُمران الذات.



([1]) مقالة ماذا يحدث عندما تختار المرأة الهيمنة المهنية على علاقاتها (What Happens When a Woman Chooses Career Dominance Over Her Relationship) للكاتبة Jessica Grose، صحيفة (The New York Times) نشرت في 14 أكتوبر 2023م. ومقطع مرئي بعنوان: الكثير من الوقت: فهم الجداول الزمنية للمرأة (Plenty Of Time: Understanding Women’s Timelines)، نشر في 25 سبتمبر 2023م على قناة يوتيوب: (PsycHacks)، صاحب القناة: (Dr. Orion Taraban). ومقطع مرئي بعنوان: الحياة المهنية مقابل الأمومة: هل يتم الكذب على النساء؟ (Career vs. Motherhood: Are Women Being Lied to?)، نشر في 17 مارس 2020م، على قناة يوتيوب: (Big Think)، صاحب القناة: (Jordan Peterson).

([2]) مقالة: المرأة التنفيذية وأسطورة الحصول على كل شيء (Executive Women and the Myth of Having It All) للكاتبة: (Sylvia Ann Hewlett) نشرت في مجلة (Harvard Business Review)، عدد أبريل 2002م.

([3]) ما بين المعقوفتين إضافة تعقيبية بناء على ما ورد في كامل الدراسة وغيرها من المطالعات.

([4]) مقالة: الأسباب المحتملة لعدم ممارسة البالغين في الولايات المتحدة الجنس بقدر ما اعتادوا عليه (Possible Reasons US Adults Are Not Having Sex as Much as They Used to)، للكاتبة ( Jean M. Twenge)، نشرت عام 2020م، في مجلة (Journal of American Medical Association (JAMA)).

([5])كتاب: الرحلة الفوضوية المليئة بالنعم من الأم الموظفة إلى الأم المتفرغة لبيتها، (Detoured: The Messy, Grace-Filled Journey from Working Professional to Stay-at-Home Mom)، للكاتبة (Jen Babakhan)، الناشر (Harvest House Publishers)،  عام 2019م.

([6]) مقطع مرئي بعنوان: اكتشاف هويتك الجديدة باعتبارك أمًا (ربة منزل) (Discovering Your New Identity as a Stay-at-Home Mom)، على قناة يوتيوب (Focus on the Family)، تتحدث فيه (Jen Babakhan )، نشر في 23 سبتمبر 2021م.

([7]) لمزيد من التفصيل في مسائل الشذوذ الجنسي والتعلق القلبي بين الجنسين أو أفراد الجنس الواحد، يُراجع كتاب “قلب مصون”، للمؤلفة.

([8]) مقالة: الشراهة في المشاهدة: ثلاث طرق يؤثر بها التلفاز على صحتك (Binge Watching: Three Ways TV Affects Your Health)، نشرت عام 2021م، صحيفة (Northwestern Medicine Journal). ومقالة: العلم وراء شراهة المشاهدة (The Science Behind Why We Binge-Watch)، نشرت عام 2020م، موقع (Wistia).

([9]) كتاب: أمة الدوبامين: إيجاد التوازن في عصر الانغماس (ترجم إلى العربية بهذا العنوان)، (Dopamine Nation: Finding Balance in the Age of Indulgence)، تأليف (Anna Lembke) 2021م.

([10]) مقالة: هل ما تشاهده على التلفاز أو في الأفلام يؤثر على علاقتك؟ (Is What You’re Watching on TV or in Movies Affecting Your Relationship?)، للكاتب (Caitlin McNulty)، نشرت في مجلة (Our Relationship Magazine)، عام 2021م. ومقالة: الأسباب المحتملة لعدم ممارسة البالغين في الولايات المتحدة الجنس بقدر ما اعتادوا عليه (مرجع سابق). ودراسة: دموع أم مخاوف؟ مقارنة الصور النمطية بين الجنسين حول تفضيلات الأفلام بالتفضيلات الفعلية (Tears or Fears? Comparing Gender Stereotypes about Movie Preferences to Actual Preferences)، للباحثين: (Wühr P, Lange BP, Schwarz S)، نشرت عام 2017م، على موقع (Frontiers in Psychology). ودراسة: أعشاب الحب والرومانسية غير الواقعية: الدراما الكورية ونوع “فتى الوردة” (Unrealistic Weeds of Love and Romance: The Korean Drama and the “Flower Boy)، للكاتب (Colby Y. Miyose)، نشر عام 2015م، موقع جامعة (University of Nevada Las Vegas (UNLV)).

([11]) تُراجَع المقالات المنشورة في الأعداد السابقة من مجلة رواء للكاتبة.

([12]) لمزيد من التفصيل في مواضيع الشغف واختيارات المسار المهني يراجع كتاب “الأسئلة الأربعة لضبط بوصلتك في الحياة” للكاتبة.

([13]) لمزيد تفصيل في مناهج التربية وقضاياها، يُراجع كتاب “قرّة أعين”، وكتاب “وكان أبوهما صالحًا” للكاتبة.

X