دعوة

الزلزال وفقه السنن الإلهية

وقوع الكوارث يعطي فرصة للإنسان ليراجع قناعاته وتصوراته، فيتأكدَ من صِحَّتها أو يُصححَها إن كان فيها ما يستدعي ذلك، ومن جملة ما يستوقف النظر: السؤال عن الكوارث وهل هي سنة جارية أم خوارق استثنائية؟ وما الحكمة منها؟ وهل حكم المسلمين وغيرهم فيها سواء؟ تلقي هذه المقالة الضوء على هذه القضايا والتساؤلات

مدخل:

منذ أيام قلائل -وبينما كنّا في لقاء إيمانيّ- دَنا مِنِّي شابٌ مُهَذَّبٌ لطيفُ الحسِّ رقيقُ المشاعر، وهمس لي بسؤال له تعلُّقٌ بما كنّا نعالجه، فأخبرني في البداية -وإنّي لأظنّه صادقًا- أنّه ما دعا لنفسه بدعوة إلا واستجيبت، ثمّ استطرد: لكنّي دعوتُ الله كثيرًا على فلان من المجرمين الطغاة -وما أكثرهم في هذا الزمان- لكنْ لم يُسْتَجَبْ لي إلى الآن!

ثم ساررني بما كان يساوره من هواجس ووساوس: وإنّي أخشى أن يكون ذلك فتنة لي!

عندئذ تواردت الخواطر على ذهني في آن كأنّها برادة الحديد أُلْقِيَ في خضمها بقطب (المغناطيس)، وازدحمت على ثغر البيان كلماتٌ وعبارات، أَبَتْ إلا أن تخرج دفعة واحدة، فانحشرت وضاق بها المخرج، ولم يفلت منها إلا القليل؛ وإذْ بي أتمتم ببعض كلمات، شعرْتُ وقتها أنّها كالعجالة التي تعطى للجوعان ريثما يستوي الطعام، ثم انخرطنا فيما انخرط الناس فيه من الصلاة والقيام.

من الناحية الجدلية المحضة قد يستقيم في الظاهر هذا السؤال: إذا كنّا ندعو على الظالمين ليل نهار، ونستمطر عليهم غضب الواحد القهار، وإذا كان الله قد وعد المؤمنين باستجابة الدعاء وبالنصر على الأعداء، وتوعد المجرمين بالعذاب والنكال وصروف البلاء؛ فلماذا يبقى هذا الوضع المقلوب على ما هو عليه دون حلحلة؟ بل لماذا تتوالى علينا المحن كأنّها عَقَدَتْ حلفًا فيما بينها أن تتناوب علينا تارة وأن تجتمع فوق رؤوسنا تارة أخرى؟! أيكون هؤلاء على حقٍ ونحن على باطل؟! أم إنّ عناية الربّ تخلت عنّا وتركتنا نهبة للمنون؟! حتى الأرض التي وعد الله أن يورثها لعباده الصالحين، تَتْركهم وتُزَلْزَل من تحتنا نحن!

تلك هي الصورة التي تخدع بعض الطيبين من أمثال هذا الشاب، وفي جوها يبرز الشُكَّاكُ العاجزون عن صناعة الحياة؛ ليطرحوا بذور اليأس والقنوط والإحباط، وليصرفوا الجيل عن الدين الحقّ، وما هي إلا صورة جدلية عقيمة، ليست في ميزان الشرع والعقل سوى تجديف مضاد لتيار المحكمات.

ولا ينقص هذه التساؤلات إلا أسئلة الخير والشر والقضاء والقدر لتكتمل الباقة التي يستمد منها الإلحاد المعاصر كل عناصر التشكيك، وذلك بعد أن أفلست النظريات العلمية وعجزت عن تقديم جديد مفيد في هذا الاتجاه، ولعل صناديد الإلحاد الجديد المعاصر من أمثال «ريتشارد دوكنز» يعتمدون على هذا المصدر أكثر من اعتمادهم على «الخرافات العلمية» السالفة كنظرية «النشوء والارتقاء» وتفسيرية «الخبط العشواء»، وغير ذلك، إضافة إلى خطاب إنشائي ملفق من كلمات مأثورة عن رموز مشهورة، لو أحببتَ أن تحملها على وجهين أو ثلاثة لم تجدْ صعوبة في الحمل، ولا مشقة في التأويل، وهذا لعمري مكمن الخطر الذي يجب مواجهته بالعلم الصحيح والفهم السديد.

الكوارث تُحقِّق مراد الله تعالى بابتلاء قومٍ واصطفاء آخرين، فهي لأهل الكفر والفسوق والعصيان عقوبةٌ وابتلاء، وهي لأهل الإيمان والصلاح والتقوى اصطفاءٌ واجتباء، وهي للعتاة الظالمين عقوبةٌ عاجلة تأتي قبل العقوبة الأخروية الآجلة

منطلقات لفهم سنن الله في الكون:

– ينبغي أن نُفَرّقَ ابتداء بين الخوارق والكوارث:

فأمّا الخوارق فهي آيات يَخْرِقُ الله بها النواميس الكونية لتكون معجزةً لنبيّه وكرامةً لوليّه، أو لتكون أخذًا لأعدائه ونصرًا لأوليائه، فأَخْذُ اللهِ لِعادٍ بالصّرْصر العاتية ولِثمودَ بالصيحة ولفرعون بالغرق آياتٌ من قبيل الخوارق، التي يخرق الله بها الناموس الذي وضعه لهذا الكون، والله يفعل ما يشاء، ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣]، أمّا ما يجري في هذا الكون أو على هذه الأرض -أو حتى في ذوات الخلق- من أمور تقتضيها القوانين وتحتمها النواميس التي أودعها الله في الكون فهذا أمر جِدُّ مختلف، كأن يقع زلزال أو يهب إعصار أو ينتشر وباء من الأوبئة؛ فهذه كلها كوارث تجري بقدر الله تعالى وفق سُنَنٍ إلهية متنوعة.

هذه الكوارث الكونية تجري بقدر الله تعالى؛ فتحقق أمرين، الأول: تحقق مراد الله في الكون على وفق القوانين التي أودعها فيه، كأن يقع الزلزال بأسباب جيولوجية، الثاني: تحقق مراد الله تعالى بابتلاء قوم واصطفاء آخرين، فهي لأهل الكفر والفسوق والعصيان عقوبة وابتلاء، وهي لأهل الإيمان والصلاح والتقوى اصطفاء واجتباء، فإن أصابت مِن خلق الله مَن أصابت؛ فليسوا سواء، فأمّا الذين آمنوا واتقوا فهي لهم اصطفاء واجتباء، وأمّا العتاة الظالمون فهي عقوبة عاجلة تأتي قبل العقوبة الأخروية الآجلة، وربما أشرت إلى شيء مِن ذلك منذ عام أو يزيد، في تعقيبي على ردود أفعال الناس لدى إعصار أمريكا[1].

– كما ينبغي التفريق بين الأمر الكونيّ والأمر الشرعيّ:

فالأمر أو الحكم أو القضاء الكوني له طبيعة وأثر على نحو معين، والأمر أو الحكم أو القضاء الشرعيّ له طبيعة وأثر على نحو مختلف، فيجب -أولاً- التسليم للحُكمين، للأول بالرضا وللثاني بالانقياد.

ويجب -ثانيًا- التعامل مع كل من الأثرين تعاملاً مكافئًا، فحقُّ الرضا تعطيل السؤال، وحق الانقياد تفعيل السؤال، أيّ إنّه يجب وقف وتعطيل السؤال عن الحكم الكونيّ القدريّ؛ فلا يسأل العبدُ لماذا ابتلانا الله بكذا؟ ولماذا حكم علينا بكذا؟ ليتحقق له الرضا، الذي هو التسليم للحُكم الكونيّ.

وفي المقابل يجب إعمال وتفعيل السؤال عن الأمر الشرعي، فيسأل العبدُ: ما الذي فرضه الله عليّ وما الذي أباحه وما الذي حرمه؛ وهذا مقتضى الانقياد الذي يتحقق به الاستسلام للحُكم الشرعيّ؛ لذلك قالوا: «ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام».

– وينبغي أيضًا التفريق بين العدل الإلهي والعدل الشرعيّ:

فأمّا العدل الشرعيّ فالحياة الدنيا هي الظرف الزمانيّ الذي يستوعبه، وإرادة الإنسان هي مناط تنفيذه وإقامته، فيجب على الإنسان أن يسعى إلى إقامته في الدنيا على قواعد الشريعة التي خاطبه الله بها، وجعلها محلّ ابتلائه وموضع امتحانه واختباره في هذه الدار، أمّا العدل الإلهيّ فلا تتسع الحياة الدنيا لتكون الظرف المستوعب له، ولا ينهض العباد بإدراك أبعاده فضلاً عن السعي لإقامته، وإنّما تتصل الدنيا بالآخرة ليكونا معًا ظرفًا واحدًا لهذا العدل الإلهيّ، وتتسع حكمة الله البالغة، لتتعدد وتتنوع طرائق تحقيق هذا العدل؛ بما لا يحيط به العباد، ولا يدركون منه إلا ما أخبرهم الله به في كتابه أو فيما وضعه من سنن ربانية ماضية ونواميس إلهية جارية، فعلى سبيل المثال نرى كثيرًا من الظالمين المجرمين منعمين لا يُنتصف منهم في الدنيا للمظلومين، لكنّ إيماننا باليوم الآخر يجعلنا ندرك أن عدل الله تعالى لا تتسع الدنيا لتكون ظرفًا زمانيًا لتحقيقه.

ينبغي على المؤمن ألا يسأل: لماذا ابتلانا الله بكذا؟ ولماذا حكم علينا بكذا؟ ليتحقَّق له الرضا، الذي هو التسليم للحُكم الكونيّ. وفي المقابل عليه إعمال وتفعيل السؤال عن الأمر الشرعي، فيسأل العبدُ: ما الذي فرضه الله عليّ وما الذي أباحه وما الذي حرمه؛ وهذا مقتضى الانقياد

الفرق بين المسلمين والكفار في البلايا والمصائب:

إنّنا -وإن كنّا قد زُلْزِلْنا بعد أن مَسَّتنا البأساءُ والضراء- مسلمون مؤمنون موحدون، وإنّ أعداءنا -ولو فرضنا أنّهم سَلِموا في حياتهم وأنّ سلامتهم ستدوم- مجرمون وإلى جهنم ذاهبون، وعند الله تعالى تجتمع الخصوم، فلسنا وإياهم سواء، فقتلانا في المعارك في الجنة وقتلاهم في النار، ومن هلكوا منّا تحت أنقاض الزلازل أو بتدمير الرياح والأعاصير لهم مرتبة من مراتب الشهادة، بخلاف من هلكوا منهم فإنّهم -باستثناء من انطبقت عليه أحكام الفترة- هالكون، وهم في عذاب جهنم خالدون.

أمّا استئصال وأخذ الله للمجرمين فمسألة أخرى، فقد ارتاب كثير من المسلمين وتساءلوا: أين ما وعد الله به من أخذ المجرمين؟ وقد أساؤوا إذْ استعجلوا وغفلوا عن سنن الله، إنَّ سنَّة الله تعالى في أخذ الظالمين ماضية لا تتخلف؛ ولكنَّ تحققها يكون بأيدي المؤمنين، وهذه الآية نصٌّ في القضية: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ٢٢ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ [الفتح: ٢٢-٢٣]، وما عداها مِن الآيات التي تقضي بأنَّ سنة الله في أخذ الظالمين ماضية لا تتبدل ولا تتحول محمولةٌ عليها؛ بما يفيد أنَّ أخذ الأمم الظالمة المحاربة للإسلام لن يكون بخوارق مِن جنس ما أخذ الله به عادًا وثمود وفرعون؛ لأنَّ وظيفة الأمَّة الإسلامية أرقى مِن الأمم المسلمة السابقة؛ ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٠].

لذلك وجدنا سورة القمر بعدما قصَّت علينا بإيجاز مصارع الأمم الغابرة ثم انتهت إلى قريش تشير إلى الآلية الجديدة التي سوف تتحقق بها سنة الله الماضية: ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ٤٣ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ٤٤ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر: ٤٣-٤٥]، ثمَّ تأتي الأنفال بعدما تحققت النبوءة القرآنية في بدر؛ لتعقب بما يؤكد الحقيقة: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: ٥٢]، فما وقع لهؤلاء في بدر على ذات السنة التي وقع بها العذاب لأولئك، غير أنَّ الأسلوب اختلف؛ ليكون الأخذ بأيدي المؤمنين.

أمّا النصر فله أسباب، لابد مِن استكمالها، فليس بالحمية والحماسة وحدهما يتحقق النصر، ولا بمجرد المواجهة -لو كانت مسلحة- حتى ينضم إليها عوامل أخرى هي مِن صميم القوة التي أمر الله بإعدادها، منها الوحدة، واستقامة الفهم، وحسن التخطيط، ووضوح الرؤية، والتحرك وفق مشروع واضح المعالم، وغير ذلك مما لابد منه حسب سنة الله تعالى.

دلتَّ الآيات والنصوص على أنَّ سنة الله في أخذ الظالمين ماضيةٌ لا تتبدَّل ولا تتحوَّل؛ بما يُفيد أنَّ أخذ الأمم الظالمة المحاربة للإسلام لن يكون بخوارق مِن جنس ما أخذ الله به عادًا وثمود وفرعون؛ لأنَّ وظيفة الأمَّة الإسلامية أرقى مِن الأمم السابقة


د. عطية عدلان

أكاديمي، رئيس مركز محكمات في إسطنبول.


[1] مقالة (وهدأ الإعصار..) للكاتب، موقع عربي ٢١، نشر بتاريخ ١٥ أيلول سبتمبر ٢٠١٧م.

X