في معركة الخندق اشتدَّ حصار أحزاب الكفر للمدينة المنورة، وجاء العدو من فوق ومن أسفل، واشتدَّت الريح والبرد والظلمة، حتى ما يجرؤ أحدٌ على الحركة، فزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وساءت ظنون المنافقين بربهم، ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب: ١١].
وانكشف فريقٌ من الناس، فقال المنافقون ومن في قلوبهم مرض: ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الأحزاب: ١٢]، ولاذ أناسٌ بالفرار متذرِّعين بالوهم، ناسين أن الفرار لن ينفعهم من الموت أو القتل، وأخلَفوا عهد الله الذي سيُسألون عنه.
أكثر من عشر سنوات مضت في جهاد أهل الشام اليوم، سطَّروا فيها ما تعجز صفحات التاريخ عن استيعاب أحداثه ورواية مآسيه، وكان لهم فيها من البطولات ما ذكّرهم وذكّر الناس بثبات الصحابة ورباطهم. ومع عدم تكافؤ القوى حققوا ما لم يكن في الحسبان، فحرروا سبعين في المائة من أرضهم، ثم صابروا على الحصار حتى أكلوا أوراق الشجر، وصمدوا أمام الجيوش التي تداعت لكسرهم، وشيعوا من الشهداء ما يفوق الحصر، ثم انحصروا في الشمال؛ ليشقُّوا طريقًا جديدًا.
في الشمال بدأ الناس من الصفر صناعة الحياة من جديد، في ظروف التهجير القسري وشدة العوز وتنوع المصائب وهشاشة البنية التحتية وندرة فرص العمل، وخلال سنوات قليلة تخللها حملات قاسية للعدو كانت تهدم ما بنوه ليبدؤوا من جديد، حتى رأينا آلاف الطلبة متزاحمين على مقاعد الدراسة المترهِّلة، ونحو عشر جامعات، وجمعياتٍ ومشروعاتٍ تنحت الصخر لتغيث الملهوف، وصبيانًا بلغوا مبلغ الرجال يحدوهم الأمل ببناء مستقبل مزهر.
ومع شدَّة حرارة القضية في النفوس فإنَّ ثمة من تسلَّل إليه اليأس بسبب استطالة الطريق وغياب القيادة وفقد التوجيه وكثرة الخلافات وتنامي الفساد وشيوع الفقر ونشاط تجار الأزمات من جهات مشبوهة وفصائل مصنوعة تنخر في هوية الشعب وفطرته.
ويجيء الزلزال الأخير -بمآسيه وآلامه وكوارثه- على أهل الشام حلقةً ضمن تحدِّيات جهادٍ طويل، ويهبُّ الناس من جديد للإنقاذ والإغاثة، وتدبُّ الدماء في العروق اليابسة، وتتلاشى أمراض القُعود، ويغسل الزلزال ما في قلوب الصادقين من غِلّ، ويكتشف الناس طاقتهم المخبوءة التي ما فطنوا لها وهم ينتظرون العالَم.. فأدرك العاقلون أنَّ الزلزال أعادهم إلى موقع المبادرة التي لا تُنال الحرية إلا بها، وأحيا فيهم الإيجابية التي لا تُحرَّر الأوطان بدونها، وجمع قلوبهم التي لا انتصار دون ائتلافها، وفضح الأدعياء الذين لا تستقر الأمور دون انكشافهم. وعسى أن يجتمع العقلاء، حيث لا تقاد الأمم دون اجتماعهم.
لقد أجلب الزلزال على قضية أهل الشام زلازل أكبر منه بممالأة عدوهم بالمساعدات، لكن الزلزال ذاته أوجد فرصًا جديدة للعاملين، فجدد لأهل الشام آمالهم.
وإن المبصِرين ليتراءون أعمدة النصر في سورة الأحزاب، فيجدونها في ثلاث ركائز:
أولها الثقة والتصديق بوعد الله، ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: ٢٢].
ثانيها صدق العزم على المضي إلى آخر الطريق أو آخر رمق: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: ٢٣]. إنها إحدى الحسنيين.
وما نالوا هاتين إلا بثالثة كالعمود الفقري لتصديق القلب وصدق العزم، وردت في وسط حكاية المعركة، ترسم منهجية الحرب وطريق النصر، صفة لا ينالها إلا من عظم يقينه ورجاؤه بلقاء الله عز وجل، ورسم منهجه باسم الله، لا يلتفت عن ذكر الله ولا ينقطع قولاً وفعلاً، ألا وهي كمال التأسي بالنبي r في شؤون الحياة والعمل كلِّها. ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢١].
إنه النصر الموعود لمن يمضي واثقًا، ويعمل متأسّيًا.
د. خير الله طالب