تاريخ كل أمة هو هويتها، والمعبر عن مشروعها وقيمها وأخلاقها؛ لذلك تهتم الأمم بتاريخها وتنقله لأجيالها، وتعكف على أحداثه لتستنبط منها العبر في قادم الأيام. وأمتنا الإسلامية تملك تاريخًا عظيمًا مليئًا بالمنجزات والعبر، حاولت أقلام الحاقدين تشويهه لإسقاطه، وتناقلت هذا التشويه أقلام مغرضة أو جاهلة، مما يستدعي التنبيه إلى كيفية التعامل مع أحداثه ومروياته، والأخطاء التي وقعت فيه، وفي هذا المقال بعض الإضاءات في هذا الموضوع.
شوال 1441 هـ – يونيو/ حزيران 2020م
التاريخ بجملته هو تعبيرٌ عن فهم الماضي؛ لإفادة الحاضر، والبناء عليه في التخطيط للمستقبل. هو تأمُّلٌ ودراسةٌ وسبرٌ لأغوار مختلف أوجه النشاط الإنسانيِّ فيما مضى من أحداثٍ في الأزمنة السالفة؛ تهدف إلى رصد أسباب الظواهر التاريخيَّة المختلفة، ومحاولة تبيان جوانب العلاقة السببيَّة في طيَّات الأحداث التاريخيَّة، وتتبُّع بدايات الأحداث ومعرفة أصولها.
إذن هو عِلمٌ يتعلَّق بالمكان والزمان، بما فيه من وقائعَ وأحداثٍ، وما يكون لها من أثرٍ في حياة الناس، واستكشافٌ كُليٌ لتطوُّر أحوال البشريَّة منذ بداية الخليقة، ومحاولةٌ لكشف هدف الوجود الإنسانيِّ على وجه هذه البسيطة، وكذا عن مصير الإنسان في الحاضر والمستقبل.
تاريخ المسلمين هوية الأمَّة، والمسلم فردٌ من هذه الأمَّة، يرتبط تاريخياً بقافلة المؤمنين من الرسل والصحابة، ومَن نهج نهجَهم إلى يوم القيامة. يحسُّ أنه واحدٌ منهم، ويتفاعل معهم، ويعتزُّ بانتمائه إلى هذه القافلة المؤمنة، ويخجل ممَّا سواها على مرِّ الأيام والدهور.
دخل الإسلام التاريخ من بابٍ عريضٍ، وبمنهجٍ ربانيٍّ خالدٍ وصالحٍ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، أخذت رقعته تتوسَّع، بما يملك من خصائص ومقوماتٍ، في أرجاء المعمورة التي شهدت أصقاعها النور في وسطٍ حالكٍ بالظلمة.
مَلكْنا فكان العَفْو منَّا سَجيَّةً .. فلمَّا ملكْتُمْ سالَ بالدَّمِ أبْطَحُ
فحسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بيْنَنا .. وكلُّ إِناءٍ بالـذي فيهِ يَنْضَحُ([1])
وفي توصيفٍ بديعٍ بثوبٍ أدبيٍّ قشيبٍ، يقول الشاعر الهنديُّ [ألطاف حسين]، المتوفَّى سنة 1333هـ: «لقد هاجت سحابةٌ من بطحاء مكَّة ملأت سمعَ الزمان وبصرَه، وشرَّق وغرَّب رعدهُا وبريقُها، فينما رعدت على نهر [تاجه] في [إسبانيا] أمطرت على نهر [الكنج] في شبه القارَّة الهندية.
لقد أحيا غيثُها مزرعة الإنسانية القاحلة، وعمَّ بِرُّها البرَّ والفاجرَ! فما ترى في العالم من رواءٍ، وبهاءٍ، ونورٍ، وسناءٍ؛ إلا والفضل فيه يرجع إلى البعثة المحمدية»([2]).
ومنذ بداية ظهور هذا الدين، كتب النصارى في سنة 13هـ أي في القرن السابع الميلاديِّ، إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يقولون: «يا معشر المسلمين، أنتم أحبُّ إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا، وأرأف بنا، وأكفُّ عن ظلمنا، وأحسن ولاية علينا»([3]). واستمرَّ هذا النهج في معاملة غير المسلمين عبر تاريخ الإسلام.
نحن لم ندخل التاريخ بأبي جهلٍ وأبي لهبٍ، ولكن دخلناه بمحمَّدٍ وأبي بكرٍ، ولم نفتح الفتوح بداحس والبسوس والغبراء، ولكن فتحناها ببدرٍ والقادسية واليرموك، ولم نحكم الدنيا بالمعلَّقات السبع، ولكن حكمناها بالقرآن المجيد، ولم نحمل إلى الناس رسالة اللات والعزَّى، ولكن حملنا إليهم رسالة الواحد القهَّار
الأستاذ عصام العطار
انتشر الإسلام بغاية العدل والإحسان، وبثباتٍ وقوةٍ ووضوحٍ، مع روحٍ عاليةٍ من التسامح والرفعة والتسامي والإنسانية، وهذا ما يفسِّر انتشاره بسرعةٍ، بما يمتلك من قوةٍ ذاتيةٍ وخصائص ذات صبغةٍ ربانيةٍ، لم تشهد البشرية أنصع منها وضوحاً أو أفضل منها منهجاً.
لقد كان أثر الرحَّالة، والتجَّار واضحاً في نشر الإسلام في أفريقيا وآسيا، جنباً إلى جنبٍ مع القوة العسكرية والسياسية للدولة الإسلامية، دون إغراءٍ أو تهديدٍ.
ولو نظرنا إلى خريطة العالم الإسلاميِّ اليوم، لرأينا أن أكثر مسلمي العالم، هم سكَّان بلاد أندونيسيا والهند والصين وسواحل القارة الإفريقية، وهي بلاد لم تواجه الإسلام ولم تحاربه، فدخلها التجَّار والدعاة آمنين، ونشروا الإسلام بأخلاقهم وتعاملاتهم وتسامحهم.
وهذه حقيقةٌ تاريخيةٌ لا تقبل التزوير أو التزييف، حتى إنَّ غير المسلمين شهدوا بها، ويعدُّ [توماس آرنولد]، من أبرز من أرَّخ لانتشار الإسلام، يؤكِّد في كتاباته على حقيقة السماحة الإسلامية فيقول: «إنَّه من الحقِّ أن نقول: إنَّ غير المسلمين قد نعموا بوجه الإجمال في ظلِّ الحكم الإسلاميِّ، بدرجةٍ من التسامح لا نجد لها معادلاً في أوروبا قبل الأزمنة الحديثة، وإن دوام الطوائف المسيحية في وسطٍ إسلاميٍّ، يدلُّ على أنَّ الاضطهادات التي قاست منها بين الحين والآخر على أيدي المتزمِّتين والمتعصِّبين، كانت من صنع الظروف المحلية، أكثر مما كانت عاقبة مبادئ التعصُّب وعدم التسامح»([4]). ويضيف قائلاً: «كان المسيحيون يعيشون في مجتمعهم آمنين على حياتهم وممتلكاتهم، ناعمين بمثل هذا التسامح الذي منحهم حرية التفكير الدينيِّ. تمتعوا وخاصَّة في المدن بحالةٍ من الرفاهية والرخاء، في الأيام الأولى من الخلافة»([5]).
ومن دواعي الإنصاف أن نُثبت بأنَّ تاريخَنا ليس جميعُهُ جملةً من السلبياتِ والنقاطِ السوداءِ -كما يشتهي أعداؤنا من مستشرقين حاقدين ومن حفنةٍ من أذنابهم المستغربين أن يجعلوه هكذا – بل هو صفحاتٌ ناصعاتٌ نستفيد منها دروساً عظاماً، وهذه الصفحات هي في الأصل تعاليمٌ قبل أن تصبح واقعاً على الأرض، فرضَها الشارع الحكيم حالة الحرب وحالة السلام؛ وتعاليم الشريعة تقتضي في حال نشوب حربٍ فثمَّة مبادئ تضبطها، فالإسلام مثلاً يفرض على المسلمين الاعتناء بجرحى أعدائهم ومداواتهم وإطعامهم.
كما يطلب الإسلام من المسلمين تجنيبَ المدنيين شرور الحرب وأخطارها، فقد ميَّز تمييزاً جلياً بين المقاتلين وغير المقاتلين، ومن لم يباشر القتال بنفسه من الأعداء، فليس للمسلم أن يقتله أو يتعرَّض له بأذى.
تاريخَنا ليس جملةً من السلبياتِ والنقاطِ السوداءِ – كما يشتهي أعداؤنا من مستشرقين حاقدين ومن حفنةٍ من أذنابهم المستغربين أن يجعلوه هكذا – بل هو صفحاتٌ ناصعاتٌ نستفيد منها دروساً عظاماً
وتعاليم النبيِّ ﷺ واضحةٌ في هذا الشأن؛ «فالأطفال والشيوخ والنساء والمرضى والمعتوهون، بل حتى الفلاحون في حرثهم، والرهبان في معابدهم، كل أولئك معصومون بحصانة القانون من أخطار الحرب»([6]). ومن عظمة الإسلام أنه لا يحرص على تجنيب المدنيين من الأعداء ويلات الحرب فحسب؛ بل حرص على تجنيبهم مجرَّد الألم النفسيَّ. مرَّ بلالٌ مؤذن الرسول ﷺ بامرأتين من نساء اليهود يوم خيبر على عددٍ من قتلى قومهما، فتألمتا لذلك، فلما علم النبيُّ ﷺ بما صنع بلال عاتبه على ذلك وقال له: «أنزِعت منك الرحمة يا بلال، حين تمرُّ بامرأتين على قتلى رجالهما»([7]).
ومن المعالم الحضارية لتاريخنا الإسلاميِّ، وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان، وهو متوجِّه إلى ميدان القتال: «…إنَّك ستلقى أقواماً زعموا أنهم قد فرَّغوا أنفسهم لله في الصوامع فذرهم وما فرغوا أنفسهم له… ولا تقتلنَّ مولوداً، ولا امرأةً، ولا شيخاً كبيراً، ولا تعقرنَّ شجراً بدا ثمرُهُ ولا تحرقنَّ نخلاً، ولا تقطعنَّ كرماً، ولا تذبحنَّ بقرةً، ولا ما سوى ذلك من المواشي إلا لأكل»([8]).
ومن تعليمات النبيِّ ﷺ المتكررة، والتي أخذت صفة التواتر لقواده العسكريين، الالتزام بالنظام وحسن السلوك، وعدم اللجوء إلى أساليب السلب والنهب، التي كانت عادة الجيوش الغازية في ذلك الزمن!
الحكم على التاريخ، ووسائل الإفادة منه:
يعلم كلُّ باحثٍ منصفٍ، أنَّ ما حقَّقته الأمَّة عبر تاريخها، يعدُّ عاملاً مهماً في تغيير تاريخ البشرية إلى الأفضل؛ ومن هنا يجب علينا أن نساهم من جديدٍ لإعادة النهوض الحضاريِّ لها. وليست مهمتنا الحكم على التاريخ، ولكن فهمه للإفادة منه([9])؛ ومن ثَمَّ فهم الواقع والنهوض به؛ فعلم التاريخ ومعرفته تجربةٌ وعبرةٌ، أو كما يعبِّر عنه ابن خلدون في مقدمته: «فنُّ التاريخ فنٌّ عزيز المذهب جمُّ الفوائد شريف الغاية؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيَرهِم والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتمَّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا…»([10]).
ويعرِّفنا ابن خلدون على حقيقة التاريخ فيقول: «اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ، أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال»([11]).
ومن يتأمَّل تعريف ابن خلدون للتاريخ، يلحظ كيف أن التاريخ ضرورةٌ حضاريَّةٌ لفهم الإنسان من خلال تاريخه.
ثم إنَّ القرآن الكريم يبيِّن لنا «الهدف من إيراد القصص والعروض التاريخية، وهو الهدف نفسه الذي يمكن أن يتمخَّض عن أيِّ مطالعةٍ جادَّةٍ ذكيَّةٍ واعيةٍ ملتزمةٍ للتاريخ: إثارة الفكر البشري، ودفعه إلى التساؤل الدائم والدائب عن الحقِّ، تقديم خلاصات التجارب البشرية عبَرَاً يسير على هديها أولوا الألباب؛ إزاحة ستار الغفلة والنسيان في نفس الإنسان، وصقل ذاكرته وقدرته على المقاومة لكي تظلَّ في مقدمة قواه الفعَّالة التي هو بأمسِّ الحاجة إلى تفجير طاقاتها دوماً»([12]). وقد دعانا القرآن أكثر من مرَّة عند سرده وعرضه للواقعة التاريخية إلى «تأملها واعتماد مدلولاتها في أفعالنا الراهنة ونزوعنا المستقبليِّ»[13].
الهدف من إيراد القصص والعروض التاريخية: إثارة الفكر البشري، ودفعه إلى التساؤل الدائم والدائب عن الحقِّ، وتقديم خلاصات التجارب البشرية عبَراً يسير على هديها أولوا الألباب، وإزاحة ستار الغفلة والنسيان في نفس الإنسان، وصقل ذاكرته وقدرته على المقاومة لكي تظلَّ في مقدمة قواه الفعَّالة التي هو بأمسِّ الحاجة إلى تفجير طاقاتها دومًا
د.عماد الدين خليل، باختصار
وبما أنَّ التاريخ يشكل سجِّلاً حافلاً، لأحداث الحياة الإنسانيَّة وتقلُّبها بأهلها، منه يأخذ الإنسان التجربة التي تُوقفه على أحوال الغابرين أفراداً ومجتمعين، فبهِ يرى الإنسان بعين بصيرته، كيف تعمل سُنَن الله تعالى في المجتمعات بلا محاباةٍ، وكيف تَرقى الأمم وتسقط، وكيف تنتصر الدعوات وتُهزم؛ فهو غزيرُ النفع، كثيرُ الفوائد، ومن لم يكن له نصيبٌ وافرٌ من تجارب الآخرين، فهو يبدأ من الطفولة البشرية، أي من نقطة الصفر.
يقول ابن الأثير رحمه الله: «ولقد رأيت جماعةً ممَّن يدَّعي المعرفة والدراية، ويظن بنفسه التبحُّر في العلم والرواية، يحتقر التواريخ ويزدريها ويعرض عنها ويلغيها، ظنَّاً منه أن غاية فائدتها إنما هو القصص والأخبار، ونهاية معرفتها الأحاديث والأسمار، وهذه حال من اقتصر على القشر دون اللبِّ نظره، وأصبح مخشلباً جوهره، ومن رزقه الله طبعاً سليماً، وهداه صراطاً مستقيماً، علم أن فوائدها كثيرةٌ ومنافعها الدنيوية والأخروية جمَّةٌ غزيرةٌ»([14]).
هناك نماذج للإفادة من تاريخنا، تعيننا على النهوض بأُمَّتنا من جديدٍ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، العديد من الألوان المميَّزة من الأنشطة الحضارية التي قدَّمتها حضارتنا الإسلامية، والوضع الراهن يتطلَّب بعثُها للارتقاء بأُمَّتنا. مِن ذلك تحويل المساجد الكبرى إلى جامعاتٍ، من خلال برامجَ منظَّمة تُشرف عليها الهيئات الرسميَّة المختصَّة، تماماً كما كان الحال في مسجد عمرو بن العاص، ومسجد القيروان، ومساجد فاس وغيرها، إذ كانت جامعاتٍ إسلاميةً تخرَّج فيها علماءُ كبار أفادت منهم الأمَّة.
كذلك فكرة التنمية والحفاظ على الموارد للأجيال القادمة، هذه الفكرة التي اهتمَّ بها المسلمون، يُمكن إعادةُ إحيائها بطريقةٍ علميَّة، وفي ظلِّ فقه النصِّ وفقه الواقع المعاصر وافتقار الأمَّة إلى تحقيق التنمية المستدامة، تبدو أهمية العودة إلى نظام الوقف مع مراعاة المتغيِّرات الحاصلة من حوله، والتي يمكن له الاستفادة من منافعها وتجنُّب مثالبها. إذ من توفيق الله لهذه الأمَّة أن حباها مولاها بنظام الوقف، في الوقت الذي لم يكن معروفاً في الشرائع السابقة، والذي يملك القابلية المطلقة للاستثمار، بحكم أنه يشكَّل وعاءً مالياً قابلاً للاتساع، وكذا دوراً لافتاً في خدمة جهات النفع العام.
موقفنا من الصفحات التي فقدت ضياءها في تاريخنا:
أخفى أعداء الإسلام الجوانب التي تُغطِّي مُعظم مساحة الإشراق والعظمة في تاريخنا الإسلاميِّ، أفراداً وحكوماتٍ وطبقاتٍ منسجمةٍ متوازنةٍ متكاملةٍ. حاولوا تضخيم خلافات المسلمين مع بعضهم، حتى لكأنَّهم كانوا ينتظرون منهم أن يكونوا ملائكةً، أو قوماً يُحرَّم عليهم إبداء وجهة نظرهم في مواقف، رأى آحادهم أن الصواب بجانبه وله مسوغات اتّكأ عليها.
وإنَّ التجربة الحضارية الإِسلامية في التاريخ، لهي أقوى من أن تشوِّه روعتها بعض الأتربة العابرة، أو أن تتأثر بأيِّ تلوثٍ في وسطٍ من دخان الشبهات؛ ومن خلف الضباب استطاع الإسلام دوماً أن ينفذ بأشعته مضيئاً بنثارات نوره للعالمين.
والذي يتوجَّه إلى دراسة نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني للهجرة، يلحظ كيف أن تسليط الضوء على أخبار بعض الخلفاء وحاشيتهم وقصورهم، أوجد حاجزاً وحجاباً بينها وبين أحداثٍ لافتةٍ كبيرةٍ، من مثل فتح قتيبة بن مسلم لبخارى وسمرقند، وكذا امتداد السيادة الإسلامية على آسيا الوسطى، وأيضاً استكمال الفتح الإسلاميِّ لشمالي أفريقيا، ثم فتح الأندلس!
وفي ثنايا الدراسة، يصاب صاحبها بصدمةٍ، لما تعرضت له حقبة بني أمية، من طمس لإشراقاتٍ نيِّرةٍ، ومعالم حضارية! فتطفو على السطح، مغامرات بعض الخلفاء والقادة العسكريين، والتي تفتقر للتحقيق العلميِّ الرصين، بينما يتمُّ التعامي عن أعمالٍ عظيمةٍ قلبت الموازين، وغيَّرت مجرى التاريخ، مثل فتح [نربونة] بجنوبي فرنسا سنة 100هـ، 719م، ثم إنَّ مجداً أثيلاً مثل وضع يد السلطان الإسلاميِّ على كامل جنوب فرنسا، لمدة ربع قرن، يندثر تماماً! لكي يتمَّ التعريف فقط بمعركة [بلاط الشهداء]، التي تقابَل فيها [عبد الرحمن الغافقي] مع [شارل مارتال]، بسهول مدينة [بواتيه] في قلب فرنسا سنة 114هـ، 732م، كما تندثر مناقب الدولة الأموية في دفع حركة التاريخ والحضارة، لتنقل لنا كتب الرواة أخبار الشاعر عمر بن أبي ربيعة، والوصلات الغنائية لمعبد، والغريض، وابن سريج، وابن عائشة، والأبجر.
وفي حال ولجنا باب الدولة العباسية منذ قيامها سنة 132هـ،750م، فسيصيبنا الذهول لتزاحم أخبار الصراع بين فئام المجتمع، وكأنما توحي إلينا كتب الأدب والتاريخ، بأن حضارة الإسلام تفرَّدت بهذه الظاهرة البشرية، دون سواها من الحضارات، بينما تشير وقائع الماضي الإنسانيِّ منذ بزوغ فجر التاريخ، إلى أن هذه سنَّة الله في خلقه، وهذه هي الواقعية بعينها بعيداً عن عالم المثاليات المجنَّحة وأدبيات الطوباوية المفرطة([15]).
في الفترة الأخيرة بدأ الهجوم على التاريخ الإسلاميِّ متخفيِّاً داخل رداء أسلوب الفكر العلميِّ، القائم على البحث وأسس التحليل والنقد. ومع أن هؤلاء المستشرقين، ومن يساندهم قد ادَّعوا أنهم طالعوا التاريخ الإسلاميَّ والعلوم والفنون الإسلامية، مطالعةً قائمةً على الحيادية والإنصاف بتجرُّدٍ وإخلاصٍ وأمانةٍ، إلا أنَّ الحقَّ أنهم لم ينصفوا حتى الآن التاريخ الإسلاميَّ!
ولن يأخذ بنا التعصُّب لتاريخنا بعيداً، فننكر أن ثمَّة أخطاءً ونقاطٍ سوداء قد اعترت بعض صفحاته، ولكن حتى هذه الأخطاء يُمكن أن تُدرَّس، وتُستفاد منها العِبرُ، كيما تتكرَّر بعد ذلك، فتاريخنا يخصُّنا بإيجابيَّاته وسلبيَّاته، وقد آنَ لنا أن نكتبَه نحن بأقلامٍ علميةٍ وموضوعيةٍ، وأن نتعرَّف على الجوانب المشرقة فيه.
في الفترة الأخيرة بدأ الهجوم على التاريخ الإسلاميِّ متخفيِّاً داخل رداء أسلوب الفكر العلميِّ، القائم على البحث وأسس التحليل والنقد
يجب الاحتياط دائماً فيما يتعلق باختلاف الصحابة، فهم ليسوا بمعصومين، ولا يوجد لديهم، وخاصَّة أكابر الصحابة، سوء نيَّةٍ أو انطواء على خبثٍ، لهذا فما قاموا به، قاموا به مجتهدين، فلو تذكرنا الأهداف والمقاصد فيما يتعلق باختلافاتهم، فإننا حينها ينبغي أن نفهم تعليقات الرواة وكتَّاب الأخبار، ويجب ألا نقبلها طالما لا توجد لها شواهد تاريخية مؤكِّدة.
وينبغي ألا نقبل بعيونٍ مغلقةٍ ما يذكره أصحاب الأخبار أو النقلة، إلا بعد دراسةٍ وتمحيصٍ وموازنةٍ وترجيحٍ، لأنهم عادةً ما يذكرون آراءهم الذاتية المبنيَّة على معلوماتهم، وكثيراً ما تكون معلوماتهم عن شخصٍ ما أو طبقةٍ ما أو إدارةٍ ما ناقصةً، وهكذا يكون تعليقهم بالضرورة غير مكتملٍ وغير واقعيٍّ.
ينبغي ألا نقبل بعيونٍ مغلقةٍ ما يذكره أصحاب الأخبار أو النقلة، إلا بعد دراسةٍ وتمحيصٍ وموازنةٍ وترجيحٍ
إذن من الخطأ بمكانٍ قراءة التاريخ الإسلاميِّ بنظرة ماديةٍ مجرَّدةٍ، لأن ذلك يؤول إلى تفريغ صور ومعالم، حضارية في معانيها الإنسانية والإيمانية، وهذا ما رنت إليه أنظار خصومنا الذين تناولوا تاريخنا، والإنصاف يقتضي أن نذكر الجوانب الإيجابية إلى جوار نقيضتها السلبية؛ وإذا بلغ الماء قلَّتين لم يحمل الخبيث، والذي يهمُّنا هو سلوك ومواقف مجاميع الأمَّة التي تقاس بهم الحضارات، وليس آحادها الذين يعبث بعضهم بمقدَّرات الأمَّة ولا يصنعون تاريخها.
ثم يتعيَّن علينا أن نعرف مكاننا في خطِّ سير التاريخ، وأن نتبين قيمتنا في العالم الإنسانيِّ، من خلال ما تكتبه الأقلام النزيهة التي تنشد الحقيقة، والحقيقة فحسب.
ومسؤولية الباحثين في التاريخ، الشرعية منها والأدبية، تفرض عليهم إعادة كتابة التاريخ الإسلاميِّ من زاوية رؤيةٍ أكمل، وأدق، وأعمق، حتى ننأى بأنفسنا عن النظر إلى ذواتنا بعدسةٍ صنعتها أيادٍ غريبةٌ عنا، أجنبيةٌ عن عقيدتنا وتاريخنا، وعن إحساسنا بالحياة وتقديرنا للأشياء.
وحتى على فرضية تجرُّد الأيدي الغريبة التي تكتب لنا تاريخنا من الخصومة والهوى، فإنَّ أخطاء المنهج الذي تتبعه، كفيلةٌ بأن تشوِّه الحقائق التاريخية، وتحرفها عن واقعها الذي عايشته.
واجبنا نحو التاريخ:
إزاء ما تقدَّم بيانه، فإنه لا ينبغي قبول أيَّة كتابات مهما كانت، دون نقدٍ أو تحليلٍ. ولكن ثمَّة معضلةٌ تعترض كلَّ راغب بقراءة التاريخ، وعلى وجه الخصوص فئة الشباب، لا يجدون أمامهم إلا كتب الموسوعات الكبيرة، والتي من الصعب على أمثالهم الرجوع إليها، أو الكتب المعاصرة وفيها من التشويه الشيء الكثير، وبذلك عظمت التبعة على المسلمين، وبدأ المخلصون من المفكّرين المسلمين وذوي الاختصاص بمادة التاريخ، بكتابة دراساتٍ حول فتراتٍ زمنيةٍ محدَّدةٍ وأحداثٍ تاريخية أثارت الجدل في أوساط المثقفين.
ولو أنَّ المسلمين في هذا العصر، بعد أن خبروا الصحيح من السقيم من أخبار التاريخ، استوعبوا دروس الماضي، لما أخطأوا في التعامل مع الكثير من الأحداث التي أحاطت بهم، والذي خَبِر تقلبات الدول والمجتمعات وقرأ عن المؤامرات السياسية، يكون أقدر على تفهم الواقع الراهن الآن، لما فيه شبَهٌ كبيرٌ لأحداث الماضي. قال ابن الأثير رحمه الله: «إنه لا يحدث أمرٌ إلا قد تقدَّم هو أو نظيره، فيزداد الإنسان بذلك عقلاً، ويصبح لأن يقتدي به أهلاً»([16]).
يتساءل المفكِّر المعاصر، محمَّد الغزالي بمزيدٍ من الأسى: «فما مكانة الحسن بن الهيثم في تاريخنا؟ وما مكانة غيره من علماء الحياة والكون كجابر بن حيَّان والخوارزميِّ؟ إننا قبل أعدائنا كنَّا أسرع إلى إهالة التراب عليهم؛ ربما ظفر بالشهرة أبو نواس قديماً، وعبد الحليم حافظ حديثاً، أمَّا الراسخون في العلم فهم يسيرون إلى جوانب الجدران، وينسحبون من الحياة كما جاءوها على استحياء أو في استخفاء»([17]).
ومن هنا يتعيَّن على الدعاة والمربين أن يتنبهوا لمثل ما تنبَّه إليه أجدادنا من سلفنا الصالح. يقول إسماعيل بن محمَّد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا، ويقول: يا بنيَّ إنها شرف آبائكم فلا تضيّعوا ذكرها»([18]).
وهكذا نخلُصُ إلى أنَّ في التاريخ فكرةٌ ومنهاجٌ، وكلُّ أمَّةٍ تصوغ تاريخها، بحيث يؤدي مهمةً تربويةً في حياتها، ومن صفحات التاريخ، وُجِد التراث الهائل من القيَم والأخلاق.
[1] البيتان لابن الصيفي، انظر: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ابن العماد الحنبلي، (6/ 410).
[2] الطريق إلى المدينة، أبو الحسن الندوي، ص (113).
[3] فتوح البدان، البلاذري، ص(139). وانظر: الدعوة إلى الإسلام، توماس آرنولد، ص(73).
[4] المرجع السابق، ص(81).
[5] الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد ص(729 – 703). ترجمة د.حسن إبراهيم حسن. د.عبد المجيد عابدين إسماعيل النحراوي.
[6] انظر كتاب دراسات إسلامية، د.عبد الله دراز، ص(143).
[7] الروض الأنف في شرح غريب السير، عبد الرحمن السهيلي (4/77).
[8] كتاب السير الكبير، محمَّد بن الحسن الشيباني، (1/431).
[9] راجع في هذا الشأن كتاب: في فقه الحضارة العربية الإسلامية، طريق النهضة. لمؤلفه رفيق حبيب، دار الشروق، ط1، القاهرة.
[10] تاريخ ابن خلدون، (1/ 9).
[11] تاريخ ابن خلدون، (1/ 35(.
[12] التفسير الإسلاميُّ للتاريخ، د.عماد الدين خليل، ص(106).
[13] المرجع السابق، ص (97).
[14] الكامل في التاريخ، ابن الأثير الجزري، (1/ 9).
[15] وأصحاب هذه الكتب عملوا جاهدين على تزييف الحقائق، وبضاعتهم في المعرفة والتحقيق العلميِّ مزجاةٌ، وكذا اعتمدوا على مراجع واهنةٍ
واهيةٍ، من مثل كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والذي وضعه صاحبه للملوك والخلفاء، لشغل فراغهم بقصص ذوي الأهواء، وأهل الفنِّ، ولغرض تشويه العقيدة وأخبار التاريخ عند كل قاصدٍ لقراءته والنظر فيه.
[16] الكامل في التاريخ، ابن الأثير الجزري، (1/ 10).
[17] الطريق من هنا، محمَّد الغزالي، ص(16).
[18] سيدنا محمَّد r، محمَّد رشيد رضا، (1/ 242).