«القلعة الداخلية» هي حصن الإنسان الأهم، وقد تكون الأخير، منها ينبع الإيمان، ويتوجه السلوك، وبها يحتمي في الشدائد والمحن، هي القلعة الأصعب حتى في مواجهة الجيوش، والثبات فيها رباط وجهاد.
العدد الثاني
شعبان 1441 هـ – نيسان/أبريل 2020 م
[1][2] كتب الإمام ابن القيم -رحمه الله- أنَّ الله سبحانه وتعالى: «إنما خلق السماوات والأرض، وخلق الموت والحياة، وزيَّن الأرض بما عليها، لابتلاء عباده وامتحانهم، ليعلَمَ مَن يُريده ويريد ما عندَه، ممَّن يريد الدنيا وزينتها … فالناسُ إذا أُرسل إليهم الرُّسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنتُ أو لا يؤمن … ولا بدَّ من امتحان هذا وهذا. فأمَّا مَن قال: آمنتُ، فلا بدَّ أن يمتحنه الربُّ ويبتليه ليتبيَّن: هل هو صادقٌ في قوله آمنتُ، أو كاذبٌ، فإن كان كاذباً رجَعَ على عقبيهِ، وفرَّ من الامتحان، كما يَفرُّ من عذاب الله وإن كان صادقاً ثبتَ على قوله، ولم يزده الابتلاءُ والامتحانُ إلا إيماناً على إيمانه، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 22]»(2). فالجهاد ماض إلى يوم القيامة، والمواجهة بين الحق والباطل مستمرَّة، ومن حكمة الله جلَّ جلاله أن تكون الحرب سجالاً بين المؤمنين والكفرة.
وقد جاءت الأحاديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم التي تحثُّ على مواجهة العدو بمراتب الجهاد الثلاثة (اليد، واللسان، والقلب)، والتي لا ينفكُّ أحدها عن الآخر؛ والقلبُ هو المُحرِّك والباعث، وكلَّما امتلأ إيمانًا وتصديقًا، انعكس على الجوارح قولاً وفعلاً، وقد سمَّى النبيُّ عمل القلب جهادًا، وسمَّاه تغييراً، فعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (…فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ)[3]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ)[4]. وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا تُغْلَبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْجِهَادِ: الْجِهَادُ بِأَيْدِيكُمْ، ثُمَّ الْجِهَادُ بِأَلْسِنَتِكُمْ، ثُمَّ الْجِهَادُ بِقُلُوبِكُمْ، فَأَيُّ قَلْبٍ لَمْ يَعْرِفَ الْمَعْرُوفَ وَلاَ يُنْكِرُ الْمُنْكَرَ؛ نُكِّسَ فَجُعِلَ أَعْلاَهُ أَسْفَلَهُ)[5].
تؤكد الآثار على أنَّ الإنكار بالقلب فرضٌ، ومَن لم يُنكر بقلبه فقد هَلَك أو قارَب!
وهذا يدلُّ على وجوب إنكار المنكَر بحسب الإمكان والقُدرة، وأنَّ الإنكار بالقلب لا بدَّ منه، فمن لم يُنكر قلبُه المنكر؛ دلَّ على نقصان إيمانه، وقد وردَ هذا المعنى عن عددٍ من الصَّحابة رضي الله عنهم: فَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ قِيلَ لِحُذَيْفَة رضي الله عنه: مَا مَيِّتُ الأَحْيَاءِ؟ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْمَعْرُوفَ بِقَلْبِهِ، وَيُنْكِر الْمُنْكَرَ بِقَلْبِهِ»[6].
وَقَالَ عِتْرِيسٌ لِعَبْدِ اللهِ بنِ مَسعُود رضي الله عنه: «هَلَكَ مَنْ لَمْ يَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: بَلْ هَلَكَ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْمَعْرُوفَ بِقَلْبِهِ، وَيُنْكِرِ الْمُنْكَرَ بِقَلْبِهِ»[7].
وَقَالَ ابنُ مَسعُود أَيضَاً: «إِنَّهَا سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَبِحَسْبِ امْرِئٍ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا لاَ يَسْتَطِيعُ لَهُ غَيْر أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ كَارِهٌ»[8].
فهذه الآثار تؤكد على أنَّ الإنكار بالقلب فرضٌ، ومَن لم يُنكر بقلبه فقد هَلَك أو قارَب! ومن ثَمَّ نفهم لم سمَّى الرسول صلى الله عليه وسلم الإنكار بالقلب جهاداً وتغييراً؛ ذلك أنَّ المنكِر بقلبه ما يزال متحصنًا بقلعته الأخيرة، لم يستسلم للواقع، فهو لا يزال مؤمناً بمبادئه، واثقاً بصوابه، مستمسكاً بحقِّه، فلا يستوي هو والذي سلَّم القلعة، ونفَضَ يديه من المعركة؛ أما الأول: فهو يراقب الأحداث، ويتلمَّس الفُرص، ليخرج من القلعة، ويعود إلى الميدان. وأما الآخَر: فقد هُزم من الدَّاخلِ، واستكان للواقع، وصار إلى حالةِ سلامٍ خادع!
سمَّى الرسول صلى الله عليه وسلم الإنكار بالقلب جهاداً وتغييراً؛ ذلك أنَّ المنكِر بقلبه ما يزال متحصنًا بقلعته الأخيرة، لم يستسلم للواقع
ولذلك حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من الركون إلى هذا الوضع، لأنه يعلم أنَّ النفوس تَركَن وتسترخي! فقال: «وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»، وقال: «وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ»، حتى لا يتزحزح المؤمن عن موقفه مهما كانت الظروف وتبدَّلت الأحوال، وهذا هو الجهاد؛ فالجهاد القلبي هو أصل الجهاد ودافعه، وهو منطلق تغيير المنكَر، حتى في حال الاستضعاف، وإذا تأمَّلتَ حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (يُهْلِكُ النَّاسَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ!) قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: (لَوْ أَنَّ النَّاسَ اعْتَزَلُوهُمْ)[9]. أي أن بعض قريش -وهم الأحداث منهم لا كلهم- يُهلكون الناسَ بسبب طلبهم الملك والقتال لأجله؛ فتفسد أحوال الناس، ويكثر الخبط بتوالي الفتن[10]، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أسلوب من أساليب الجهاد وإنكار المنكَر عند العجز عن التغيير باليد واللسان، وهو التغيير بالاعتزال والكفِّ عن المشاركة، بالمبادرة إلى الاعتزال كحركةٍ جماعيةٍ؛ «لَو أنَّ النَّاسَ اعْتَزلُوهُمْ». وهو أسلوبٌ سِلميٌّ، بعدم مُناصرة الظَّلَمَة وشرعنة وجودهم وأفعالهم؛ بتجنُّب مخالطتهم وغشيان مجالسهم، وهو «الجهادُ الصَّامتْ»، الذي أباحه الشَّارع للعاجز، وأضعفُ مراتب الإنكار التي لا يجوز تركها، فـ «لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ!»، فإنَّك قد تلجأ في لحظةٍ إلى الخروج من ساحة القتال اضطرارًا بغير اختيارك، لكن ثمَّة قلعة أخيرة تحتمي بها وتَلجأ إليها، وطالما أنك محتمٍ بقلعتك لم تُسلِّمها لعدوِّك، فأنت في جهادٍ ورباط، تتحيَّن الفرصة للانقضاض، أما إذا سلَّمتَ آخر قلاعك، فقد انتهى الأمر وحلَّت الهزيمة!
قد تلجأ في لحظةٍ إلى الخروج من ساحة القتال اضطرارًا بغير اختيارك، لكن ثمَّة قلعة أخيرة تحتمي بها وتَلجأ إليها، وطالما أنك محتمٍ بقلعتك لم تُسلِّمها لعدوِّك، فأنت في جهادٍ ورباط
لقد تعلَّمت الجيوش أن الطريق الأسهل والأقلّ كلفة لإلحاق الهزيمة بالعدو يبدأ بالعمل على هزيمته من الداخل، بتعطيل إرادة القتال والاستمرار في المقاومة، فهذا النوع من الهزائم إذا تغلغل في النفوس وتسرَّب إليها، كان أشدّ فتكاً وأعظم أثراً، لِما يحدثه هذا النوع من الهزائم من آثار كبيرة، لعلَّ أخطرها: أن تجعل المهزوم يرى في مبادئه وقناعاته سبب هزيمته، ويرى في مبادئ عدوِّه سبب انتصاره، فيسعى للتبرؤ من أفكاره، وهنا تكون الطامَّة!
إن أخطر الأعداء هو الذي لا يكتفي بكتابة التاريخ، ولا برسم الجغرافيا، بل الذي يُكرّس الهزيمة في نفس عدوِّه، تلكَ لعمري هي الهزيمةُ الكبرى؛ لأنها أطولُ الهزائمِ، ومن أسوأ نتائجها: أن يسعى المهزوم للتصالح معَ هزيمتِهِ، والتنازل عن قناعاته ومبادئه، أو التنكُّر لها ومحاربتها! وقد قال سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : «إذا أحبَّ أحدكُم أن يعلمَ أصابتهُ الفتنةُ أم لا، فلينظُر؛ فإن كان رأى حلالاً كان يراهُ حرامًا، فقد أصابته الفتنة، وإن كان يرى حرامًا كان يراهُ حلالاً فقد أصابته». فهذا التبدُّل أمارةٌ على ارتياب هذا المتلوِّن في دينه ومنهجه، يُخالفُ الثَّباتَ على الحقِّ، ولهذا كانَ السَّلَف «يرونَ التَّلوُّنَ في الدِّينِ مِن شكِّ القُلوبِ في الله!»، كما قَال إبراهيم النَّخعي رحمه الله.
فالمؤمن أبداً لا يتنازل عن مبادئه ولا يساوم على حقِّه.
تزولُ الجبَالُ الرَّاسيَات وقلبُه
على العَهْـد لا يَلْـوي ولا يـتَغيَّرُ
[1] ماجستير في الفقه، باحث شرعي ومدرس.
[2] إغاثة اللهفان من مصائد الشَّيطان (2/176-192).
[3] أخرجه مسلم (50) عن ابن مسعود.
[4] أخرجه مسلم (49) عن أبي هريرة.
[5] أخرجه ابن أبي شيبة (37577).
[6] أخرجه ابن أبي شيبة (37581).
[7] أخرجه ابن أبي شيبة (37582).
[8] أخرجه ابن أبي شيبة (8/667).
[9] أخرجه البخاري (3604)، ومسلم (2917).
[10] ينظر: فتح الباري (13/10).