مدخل:
الأمم التي تتفوق في مجالات القوة العسكرية والاقتصادية، وتزدهر فيها الحياة والصناعات، وتتقدم على غيرها في موازين الصراعات؛ يصيبها نوعٌ من الزهو والغرور، وتبدأ في البغي والظلم بلا رادع أو وازع، حتى تتسلل إلى أفكار قادتها قناعات خطيرة من قَبيل: استحقاقهم الدائم للتفوق والسيطرة، أو أنّ الأفول والسقوط لن ينال منهم.
وفي المقابل تتسلل أفكار أخرى للشعوب المهزومة أمام قوة وبطش الأمم الغالبة، من قَبيل: أنّه لا سبيل إلى هزيمة هؤلاء المتجبِّرين، وأنّه لا فائدة من مقاومتهم أو السعي في امتلاك أسباب القوة والنهوض؛ ناظرين إلى ضخامة ما تملكه هذه القوى من إمكانات بالمقارنة مع ضعف المغلوب وضآلة إمكاناتهم.
أو قد يرى الطرفان (الغالب والمغلوب) أنّ الأمر يحتاج إلى قرون طويلة، أو أجيال متعاقبة حتى تتغير موازين القوى ويتراجع نفوذ القوي ويتقدم الضعيف إلى الأمام.
لمن السيطرة والنفوذ؟
يبدو العالم الغربي اليوم قويًا للغاية؛ فهو المتفوق في الميزان العسكري والاقتصادي، ولديه شبكة واسعة من التحالفات الدولية، وهو الذي يدير المنظمات الأممية التي تتدخل في شؤون دول العالم، فضلاً عن الفجوة الهائلة من التفوق الصناعي والتقني بين العالم الغربي وبقية دول العالم، وقل مثل ذلك عن مجالات الاتصالات والطب والدواء وحتى الزراعة وإنتاج الغذاء… والقائمة تطول، وأمام هذه القوة الهائلة تتضاءل إمكانات ما يسمى “دول العالم الثالث”، حتى إنّ اليأس قد يصيب بعض النفوس من ضخامة الفجوة. فهل باتت الأمور تحت سيطرة العالم الغربي بالكامل؟ وإلى متى ستستمرّ هذه السيطرة؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من تقرير أنّ الله تعالى هو من يدبر الأمور، قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يونس: 3]، وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2]، وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]. فهو الخالق لكل شيء، والقادر على كل شيء، العليم بكل شيء، خلق الخلائق وقدر أحوالها وأحاط بها علمًا، وكل شيء يجري في هذا الكون بتدبير الله تعالى وتقديره، قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)[1]. وقال صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدَر، حتى العجز والكَيْس)[2].
وهذا يعني أنّ كل هذه القوة حصلت لهم بعلم وإذن من الله، وأنّ كل ما يحصل اليوم إنّما قدَّره الله وأَذِن به لحكمةٍ بالغةٍ يريدُها وهو الحكيم العليم.
إنّها السنن:
لله طريقة في إدارة الكون وتسيير الخلق تُعرف بالسنن، وهي قوانين عامة شاملة، تنطبق على جميع الأمم والشعوب، لا تحابي أحدًا ولا تتخلّف عن قوم، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62]، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43]، جاء بها القرآن ووضحتها سنّة النبي صلى الله عليه وسلم، ودل عليها استقراء التاريخ ودراسة الحراك البشري.
من أهم هذه السنن: سنّة استبدال الأمم، ومقتضاها أنّ الأمة إن خرجت عن الطريق السوي الذي ارتضاه الله لها، ولم تؤدِّ رسالتها الموكلة لها، وتجاوزت حدها بالكفر والتكذيب والظلم والطغيان؛ فقد عرّضت نفسها للزوال والاستبدال بأمم أخرى تقوم مقامها وتحل مكانها؛ لتُختبر هي الأخرى، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
وقد قص علينا القرآن قصص الأمم السابقة مثل قوم فرعون، وعاد، وثمود، وبني إسرائيل؛ لنتدارسها ونتعظ بها، ونفهم حركة التاريخ من خلالها، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9]، وقال جل شأنه: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137].
لله طريقة في إدارة الكون وتسيير الخلق تُعرف بالسنن، وهي قوانين عامة شاملة، تنطبق على جميع الأمم والشعوب، لا تحابي أحدًا ولا تتخلف عن قوم، جاء بها القرآن ووضحتها سنّة النبي صلى الله عليه وسلم، ودلّ عليها استقراء التاريخ ودراسة الحراك البشري
إهلاك الأقوام السابقين:
عند التأمل في أخبار الأمم السابقة وما ورد فيها من نصوص شرعية يتبين أنّ من أهم أسباب هلاك الأمم السابقة:
1. الكفر والتكذيب:
فقضية الإيمان والتوحيد هي أعظم ما جاءت به رسالات الأنبياء ودعواتهم لأقوامهم، وما عُصي الله بأعظم من الشرك والكفر به، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، ومن ثمّ فإنّ الكفر بالله تعالى وعصيان أمره كان هو السبب الأعظم في نزول نقمة الله تعالى وهلاك تلك الأمم وزوالها، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [غافر: 22].
ومن ذلك: الجحود والتكذيب بعد معرفته، كما وقع من بلعام بن باعوراء الذي آتاه الله العلم ومع ذلك اتبع هواه وحارب دين الله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ 175 وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175-176].
2. البطر والترف:
النكران والجحود الذي يعتري النفس البشرية بعد أن يحصل لها الظفر بالدنيا ومتاعها فينقلب من الشكر لضده؛ سبب لنيل العذاب والتنكيل، قال تعالى في قوم سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ 15 فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 15-16].
وكما حصل من قارون الذي آتاه الله مالاً عظيمًا، فبطر نعمة الله، ونسبها لنفسه: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]، فحقّت عليه العقوبة: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص: 81]، وفي القرآن أمثلة أخرى، مثل صاحب الجنة في سورة الكهف، وأصحاب الجنة في سورة القلم.
3. الظلم والطغيان:
الظلم من أهم أسباب هلاك الأمم والشعوب وزوال حضارتها؛ لما فيه من إفساد الحياة بكافة مظاهرها الشخصية والمجتمعية، والنفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فلا صلاح للدين والدنيا مع الظلم، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
ومن ذلك أخذه تعالى لقوم عاد الذي تجبروا وطغوا وبغوا حتى قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8].
فالحَيف وسلب الحقوق وإهدار الكرامات مبعث الشقاء ومثار الفتن، قال شمس الدين الغرناطي: “نِيَّةُ الظلم كافية في نقص بركاتِ العمارة؛ فعن وَهْب بن منبه: إذا همّ الولي بالعدل أدخل الله البركاتِ في أهل مملكته حتى في الأسواق والأرزاق، وإذا همّ بالجَور أدخل الله النقص في مملكته حتى في الأسواق والأرزاق”[3].
4. ارتكاب الذنوب والمعاصي:
فشيوع الفساد في الدين والأخلاق والمعاملات من أعظم أسباب تنزّل غضب الله تعالى وعقوبته، قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6].
فقد كان انحراف قوم شعيب في الجانب الاقتصادي، وانحراف قوم لوط في الجانب الأخلاقي، وكلّهم قد نالهم نصيب من العذاب، كما عاب الله تعالى على قوم لوط أمورًا أخرى غير الفاحشة القبيحة، {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29]، وكانت من جملة أسباب إهلاكهم.
الحَيف وسلب الحقوق وإهدار الكرامات مبعث الشقاء ومثار الفتن، قال شمس الدين الغرناطي: “نِيَّةُ الظلم كافية في نقص بركاتِ العمارة؛ فعن وَهْب بن منبه: إذا همّ الولي بالعدل أدخل الله البركاتِ في أهل مملكته حتى في الأسواق والأرزاق، وإذا همّ بالجَور أدخل الله النقص في مملكته حتى في الأسواق والأرزاق”
سنة الاستدراج:
قد يظن بعض الناس -خصوصًا في هذا العصر- أنّ عصر القضاء على الأمم بسبب كفرها أو طغيانها أو عصيانها قد انتهى؛ لما يرون من طول تمكين الشر وطول استضعاف أهل الإسلام، ولما يرونه من ضخامة الإمكانات المادية التي يمتلكها أهل الباطل، إلى درجة تحكمهم في مجتمعاتنا وما تتلقاه في الإعلام والتعليم، وقدرتها على إحداث الفتن والشقاقات داخل الصف الواحد. وهذا لا شك أنّه ناتج عن قصور النظر في التاريخ والسنن، فالله تعالى لا يعاجل الأمة المستحقة بالعذاب، بل يتركهم حتى يطمئنوا ويظنوا أنّهم قد تمكنوا من أسباب البقاء والخلود.
هذه هي سنة الاستدراج، وهي من السنن الإلهية الكبرى، والتي تعني الإمهال لمستحق العذاب؛ فلا يعاجله الله تعالى بالعقوبة، بل يتركه سادرًا في غوايته، مغترًا بما أنعم الله عليه، حتى يخيل إليه أنّه قد نجا من العذاب، وأنّه مستحق لما فيه من النعم، حتى يأتيه العذاب فجأة فيكون أشد وأنكى، قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]، ورد عن أبي موسى رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى لَيُمْلِي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْهُ)، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102][4].
وقد حذر تعالى من الأمن من مكره، والركون إلى استدراجه، {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] وأنّ سنّته في الأقوام الإملاء لهم: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
كما أخبر عن وقوع العذاب في آخر الزمان على أمم وأقوام بسبب كفرهم وتكذيبهم وفسادهم، ومن ذلك:
فساد بني إسرائيل وعلوهم، كما قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا 4 فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا 5 ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا 6 إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 4-7].
كما حذر صلى الله عليه وسلم من العاقبة الوخيمة لفساد المجتمعات، فقال: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)[5]، وهو أمر ملاحظ مشهور في الوقت الحالي.
قال سيد قطب رحمه الله: “هذه وقفة في سياق السورة (الأعراف) للتعقيب على ما مضى من قصص قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقفة لبيان سنة الله التي جرت بها مشيئته وحققها قدره بالمكذبين في كل قرية… وهي سنة واحدة يأخذ الله بها المكذبين ويتشكل بها تاريخ الإنسان في جانب منه أصيل، أن يأخذ الله المكذبين بالبأساء والضراء لعل قلوبهم ترق وتلين وتتجه إلى الله…
فإذا لم يستجيبوا أخذهم بالنعماء والسراء، وفتح عليهم الأبواب، وتركهم ينمون ويكثرون ويستمتعون، كل ذلك للابتلاء، حتى إذا انتهى بهم اليسر والعافية إلى الاستهتار والترخص، وإلى الغفلة وقلة المبالاة، وحسبوا أن الأمور تمضي جزافًا بلا قصد ولا غاية، وأن السراء تعقب الضراء من غير حكمة ولا ابتلاء، وأنه إنما أصابهم ما أصاب آباءهم من قبل؛ لأن الأمور تمضي هكذا بلا تدبير: {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} أخذهم الله بغتة، وهم سادرون في هذه الغفلة”[6].
يظن بعض الناس أنّ عصر القضاء على الأمم بسبب كفرها أو طغيانها أو عصيانها قد انتهى؛ لما يرون من طول تمكين الشر وطول استضعاف أهل الإسلام، وهذا ناتج عن قصور النظر في التاريخ والسنن، فالله تعالى لا يعاجل الأمة المستحقة بالعذاب، بل يتركهم حتى يطمئنوا ويظنوا أنهم قد تمكنوا من أسباب البقاء والخلود
والمسلمون ليسوا استثناء:
كان خطأ بني إسرائيل الأعظم أنّهم ظنوا أنّ تفضيل الله لهم على الأمم السابقة هو تفضيل نهائي لا رجعة فيه، وأنّهم بذلك يستحقون المكانة الرفيعة عند الله، فقالوا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، ووصل بهم الحال إلى اعتقاد أنّهم يستحقون الجنة على أي حال: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111]، ولهم اعتقاد خاص في النار: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80].
لذا ورد في شريعتنا التحذير من سلوك طريق الاغترار الذي وقع به مَن سبق، وأنّ سنة الإهلاك والاستبدال لا يستثنى منها أحد، فقد وردت عدة أحاديث بالتحذير بقول (إنّما أهلك من كان قبلكم…) وهذا دليل على أنّها سنن سارية في البشرية ما دار الزمان وتعاقب الليل والنهار.
وجاء في تحذير هذه الأمة من الهلاك والعقاب: (أخشى عليكم أن تُبسَطَ عليكم الدنيا كما بُسِطَت على من كان قبلَكُم، فتَنافَسوها كما تَنافَسوها، وتُهْلِكَكم كما أهْلَكَتهم)[7]، وحديث: (اتقوا الظلم، فإنّ الظلم ظُلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشُّحّ، فإنّ الشح أهلك مَن كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دِماءهم واستحلّوا محارمهم)[8].
وقوله: (في هذه الأمة خَسْفٌ ومَسْخٌ وقَذْفٌ)، فقال رجل مِن المسلمين: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: (إذا ظَهَرَت القَينات والمعازفُ وشُرِبَتْ الخمورُ)[9].
نظرة على العالم اليوم:
يشهد العالم اليوم حالة متصاعدة من التجبر والغطرسة، وانحطاطًا إلى أدنى الدركات في الأخلاق والقيم، ومصدر هذه الحالة اليوم ليس أمة من الأمم أو دولة من الدول كما كان يحصل في السابق، لكنه تضافر دولي وتواطؤ عام على الظلم بأعتى صوره وأبشع أشكاله.
فالرأسمالية المتوحشة وأدواتها من صندوق النقد الدولي والمصارف المحلية تكرس غنى الأغنياء وتزيد الفقراء فقرًا، والأسلحة الفتاكة التي يختص بعضها بنشر الأوبئة والأمراض وبعضها بقتل الأحياء وبعضها بصنع دمار شامل لا ينجو منه بشر ولا حجر، والقوانين والأنظمة التي تراعي القوي وتقهر الضعيف، وتتيح للقاتل أن يسرف في القتل وتمنع الضحية من الدفاع عن نفسها، والإعلام الذي ينشر الرذيلة والفتنة ويحارب الفضيلة والوحدة؛ كلّها مظاهر لحالة تواطؤ عالمي على الكفر والظلم وأنواع الآفات والشرور التي بسببها محقت أمم ومحيت دول فيما مضى.
أما الكفر فقد بلغ في الغرب غايته، فبدلاً من أن يعملوا جهدهم في البحث عن الحقيقة وصراط الله المستقيم، إذا بالإلحاد يستشري فيهم كاشتعال النار في الهشيم، مدعومًا بنظرية التطور التي استخدمت وكرست بقوة وسطوة المجتمع العلمي، واضطهد مخالفوها وضيق عليهم حتى في أكثر الدول حماية لحرية الرأي والمعتقد.
ومن جانب آخر يشهد المراقب تيهًا عقديًا يدعو للعجب! فبعد أن كانوا أبناء ديانة سماوية شابها التحريف، إذا بهم يظهرون التقدير والاحترام للديانات الوثنية الشركية متعددة الآلهة، ويستدعون من الميثولوجيات الشعوبية التاريخية معتقدات تصادم العقل والفطرة ولا يدل عليها دليل صحيح يقبله العقل السليم، وكم سمعنا عن اتباع أعداد كبيرة من الغربيين للديانات الشرقية وللشامانيات المحلية ورموزها بما يدعو للعجب.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل وصلوا إلى حد عبادة الشيطان نفسه، وتكريس رموز هذه الديانة الشيطانية في مختلف الأعمال الفنية والثقافية والإعلامية، في تحدٍّ صارخٍٍ لله تعالى ولتوحيده.
ومن جانب آخر هذه الولايات المتحدة الأمريكية -مع حلفائها وأتباعها- تدافع عن ربيبتها (دولة الاحتلال) وتمدها بأسباب القتل والفتك والبطش بالمدنيين العزّل، وتنافح عن جرائمها في المجامع الدولية، وتشوه الحقائق وتزوّر التاريخ، إلى جانب كل ما سبق ذكره من التجبر السياسي والمالي والعسكري والإعلامي والأخلاقي؛ يجعلنا نعتقد بما لا يدع مجالاً للشك أنّها في قمة زهوها وطغيانها، وأنّ السنن آتية عليها لا محالة، وأنّها أيام وسنوات يمليها الله لهم ثم يُجري عليهم سنّته في أفول الأمم وزوال الدول، قال جل شأنه: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].
يشهد العالم اليوم حالة متصاعدة من التجبر والغطرسة، وانحطاطًا إلى أدنى الدركات في الأخلاق والقيم، ومصدر هذه الحالة اليوم ليس أمة من الأمم أو دولة من الدول كما كان يحصل في السباق، لكنه تضافر دولي وتواطؤ عام على الظلم بأعتى صوره وأبشع أشكاله.
إنّ ما صبّر السوريين في محنتهم والفلسطينيين في مآسيهم، وغيرهم من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها هو هذه العقيدة الراسخة في النفوس المؤمنة، التي يفهم بها المؤمن صفات الله تعالى من القدرة والحكمة والتدبير، ومعاني سنن الله من الابتلاء والإملاء والاستبدال وغيرها؛ فسطّروا بذلك أروع صفحات التضحية والبطولة والانتصار
حكمة عظيمة:
الدنيا دار ابتلاء، والابتلاء الذي فيها صعب وشاق {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37]، ومن مقتضيات هذا الابتلاء أن يظهر فيه مدى يقظة الناس وغفلتهم، وأن يتميز صادق الإيمان من الكاذب المدعي، فإذا عجل الله العقوبة للناس بكل ظلم يفعلونه كان الابتلاء ناقصًا، وسيستقيم كثير من الناس لا لإيمانهم بل لخوفهم من العقوبات العاجلة، لكن عندما يمليهم ويتركهم سادرين في غيهم، فإنّ الابتلاء يكون أكمل وتكون العقوبة أكثر استحقاقًا، ويكون المؤمن المستضعف أرفع درجة بطول صبره وشدة معاناته وعمق إيمانه.
وهذه حكمة عظيمة من حكم التلازم بين سنّتي الاستبدال والاستدراج، ولا تطمئن نفس المؤمن إلا بفهمها وتدبرها والنظر إلى الأمور وفق منظورها ومقتضاها.
بل يمكن القول: إنّ ما صبّر السوريين في محنتهم والفلسطينيين في مآسيهم وغيرَهم من أهالي البلاد المنكوبة في مشارق الأرض ومغاربها هو هذه العقيدة الراسخة في النفوس المؤمنة، التي يفهم بها المؤمن صفات الله تعالى من القدرة والحكمة والتدبير، ومعاني سنن الله من الابتلاء والإملاء والاستبدال وغيرها؛ فسطّروا بذلك أروع صفحات التضحية والبطولة والانتصار.
أسرة التحرير
[1] أخرجه مسلم (2653).
[2] أخرجه البخاري (2655)، والكَيْس بفتح الكاف: ضد العجز، ومعناه الحِذق في الأمور، ويتناول أمور الدنيا والآخرة. ومعنى الحديث: أنّ كل شيء لا يقع في الوجود إلا وقد سبق به علم الله ومشيئته. فتح الباري (11/478).
[3] بدائع السلك في طبائع الملك، لابن الأزرق الغرناطي (1/227).
[4] أخرجه البخاري (4686) ومسلم (2583).
[5] أخرجه ابن ماجه (4019).
[6] في ظلال القرآن، لسيد قطب (3/1335).
[7] أخرجه البخاري (3158) ومسلم (2961).
[8] أخرجه مسلم (2578).
[9] أخرجه الترمذي (2212).