يقدِّم المقال رسالة أملٍ للشعب السوري بعد تحرُّره مِن نظامٍ استبداديٍّ، مستلهمًا قول موسى عليه السلام: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}. يشرح المقال ثلاثيةً قرآنيةً متكاملةً لرفض اليأس والاستسلام، واستحضار المعيّة الإلهية، مع اليقين بالهداية الإلهية. ويطبّق هذه الثلاثية منهجًا شاملاً لمواجهة التحدّيات النفسية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية في سوريا الجديدة.
في لحظةٍ فارقةٍ من تاريخ البشرية، حيث وقف الباطل شامخًا متكبرًا، والحقّ مُطارَدًا مُحاصَرًا، انطلقت كلماتٌ خالدةٌ من حنجرة نبيٍّ كريمٍ، لتصبح منهاجًا للأجيال، ومنارًا للشعوب، ودستورًا لكلِّ مَن أراد النجاة في زمن المِحَن والأزمات، وقف موسى عليه السلام على شاطئ البحر، والموت يتربّص به وبمن معه من المؤمنين المستضعفين، البحر أمامهم سدٌّ منيعٌ، وفرعون وجنوده خلفهم بخيلهم ورجلهم وعتادهم، في موقفٍ بدا فيه الهلاك حتميًّا وفقَ كلِّ المعايير المادّية والحسابات البشرية، هنا ارتفعت صيحات اليأس من المحيطين بموسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}، صرخة الاستسلام والهزيمة النفسية قبل الهزيمة الميدانية، صوت اليأس الذي لا يرى في الأفق إلا الظلام، لكنَّ صوتًا آخر علا فوق هذه الصيحات، صوتٌ عظيمٌ يحمل في طياته قوّة الإيمان وعظمة اليقين وروعة التوكّل: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، إنّها صرخة الثقة بالله والرفض القاطع للاستسلام، إعلان الإيمان بوعد الله ونصره، واليقين بمعيّته وهدايته، حتى في أحلك الظروف وأصعب اللحظات.
وإذا نظرنا إلى واقع سوريا اليوم بعد أن تحرّرت من نظامٍ استبداديٍّ جاثم على صدرها لنصف قرنٍ، قَتلَ فيه الملايينَ وزجَّ بالأحرار في غياهب السجون، ألا نجد أنفسنا أمام مشهد شبيه بمشهد قوم موسى؟ بحرٌ من التحدّيات أمامنا: إعادة الإعمار، علاج الجراح، بناء المؤسسات، تحقيق المصالحة، مواجهة الأطماع الخارجية، وجيوشٌ من المصاعب والعقبات خلفنا: تركةٌ ثقيلةٌ من الدمار والخراب، تشتتٌ وتمزقٌ، فقرٌ وبطالةٌ، انهيارٌ اقتصاديٌّ، وجروحٌ نفسيّةٌ عميقةٌ، وكما في ذلك الموقف التاريخيِّ تعلو اليوم أصوات مَن يردّدون بنبرة اليائس المهزوم: “إنّا لمدركون”، لا أمل، لا مستقبل، لا خلاص، الوضع معقدٌ للغاية، والمستقبل مظلمٌ، والتحدّيات أكبر من طاقتنا.
لكنَّ الصوت الذي ينبغي أن يعلوَ فوق هذه الأصوات اليائسة هو صوت الإيمان والثقة والأمل: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}، نعم، نحن نواجه تحدّياتٍ جسيمةً، لكنَّ الله معنا، نعم، الطريق وعرٌ وطويلٌ، لكنَّ الله سيهدينا، دعونا نجعل من هذه الآية الكريمة شعارًا لحياتنا، ودستورًا لنهضتنا، ومنهجًا لتجاوز محنتنا.
الثلاثية القرآنية.. منهجٌ متكاملٌ لمواجهة الأزمات:
إن المتأمل في آية {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} يجدُ أنها تتضمن ثلاثيةً متكاملةً، تشكل منهجًا شاملاً للتعامل مع الأزمات والخروج من المِحَن، منهجٌ يصلحُ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، ولكلِّ فردٍ وجماعةٍ وأمةٍ.
المرحلة الأولى “كَلَّا”، رفضُ اليأسِ والاستسلامِ:
“كَلَّا” في اللغة العربية أداةُ ردعٍ وزجرٍ، تُستعمل لإبطال ما قبلها، ونفيه نفيًا قاطعًا، وعندما أطلقها موسى عليه السلام كان يردُّ بها على مقولة أصحابه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}، فكأنّه يقول لهم: “كلا، لستم مدرَكينَ، كلا، لن يصل إليكم فرعون وجنوده، كلا، لن تهلكوا ولن تموتوا، كلا لكلِّ أفكار العجز والخضوع والاستسلام”، هذه الـ “كَلَّا” القرآنيةُ هي مفتاحُ النصر الأول؛ فلا يمكن لإنسانٍ أن ينتصر وهو يعتقد بهزيمته، ولا يمكن لشعبٍ أن يتحرّر وهو مستسلمٌ في عقله وقلبه قبل جسده.
{كَلَّا}، وهي كلمةُ ردعٍ وزجرٍ للفكرة المتسلّلة إلى قلوب المؤمنين، لم تكن مجرّد “لا” بسيطةٍ، بل هي أقوى وأشدُّ، فهي تقتلعُ جذور اليأس من أعماق النفس، وكأنه يقول: هذه الفكرة لا ينبغي أن تخطر على بالكم أصلاً، في هذه الكلمة الموجزة تتجلّى قوّة الرفض المطلق للهزيمة، وإعلانُ الثورة على الاستسلام، إنّها الضربةُ الأولى في معركة الروح ضدَّ سلطان الخوف.
في سوريا اليوم نحتاج إلى هذه الـ “كَلَّا” في كلِّ مجالات حياتنا، في مجال التعليم نقول: كلا، لن تبقى مدارسنا مدمرةً وتعليمنا متدهورًا، وفي مجال الصحة نقول: كلا، لن يموتَ مرضانا لنقص الدواء والعلاج، وفي مجال الاقتصاد نقول: كلا، لن يستمر الفقر والبطالة تفتك بشبابنا، وفي مجال السياسة نقول: كلا، لن نعود إلى نظام الحزب الواحد والفكر الواحد والرأي الواحد.
عندما اندلعت الثورة السورية ضدَّ نظام الاستبداد كانت صيحاتهم “يا الله ما لنا غيرُك يا الله” تجسيدًا عمليًّا لهذه الـ “كَلَّا”، كانت صرخةَ رفضٍ لواقعٍ لا يليق بالإنسان، وإصرارًا على الكرامة والحرّيّة، رغمَ كلِّ التوقعات التشاؤمية التي كانت تؤكّد استحالة مواجهة نظامٍ يملك أدوات القمع والبطش، ورغمَ كلِّ الدماء والتضحيات نصرَ اللهُ تعالى الشعب السوري في كسر حاجز الخوف، وأثبتَ للعالم أن “كَلَّا” واحدةً صادقةً قادرةٌ على هدم قلاع الظلم وأوكار الاستبداد.
المعيّة الإلهية هي سرُّ القوة الحقيقية، وينبوع الأمل الذي لا ينضَب، فالمعيّة تعني أنّ الله مع عبده بعلمه وسمعه وبصره ونصره وتأييده، وعندما يستشعرُ الإنسان أنّ الله معه يتلاشى الخوف من قلبه، وتزول الرهبة من نفسه، ويشعر بقوةٍ لا تُقاس بقوى البشر، وعزةٍ لا تعادلها عزةُ المال أو السلطان
المرحلة الثانية “إِنَّ مَعِيَ رَبِّي”، استحضارُ المعيّة الإلهية:
بعد “كَلَّا” القاطعة يأتي الاستنادُ إلى قوةٍ لا تُقهر وقدرةٍ لا تُحدُّ: “إِنَّ مَعِيَ رَبِّي”، وهنا نلاحظ بلاغة القرآن العظيمة، فأتى بحرف التوكيد {إِنَّ} ليبدد كلَّ ظلال الشكّ، ويصبَّ الحقيقة في قالب اليقين الجازم.
وموسى عليه السلام لم يقل “إنّ ربي معي”، بل قال “إِنَّ مَعِيَ رَبِّي”، بتقديم الظرف “معي” على المبتدأ “ربي”، وهذا يفيد الاختصاص والتأكيد، أي: إنّ معي أنا، لا مع غيري، ربي الذي يرعاني ويحفظني وينصرني ويدبّر أمري.
هذه المعيّة الإلهية هي سرُّ القوة الحقيقية، وينبوع الأمل الذي لا ينضَب، فالمعيّة تعني أنّ الله مع عبده بعلمه وسمعه وبصره ونصره وتأييده، كما قال تعالى لموسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وعندما يستشعرُ الإنسان أنّ الله معه يتلاشى الخوف من قلبه، وتزول الرهبة من نفسه، ويشعر بقوةٍ لا تُقاس بقوى البشر، وعزةٍ لا تعادلها عزةُ المال أو السلطان.
ولاحظ كيف اختار اسمَ الربوبية تحديدًا، وأضافه إلى نفسه؛ ليحيي في القلوب معاني الرعاية والحفظ والعناية الخاصة، وهذا يُشعر بالدفء والألفة والأمان الشخصيِّ.
في سوريا الجديدة نحتاج إلى استحضار هذه المعيّة الإلهية في كلِّ شؤون حياتنا، نحتاج إلى يقينٍ راسخٍ بأنّ الله معنا، يسمعنا، يرى معاناتنا، يعلم آلامنا، ولن يتخلّى عنّا ما دمنا متمسّكين بحقِّنا، ساعين في الإصلاح والبناء، هذه المعيّةُ ليست شعارًا نرفعُه، بل حقيقةٌ نعيشها، ومنهجٌ نتبعُه، وسلوكٌ نلتزمُ به، واللهُ سبحانه وتعالى يجعل معيّته الخاصة لفئاتٍ محددةٍ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194]، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].
ولذلك، فإنّ استحضار المعيّة الإلهية يتطلّب منّا العملَ على تحقيق شروطها: الصبر، والتقوى، والإحسان، ولا يكفي أن نقول “إِنَّ مَعِيَ رَبِّي” باللسان، بل يجبُ أن نسعى بجدٍّ لنكون من الصابرين المتّقين المحسنين؛ لنستحقَّ هذه المعية الخاصّة، ولا شكَّ أنّ الشعب السوريّ قد أثبتَ عبرَ سنواتِ صراعه مع الاستبداد صبرًا منقطع النظير، وتضحياتٍ جسيمةً، وثباتًا على المبادئ رغمَ كلِّ الإغراءات والضغوط، وهي صفاتٌ تؤهله بإذن الله تعالى لاستحقاق المعيّة الإلهية الخاصّة.
نحتاج إلى يقينٍ راسخٍ بأنّ الله معنا، يسمعنا، يرى معاناتنا، يعلم آلامنا، ولن يتخلى عنّا ما دمنا متمسّكين بحقِّنا، ساعين في الإصلاح والبناء، هذه المعيةُ ليست شعارًا نرفعُه، بل حقيقةٌ نعيشها، ومنهجٌ نتبعُه، وسلوكٌ نلتزمُ به
المرحلة الثالثة “سَيَهْدِينِ”، اليقينُ بالهداية الإلهية:
الجزء الثالث من الثلاثية القرآنية هو “سَيَهْدِينِ”، وهو تعبيرٌ عن ثقةٍ مطلقةٍ بأنّ الله تعالى سيهدي عبده إلى طريق النجاة والخلاص، ولاحظ دقةَ التعبير القرآنيِّ: لم يقل موسى “سينجيني” أو “سينصرُني”، بل قال “سَيَهْدِينِ”؛ لأنّ الهداية أشملُ وأعمُّ، فالهداية تعني الإرشاد إلى الطريق الموصل للمقصود، وهذا يشمل النصر والنجاة واستشراف المستقبل ومعرفة الاستراتيجيات من صور الفَرَج والخلاص.
وحرفُ السين في “سَيَهْدِينِ” يفيدُ الاستقبال القريب، وليس مثل “سوف” التي تفيد البعيد؛ أي أنّ الهداية آتيةٌ عن قريبٍ، وهذا يبعثُ الطمأنينة في النفس، ويزرعُ الأمل في القلب، ويُشعر المؤمن بأنّ الفَرَج قريبٌ، وأنّ الله لن يتركَه في محنته طويلاً.
ولم يقيّد الهداية بشيءٍ محدّدٍ، فلم يقل: “سيهديني للنجاة” أو “سيهديني للطريق”، بل أطلقها لتشملَ كلَّ أنواع الهداية التي تليقُ بالمقامِ: هدايةَ التوفيق، وهدايةَ الإرشاد، وهدايةَ الحفظ، وهدايةَ النصر.
أمّا ما يسمى بنونِ الوقاية في “سَيَهْدِينِ” فهي تضفي على الفعل طابعًا شخصيًا حميمًا، فالهدايةُ موجّهةٌ إليه تحديدًا، مخصوصٌ بها، مستهدَفٌ بعنايتها.
فالآيةُ جمعت بين ثلاث مراحلَ متكاملةٍ لمواجهة المِحَن: الرفضِ (كلا)، ثمّ الثقةِ (إنّ معي ربي)، ثمّ الاستشرافِ (سيهدين)، وهذه خريطةٌ نفسيةٌ كاملةٌ للخروج من الأزمات.
والمتأملُ في سياق القصّة يجدُ أنّ هذه الكلمات الإيمانيةَ لم تكن مجردَ شعارٍ، بل كانت مفتاحًا لتدخّلٍ إلهيٍّ عظيمٍ، فما إن نطقَ بها موسى عليه السلام حتى جاءَ الوحيُ: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63].
وكأنّ هذه الآيةَ هي “كلمة السرّ” التي تفتحُ خزائنَ الرحمة الإلهية؛ فحينَ تجتمعُ نغماتُ اليقين الصادق في قلب العبد تتجاوبُ معها أركانُ الكون، وتترتّبُ عليها معجزاتٌ لا تخطرُ على البال، وهذا أمرٌ نراهُ في سير الأنبياء والصالحين عبر التاريخ؛ كلّما بلغَ اليقينُ ذروتَه في نفوسهم تجلّت آياتُ الله في الكون من حولهم.
في سوريا اليوم نحتاج إلى هذا اليقين بأنّ الله سيهدينا إلى سبل النجاة من أزماتنا، وإلى طرق التغلّب على تحدّياتنا، وإلى وسائل بناء دولتنا الجديدة، وعلينا أن نوقنَ بأنّ الله سيهدينا إلى حلولٍ لمشاكلنا مهما بدت معقدةً، وإلى مخارجَ من أزماتنا مهما بدت مستعصيةً.
والهدايةُ الإلهيةُ تتجلّى في صورٍ متعدّدةٍ: قد تكونُ إلهامًا لفكرةٍ جديدةٍ، أو توفيقًا لعملٍ صالحٍ، أو تسديدًا لرأيٍ صائبٍ، أو تيسيرًا لأمرٍ عسيرٍ، وقد تجلّت هذه الهدايةُ في تاريخ الشعب السوريّ عبرَ مراحل نضاله المختلفة، فرغمَ كلِّ المؤامرات والمكائد، ورغمَ كلِّ أشكال الدعم الخارجيِّ للنظام الاستبداديِّ، وفّق اللهُ تعالى الشعب السوريَّ ليجدَ طرقًا للصمود والاستمرار، ووسائلَ للمقاومة والنضال، حتى تمكّنَ في النهاية من إسقاط هذا النظام وكلِّ حلفائه وتحقيق حلمه بالحرّية والكرامة.
في سوريا اليوم نحتاج إلى هذا اليقين بأن الله سيهدينا إلى سبل النجاة من أزماتنا، وإلى طرق التغلب على تحدّياتنا، وإلى وسائل بناء دولتنا الجديدة، وعلينا أن نوقنَ بأنّ الله سيهدينا إلى حلولٍ لمشاكلنا مهما بدت معقدةً، وإلى مخارجَ من أزماتنا مهما بدت مستعصيةً.
الآيةُ منهجُ حياةٍ:
لكي تتحولَ آيةُ {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} من نصٍّ يُتلى إلى منهجِ حياةٍ يُطبقُ نحتاج إلى ترجمتها إلى خطواتٍ عمليةٍ وتطبيقاتٍ واقعيةٍ في جميع مجالات الحياة.
في المجالِ النفسيّ:
في حالة سوريا لا بدَّ أن نعترفَ بوجود تحدّياتٍ نفسيّةٍ هائلةٍ يواجهُها المواطنُ السوريُّ بعد سنواتٍ من الصراع والمعاناة: صدماتٌ نفسيّةٌ، فقدانُ أحبّةٍ، تشردٌ وتهجيرٌ، فقرٌ وعوزٌ، وغيرُها من الجراح النفسيّة العميقة، في مواجهة كلِّ هذه التحدّيات يمكنُ للآية الكريمة أن تكونَ بلسمًا شافيًا وعلاجًا ناجعًا، فهي تعيدُ للنفس توازنها، وللقلب سكينته، وللعقل رُشده، وتمنحُ المرء قوةً نفسيةً خارقةً تمكّنُه من تجاوز أصعب المِحَن.
في المجال الاقتصاديّ والتنمويّ:
تواجهُ سوريا تحدّياتٍ اقتصاديةً هائلةً: بنيةٌ تحتيةٌ مدمرةٌ، اقتصادٌ منهارٌ، بطالةٌ مرتفعةٌ، فقرٌ مدقعٌ، تضخّمٌ ماليٌّ، وتركةٌ ثقيلةٌ من الديون والالتزامات، في مواجهة هذه التحدّيات يمكن للآية الكريمة أن تكونَ منطلقًا لنهضةٍ اقتصاديةٍ شاملةٍ، تقوم على رفض واقع التخلّف والتبعيّة، والثقة بما وهبنا الله من إمكاناتٍ وقدراتٍ، والسعي الدؤوب للتطوير والإصلاح.
نحتاج إلى أن نقول “كَلَّا” للنماذج الاقتصادية الفاشلة التي كبّلت الاقتصادَ السوريَّ لعقودٍ: الاقتصادُ الموجهُ، الاحتكارُ، الفسادُ، البيروقراطيةُ، التبعيّةُ، ونحتاج إلى استحضار معيّة الله في جميع النشاطات الاقتصادية، من خلال الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية والقيم الأخلاقية في المعاملات المالية والتجارية، ونحتاج إلى الثقة بأنّ الله سيهدينا إلى نموذجٍ اقتصاديٍّ متوازنٍ، يجمعُ بين الكفاءة والعدالة، ويحقّقُ التنمية المستدامة لسوريا وشعبها.
في المجال السياسيّ والإداريّ:
بعد عقودٍ من الحكم الفرديِّ والحزب الواحد تحتاج سوريا إلى بناءِ نظامٍ سياسيٍّ جديدٍ، يقوم على المشاركة الشعبية، والشورى والتعدّدية السياسية، وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، وهنا أيضًا يمكن للآية الكريمة أن تكون مرشدًا ودليلاً.
نحتاج إلى أن نقول “كَلَّا” لكلِّ أشكال الاستبداد والقمع والتسلّط، ولكلِّ المحاولات لإعادة إنتاج النظام القديم بثوبٍ جديدٍ، ونحتاج إلى استحضار معيّة الله في العمل السياسيِّ والإداريِّ من خلال الالتزام بقيم العدل والشورى والمساواة والحرية، وتطبيق مبدأ {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88]، ونحتاج إلى الثقة بأنّ الله سيهدينا إلى نظامٍ سياسيٍّ وإداريٍّ يحققُ مصلحة البلاد والعباد، ويضمن كرامة الإنسان وحريته وحقوقه.
في المجال الاجتماعيّ والثقافيّ:
تعرضَ النسيجُ الاجتماعيُّ السوريُّ لتمزقٍ شديدٍ خلال سنوات الصراع، وتأثّرت الهويّة الثقافية السورية بمحاولات التشويه والتحريف، وفي هذا المجال أيضًا تقدم الآية الكريمة منهجًا للإصلاح والتجديد، نحتاج إلى أن نقول “كَلَّا” لكلِّ محاولات إشعال الفتنة بين مكونات المجتمع السوريِّ، ولكلِّ دعوات الكراهية والعنف والتطرّف، ونحتاج إلى استحضار معيّة الله في العلاقات الاجتماعية، من خلال الالتزام بقيم التسامح والتعايش والتعاون والتكافل، ونحتاج إلى الثقة بأنّ الله سيهدينا إلى استعادة اللحمة الوطنية، وتعزيز الهوية الثقافية السورية الأصيلة المتجذّرة في الحضارة الإسلامية والعربية، والمنفتحة على كلِّ ما هو نافعٌ ومفيدٌ من الثقافات الأخرى.
وفي الختام أكرّر للتأكيد من شاطئ البحر، حيث وقف موسى عليه السلام، إلى أرض سوريا، كلماتٌ قليلةٌ، لكنّها تحمل في طياتها معانيَ عظيمةً، ودلالاتٍ عميقةً، وقوةً هائلةً قادرةً على تغيير واقع الأفراد والشعوب، وتحويل ما يبدو مستحيلاً إلى ممكنٍ، إنّ سوريا اليوم بعد أن تحررت من نظامٍ استبداديٍّ جاثمٍ على صدرها لنصف قرنٍ تقف على مفترق طرقٍ حاسمٍ، التحدّياتُ كبيرةٌ، والعقباتُ كثيرةٌ، والمخاطرُ محدقةٌ، لكنَّ الإيمانَ أكبرُ، والإرادةَ أقوى، والعزيمةَ أمضى، ومنهجُ “كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ” هو الضمانةُ الحقيقيةُ للنجاح والفلاح، لذلك أدعو كلَّ سوريٍّ -بل كلَّ إنسانٍ يتطلع إلى الحرّية والكرامة- أن يجعل من هذه الآية الكريمة شعارًا دائمًا، ومنهجَ حياةٍ، ودستورًا شاملاً، ونورًا يضيء الطريق في ظلمات اليأس، وبلسمًا يداوي الجراح في أوقات الألمِ، وسلاحًا يواجه تحدّياتِ الحياة ومصاعبها، فإنّ النصرَ قريبٌ، وإنّ الفرجَ آتٍ، وإنّ المستقبلَ مشرقٌ بإذن الله.
نحتاج إلى أن نقول “كَلَّا” لكلِّ محاولات إشعال الفتنة بين مكوّنات المجتمع السوريِّ، ولكلِّ دعوات الكراهية والعنف والتطرّف، ونحتاج إلى استحضار معيّة الله في العلاقات الاجتماعية من خلال الالتزام بقيم التسامح والتعايش والتعاون والتكافل، ونحتاج إلى الثقة بأنّ الله سيهدينا إلى استعادة اللحمة الوطنية، وتعزيز الهويّة الثقافية السورية الأصيلة المتجذرة في الحضارة الإسلامية والعربية، والمنفتحة على كلِّ ما هو نافعٌ ومفيدٌ من الثقافات الأخرى.
مصطفى يعقوب
متخصّص في التفسير والدراسات القرآنية