نحن اليوم أمام تحدٍّ كبير يتمثّل في الكمّ الهائل من الأفكار والمفاهيم المتنوعة طرحًا ومصدرًا في وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحوّلت بدورها -في شقّها السلبيّ- إلى أداة لتزييف الوعي العام، ووسيلة للعبث بالأمن الفكري والنفسي والاجتماعي للمجتمعات، وتصدر للأمر من ليس أهلًا له، فأورث ثقافة ضحلة وفوضى فكرية وتحريفًا للدين، ونبشت الأقوال الشاذة والمهجورة، في الوقت الذي انكفأ فيه أهل العلم والاختصاص عن المشاركة. ولا بد من تضافر الإيمان والعقل والأخلاق للحدّ من هذه الظاهرة الخطيرة.
يعلم المصلحون أنّ تصحيح المفاهيم هو مفتاح التغيير في كل تجمُّع بشري يُراد إحياؤه والنهوض به، ذلك أنَّ المفاهيم والأفكار هي التي تشكِّل القاعدة الصَّلبة في بناء مجتمع واعٍ يُدرك ذاته ورسالته ويعرف أهدافه ويتحرَّك نحوها، ومن هنا يؤكِّد الإسلام على المحافظة على الأساس الفكري للأمة، ابتداءً بالعقيدة، وانتهاءً بالمفاهيم العامة عن الكون والحياة، ونجد المنهاج الإسلامي يركِّز على معالجة الانحراف الفكري والمفاهيمي، ولا يُفسح المجال لوجود ثغرات في الهيكل الفكريِّ والعلميِّ لدى أتباعه؛ لأن هذا الانحراف سيتحوَّل إلى قيد يكبِّل الأمة ويمنعها من الانطلاق برسالتها والدَّعوة إليها[1].
وتأسيسًا على ما سبق وبالتمعُّن في واقعنا المعاصر نجد أننا في عصر الثورة الرقمية وتدفق المعلومات أمام تحدٍّ كبير وتهديد خطير، يتمثّل في الكم الهائل من المعلومات والأفكار والمفاهيم التي تلقي بها إلينا وسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت لكل أحدٍ منبرًا ليتكلَّم بما شاء، فبرز على الساحة عدد كبير ممن يتكلَّمون في الدِّين -متخصصين وغير متخصصين- فصِرنا أمام شبكة من الأفكار والمفاهيم اختلط فيها الصواب بالخطأ والحق بالباطل، وتشوَّشت معها العقول وتاهت، وأصاب بعضها الغبش واضطربت.
صحيح أنّ الانفتاح الذي تعرفه وسائل التواصل الاجتماعي يؤدي إلى تدفق المعلومات وسهولة الحصول عليها، إلا أنّ كثرة هذه المعلومات وتنوّعها وطريقة طرحها، وصدورها في كثير من الأحيان من أشخاص عابثين، ليتلقّاها جمهور عريض من المتابعين والمعجبين الذين لا يميّزون بين الغثّ والسمين؛ يجعل من هذه المعلومات مدخلًا للتلاعب بالوعي.
وهنا لا بدّ أن نعترف أنّ لوسائل التواصل الاجتماعي (Social Media) سلبيات لا يمكن تجاهلها؛ حيث تحوَّلت إلى أداة لتزييف الوعي العام، الذي راج فيه سوق كثيرٍ من الرؤوس الجهَّال الذين جاء وصفهم في الحديث الشَّريف: (..اتخَذَ الناسُ رُؤُوسًا جهَّالًا، فسئِلوا، فأَفتَوا بغيرِ علمٍ، فَضَلُّوا وأضَلُّوا)»[2] كما أنها أصبحت من أقوى الأسلحة التي يستخدمها الأعداء في تقويض المجتمعات، والعبث بأمنها الفكري والنفسي والاجتماعي.
لذا كان تسليط الضوء على هذه الظاهرة، نصحًا للعامَّة من المسلمين، ومساهمةً في كشف أصناف المتلاعبين من أصحاب الشبهات والمنحرفين، والمتصدِّرين من المتعالمين، والجهَّال الذين يطلبون الشُّهرة والاستكثار من المتابعين[3]، صيانةً للعقول من العبث وحفظًا لجناب الدِّين من التحريف.
وسيكون الكلام في هذا الموضوع من خلال النقاط التالية:
ما المقصود بتزييف الوعي؟ وما أبرز وسائله؟ وما هي أسبابه؟ وما أبرز آثاره؟ وما الحلول المقترحة للحدِّ من هذه الظاهرة؟
كل استنتاج أو تفسير لنصوص الوحي والأحكام الشرعية، أو اختراع قواعد جديدة في الفهم والاستنباط لا تراعي قواعد المنهج العلمي في البحث؛ داخل في معنى تزييف الوعي.
معنى تزييف الوعي أو الوعي المزيَّف:
الزَّيفُ: التزوير، تقول: «درهمٌ زَيْفٌ» أي رديءٌ مغشوش، و«زيَّفَ النقود»: زوَّرها وقلَّد صُنعها، ويقال: «زيَّفَ رأيَ صاحبه» أي فنَّده وأظهر باطلَه[4].
والوعي: الفهمُ وسلامةُ الإدراك، ووعَى الأمرَ: أدركَه على حقيقته. ورجلٌ وَعِيٌّ: أي عارفٌ، على بينةٍ بالأسباب[5].
فالوعيُ: الفهم الصحيح المطابق للواقع، والتصوُّر الصحيح للأشياء، من خلال إعمال قواعد الفهم والاستنباط وفق منهج علمي صحيح.
ولا بد في الوعي من أمرين:
- قواعد صحيحة، وهي مقدِّمات لا بدَّ منها.
- ثم إعمال هذه القواعد وفق المنهج الصحيح للوصول لنتائج سليمة.
فإذا كانت المقدِّمات غير صحيحة، أو حصل خطأ في فهمها وتفسيرها أو طريقة إعمالها؛ كانت النتيجة وعيًا مزيَّفًا وجهلًا مركَّبًا.
وقد أثنى الشرع على سلامة الوعي، فقال تعالى: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ [الحاقة: ١٢]، وقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [الذاريات: ٣٧]، وقال ﷺ: (نضَّر الله امرءًا سمِع مقالَتي فوعاها وحفِظها وبلَّغها فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه)[6].
وعليه: فكل استنتاج أو تفسير لنصوص الوحي والأحكام الشرعيَّة، أو اختراع قواعد جديدة في الفهم والاستنباط لا تراعي قواعد المنهج العلمي في البحث، فهو داخلٌ في معنى تزييف الوعي.
وسائل تزييف الوعي:
وهي كثيرة، منها:
* الخطاب الذي يستند على العاطفة في التأثير والشبهات في الاستدلال: يذكر عن الفيلسوف أرسطو قوله: «لكي يكون الإقناع مؤثرًا يجب توافر ثلاثة عناصر فيه: الثقة، المنطق، العاطفة». وبحسب علم نفس الجماهير فإن عليك حتى تؤثّر في الناس أن تثير عواطفهم أولًا، ثمّ تخاطب عقولهم، فبهذه الطريقة تضمن تأثير أفكارك فيهم وقبولها لديهم.
الناس أمام سيل المعلومات على صنفين: صنف يملك مهارات النقد والتقويم، لكنه لا يملك الوقت لتمحيص كلّ ما يرد، وصنف لا يملك مهارات النقد، فيخيّل إليه أن كلّ ما يسمعه حقّ، فيقع ضحيّة تزييف الوعي، وقد يصبح أداة لترويج الباطل.
* أسلوب التكرار: أو ما يعرف بـ«التأثير الكمِّي»، يقول لينين: «تصبح الكذبة حقيقة إذا كررت بما يكفي»، فتقديم رسائل إعلامية متشابهة ومتكررة حول قضيةٍ ما أو شخصيةٍ ما؛ يؤدِّي إلى التأثير على المتلقّي ولو على المدى البعيد، مهما كانت قوة حصانة المتلقي، بسبب حدوث تسييرٍ لا إرادي لدى المتلقي.
والواقع اليوم: أنّ المرءَ ما إن يفتح هاتفَه أو حاسوبَه حتى تنهالَ عليه المعلومات من كل صوب ومن كل فنٍ ولونٍ، من خلال سيل من المعلومات التي تعتمد مبدأ التعزيز بالتدفق المستمر، والناس أمامها في الغالب على صنفين:
- صنف يملكُ مهاراتِ النّقد والتقويم، ولكن لا يملك الوقتَ لفحصِ وتمحيصِ كلّ ما يرِد إليه لكثرتها وتنوُّعها.
- وصنف: لا يملك مهارات النقد، فيُخيَّل إليه أنَّ ما يسمعه أو يقرؤه حقٌّ يستند إلى المنطق والدَّليل، فيتشرَّبُ عقله ما فيها من أغاليط وسموم، وقد يجتهد بنشرها ونقلها محتسبًا الأجر وملتمسًا الخير، ولا يدري المسكين أنه تحوَّل لأداة مجانيَّة لترويج الباطل وتزييف الوعي.
* التضليل بالإغراق بالمعلومات: فكثرة المعلومات التي تعتمد السَّرد المتواصل تشوّش الذّهن ويُنسي بعضها بعضًا، فبعض المتحدّثين يركز على إظهار نفسه بمظهر الباحث الجامع لشتات المسألة، فيعتمد أسلوب سرد الأقوال والأدلة وحشدها في ذهن المستمع بطريقة تدهش المستمع والمشاهد ولكنه لا يخرج منها بفائدة، وقد يدسُّ في أثناء ذلك بعضَ ما يريد أن يَعلق في ذهن المستمع ليزدادَ حيرةً أو يظنّها حقًّا ليصل إلى ما يُريد، فيظن المتابع أنه خرج بمعلومات يظنها علمًا، أو يصل لنتيجة يعتقدها حقًّا وليس كذلك!
* التكتُّم الكلِّي أو الجزئي على المعلومة المفيدة: حيث يُوهم المتابعين بدراسة المسألة من مصادرها المختلفة ويسرد المعلومات أمام جمهور المتابعين ويقتبس ويوثِّق، ولكنه يتعمَّد كِتمان بعض المعلومات المهمَّة بالكلية، باقتطاعها من سياقها، فيبرز ما يريد ويكتم المفيد، وهذا من الخيانة والغش، ويقع كثيرًا عند من رقَّ دينه من المتعصِّبة وأصحاب الأهواء.
* الإيحاء بالكثرة: وهذا مسلك قديم يوحي من خلاله أن الأكثر على كذا أو خلاف كذا، فيقع المستمع ضحيَّة هذا التزييف. وقد تفطّنت الدول لهذا فأحدثوا ما عُرف مؤخرًا بـ «الذباب الإلكتروني»، حيث يتم تجنيد المئات وإدارتهم وتوجيههم للكتابة والتعليق والتغريد والرَّد بهجمات منسَّقة، تخيّل للمتابع أنه أمام جمهور كبير لا يجمعُه رابط، فيقع تحت تأثير هذه الكثرة المزيَّفة، فيتبنى رأيًا أو يميل لطرف، أو يتشوَّش ويتوقَّف على الأقل[7].
* كلام الشخص في غير تخصُّصه[8]: نجد عند بعضهم من الجرأة على الكلام في غير فنِّه وتخصُّصه وقد يجانبه الصَّواب فيُخطئ في جزئية أو يعترض فيُخالف متفقًا عليه عند أهل ذاك الفن، فيكون كلامه فتنةً لمحبيه وجمهور متابعيه، وهو يخبرهم أنه بحَثَ المسألة منهجيًّا ونقد وردَّ ردًّا علميًّا، وثَمَّ جمهور لا يحسن التمييز يقبل كلامه ثقةً به وإعجابًا بحسن سرده وإلقائه. وهذا بابٌ عظمت الجناية به.
من أبرز آثار تزييف الوعي تكوين ثقافة ضحلة، يتربّع عليها صُنّاع التفاهة الذين تحوّلوا إلى قدوات في نظر الشباب، وأخذوا مكان أهل العلم والناصحين من المصلحين
أبرز آثار تزييف الوعي:
لا يخفى أن لهذه الظاهرة جملة آثار خطيرة على الدِّين والدَّعوة والفرد والمجتمع.
فمن أهمّ هذه الآثار على الصَّعيد المجتمعي:
- تعزيز الفُرقة والاختلاف والتحزُّب والانقسام بحيث يبقى المجتمع في حالة صدامٍ مستمر (مع وضدّ) حول كثير من القضايا التي لا تنتهي.
- تكوين ثقافة ضحلة، واهتمامات فارغة، تزهِّد في الدِّين وأهله، يتربَّع عليها صنَّاع التفاهة الذين تحوَّلوا إلى قدوات في نظر الشباب، وأخذوا مكان أهل العلم والناصحين من المصلحين.
ومن أهمّ آثار تزييف الوعي على الصَّعيد الدِّيني:
- صناعة تديُّن مزيَّف يستند لفهم مشوَّه وتفسير مُستحدَث للشريعة.
- العزوف عن سلوك الجادة الصحيحة بأخذ العلم عن أهله.
- الفوضى الفكرية بالتطاول على الأحكام، والجرأة على تفسيرها، مما يغري البقيَّة أن يتناولوا الدِّين ويتكلَّموا فيه بلا علم ويتفاصحوا بغير آلة، بعيدًا عن القواعد المعتبرة والمنهجية في البحث والرجوع لأهل التخصُّص.
- مزاحمة أصحاب الشبهات والمنحرفين والمتعالمين لأهل العلم، وتقديمهم عليهم، والتنفير عنهم.
- تحريف الدِّين من خلال:
- أ. هدم قواعد الاستدلال والتلقِّي ومنهج الفهم والتفسير.
- ب. تأسيس قوانين جديدة وقواعد لتأويل النصوص وتفسيرها.
صرف الجهود التي ينبغي أن تصبّ في تصحيح الوعي، إلى القدح والإسقاط بسبب مسائل يسوغ فيها الخلاف؛ من أهم أسباب تفاقم هذه الظاهرة، حيث يصبح أهل الحق المصحّحين للوعي موضع تهمة، فينصرف الناس عنهم إلى أهل الباطل ومروّجيه.
من أسباب هذه الظاهرة:
لهذه الظاهرة أسباب عديدة أُجملها في خمسة أسباب، أذكرها مراعيًا التركيز على الجانب الديني والشرعي، لما له من آثار وتبعات خطيرة.
١. التصدُّر قبل التأهل:
ظهر شباب متحمِّس لا يملك أكثر من حماسة صادقة، يسعى لنشر الإسلام والدَّعوة إلى الله، ولكنهم استعجلوا النتيجة واقتحموا الأمر من غير بابه، فتسلَّقوا جدران العلم، واقتحموا أبواب الفتوى، وتولَّوا إدارة دفَّة توجيه العقول، متوهِّمين أنهم بذلك يبثُّون الوعي ويُحيون المنهج وينهضون بالأمة والمجتمع، لكنهم أثاروا البلبلة ووسَّعوا الشُّقَّة، وأوقعوا متابعيهم في الوعي الزائف والجهل المركّب، وربما أوقعوهم في الإثم والحرام، أو في الضلال والانحراف، بفتاوى خليّة عن العلم أو جرأة بعيدة عن التقوى.
ثم غرَّ بعضَهم زيادةُ المتابعين والمعجبين على الغرور والإعجاب بالنفس، فتنقص بعضهم من أهل العلم وتطاول بعضهم على أهل الاختصاص، ورغم سقوط بعض هؤلاء واكتشاف مبلغ علمهم، إلا أنَّ وَهمَ المجد الزائف والشهرة الطارئة لا يزال يداعب مخيلتهم ويدعوهم للإصرار والاستمرار في هذا العبث.
٢. انشغال فريق بتتبُّع العلماء ونشر زلاتهم وطمس محاسنهم:
وهو منهج رديءٌ مرذول يقوم على التنقيب عن العثرات، وإلصاق التهم، والتشكيك بسلامة المنهج بناءً على ظنون واهية، أو نقول كاذبة، وتحزُّبًا لجماعة ومدرسة أو موالاةً عميَّة نصرةً لعصبيَّة فكريَّة أو منهجيَّة.
فإذا الجهود التي كان ينبغي أن تُصبَّ في تصحيح الوعي ورفع الجهل، قد ذهبت في القدح والتحذير بسبب مسائل يسوغ فيها الخلاف، أو مسائل لا تستلزم الإسقاط وإن استلزمت البيان.
وإذا أهل الحق المدافعين عن الدين في ثغوره العظيمة، المصححين للوعي أمام حملات التزييف الممنهجة، قد صاروا موضع تُهمة لدى عامة الناس، وصار قبول الباطل من مروّجيه أسهل من قبول الحق منهم.
٣. وجود الكثير من المناوئين لأهل الحق والحاقدين:
فقد وجد المناوئون للحق في مثل هذه المنصَّات متنفسًا ينفثون من خلاله سموم حقدهم وحنقهم على أهل السنة ومنهجهم، وإن تلبَّس بعضهم بالعلم والدعوة، فافتتحوا صفحات خاصة وعامَّة وأنشؤوا مجموعات وملتقيات لأغراضهم الفاسدة، وكان لها إسهامها في تزييف الوعي وتحريف النصوص وتزيين الباطل.
لجأ البعض -تحت دافع حبّ الظّهور والرغبة في التّصدّر- إلى نبش الأقوال الضعيفة الشّاذّة، ثم دافعوا عنها على أنها القول الراجح الذي لا يجوز العدول عنه، فتبلبل الناس واضطرب وعيهم.
٤. نبش الأقوال المهجورة والمذاهب الشاذَّة:
تحت دعوى البحث العلمي وعدم التعصُّب والبحث عن الحق، سلك بعض الدخلاء على العلم هذا المسلك المنحرف، فتجد صاحبه ينبش ويُنقب عن الأقوال المهجورة الضعيفة أو الشاذّة، ثم يبثُّها ويدافع عنها على أنها القول الراجح الذي لا يجوز العدولُ عنه؛ فيتبلبل الناس ويضطرب الوعي.
وإذا كان القول موافقًا لأهواء بعض الناس، تجدهم يفرحون به، ويذمّون أهل العلم الذين لم يُطلعوهم على هذه الأسرار العظيمة والأقوال الحكيمة! رغم أنهم لو تفكّروا أو كان لهم اطّلاع وبحث، لوجدوا من الأقوال المندثرة الصعبة التي تعكّر عليهم أهواءهم أضعاف ما فرحوا به، ولكنّ اندثار الأقوال وانتشارها بين أهل العلم إنما يخضع لمعايير العلم لا الهوى.
وليس بعيدًا أن يقال إن هذا السلوك من دسائس النفس في حب الظهور والشهرة على قاعدة (خالِفْ تُعرَف!)، وهو كذلك من آفات التصدر قبل التأهل، أو يكون بناءً على معايير خاطئة وتأصيلات فاسدة ينطلقون منها في فهم الشَّريعة وأحكامها ويُطوِّعون معاني نصوصها بما يتوافق مع انحراف قواعدهم وأصولهم.
صاحب الاختصاص الواعي هو حصن الأمة في وجه التزييف والغزو الفكري، وبتراجعه عن المشاركة في تنمية الوعي يترك ثغرًا يدخل من خلاله المزيِّفون الهدّامون.
٥. انكفاء المثقفين وأهل الاختصاص وتراجع مشاركتهم:
المثقف الواعي والعالِم العامِل هو صوت الأمم ولسان حال شُعوبها والعين التي يرى من خلالها المجتمع، ولهذا فإن الشخص الواعي بمثابة صمام الأمان لمجتمعه، فهو يُبصر ويُحلِّل ويوضح الحقائق وينبه إلى المخاطر، فتتحصَّن الأمة والمجتمع بالوعي ويبقى آمنًا من أي نوع من أنواع التزييف أو الغزو الفكري والثقافي.
أما إذا تراجعت مُشاركته أو أهمل العمل باختصاصه وانكفأ على نفسه لأسباب شخصية أو مجتمعية، فإنه بذلك يتركُ ثغرةً عظيمة يدخل من خلالها هؤلاء المزيِّفون الهدَّامون كخلايا السرطان تنخر وعي المجتمع.
الحلول المقترحة مع عموم هذا البلاء:
عادةً ما يكون الخطر من عدم القناعة بالخطر نفسه، ومن هنا تصعب المهمَّة التي تستدعي كشف هذا الخطر وبيانه، وهذا يستدعي تقديم حلول مناسبة لدفعه أو الحد من خطره.
والحل في رأيي له عدة أركان: عقلي، أخلاقي، تطبيقي، إيماني.
* الركن العقلي: العاقل هو مَن ينتفع بهبة الله له التي كرَّمه بها، فالعقل منفعته التفكير والتحليل والتركيب والاستدلال والاستنباط، والتأمل، والتدبر، والقياس، وحل المشكلات، ومن اللطائف في القرآنِ الكريمِ أنّ كلمة (العقل) لم تردْ بصيغة الاسم مطلقًا، بل جاءت (٤٩ مرةً) بصيغة الفعل (تعقلون، عقلوه، يعقلها) فالله سبحانه يريد منَّا إعمال هذه الآلة التي وهبها لنا وميَّزنا بها.
ففي الأخبار والمعلومات يكون إعمال العقل بالتثبُّت من طريق وُرودها ومن ثقة ناقلها وعدالته، ومن علم القائل ومصداقيته، ومن موافقته لغيره من أهل الاختصاص وشهادتهم له بأنه منهم، فالعاقل لا يستسلم لفكرة مهما بدا ظاهرها جميلًا إلا أن يناقشها ويعرضها على أهل الاختصاص إن لم يكن منهم، ويتأكد من أمانة وثقة وعلم المتكلِّم بها مهما حاول عرضها بطريقة جاذبة واستخدم المشاعر والعواطف لترويجها. وبهذا نكون قد أعملنا عقلنا واستعملناه وفق ما أراده الله.
* الركن الأخلاقي: والمقصود به استشعار المرء المسؤوليَّة الأخلاقيَّة عمّا يقولُ أو يفعلُ أو يكتبُ أو يرسلُ أو يعجَبُ به أو يغضبُ منه، وأنه مسؤولٌ عن مجتمعه لينشر فيه الخير ويمنع عنه الشرّ، فيزرع ما ينفع، ويقلع ما يضر ويؤذي. وليتذكر المسلم النصوصَ القرآنية والنبوية في إثم من يدعو لباطل أو يروج له وينشره بلا تثبت وبغير علم.
- يقول تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١٥-٢٠].
- ويقول تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ﴾ [الحجرات: ٦]. وفي قراءة أخرى ﴿فَتَثَبَّتُوا﴾ بدل ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾.
- والتثبُّت: هو بذل الوسع والجهد لمعرفة حقيقة الحال؛ فهو مُنصَبٌّ على مصدر الخبر وسنده.
- والتبيُّن: هو التأكد من حقيقة الخبر وظروفه وملابساته؛ فهو مُنصَبٌّ على الأحوال المحيطة بالخبر، ولا بد منهما معًا.
العاقل لا يستسلم لفكرة حتى يناقشها ويعرضها على أهل الاختصاص، ويتأكد من أمانة وثقة وعلم المتكلّم بها، مهما حاول عرضها بطريقة جاذبة، واستخدم المشاعر والعواطف لترويجها.
* الركن التطبيقي: ينبغي الاهتمام في باب تلقِّي الأخبار والأفكار بتطبيق مبدأ التثبت والاعتماد على ضبط النقلة، وصحةِ فهمهم، والاعتماد على القرائن في قبول الأخبار وردِّها. يقول محمد بن سيرين رحمه الله: «إن هذا العِلمَ دينٌ؛ فانظروا عمن تأخذونه»[9].
وتطبيق المنهج الإسلامي في تلقِّي الأخبار والأفكار يعصم بإذن الله من الوقوع في الخطأ وتحمُّل إثم نشره، فهذا المنهج يقوم على:
- طلب الدليل والبرهان، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾ [الأنعام: ١٤٨].
- التأنِّي وتقصِّي الحقيقة وعدم العجلة قبل التحدُّث والنشر، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا﴾ [النور: ١٦].
وقد سلك النجاشي رحمه الله هذا المنهج مع أصحاب الهجرة الأولى إلى الحبشة، فسأل جعفر بن أبي طالب t عن أمرهم، وقولهم في عيسى ابن مريم وأمِّه عليهما السلام قبل أن يصدق قول قريش فيهم، وهذا شأن العقلاء وأولي النُّهى.
- ردُّ الأمر إلى أولي الأمر من أهل العلم والاختصاص لبيان وجه الحق والصَّواب من عدمه، لقوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٨٣].
* الركن الإيماني: وهو ألا يفتُر المرء عن دعاء الله بالهداية والسداد والعصمة من الزلل، وألا يكون شريكًا في الباطل ونشره ولا ظهيرًا للفساد وأهله، فإننا في زمان كثُرت فيه الشبهات والشهوات، ومعها تزداد ضرورتنا لهداية الله لنا والتماس أسبابها، فلا بد أن نستشعر حاجتنا لها وضرورة هداية الله لنا.
ومما يُذكر في هذا الشأن:
- قوله تعالى في الحديث القدسي «يا عبادي! كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستهدوني أَهْدِكم»[10].
- ودعاؤه ﷺ إذ يقول: «اللهمَّ إني أسألُك الهدى والتقى والعفافَ والغنى»[11].
- وكان ﷺ إذا قام من الليلِ افتتح صلاتَه بدعاء وفيه: «اهدِني لما اختُلفَ فيه من الحقِّ بإذنِك إنك تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ»[12].
- والدعاء العظيم الذي نكرره كل يوم في فاتحة الكتاب في صلواتنا إذ نقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦].
- الدعاء الذي علمه ﷺ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ قال: قال لي رسولُ اللهِ ﷺ: «قل: اللهمَّ اهدِني وسدِّدْني. واذكر بالهُدى هدايتَك الطريقَ، والسَّدادِ سدادَ السَّهمِ»[13].
المعلومة سلاح ذو حدّين، فأحكِمْ تنقيتَها قبل أن تقتنع بها، ولا تنخدع بحسن الإخراج وسلاسة العرض، فذلك ليس معيارًا للصواب.
خاتمة:
نبه عالم الاجتماع الأمريكي رايت ميلز «Wright Mills» إلى خطر ثورة التكنولوجيا مبكرًا، حين أكد أن الناس لا يحتاجون إلى المعلومات في عصر الحقيقة، الذي تسيطر فيه المعلومات على انتباه الناس وتركيزهم. لكنهم يحتاجون إلى نوعية من المنطق والتفكير والأدوات التي تساعدهم في استثمار المعلومات، وحسن توظيفها وتطوير تفسيرها، كي يتمكنوا من فهم واستيعاب ما يدور في العالم الخارجي.
وهذا أهم ما ننصح به كل حريص على حماية أمنه الفكري، فلا بد أن نعلم أن الانفتاح الزائد على وسائل التواصل أمر غير محمود، فالواجب اختيار الوقت وضبطه وانتقاء النافع واختيار المفيد فيما نتابعه، وأن نطوِّر مهارات النقد لدينا، حيث فقد كثيرون القدرة على التمييز بين الحق والباطل، والإشاعة من الحقيقة، وتحوَّلوا بلا وعي إلى مجرَّد مدمنين للقصِّ واللصق، وتحوَّلوا إلى أدوات طيِّعة وجسرًا لعبور المشاريع المشبوهة والأفكار المنحرفة، فالنَّصيحة للجميع: لا تصدِّق كل شيء، ولا تثق بكل أحد، فالمعلومة سلاح خطير ذو حدَّين، فأحكم تنقيتها قبل أن تُدخلها رأسك وتقتنع بها، وارجع إلى أهل العلم المشهود لهم بحسن السيرة والعقل والحكمة، ولا تورِّط نفسك بمتابعة من لم تتحقَّق من أهليَّته بشهادة غيره من أهل التخصص فيما يتكلَّم فيه، ولا تنخدع بحُسن الإخراج والمظهر وسلاسة العرض والأسلوب، فهذا ليس علمًا ولا معيارًا على الصواب فتنبَّه!
إن قيام الأمم ونهوضها مرهونٌ بمدى صلاح أبنائها ونبوغ أجيالها، وذلك لا يتحقق إلا بالاهتمام بالمصادر التي يستقون منها معارفهم، وطرق تفكيرهم.
فيا أيها الشباب[14]، تحرَّوا الصدقَ فيما تكتبون، واجتهدوا في التفتيش عن حال من تتابعون وتأخذون عنهم وتنقلون، ولا يحمِلنَّكم الولاء لفكرة أو الإعجاب بشخص أو جماعة أن ترجُموا بالحجارة مَن يخالفكم، وتواضعوا في أنفسكم ولا تتعاظموا، وليكن العدلُ منهجَكم والإنصافُ رائدَكم، وكونوا عونًا لأمَّتكم روَّاد نهضتها وعنوان تقدمُّها، وتذكروا الموت والوقوف بين يدي الله والعرض، ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: ١٠١].
أ. محمد أمجد بيات
ماجستير في الفقه، باحث شرعي ومدرس.
[1] مقال: تصحيح الأفكار والمفاهيم، د. محمد محمد بدري، في موقع الألوكة.
[2] أخرجه البخاري (١٠٠)، ومسلم (٢٦٧٣).
[3] وثمة صنف جدير بأن يفردوا بمقال، وهم ما يمكن أن نصطلح على وصفهم بـ صُنَّاع التفاهة! فليس لدى هؤلاء ما يقدّمونه سواها.. تعدَّدت أساليبهم وتنوعَّت ولكنها اجتمعت على أن مادَّة برامجهم وخلاصة أفكارهم إحداث نوع من التسلية السَّمجة والهبوط والتدنّي لحد الإسفاف وصناعة عالم من التفاهة التي تهبط بالاهتمام وتستخف بالعقل الإنساني وتصنع صورة مزيَّفة وقناعات سطحيَّة.
[4] المصباح المنير، للفيومي ص (٢٦١)، معجم اللغة العربية المعاصرة (٢/١٠١٦).
[5] معجم الصواب اللغوي (١/٧٩٦)، ومعجم اللغة العربية المعاصرة (٢/١٠١٦) كلاهما للدكتور أحمد مختار وآخرين.
[6] أخرجه الترمذي (٢٦٥٨).
[7] تحاول الدول خلق رأي عام في قضيَّة وتوجيهه أو تغييرِه، بما يخدم أهدافها ومخططاتِها، ويدافع عن مشاريعها وسياساتها، أو تشويه ومحاربة خصومها، ومن ذلك أن الدول الغنيَّة تنشئ وتموِّل قنوات فضائية، مستقلَّة في الظاهر تنطق باسمها وتروِّج لها، ومن ذلك أن بعض الدول يدعم بعض أصحاب الحسابات والقنوات المشهورة فتقدَّم لهم العروض المغرية مقابل دعمهم سياسات ومشاريع تلك الدول ويهاجموا خصومها. وهذا كله داخلٌ في أزمة تزييف الوعي وصناعة الكذب. والأمر في هذا لا يقتصر على الدول بل دخلته كثير من المنظمات والجماعات والأحزاب.
[8] وهذا لا يعني بالضرورة أن كلام المتخصص في غير تخصصه من تزييف الوعي، فقد يوافق أهل التخصص فيكون كلامه حقًّا، لكن خطورة تزييفه يكمن في ترويج باطل يكسوه ثوب الحق، أو إبطال حقٍّ بحجة البحث والنقد.
[9] أخرجه مسلم في المقدمة.
[10] أخرجه مسلم (٢٥٧٧).
[11] أخرجه مسلم (٢٧٢١).
[12] أخرجه مسلم (٧٧٠).
[13] أخرجه مسلم (٢٧٢٥)، ومعناه: وفقني في اختياري، واجعلني مستقيمًا في جميع أموري، واهدني هدايةً لا أميلُ بها إلى إفراط أو تفريط.
[14] ثمة فريق من الشباب يتحدث في أمور ثقافية وقضايا مجتمعيَّة وثقافيَّة لا يمتلك الخبرة اللازمة للحديث عنها، ويقدِّم وجهة نظره فيها، إلا أنه بطرحه لها والكلام فيها يُفسد ولا يُصلح، ولا يشفع له كثرة متابعيه فيدفعه ذلك لاقتحام أبواب لا يحسنها وقضايا لا يدرك غورها، فيُساهم من حيث لا يشعر بتزييف الوعي وإثارة البلبلة في المجتمع.