تأصيل

معالم في رواية الحديث الضعيف والاستشهاد به

عُني أهل العلم بتمييز صحيح الحديث من سقيمه، وعدّوا ذلك من القربات؛ نظرًا لخطورة تناقل الأحاديث دون التثبت من صحتها دينيًا ودنيويًا، وبينوا أن في الصحيح ما يغني عن الضعيف، أما من جوّز رواية الضعيف – لحاجة – فقد قيّد ذلك بشروط صارمة منعًا لظهور البدع، وفي المقال التالي تفصيل ذلك

توطئة:

تزدحم وسائل التواصل الاجتماعي بذكر أحاديث نبوية بعضها صحيح، وبعضها الآخر ضعيف، على الرغم من حسن قصد ناشريها في إرادة الخير، والاحتساب بالأجر في نشرها، لكن قد يكون الحديث المنشور من الضعيف الواهن غير المقبول، مما يؤكد ضرورة التحقق من صحة الأحاديث قبل نشرها حتى يتجنب الناشر لها الكذب على النبي ﷺ؛ ولازم ذلك مراعاة الشروط التي ذكرها العلماء لرواية الأحاديث عمومًا، ولرواية الحديث الضعيف في حال الحاجة لذلك، وفي المقال إلقاء للضوء على هذه المسألة.

الترغيب في رواية الحديث:

أعظم الشرع من رواية الحديث النبوي، وأجزل الأجر لفاعله، لما في ذلك من إيصالٍ لرسالة الإسلام، ونشرٍ للعلم النافع، ورفعٍ للجهل، فحثَّ النبي ﷺ على رواية الحديث النبوي وتعليمه بقوله: (بلغوا عني ولو آية)[1]، وهذا الحديث كما قال أهل العلم: جمع بين التكليف والتشريف والتخفيف. فقوله: «بلغوا» تكليف، و «عنَّي» تشريف، «ولو آية» تخفيف.

ونظرًا لخطورة الكذب على رسول الله ﷺ، فقد عني المحدثون منذ القدم بطرق السماع، وبمعرفة أحوال الرواة وهو ما يعرف بالإسناد.

الإسناد رتبةٌ عالية، ومنقبة سامية عند أهل العلم عامة، وأهل الحديث خاصة؛ فبه يعرف الصحيح من السَّقيم، والثابت المسند من المدسوس المدلَّس به، كما أنَّه من خصائص هذه الأمة

أهمية الإسناد:

الإسناد رتبةٌ عالية، ومنقبة سامية عند أهل العلم عامة، وأهل الحديث خاصة؛ فبه يعرف الصحيح من السَّقيم، والثابت المسند من المدسوس المدلَّس به، كما أنَّه من خصائص هذه الأمة، قال ابن حزم: «نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي ﷺ مع الاتصال، خصّ الله به المسلمين دون سائر الملل، وأمَّا مع الإرسال[2] والإعضال[3] فيوجد في كثير من اليهود، لكن لا يقربون من موسى قربنا من محمد ﷺ، بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين موسى أكثر من ثلاثين عصرًا، وإنَّما يبلغون إلى شمعون ونحوه»[4].

فبالإسناد حُفظ الدين من التغيير والتحريف وإدخال ما ليس منه، فكان مِنْ أهم أدوات أهل العلم للتمييز بين الحديث المقبول وغير المقبول، فعن مطر الوراق في قوله عز وجل: ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف: ٤] قال: «إسناد الحديث»[5].

لذا حثَّ أهل العلم مَن يُحدّث الناس أن يذكر سند الحديث؛ وذلك عندما ظهرت الفتن، وكثُر الكذب، قال ابن سيرين: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلمَّا وقعت الفتنة قالوا سمَّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم»[6].

وشبهوا من يُحدّث بلا إسنادٍ بحاطبِ ليل يجمع الغث والثمين، قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: «مَثَلُ الذي يطلب العلم بلا حجة (إسناد) مثل حاطبِ ليل يجمع حزمةَ حطب فيها أفعى تلدغه وهو لا يدري»[7].

أهمية تحري صحة الإسناد في رواية الحديث ونشره:

من القربات التي ينبغي لكلّ مسلمٍ أن يحرص عليها أن يروي ما يصح عن النبي ﷺ ناويًا بذلك الأجر.

فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (نضّر الله امْرَءًا سمع منا حديثًا فحفظه حتى يُبلّغه، فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه، ورُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيه)[8].

قال الرامهرمزي معلقًا على الحديث: «ويحتمل معناه وجهين، أحدهما: يكون في معنى ألبسه الله النَّضرة، وهي الحُسن وخلوص اللون، والوجه الثانـي: أنْ يكون في معنى أوصله الله إلى نضرةِ الجنَّة»[9].

وقال الإمام سفيان الثوري: «لو لم يكن لصاحب الحديث فائدة إلا الصلاة على رسول الله ﷺ فإنه يصلي عليه ما دام في الكتاب»[10].

«مَثَلُ الذي يطلب العلم بلا حُجّة (إسناد) مثل حاطبِ ليل يجمع حزمةَ حطب فيها أفعى تلدغه وهو لا يدري» الإمام الشافعي رحمه الله

وشروط الحديث الصحيح خمسة:

  1. اتصال السند بين الرواة من مبتدئه إلى منتهاه.
  2. عدالة الرواة.
  3. ضبط الرواة، سواء كان ضبط صدرٍ أو ضبطَ كتاب.
  4. انتفاء الشذوذ.
  5. انتفاء العلة القادحة.

أما الحديث الحسن: فهو ما جمع هذه الشروط الخمسة، لكن مع خفة ضبط الراوي لا مع كمال الضبط.

تعريف الحديث الضعيف:

فإنْ اختل شرط واحدٌ من هذه الشروطِ للصحيح أو الحسن كان الحديثُ ضعيفًا، ويمكن تعريفه بأنه: الحديث الذي لم تجتمع فيه صفات الحديث الصحيح ولا صفات الحديث الحسن. وهذا التعريف قال به: ابن الصلاح، وتابعه النووي، وابن كثير ومنْ جاء بعدهم[11].

خطورة تناقل الأحاديث دون التثبت من صحتها:

من أخطر الظواهر التي ابتليت بها المجتمعات، وعجَّت بها مواقع التواصل: تناقل الأحاديث المنسوبة للنبي ﷺ دون التثبت من صحتها، ممَّا يؤدي لنشر الكثير من الأحاديث الضعيفة والمكذوبة؛ لا سيَّما وأنَّ بعضها ينشر في مواسم محددة دينية كانت أو دنيوية.

وفي نشر مثل هذه الأحاديث غير الثابتة أضرار كثيرة من أهمها:

  1. ترك الحديث الصحيح والانشغال عنه، والجهل به.
  2. تشكيك الناس بما جاء به النبي ﷺ عندما يرون من يشير إلى ضعف هذه الأحاديث، أو مخالفة هذه الأحاديث الضعيفة للثابت من أحكام الشريعة، أو العقل والعلم.
  3. خفوت السنَّة وعلو البدعة وظهورها.

لذا يجب على كل مسلم محب للنبي ﷺ ألا يروي إلا ما هو صحيح أو مقبول روايته عند أهل العلم، وعليه التحقق والتأكد قبل النشر، وذلك بالرجوع إلى أمهات كتب السنة كصحيح البخاري ومسلم. أو بالرجوع لأهل العلم الثقات العارفين بهذا الشأن، أو بالرجوع لبعض المواقع الموثوقة في هذا الباب[12]، ومن سأل لن يُعدم مجيبًا.

الكذب على النبي ﷺ جريمة عظيمة:

من علامات نبوة نبينا محمد ﷺ حدوثُ ما أَخبرَ بوقوعه، ومن ذلك: ظهور الكذابين عليه؛ لذا فقد حذَّر أمته من تناقل الكلام المكذوب عليه، داعيًا إلى التّحري والتّثبت فيما يُنسب إليه، فقال: (إن من أعظم الفِرى أن يدَّعي الرجل إلى غير أبيه، أو يُريَ عينه ما لم ترَ، أو يقول على رسول الله ﷺ ما لم يقل)[13].

«فإن من مهمات الدين التَّنبيه على ما وُضع من الحديث، واختُلق على سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين» الحافظ السيوطي رحمه الله

وحذَّر من هؤلاء الكذابين وتوعّدهم أشد الوعيد، فقال ﷺ: (مَن تعمد علي كذبًا فليتبوأ مقعده من النار)[14].

كما حمَّل المتكلم مسؤولية ما يقول وينقل ولو لم يكن هو الكاذب، فقال: (مَن حدَّث عنِّي حديثًا وهو يَرَى أنَّه كذِبٌ فهو أحدُ الكاذبَيْن)[15].

لذا كان الكذب على النبي ﷺ من كبائر الذنوب، ومن القوادح في العدالة، ومن أسباب ردِّ الرواية.

وقد وضع أهل العلم ذلك نصب أعينهم فتتبعوا طرق الأحاديث، ووضعوا القواعد الدقيقة لكشف الخطأ في النقل عن النبي ﷺ، أو الكذب عليه، وذكر ذلك يطول؛ لكن حسبنا أن نعلم بأنهم عدُّوا هذا العمل من أعظم القرب، وأجل الطاعات؛ كما قال الحافظ جلال الدين السيوطي: فإن من مهمات الدين التنبيه على ما وُضع من الحديث، واختُلق على سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين»[16].

يكفي الإنسان إذا جهل حكم الحديث أنْ يقول: لا أعلم، ويردَّ الأمر إلى أصحاب التخصص. قال الإمام أحمد رحمه الله: «ينبغي للإنسان إذا لم يعرف الشيء أنْ لا يَرد الأحاديث وهو لا يحسن، يقول: لا أحسن»

الحكم بتضعيف الحديث أو وضعه له ضوابط وقواعد:

الحكم على الأحاديث مسألة جليلة مبنية على قواعد علميَّةٍ معلومةٍ رسمها أصحاب الفنّ، كيلا يكون لغير المتخصصين وأصحاب الهوى والمتعالمين سبيلًا للطعن في بعض الأحاديث النبوية بعيدًا القواعد العلمية؛ كتضعيف ما لا يوافق عقولهم كما صنع أهل الابتداع. وفي هذا المقام يقول ابن تيمية: «ولتصحيح الحديث وتضعيفه أبواب تُدخل، وطرق تُسلك، ومسالك تُطرق»[17].

كما أنَّ الحكم بوضع الحديث (أي كونه مكذوبًا على النبي ﷺ) يحتاج إلى الاطلاع على متن الحديث بعد معرفة سنده ورجاله، وقد وضع أهل العلم ضوابط عديدة لك من السند والمتن في تمييز «الحديث» الموضوع عن غيره:

فمن علامات الوضع في السند:

  1. أن يكون الراوي معروفًا بالكذب.
  2. أن يُقر الراوي بالوضع.
  3. وجود قرائن تدل على الوضع.

ومن علامات الوضع في المتن:

  1. المخالفة الصريحة للقرآن الكريم.
  2. ركاكة اللفظ.
  3. فساد المعنى الذي يدل عليه.

لكن تطبيق هذه القواعد يحتاج للعلماء الخبراء بعلوم الحديث والنظر فيها.

وكما أنَّ الناقل والراوي للأحاديث غير الصحيحة يدخل في زمرة من كذب على النبي ﷺ، فإنَّ مَن نفى ما صح مِن سنته داخل في جملة هؤلاء كذلك، ويكفي الإنسان إذا جهل حكم الحديث أو لم يكن من أهل التخصص أنْ يقول: لا أعلم، أو أن يرد العلم إلى أصحاب التخصص. قال الإمام أحمد رحمه الله: «وينبغي للإنسان إذا لم يعرف الشيء أنْ لا يَرد الأحاديث وهو لا يحسن، يقول: لا أحسن»[18].

«الذي أراه أنّ بيان الضعف في الحديث الضعيف واجب في كل حال، لأن تركَ البيان يوهم المطلع عليه أنه حديث صحيح، خصوصًا إذا كان الناقل له من علماء الحديث الذين يرجع إلى قولهم في ذلك» الشيخ أحمد شاكر رحمه الله

هل رواية الحديث الضعيف ممنوعة مطلقًا؟

يتساهل البعض في رواية وتناقل بعض الأحاديث الضعيفة، ويرون أنَّه ليس في تناقلها بـأس، وليس هذا بدقيق؛ فالأصل ألا يُروى إلا الحديث الصحيح الثابت.

ثمَّ إنْ كانت هناك حاجة علمية حقيقية لنقل أو رواية الحديث الضعيف فإنَّ أهل العلم قد وضعوا شروطًا، وحددوا ضوابطَ لجواز لذلك؛ فمَن قال مِن أهل العلم بجواز رواية الضعيف لم يطلقوا لذلك العنان؛ وإنمَّا جعلوه ضمن قواعد رسموها، ومعالم بينوها؛ فينبغي لكل من يستشهد بالحديث الضعيف أن يكون ذا درايةٍ وعلم بها، وإلا فإنَّه تجوُّزٌ بغير علم، وكانت مفسدةُ فعله عظيمة، وخطر ما قام به كبيرًا.

وهذه الشروط:

  1. ألا يكون الحديث شديدَ الضعف، فلا تجوز رواية ما انفرد به الكذابون، والمتهمون بالكذب، ومن فَحُشَ غلطُه. وقد نقل الحافظ العلائي الاتفاق على هذا الشرط.
  2. أن يكون الحديث المروي في فضائل الأعمال والترغيب والترهيب لا في الأحكام -الحلال والحرام- والاعتقادات.
  3. ألا يوجد في الباب غيرُ هذا الحديث الضعيف، فعندها يُقدَّم على القياس والاجتهادات.
  4. أن يُبين الراوي أو الناقل أنَّ الحديث ضعيف.

وطرق أهل العلم في البيان تنقسم إلى قسمين:

الأول: طريق الكناية، كأن يقول: «يُروى أو قيل….» وهذه صيغة تمريض تفيد بأن الحديث ضعيف.

لكن هذه الطريقة علمية متخصصة، وغالبًا ما تخفى على الكثير من عامة الناس، ولا يعرفون المقصود بها، فلا يُكتفى بذكرها عند رواية الحديث الضعيف.

الثاني: طريق التصريح، وهو أن الراوي إذا سرد الحديث بيَّن ضعفه، وحكى علَّته، ومثاله أن يقول: جاء في الحديث الضعيف كذا وكذا.

والواجب الشرعي على الداعية وطالب العلم في زماننا إذا حدّث بحديث أن يُبيّن للناس حاله بصريح العبارة، وألا يكتفي بالكناية، لأنَّــه متبوع، وكلامُه مسمـوع، فكان لزامًا الإيضاح والبيان الصريح لا الكنائي؛ لأنَّ عامةَ النَّاس لا تدرك معاني المصطلحات والفروق بينها، فضلًا أنَّ هذه الصيغة مختلف فيها بين المتقدمين والمتأخرين.

قال الحافظ ابن الصلاح: «إذا أردت رواية الحديث الضعيف بغير إسناد فلا تقل فيه: «قال رسول الله ﷺ كذا وكذا» وما أشبه هذا من الألفاظ الجازمة بأنه ﷺ قال ذلك، وإنما تقول فيه: «رُوي عن رسول الله ﷺ كذا وكذا، أو بلغنا عنه كذا وكذا، أو ورد عنه، أو جاء عنه، أو روى بعضهم، وما أشبه ذلك»[19].

وقال الشيخ أحمد شاكر: «والذي أراه أنّ بيان الضعف في الحديث الضعيف واجب في كل حال، لأن تركَ البيان يوهم المطلع عليه أنه حديث صحيح، خصوصًا إذا كان الناقل له من علماء الحديث الذين يرجع إلى قولهم في ذلك»[20].

أقوال أهل العلم في رواية الحديث الضعيف[21]:

وتتمة للفائدة فهذا مختصر لأقوال المجوزين والمانعين من رواية الحديث الضعيف على وجه العموم؛ فإن لأهل العلم كلامًا في ذلك.

أولًا: قول المجوِّزين:

قال عبد الرحمن بن مهدي: «إذا روينا الثواب والعقاب وفضائل الأعمال تساهلنا في الأسانيد، وسمحنا في الرجال، وإذا روينا في الحلال والحرام والأحكام تشددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال»[22]، وروي نحوه عن الإمام أحمد.

وقال سفيان الثوري: «لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم، الذين يعرفون الزيادة والنقصان، ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ»[23].

والآثار في هذا الباب كثيرة، وهي تدل في مجملها على جواز رواية الضعيف في الفضائل وفي الترغيب والترهيب، وهذا الكلام مقيد بشروط رواية الضعيف التي ذكرها أهل العلم، فينبغي الجمع بين هذه الأقوال للخروج بنتيجة علمية واضحة.

ثانيًا: قول المانعين:

ذهب جماعة من أهل العلم إلى منع رواية الحديث الضعيف، كالإمام مسلم[24]، وحكاه ابن سيد الناس في «عيون الأثر» عن يحيى بن معين، والظاهر أنَّه مذهب البخاري[25]، وأبي بكر بن العربي[26]، وبه قال أبو زرعة وأبو حاتم الرازيين، وكذا ابن أبي حاتم، وغيرهم[27].

لماذا أورد المحدثون الأحاديث الضعيفة في كتبهم؟

مما لا شك فيه أن المحدثين مِن أعلم الناس بالأسانيد، وأعرفهم برجال الحديث، فالسؤال الذي يجول في عقول البعض: لماذا يروي هؤلاء الأئمة الأحاديث الضعيفة في كتبهم؟ والجواب باختصار:

  1. ليست كتب الحديث سواء في الرتبة وفي شروطِ الرواية، فبعضهم يشترط الصحيح، وبعضهم يتوسع فيدخل الصحيح والحسن والضعيف إذا لم يوجد في الباب غيره، وما يكون ضعيفًا عند جماعةٍ من أهل العلم قد يكون عند من يقابلهم صحيحًا، وكل منهم مأجور إن ثبت علمه بهذا الشأن، مع كونه بذل الجهد في الحكم عليه.
  2. يعمل أهل العلم بقاعدة: «من أسند فقد أحال»، والمعنى: من أسند فقد برئت ذمته من بيان الصحيح من الضعيف، وحمَّل القارئ مسؤولية البحث عن رجال السند ودراسته والتحقق من صحته. وبهذا يتبين أنهَّم إنَّما كانوا يخاطبون أهل العلم وطلبته بذلك، لا عامة الناس.
  3. سار جماعة من المحدثين على القول بأنَّ الحديث الضعيف في المسائل الاجتهادية والترجيح إذا لم يكن شديد الضعف، ولم يوجد غيره؛ قدم على آراء الرجال. قال السخاوي عن صنيع أبي داود في «سننه»: «يخرج الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، وهو أقوى عنده من رأي الرجال»[28].

وإليه ذهب الإمام النسائي، كما نقله عنه ابن منده[29].

وهذا أحد أصول فتوى الإمام أحمد كما عده ابن القيم في «إعلام الموقعين» قائلًا: «الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف، إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل، ولا المنكر، ولا ما في رواته متهم؛ بحيث لا يسوغ الذهاب إليه والعمل به»[30].

رواية «الحديث» الموضوع:

«الحديث» الموضوع ليس بحديث أصلًا، لكن يُطلق عليه ذلك من باب التقسيم.

ورواية «الحديث» المكذوب لا تجوز أصلًا، يقول ابن الجوزي رحمه الله آخذًا على بعض العلماء روايةَ «الحديث» الموضوع دون توضيح حقيقته: «ومن تلبيس إبليس على علماء المحدثين رواية الحديث الموضوع من غير أن يُبيِّنوا أنَّه موضوع، وهذه جنايةٌ منهم على الشرع، ومقصودهم ترويج أحاديثهم وكثرة رواياتهم»[31].

وإنمَّا تجوز روايته للتحذير منه أو بيان كونه ليس حديثًا.

 «الحديث» الموضوع ليس بحديث أصلًا، لكن يُطلق عليه ذلك من باب التقسيم، وروايته لا تجوز أصلًا، إلا للتحذير منه أو بيان كونه ليس بحديث

في الصحيح ما يغني عن الضعيف:

مِن خير ما يقال لمن يرغب أن يُحدِّث الناس، ويطمع في أن يسهم بنشر العلم، وينال بركة رواية الحديث الشريف: أن يعلم «بأنَّ في الصحيح ما يغني عن الضعيف»، وهي قاعدة صحيحة نافعة؛ فغالب الناس لا يدققون في سماع ما يصل إليهم أو يقرؤونه، فيتعجلون بالنقل دون تروٍ أو نظر، وكثيرًا ما ينقلون الضعيف دون تنبهٍ إلى تضعيفه أو دون نقل الحكم عليه.

لذا ينبغي لمن أراد رواية الحديث أن يرجع إلى ما صح من الأحاديث في أمهات كتب السنة، وإن كان لا بدَّ من رواية الضعيف لحاجةٍ أو لفائدة علميَّةٍ، وخاصة في البحوث العلمية المتخصصة ونحوها: فليقدِّم رواية الصحيح ثمَّ يثنّي بالتي تليها مع مراعاة القواعد والشروط المذكورة.

وفي تقرير هذه القاعدة يقول الإمام عبد الله بن المبارك: «في صحيح الحديث شـغلٌ عـن سقيمه»[32].

وأصدق منه، قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: ٣٦].

وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: (مَن تَقَوَّلَ علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده مِن النار)[33].

وهي سبب للوقوع في البدع. كما أن في الاهتمام بنشر الأحاديث الصحيحة وتقديمها حماية من الوقوع فيها؛ فإنَّ من أسباب ظهور البدع – كما عده أهل العلم – ظهور الأحاديث الضعيفة، ومنهم الإمام الشاطبي في كتابه القيم «الاعتصام»[34].

وختامًا:

فإنَّه ينبغي لمن أراد رواية السنَّة ونشرها أن يتثبت مما ينقل وينشر، فطرق التأكد من صحة الحديث كثيرة أشهرها كما مر: سؤال أهل العلم، أو الرجوع للمصادر والمواقع الموثوقة للتأكد من الحديث، مع الحذر من الوقوع في الكذب على النبي ﷺ ولو بغير قصد، وذلك بنسبة حديث إليه ﷺ وهو لم يقله، وكذلك من أهم الوسائل تعلم العلم الشرعي.

وعليه أن يعلم أن تحديث العامة مختلف عن الحديث في مجالس العلم وبين أهله، فلا ينبغي أن يُحدث العامة بما يلتبس عليهم ولا يستطيعون التفريق به بين الصحيح والضعيف.


أ. محمود الزويد

 طالب علم، وباحث شرعي، ومدرس في بعض المعاهد الشرعية.


[1]  أخرجه البخاري (٣٤٦١).

[2]  يقصد بالإرسال هنا: الانقطاع، وهو سقوط راوٍ من سلسلة السند.

[3]  يقصد بالإعضال: سقوط أكثر من راوٍ من سلسلة السند على التوالي، سواء كان السقط في أول السند أو وسطه أو آخره.

[4]  تدريب الراوي، للسيوطي (٢/١٤٣).

[5]  المحدث الفاصل، للرامَهُرمزي، ص (١٩٢).

[6]  مقدمة صحيح مسلم (١/١١٩).

[7]  المدخل إلى الإكليل، للحاكم، ص (٥٥).

[8]  أخرجه أبو داود (٣٦٦٠)، والترمذي (٢٦٥٦).

[9]   المحدث الفاصل، ص (١٣٧).

[10]  شرف أصحاب الحديث، للخطيب البغدادي، ص (٦١).

[11]  معرفة أنواع علوم الحديث، لابن الصلاح، ص (٤١)، وإرشاد طلاب الحقائق، للنووي، ص (١٥٣)، والباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، لأحمد شاكر، ص (٤٤).

[12]  كالموسوعة الحديثية للدرر السنية، والباحث الحديثي، وجامع الكتب التسعة، وغيرها.

[13]  أخرجه البخاري (٣٥٠٩).

[14]  أخرجه البخاري (١٠٨)، ومسلم (٢).

[15]  أخرجه الترمذي (٢٦٦٢).

[16]  اللآلئ المصنوعة، للسيوطي (١/٩).

[17]  مجموع الفتاوى، لابن تيمية (١٨/٢٤).

[18]  مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح (٣/٢٠).

[19]  معرفة أنواع علوم الحديث، لابن الصلاح، ص (١٠٣-١٠٤).

[20]  الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، لأحمد شاكر، ص (٨٦).

[21]  أما مسألة العمل بالحديث الضعيف فتلك مسألة أخرى تحتاج لبسط وتوضيح.

[22]  المدخل إلى الإكليل، ص (٥٩).

[23]  الكفاية في علم الرواية، ص (١٦٥).

[24]  قال في مقدمة صحيحه: باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها (١/١١١).

[25]  قواعد التحديث، للقاسمي، ص (١١٣).

[26]  ينظر: تدريب الراوي، (١/٥٠٤).

[27]  يراجع للفائدة: الحديث الضعيف وحكم الاحتجاج به، للدكتور عبد الكـريم الخضير، ص (٢٥٩)، وما بعدها.

[28]  فتح المغيث، للسخاوي (١/١٤١).

[29]  فضل الأخبار وشرح مذاهب أهل الآثار، لابن منده، ص (٧٣).

[30]  إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (٢/٥٥).

[31]  تلبيس إبليس، لابن الجوزي، ص (١٠٦).

[32]  الآداب الشرعية، لابن مفلح (٢/١٢٢).

[33]  أخرجه ابن ماجه (٣٤)، وأحمد (٨٢٤٩) والبخاري في الأدب المفرد (٢٥٩).

[34]  ينظر: الاعتصام، للشاطبي (٢/١٦).

X