استعاذ رسول الله ﷺ بالله من (الهَمِّ والحَزن، ومن الجُبن والبخل، ومن العَجز والكَسَل، ومن غَلبةِ الدَّين وقهرِ الرِّجال)، فلماذا جمع هذه الصفات الثمانية في دعاء واحد؟ وما الرابط بينها؟ وما تأثيرها على الإنسان؟ تلقي هذه المقالة الضوء على هذه الصفات وتأثيرها وكيفية التعامل معها.
أسباب عدم القدرة والانطلاق والرغبة في النجاح والحيوية والشعور بالمسؤولية ثمانية: (الهم، الحزن، الجبن، البخل، العجز، الكسل، غَلَبة الدين، قهر الرجال).
هذه الأسباب الثمانية متزاوجة؛ أربعة في الروح (معنوية أو نفسية)، وأربعة في البدن (حسية)، أربعة من ذات الإنسان، وأربعة خارجية. فهي لم تُبقِ شيئًا من العوائق العظمى؛ لا من نفس الإنسان ولا مما يأتيه من واقعه ومحيطه وظروفه إلا ذكرته.
الأسباب الأربعة النفسية:
هي: (الهم، والحزن، والجبن، والبخل)، وتنقسم إلى زوجين: اثنان متعلقان بالموقف من الشيء والأحداث، واثنان متعلقان بالتصرف بالدوافع على الفعل.
– الهم والحزن:
السببان النفسيان المتعلقان بالموقف هما (الهم والحزن)، والهمُّ: هو الحال النفسية المحبطة نتيجة اليقين بعدم القدرة على مجابهة المتطلبات المستقبلية، مثل هَمِّ كِراء الدار، وهم تزويج الأبناء.
والحزن يكون عادة على فوات الفرص الضائعة أو أخطاء الماضي، مثل الحزن على عدم الاكتتاب في الشركة الفلانية، أو على بيع أرض بثمن غير مجزٍ، أو على فرصة ضاعت، وعلى خطأ فعلته.
والحزن في القرآن يستوعب كل أنواع الانكسار والألم النفسي من وجعٍ على ما فات، أو وجعٍ على ما يُستقبل، ومما يؤكد ذلك قوله تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ [الحديد: ٢٣]، وقوله: ﴿الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ [فاطر: ٢٤]، وقوله: ﴿لاخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [يونس: ٦٢].
الهم والحزن يدمِّران القلب، ويدمِّران الإنسان، ويفقدانه القدرة على الفعل الصحيح؛ فلا يبتسم حيث يجب أن يبتسم، ولا يُقرِّر حيث يجب أن يُقرِّر، ويتحوَّل إلى سفينة راكدةٍ فوق الماء، لا تبتعد عن خطر ولا تقترب من فرصة.
حب المال، وترشيد إنفاقه في حده المعقول غريزة في الإنسان، لكنه إذا وصل إلى حدٍّ يحجم فيه عن أداء الحقوق، ويمنع فيه ما يجب عليه من نفقات، يكون حينها في الحالة التي تعيق عن النجاح والإنجاز والفاعلية
– الجبن والبخل:
السببان النفسيان المتعلقان بالفعل والإرادة والعزم على الفعل هما (الجبن والبخل).
والجبن غير الخوف؛ فالخوف حالٌ نفسيةٌ تؤثِّر على العقل والقلب أساسها ومصدرها تقدير الضرر، مثل أن تخافَ من العقرب أو الأفعى، فتتَّسع حدقات العين، ويخفق القلب ويتحفز، وتشتد العضلات، كل هذا خوفًا من لدغة الأفعى.
والخوف طبيعي حقيقي لا عيب فيه، لكن المهم هو ما بعد الخوف، وهو إمَّا الإقدام أو الإحجام، فإذا كان الإحجام خاطئًا فهو الجبن، كأن تخاف من سطوة السلطان، والموقف يتطلب كلمة حق، فتُحجم ويكون ذاك جبنًا، أو تقدم ويكون ذلك فدائية وشهادة وشجاعة.
الشجاع في كثير من المواقف يكون خائفًا بدرجة خوف الجبان نفسها، لكن عقله لا يتعطَّل بمشاعر الخوف الطبيعية، وهذا المعنى لا ينتبه له كثير من الناس.
الخوف شعورٌ طبيعيٌّ جدًا لكن التعامل مع الخوف هو المحكّ.. إقدامًا أو إحجامًا، مبادرةً أو تقهقرًا، فالجبن هو الامتناع عن الواجب بسبب الخوف، وهو مذمومٌ دومًا وفي كل الحالات.
يُعادل الجبنَ في المنع النفسي من الإقدام سبب آخر وهو البخل، والبخل طامّة الرجال وأعيبُ عيوبهم، وهو مثل الجبن في المنع لكن باعثه مختلف، وهو الخوف من المستقبل، والهلع من الفقر والحاجة التي يَعِدُ بها الشيطان الرجيم.
حب المال، وترشيد إنفاقه في حدِّه المعقول غريزة في الإنسان، لكنه إذا وصل إلى حدٍّ يحجم فيه عن أداء الحقوق، ويمنع فيه ما يجب عليه من نفقات، يكون حينها في الحالة التي تعيق عن النجاح والإنجاز والفاعلية.
والله ذم البخل في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، في مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ﴾ [آل عمران: ١٨٠]، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ [النساء: ٣٧]، ولعل من أعجبها قوله تعالى: ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون: ٧]؛ فلماذا يمنع إعارة ما ينتفع الناس به ثم يعيدونه إليه، وهو لن يخسر شيئًا بل سيكسب ثناء الناس واحترامهم.
إذا سلم قلب المرء من حزنٍ على ما فات، ومن همٍّ على ما يُستقبل، ومن جبنٍ يمنع من المعالي، ومن بُخلٍ يمنع تقديم أي نوعٍ من الموارد لتحريك الطاقات والأفعال .. فلا شيء يعيق هذا القلب، ولا شيء يحطم هذه الإرادة
– خلاصة الأسباب القلبية:
إذا سلم قلب المرء من حزنٍ على ما فات، ومن همٍّ على ما يستقبل، ومن جبنٍ يمنع من المعالي والمغامرة المحسوبة، ومن بُخلٍ يمنع تقديم أي نوعٍ من الموارد لتحريك الطاقات والأفعال من قبيل ابتسامةٍ أو إعارة أو ساعة عملٍ أو نصيحةٍ أو مالٍ .. إذا سلم قلب المرء من هذه الآفات الأربع فأيُّ شيءٍ يُمكن أن يُعيقه؟! لا شيء يعيق هذا القلب، ولا شيء يكسر هذا القلب، ولا شيء يحطم هذه الإرادة، ولا عقبة توقف هذا القلب.
قلبٌ تحوَّل إلى إرادةٍ قويةٍ قلبٌ مدرَّعٌ مضادٌّ لكلِّ الأوجاع المعطِّلة، قلبٌ لا يُمكن كسرهُ، ولا يمكن تحطيمه، ولا يمكن تعطيله.
تلك كانت الأربعة القلبيات، فماذا عن الأربعة الحسيات؟
الأسباب الأربعة الحسِّية:
إذا وُجد هذا القلب النادر السالم من المعوّقات الأربع المعنوية، فهناك عوائق حِسّية قد تعوقه عن الفعل، عوائق خارج إطار القلب والنفس، وهي أربع: (العجز، والكسل، وغَلَبة الدَّين، وقهر الرجال).
وهنا قد يرى البعض أنها ليست كلُّها محسوسة فالكسل وقهر الرجال كلاهما معنوي، وهذا صحيح لوهلة، لكن ثمة فرقٌ جوهري، وهو أنَّ هذه الأربعة لا تحُول دون إرادة الفعل، بل تحول دون القيام بالفعل الصحيح وسيأتي توضيح الفرق.
لكن لنتجاوز طبيعتها إلى تحديد أثرها. ومن خلاله سيتضح لماذا جعلتُها خارجةً عن النفس.
الكسل من أقبح العيوب ولا يكاد يعترف به أحد. لكنه سبب حقيقي وقاسم مشترك بين الفاشلين، برهم وفاجرهم ذكرهم وأنثاهم بلا استثناء!! وفي المقابل فإن الناجحين، والمبدعين، والذين ترمقهم العيون نشيطون مجتهدون
– العجز والكسل:
العجز فقدان القدرة الطبيعية في البدن، مثل فقدان البصر أو السمع أو الفهم أو الحركة، كل هذا عجز، وقد يكون في الموارد والمتاحات، والاستعاذة من العجز تتضمن الاستعاذة من عدم القدرة على تجاوز العجز الحسي، وإلّا فكثير ممن ابتلي بالعمى أو الشلل أو فقد الأطراف وصل إلى أعلى درجات العلم والعمل.
أما الكسل فهو يؤدِّي لمؤدَّى العجز في المحصلة النهائية، فما الفرق بين المتعلِّم والأمِّي إذا كان المتعلم لا يوظِّف علمه؟! وما الفرق بين المشلول والصحيح، إذا كان الصحيح لا يقوم بما يجب عليه كسلاً من خدمة والدَين أو ذهاب إلى الصلاة، مثلاً؟.
الكسل لا يتعلَّق بعزم القلب على فعل الشيء. فقد لا يكون القلب مشغولاً بهم ولا بحزن، والموقف ليس فيه جبن وبخل، والقلب متشوِّفٌ في أعلى درجات التفاؤل والخلو من الإحباط، لكن ذلك كلَّه يتحطَّم على صخرة الكسل.
فقد أعرف فضلَ قيام الليل أكثر ممَّن يقوم الليل، وقد أعرف نعائمَ مُدارسةِ القرآن أكثر ممن يتدارسونه، ومع ذلك لا أقوم الليل ولا أتلو القرآن.. هذا هو الكسل، وهذا هو الفرق بينه وبين الأسباب القلبية والنفسية.
وكم من ذكيٍّ في فُسحةٍ من وقتٍ ومالٍ، وقد تهيأت له كل الأسباب.. لكنه فاشل!!
انظر لكثير من الشباب الضائع غير المنتج؛ لديه كل ما يحتاج إليه، يعرف تمامًا ما المطلوب منه، يخلو من أيِّ عائقٍ حسيٍّ أو معنويّ، لكنه فاشل.. فاشل.. فاشل، وتُفتِّش في رُكام هذا الإنسان عن السبب، فلا تجد في أعماقه غير طامةٍ اسمها الكسل.
الكسل من أقبح العيوب ولا يكاد يعترف به أحد، لكنه سبب حقيقي وقاسم مشترك بين الفاشلين، بَرّهم وفاجرهم ذكرهم وأنثاهم … بلا استثناء!! وفي المقابل فإنَّ الناجحين، والمبدعين، والذين ترمقهم العيون نشيطون مجتهدون.
وبالطبع .. إدمان الكسل يتحول لطامّةٍ كبرى، ويبدأ الكسل في الاختباء خلف أسباب تبدو حقيقية، فتركُ قيام الليل يختبئ خلف أهمية النشاط في الصباح الباكر لأجل العمل. وهجر القرآن يختبئ خلف الأعمال المعتادة!! فالعجز والكسل ذاتيان أي من الإنسان نفسه.
الكسل طامة كبرى، وهو يختبئ خلف أسباب تبدو حقيقية؛ فتركُ قيام الليل يختبئ خلف أهمية النشاط في الصباح الباكر لأجل العمل، وهجر القرآن يختبئ خلف الأعمال المعتادة!!
– غلبة الدَّين وقهر الرجال:
بقيت خصلتان خارجتان عن إرادة الإنسان، تحولان دون الفعل، وهما (غلبة الدَّين وقهر الرجال).
المَدين (الذي عليه دَين) نوعان:
مدينٌ حرٌّ ورع، أنيفُ النفس رقيق الحس مرهف الشعور، كريم خدوم عطوف، حييٌّ شديد الحياء، وهذا المدين لا ينام، ولا يشرب، ولا يبتسم، ولا يضحك، ولا يطعم حلاوة، ولا يجد سلوى، حتى يقضي دَينه، وهذا القلق من الدَّين يجعل صاحبه أسيرًا، عاجزًا، مكسور القلب، حائر الطرف، معقود اللسان، كليل اليد. ومدينٌ آخر لا يستحي، لا ترفُّ له عينٌ ولا يخاف مسبّة، ولا يكترثُ لسداد، عينٌ وقحة وقلبٌ غدّار طوي ونفس لئيمة تتسوّل الناس وتستجديها، فهذا ليس موضوعنا.
قهر الرجال أعظمُ البلاء وأشده؛ فقد يكون الشخص قادرًا مكتمل الإرادة، ويمتلك كل أدوات الفعل من علم ومال وفكر وموارد، فيتسلَّط عليه من يُعطِّله تمامًا ويحوله إلى حطام
ومن حسن التصرُّف تجنب الاستدانة قدر الإمكان، وعدم اللجوء إليها إلا عند الضرورة، والمسارعة إلى السداد فور توفر المبلغ، ومن كانت هذه حاله فهو حريٌّ بإعانة الله في قضاء دينه.
وأما قهر الرجال فهو أعظمُ البلاء وأشده، وعلى المسلم أن يتمنَّع منه بكل ما أوتي من قوة.
وقد لام الله المستضعفين على استسلامهم للقهر، قال تعالى: ﴿قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ [النساء: ٩٧]، هذا هو قهر الرجال.
قد يكون الشخص قادرًا مكتمل الإرادة، ولديه كل أدوات الفعل من علم ومال وفكر وموارد، لكن يتسلط عليه لكع ابن لكع فيُعطِّله تمامًا ويحوله إلى حطام، إلى بقايا رجلٍ شبه مجنونٍ بعد أن كان عالمًا تشرئب إليه الأعناق، أو مستشارًا تتحلَّق حوله الخبراء.
هذه هي العوائق التي كان رسول الله ﷺ يستعيذ منها[1]، ويعلم أصحابه التعوُّذ منها، وهي تستحقُّ منا التحصُّن والتوقّي منها بشتى الوسائل والسبل لعظيم ضررها وفداحة خطرها.
اللهم إنَّا نعوذ بك من:
- الهم والحزن.
- والعجز والكسل.
- والجبن والبخل.
- وغلبة الدَّين وقهر الرجال.
[1] أخرجه البخاري (2893).
أ. محمد فتح الله
مستشار إعلامي، ومنتج أفلام وثائقية.
لتحميل المقال اضغط [هنا]