حضارة وفكر

جحود الغرب والإمبريالية المعرفية

جحود الغرب والإمبريالية المعرفية

من الأمور السائدة في الثقافة الغربية اليوم نسبة النهضة العلمية المعاصرة إلى جذور يونانية بعيدة تبعد عنها قرونًا متطاولة، مع إبراز فلاسفة وعلماء ليسوا أحقَّ من يُذكر في النسيج المعرفي المعاصر، مع أن هذه الجذور اليونانية استفادت من غيرها وأخذت منها، بل إن الفضل في التأثير المباشر على النهضة المعاصرة يعود إلى حضارة أخرى، فما هي هذه الحضارة؟ ولماذا يتعمّد الغرب تجاهلها وجحودها؟

مدخل

التواصل بين الحضاراتِ قديم، فالحضارة بساطٌ أسهمت في نسجه أيد كثيرةٌ، وإن التدقيقَ في حضارة الشرق القديم أثبتَ أنه ليس هناك «مرجعيةٌ وسَبق يوناني» كما يدعي الغرب، لأن الحضارة اليونانية أخذت الكثير من الحضارات في مصر والشام والعراق وفارس، ويذكر المؤرخ ويل ديورانت: أن الإغريق لم يُبدعوا الحضارة؛ لأن ما وَرِثوه أكثرُ مما ابتدعوه، وقد ورثوا ذخيرةً من العلم والفن عمرها ثلاثة آلافِ سنة وصلت إليهم عن طريق الحروب والتجارة، والأمثلة على ذلك كثيرة، فالعالم اليوناني «طاليس» زار مصرَ عدة مراتٍ، ونقل معه العلوم الهندسية، وفيثاغورس تعلم الرياضات في مصرَ وبابلَ، وانتقلت إلى اليونانِ الأبجديةُ الفينيقيةُ من أوغاريت، وكُتبَت بها اللغة اللاتينية[1].

allcam.biz نشرت مقالا عن موضوع مثير للاهتمام.

الشمسُ الساطعةُ:

مع انقشاع الغبار عن عصر الحداثة وما بعدها، وسهولة معاينة المعارفِ إلكترونيًا ثم جهود الباحثين الصادقين، باتت شمسُ الحقيقة تضيء بأدلةٍ دامغةٍ، مفادُها أن: «الغربَ هو غروبُ صباحٍ أشرقَ في بلادِ الشرق»[2]، وهذه هي الحقيقة التي جَهِدت أوروبا بكل وسيلة لأجلِ طمسِ أدلتِها الحسيةِ أو تجييرها بشتى التأويلاتِ، كِبْرًا وسَطوًا خِدمةً لأغراض شتى؛ منها: التعالي الحضاري والنفسي على البشريةِ، وقيادةُ العقولِ والأفكارِ، ثم غزو الأممِ بزيفِ سبقِ التنويرِ والعلمِ والحداثةِ.

كما تتأكد هذه الرغبةُ الأوروبيةُ منذ الحروبِ الصليبيةِ مع شدة العداوةِ والحسدِ للمشرق المسلم، يغذيها الشعورُ بالنقصِ أمامَ أصحابِ الفضلِ، فضلاً عن عنصريةِ وإمبرياليةِ الغرب الماديةِ والمعنويةِ التي لم تسلم من نهبها المعارفُ والعلومُ، وما مثالُ «الداروينية الاجتماعية» إلا جزءٌ من التسويغِ اللاأخلاقي والعنصري لعقولٍ مريضةٍ، تؤمنُ بفوقيتِها وبقاءِ جنسِها الأصلحِ تحت دعوى الانتخاب الطبيعي![3].

لقد نعق الغربُ بكل دعوى لَيًّا لكل حقيقةٍ، فساعةً يصورون في خطابهم الداخلي الشوفيني أن الحضارةَ الغربيةَ ما هي إلا امتدادٌ سلسٌ للإغريقِ والرومانِ، مرت بنكسةٍ ونُعاسٍ ثم واصلت إشعاعَها…! وساعاتٍ يُصرون على أن العربَ مجردُ ناقلينَ أمينينَ لعلوم اليونانِ، استردت منهم أوروبا إرثها القديم، متنكبين لحقيقة تنطق بأن أوروبا تتلمذت زهاءَ خمسة قرونٍ على يد المسلمين، فلولا علومُ المسلمين لما دارت عجلة النهضةِ الأوروبيةِ.

جَهِدت أوروبا بكل وسيلة لأجلِ طمسِ الأدلة الحسيةِ على نهوض الحضارة الغربية على أكتاف الحضارة الإسلامية أو تجييرها بشتى التأويلاتِ، كِبْرًا وسَطوًا خِدمةً لأغراض شتى؛ منها: التعالي الحضاري والنفسي على البشريةِ، وقيادةُ العقولِ والأفكارِ، ثم غزو الأممِ بزيفِ سبقِ التنويرِ والعلمِ والحداثةِ

وتاليًا، عرضٌ ونقاشٌ لأهم تشابكات الانتقال المعرفي من الشرق إلى الغرب:

١. ميادين اللقاءِ بين الشرقِ والغربِ:

انتقلت حضارةُ المسلمين إلى أوروبا بعلومها ومصنوعاتِها ومحاصيلها الزراعيةِ عبر قنواتٍ متعددةٍ، وكانت ميادين اللقاء فسحةً للتأثير والعطاء، وكثرَ الاحتكاكُ الأوروبي والنقلُ والاقتباسُ، ومن أهم تلك الميادينِ: الأندلس، وصقلية، والشرق العربي، ومناطق التوسع العثماني[4]:

  • تؤكدُ «زيغريد هونكه» على فضل مسلمي الأندلس، إذ تقول: «ولم يبدأ ازدهارُ الغرب ونهضتُه إلا حينَ بدأ احتكاكه بالعربِ سياسيًا وعلميًا وتجاريًا. واستيقظَ الفكر الأوروبي على قُدوم العلومِ العربية من سُباتِه الذي دامَ قرونًا»[5].
  • كما يمكننا ملاحظة أن دَور صِقليةَ في انتقالِ التراثِ الفكري العربي إلى بقيةِ بلدانِ أوروبا كان له الشأنُ الكبيرُ. وبعد خروج المسلمين منها ظلت صقلية تعيش فسحةَ اللقاء، إذ ساعدت بفضلِ المسلمين على قيام حركةِ النهضةِ الإيطاليةِ مبكرًا في أوروبا. وأسس فريدريك الثاني في سنة ١٢٢٤م جامعة في «نابولي» وجعل منها أكاديميةً لنقلِ العلوم العربية إلى العالم الغربي[6].
  • أما الصليبيون فأخذوا عن العربِ استخدامَ البوصلةِ والاسطرلابِ وآلاتِ الرصدِ الفلكي والحمامِ الزاجلِ. ونقل الصليبيون معهم تقنياتٍ جديدةً مثلَ طاحونةِ الهواء وصناعة الزجاجِ الملونِ، وزراعة القطنِ والمشمشِ والأرزِ وقصبِ السكر، وصناعة الورق التي لولاها لما انتشرت الكتب والمعرفةُ بين الأوروبيين[7].

٢. بداية النقل الممنهج لعلوم المسلمين ودور الكنيسة فيه:

أثناء تتبُّعِ جذورِ الإمبرياليةِ المعرفية الأوروبيةِ التي كانت من أسبابِ غزو نابليون لمصرَ حيث اصطحب مئات العلماء والباحثين للتنقيب عن العلوم في المكتبات وغيرها، استوقفني إقرارُ المؤرخينَ -موسوعة غينيس- بأن «جامعةَ القرويين» في فاس كانت أولَ جامعةٍ في العالم، إذ أسستها فاطمةُ الفهريةُ كوَقفٍ، وصامَت حتى اكتملَ البناءُ عام ٨٥٩م. لكن العلامةَ الفارقةَ هنا أن «البابا سيلفستر» درسَ فيها أسوةً بابنِ خلدون والفيلسوفِ اليهودي «موسى بنِ ميمون» الذي تأثر به ونقلَ بعضَ علومِه المشرقية كبارُ فلاسفةِ أوروبا كديكارت واسبينوزا وليبنيتز.

البابا سلفستر الثاني (توفي ١٠٠٣م) هو قطب الرَّحى ومهندسُ بدايةِ حركةِ نقلِ علومِ المسلمينَ إلى أوروبا بشكلٍ ممنهجٍ وهو البابا الوحيدُ الذي (تعلم العربية) ثُم أَوفد آلاف الطلبةِ الكنسيين وغيرهم من أوروبا إلى مدارس ومكتباتِ الأندلسِ. وقد اعتبر بعضُ المؤرخين أنّ «الاستشراق» يعودُ إليه، إذ قصدَ بلادَ الأندلس وتتلمذ على أساتذتِها في إشبيلية وقُرطبةَ، حتى أصبح أوسع علماءِ عصرِه الأوروبيين اطلاعًا، وقد زار واطلع على معارفِ العالمِ الإسلامي «كجامعة القرويين» المغربية، وإليه يرجع نقلُ الأرقام العربية والرياضياتِ والفلكِ إلى أوروبا[8].

كما تابع الدورَ نفسه مطرانُ طليطلةَ «ريموندو» بعد سقوطِها، والذي عمل مع جمعٍ من المطارنةِ على ترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية[9].

٣. دور إمبراطور أوروبا شارلمان الحكيم:

حاول بعضُ المستشرقين نسبةَ فضل بداية نهضة أوروبا إليه، رغم أن عصرَه ومحاولاتِه لا تقوى على حجم الدعوى، فهو ذلك الامبراطور الذي أسَرَتهُ الدهشة -عند عودةِ وفدِه من بلاطِ هارونَ الرشيدِ- ناظرًا إلى اختراعٍ اسمُه: «الساعة»!

أما جهودُه العلمية فيتنَدَّرُ عليها لوبون قائلاً:

«وكان للعرب في إسبانية وحدَها سبعونَ مكتبةً عامةً، وكان في مكتبة الخليفة الحاكم الثاني بقرطبة ستمئةِ ألف كتاب، كما روى مؤرخو العرب، وقد قيل-بسبب ذلك-: إن شارلمان لم يستطع أن يجمع في مكتبة فرنسا الملكية أكثرَ من تسعمئة مجلدٍ»[10].

البابا سلفستر الثاني هو قطب الرَّحى ومهندسُ بدايةِ حركةِ نقلِ علومِ المسلمينَ إلى أوروبا بشكلٍ ممنهجٍ، فقد قصدَ الأندلس وتتلمذ على أساتذتِها، وزار واطلع على معارفِ العالمِ الإسلامي «كجامعة القرويين» المغربية، وإليه يرجع نقلُ الأرقام العربية والرياضياتِ والفلكِ إلى أوروبا، وأَوفد آلاف الطلبةِ الكنسيين وغيرهم من أوروبا إلى مدارس ومكتباتِ الأندلسِ، حتى اعتبر أنّ «الاستشراق» يعودُ إليه

٤. فضل المسلمين على الثورة الكوبرنيكيَّةِ العلميةِ الكبرى:

في عام ١٥٠٠م، أعلن كوبرنيك نظرية «مركزية الشمس ودوران الأرض»، فكانت من أكبرِ الثوراتِ العلميةِ والتجريبيةِ التي هزّت مكانةَ الكنيسة، وكان لها أثر مدوٍّ في الساحة الفكريةِ، وغيّرت مسارَ الفكرِ والعقل الأوروبي ونظرةَ الناسِ إلى مكانة الكنيسةِ العلميةِ، وإلى اللاهوتيةِ وعلوم اليونان فاتحةً الطريق إلى عصر تقديس العقل والتجريب ومذاهب التنوير والحداثة. وقد اشتركَ لاحقًا في تطويرِها ودفعِها شخصياتٌ علميةٌ، فسُجِنَ على إثرِها «غاليلو» وحرِقَ «برونو»، وطاردت محاكمُ التفتيشِ كلَّ من يهمسُ بها[11].

اعتبر كتاب كوبرنيك حول «دورانِ الأفلاك» من أهم الكتبِ التي غيّرت وجه التاريخ[12]. لكن السؤال: مِن أين أتى كوبرنيك بذلك؟

لقد قامت نظريته على نماذجَ فلكيةٍ عربيةٍ نُقلت من الطوسيّ وابنِ الشّاطرِ، فيما كان الكاتب الأول الذي وضع نقدًا منهجيًا للنموذج الفلكي الأرسطي ثم البطلمي هو ابن الهيثم في كتابه «الشكوك على بطليموس». كما صرّح دونالد هبل بأن كوبرنيك اقتبسَ عن كل مِن البتاني والزرقالي في كتابه «دورة الأفلاكِ»[13].

كما نوه المؤرخ الألماني ويلي هارتنر وإدوارد كينيدي بأن كوبرنيكوس استعملَ في كتابه رسمًا مماثلاً جدًا لرسمٍ موجودٍ في كتاب الطوسي «تذكرة في علم الهيئة»[14].

الثابت بلا ريب أن منطقَ أرسطو وفلسفةَ اليونانِ لم يكن لهما تأثير طاغٍ ومستمر على المسلمين فضلاً عن عدمِ تأثرِ العلوم التطبيقيةِ والتجريبيةِ بها جوهريًا، بل وسُجل لعلماء المسلمين الريادة في نقدها علميًا

٥. أوروبا ودعوى مصدرية علوم اليونان، والقنطرة الأرسطية:

يُصر الغرب على أن العرب مُجرد ناقلين لعلوم اليونان وفلسفتها، وأن أوروبا استردت منهم إرثها القديم مُتذرّعين (بمرجعية) وتأثير «المنطق الأرسطي» وفلسفة اليونان على طوائف من المفكرين المسلمين، لكن الأوروبيين عظّموا كثيرًا ابنَ رُشدٍ بالذاتِ لكونِه أكثرَ مَن نَظّر لفلسفة أرسطو.

غير أنه لا يصحُ كذلك أن يُجَيّرَ هذا الاحتفاءُ الأوروبي بابنِ رشدٍ لسياق نقلِ العلومِ التجريبيةِ إلى الغربِ، لأن ابن رشدٍ لا يمكن أن تُنسبَ إليه جلّ علوم المسلمين التجريبية، وليس من المعقولِ أن يتغنّى بفضلِه رائدا العلمِ التجريبي في بريطانيا: «روجر وفرانسيس بيكون» رغمَ عداوةِ الاثنينِ الشديدةِ لفلسفةِ أرسطو -التي اتخذها ابن رشدٍ– واعتبروها كغالب علماء أوروبا سببًا في تخلف علومهم.

وإلى ذات الحقيقة يشير مونتجومري: «اهتمامُ الأوروبيينَ بأرسطو لا يرجعُ إلى المقوّماتِ الأساسيةِ لفلسفتِه وحسب، وإنما يرجعُ كذلك إلى انتمائِه إلى تاريخهم الأوروبي. إن إحلالَ أرسطو مكانَ الصدارةِ في الفلسفةِ والعلومِ ينبغي النظر إليه باعتبارِه مَظهرًا لرغبةِ الأوروبيين في تأكيد اختلافهم عن المسلمين، ولم يكن هذا التنكُّر للإسلام أمرًا سهلاً خاصةً بعد كل ما تعلّمه الأوروبيون من علوم العرب»[15].

في المقابل، الثابت بلا ريب أن منطقَ أرسطو وفلسفةَ اليونانِ لم يكن لهما تأثير طاغٍ ومستمر على المسلمين فضلاً عن عدمِ تأثرِ العلوم التطبيقيةِ والتجريبيةِ بها جوهريًا، يقول ابن تيمية: «إن نُظّار المسلمينَ ما زالوا يُصنِّفون في الردّ عليهم في المنطق وغيرِه، ويبيِّنون خطأهم فيما ذكروه في الحدِّ -يقصد الأرسطي- والقياسِ والإلهيّاتِ، ولم يكن أحدٌ من نُظّار المسلمين يلتفتُ إلى طريقتهم، بل سائرُ الطوائفِ كالأشعريّة والمعتزلةِ كانوا يعيبونها، وأوّل من خَلطها بأصولِ الدينِ هو الغزالي…»[16]. بل يقول محمد إقبال، ونحو ذلك أبو الحسن الندوي: «ولقد كان السهرَوَردي وابنُ تيميةَ هما اللذين نهضا إلى نقد المنطقِ اليوناني نقدًا علميًا منظّمًا»[17].

٦. دور العلم التجريبيّ «والاستقراء» عند المسلمين في النهضةِ الأوروبيةِ:

أ. الاستقراء: من المعلوم أن الاستقراءَ هو الانتقالُ من الوقائع –الجزئيات- إلى القوانين، والذي يعدُّ من أسس التجربةِ العلميةِ، فالاستقراءُ ينتقلُ من ظواهرِ الطبيعةِ الواقعيةِ والقائمةِ على مبدأ العِلّيّة والسببية والاطِّراد، إلى القوانين الطبيعيةِ التي أوجدها الله في الكون، وعملَ الإنسانُ على اكتشاف هذه القوانين التي كان لها الأثر الكبير في التقدمِ العلمي للإنسان عن طريق التجربةِ.

وقد طبّقَ هذا المنهجَ علماءُ المسلمين التجريبيون منذ القرنِ الثاني الهجري، ثم نَظّرَ ابنُ تيمية له ونادى بهذا الطريقِ العلمي قبل أي عالم غربي؛ إذ إن مصدرَ العِلّيّةِ عنده هو الخبرةُ الإنسانية[18]. كما مارس الاستقراءَ العزُّ بنُ عبدالسلام والشّاطِبي في مقاصدِ الشريعةِ بطريقةٍ بديعة.

ب. تأثير ابنِ تيميةَ في الفكرِ الغربي ونهضةِ العلمِ التجريبيّ: «كان ابنُ تيميةَ شخصيةً ذاتَ طرازٍ عظيمٍ؛ فهو فقيهٌ ومتكلّمٌ ناقدٌ استثنائي للمنطق الأرسطي والفلاسفة». هكذا ابتدأت الباحثة (أنكه كوجلجن) -الأستاذة بجامعة برين للعلوم الإسلامية- بحثًا مطولاً عن نقد ابن تيمية للمنطق الأرسطيّ ومشروعه المضادّ.

ويتركز موضوع البحث حول محورين:

  • أوجُه النقد التي وجّهها ابنُ تيمية للمنطق الأرسطيّ والإغريق.
  • إلى أي حدٍّ تأثرت المذاهب الغربية بهذا النقد، وخاصةً (المذهب التجريبي) الذي قامت عليه الحضارة الغربية[19].

ج. بعضٌ من شهادات المؤرخين في مصدرية المنهج التجريبي:

  • يقول سيديو: «استطاع المسلمون -بتركيز أفكارهم على الحوادث الفرديةِ- أن يُطوّروا المنهج العلمي إلى أبعد مما ذهب إليه أسلافهم اليونان، وإليهم يرجع الفضل في استخدام النهج العلمي في أوروبا في العصور الوسطى»[20].
  • ويقرر المستشرق الكبير غوستاف لوبون: «لم يظهر في أوروبا قبل القرن الخامس عشر عالم تجاوز نسخَ كتبِ العربِ والتعويلَ عليها وحدها، وهذا يشمل جاليلو ودافنشي وفرانسيس بيكون رائد المنهجِ التجريبي في أوروبا…». ثم اقتبس لوبون من كلام «دولنبر» في كتاب (تاريخ علم الفلك): «عُدَّ راصدَين أو ثلاثة بين الأغارقة وتَعدُّ عددًا كبيرًا من الرصّادِ بين العرب، وأما في الكيمياء فلا تجد مُجرّبًا يونانيًا! مع أن المجرّبينَ من العرب يُعدّون بالمئات»[21].
  • بينما يسخر «بريفلوت» من نسبة علماء أوروبا العلمَ التجريبي إليهم: «لقد درَسوا العلم التجريبي من المسلمين، وتعلمَ روجر بيكون العربية في أوكسفورد. وليس لروجر ولا لسميِّه فرانسيس بيكون الفضلُ باكتشاف المنهج التجريبي… هم كانوا مجرّدَ نقلةٍ لعلوم المسلمين إلى الغرب…»[22].

لم يظهر في أوروبا قبل القرن الخامس عشر عالم تجاوز نسخَ كتبِ العربِ والتعويلَ عليها وحدها، وهذا يشمل جاليلو ودافنشي وفرانسيس بيكون رائد المنهجِ التجريبي في أوروبا

غوستاف لوبون

  • وتقول المحقّقة الألمانية زيغريد هونكه: «إن العرب لم يُنقِذوا الحضارة الإغريقية من الزوال ونَظّموها وأهدوها إلى الغرب فحسب، بل إنهم مُؤسِّسو الطرق التجريبيةِ في شتى العلوم، واكتشفوا عددًا لا يحصى من الاختراعاتِ التى سرقها الغرب ونسبها لغيرهم… لقد قدّم العربُ أثمن هديةٍ، وهي طريقةُ البحث العلمي الصحيح، والتي مهّدَت للغرب طريقه لمعرفةِ أسرارِ الطبيعة التي تسلّطَ عليها اليومَ …»[23].

٧. تطرُّف معرفي غربي بين التجريبية الحسية والشكّ العقلي:

يقول د. سعود العريفي: «وسيظهر جليًا لمن يطالعُ ما يأتي من خلاصة «للنقد التيميِّ» للمنطقِ: أن موقفَ فرانسيس بيكون من المنطق الأرسطي يكادُ يكون مُستنسَخًا من النقد التيميِّ…». وكلام د. العريفي هنا جاء بعدَ اقتباسه عن العقّاد والشاروني والطبطبائي حول إعلانِ بيكون في كتابه «الأورغانون[24] الجديد» موت «أورغانون أرسطو» العقيم، مقترحًا اعتمادَ البحث التجريبيّ على «الاستقراء» -الذي سبقَهم إليه ابنُ تيمية- وذلك بفحصِ الأجزاء مخبريًا واستخلاصِ الكليّاتِ منها -يقصدُ القوانين- قادحًا بطريقة أرسطو القائمة على الاستدلال بالكليّاتِ – يقصدُ القياسَ الأرسطيَّ العقليّ[25].

لقد صرّح بنظير ذلك أصحابُ المذهب «الحسيّ التجريبيّ» أمثال لوك وهيوم وباركلي وميل ودارون وبرتراند رسل، رغم أنهم في المقابلِ احتفظوا بشُذوذاتٍ نقيضةٍ ومتفاوتةٍ فيما بينهم، كالغلوّ في «المعطيات الحسيّة»، وتمسّكوا بالحس والاستقراء التجريبيّ فحسب، وغلَوا في قطعيته، قبل أن يُدخلَهم ديفيد هيوم في حيرة شرطِ الاستقراءِ التامّ -تجربة كلّ الجزئياتِ والوقائع- ليتراجَعوا نوعًا ما على لسان الملحد «برتراند رسل» الذي صرّح بأن: «الاستقراءَ باتَ احتماليًا، لكن علينا أن نتمسّكَ به»!

كذلك (نفى) الحسّيون والتّجريبيّون القياسَ العقليّ الصحيح (والسببيّة)؛ بينما جمعَ ابنُ تيميةَ بين المعرفة الفطريّةِ والوحيِ والغيبياتِ والعقل والحس كلاً في منزلته مُعمِلاً كل أدواتِ الاستدلالِ؛ كالاستقراءِ والقياسِ الشموليّ والتمثيليّ، أي: الاستقراءُ من الجزءِ إلى الكلّ، والقياسُ من الكلّ إلى الجزء، والتمثيلُ بين الأجزاءِ. وهذا ما عجزَ عن جَمعِه فريقا «ديكارت» العقليّ القياسيّ، «ولوك» الحسيّ الاستقرائيّ لاضطرابِ فلسفتِهم[26]. فالمعرفة عندهم تبدأ بالتجربة الحسية وتنتهي بها، وهذا هو عين المذهب المادي ومنبع الإلحاد، وبالتالي ما لبثت وأن انبثَقت عنهم مذاهب اللاأدرية والوضعية المنطقيّة والماركسيّة والبراغماتيّة.

يختصر لنا د. مازن هاشم بعض هذا الغلوّ في العلمويّة والتجريبيّة، مستنتجًا: «الإشكال هو اختزالُ النّهضة العلميّة إلى المنهجِ التجريبيّ. ثم الإشكال هو اختزالُ المنهجِ التجريبيّ إلى النطاقِ المخبريّ، وكأن المخبرَ يعيشُ في فراغٍ فيزيائي مُطهّرٍ عن عوامل الاحتكاكِ البشري والثقافي»[27].

٨. هوفمان وسيزكين والسلومي يبحثون عن الحقيقة:

يُجملُ لنا د. محمد السلّومي في كتابه الشيق: «هوفمان رؤيته في احتضار الغرب» بعض الجهود العلميةِ الرائدة في سَبر هذه القضيةِ الحضاريةِ الأخلاقيةِ:

«أوضحت بعضُ النصوصِ المقتبسة ضعفَ أو غيابَ (الأمانة العلميةِ) لدى بعضِ أربابِ الفكرِ الغربي عند بدايته الحضارية. وهو ما يتطلبُ زيادةَ البحثِ والتقصي حول الادعاءِ الغربي عن نشأة عُلومه ومعارفه، وذلك بالتحققِ الجاد عن أصول كثيرٍ من الكتب العلمية في العلوم التطبيقية، حيثُ إن أصلَ الهيمنةِ النفسية للحضارةِ الغربية جاءَ من التعالِي بعلومها التجريبية.

وقد عمِلَت «إلينا ميخايلونفا» على شيءٍ من هذا التقصي!

وهناك بحوثٌ ودراساتٌ لغيرها من المتخصصين، وعن هذه الاقتباساتِ والسرقاتِ كتبت بعضُ المصادر الأجنبية، ومنها:

  1. د. تشالويان، الشرق والغرب: الاستمراريةُ في فلسفةِ المجتمعِ القديمِ والقروسطيو.
  2. د. غايدينكو، والبروفيسور سميرنوف، علومُ أوروبا الغربية في العصورِ الوسطى.
  3. المستشرق الروسي الشهير بارتولد، أعمال في تاريخ الاستشراق.

وتُعد بحوثُ الألماني التركي «فؤاد سزكين» مرحلةً أولى في هذا المشروع، خاصةً أن «سزكين» عمل من خلال مركزٍ علمي حوالي ستين سنةً، مع فريقٍ علمي من ألمانٍ وأتراكٍ وعربٍ، على التدوينِ التاريخي عن المؤلفاتِ والمؤلفين من المسلمين. إضافةً إلى معرفةِ أصولِ الكتبِ الأوروبية في العلوم، وخاصةً «الطبيعية» منها؛ لإرجاعِها إلى أصولها المعروفة.

وقد نجح هذا الفريق -حسب قول د. المقرئ الإدريسي- في أن يصل إلى أكثر من مئةٍ وخمسين ألف كتابٍ. واستطاعوا أن يفحصوا أكثر من أربعين ألفًا منها، وأن ينشروا تعريفًا لما يزيد عن خمسةٍ وثلاثين ألفَ كتابٍ بتعريفٍ عن أصولِها العربيةِ!

ومما يمكن أن يثريَ هذا الموضوع، كتابُ: (ألفُ اختراعٍ واختراعٍ من التراثِ الإسلامي في عالمنا)، والمحرِّرُ المسؤول هو سليم الحسني رئيس مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة FSTC، بمشاركة ٢١ أستاذًا»[28].

٩. سَطوٌ أم مَحضُ مصادفة:

بعد كشف الأصولِ العربيةِ «للنظرية الكوبرنيكية»، تمكن الباحث التونسي الراحل عثمان الكعاك من العثور على ترجمةٍ لكتاب: «المنقذ من الضلال» للغزالي في مكتبة ديكارت الخاصة بمتحفه في باريس، وفي إحدى صفحاتها إشارةٌ بالأحمر تحت عبارة الغزالي الشهيرة: «الشكّ أُولى مراتبِ اليقينِ»، وعليها حاشية بخط يد ديكارت بعبارة: «تُنقل إلى منهجنا»!

كما أكد محمود زقزوق في كتابه: «المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت»، والبهبيتي في كتابه: «المدخل إلى دراسة التاريخ» على أن ديكارت قد سرق من «الغزالي». وما ذكره الكعاك مكتوب في محاضرِ المؤتمرِ العاشرِ للفكرِ الإسلامي، المنعقد في عنّابة عام ١٩٧١م[29].

١٠. أسئلة مشروعة:

  • لماذا رفضت ألمانيا نقل مكتبة العالِم التركي سيزكن إلى تركيا حسب طلب ورثتِه؟ أليست تلك إمبرياليةً معرفيةً؟!
  • وذات السؤال يُوجّه إلى: (مكتبة الفاتيكان) الكبرى التي فيها آلاف الكتب العربية المترجمة والممنوع معاينتها!
  • لم لا تسمح المكتبةُ الوطنيةُ في باريس لأي باحثٍ عربي أن يتحقّقَ من الأمرِ الذي اكتشفه الكعاك؟!

دوهرنج يُعلنُها مدوِّيةً:

«… لقد استقى روجر بيكون ما حصّله من علومٍ من جامعات الأندلس، وهي أدقّ من علوم سميّه فرانسيس بيكون. والقسم الخامسُ من كتابه «Opus Majus» في البصريّات هو في الحقيقة نسخةٌ من كتاب «المناظر» لابن الهيثم!»[30].

وعلى هذا المنوال سنجد: «قوانين الحركة الثلاث» لابن ملكا البغدادي. وكذلك القول «بجاذبية الأرض» التي نص عليها الإدريسيّ في «نزهة المشتاق» قائلاً: «والأرضُ جاذبةٌ لما في أبدانهم من الثّقلِ؛ بمنزلةِ حجر المغناطيس الذي يجذبُ الحديدَ إليه»، وهذا القول منقولٌ أصلاً في القرن الثالث الهجري عن «ابن خُرداذْبَه» الذي نص أيضًا في عباراته على كرويةِ الأرض[31].

كلمةُ إنصاف:

كون المسلمين هم أصحاب «العلوم المؤسسة»، فهذا لا ينفي أن الغرب بلغوا بها شأوًا بعيدًا. كما أننا نسجل لجمعٍ منهم تواصُلَهم الحضاري المنصف كغوتيه وفيكتور هوغو وموريس بوكاي وأليكسيس كارل وبرنارد شو وتولستوي ولامارتين.

كما لا يعني ما سبق، عدم التنبه إلى أن المسؤولية قد تقع في حالاتٍ على مترجمي وناسخي أبحاث المسلمين، وكذلك على ناقلي أبحاث علماء أوروبا الذين يحذفون منها ما يدل على «مصدرية» المسلمين.

من أهم ما ينبغي العمل عليه تعريف أجيال المسلمين بأسبقية أُمَّتهم الحضارية والعلمية وفضلها، وبث هذه الحقائق في الإعلام، وعن طريق الأبحاث والدراسات، والقيام بحركة «استرداد» للعلوم وتسخيرها لنهضة حضارية إسلامية

توصيات عملية:

  1. تعريف الأجيال في المناهج الدراسية والبيتية بأسبقية الأمة الحضارية والعلمية وفضلها واجبٌ تربوي ونفسي يحفظ الهوية ويعزز الثقة والطموح، ويسهم في رد عادية مليشيات العلمانية والإلحاد.
  2. ينبغي بث الحقائق السابقة إعلاميًا بشكل دؤوب، والتعريف بها في كل محفل مهتم دوليًا.
  3. عقد الندوات العلمية والدراسات وتضمينها في مساقات مواجهة الإلحاد والعلمانية ودعوة غير المسلمين.
  4. مخاطبة المؤسسات الفكرية والروابط العلمية لأخذ مبادرة جماعية بهذا الصدد.
  5. تبيان أثر هذه المعرفة في الدافعية للعلم عمومًا، وفي طلبه عند الغرب خصوصًا.
  6. القيام بحركة «استرداد» للعلوم وتسخيرها لنهضة حضارية إسلامية، (والاسترداد لا يعني بالضرورة إرجاع الأصل، بل النهل من العلوم الموجودة حاليًا والمبنية على تراث المسلمين).
  7. استكمال دور سزكين وأمثاله في هذا المجال.

[1] تاريخ الكتاب، لألكسندر سيبفتش، ترجمة الأرناؤط، ص (٢٤٦).

[2] رحلة إلى مكة، لمراد هوفمان، ص (٢٢٥).

[3] مصطلح «الإمبريالية المعرفية» أو العلمية تداوله هبرماس وفيبر، وعدّه المسيري جزءًا من الإمبريالية النفسية واستخدمه سامي عامري في كتابه «العلموية»، فيما رَغِبَ د. بشير زين العابدين بمصطلح يواكب الحاضر الشبكي وهو مصيب غير أننا هنا في سياقٍ تاريخي.

[4] إسهامات العرب في النهضة الأوروبية، لمحمد أحمد، ص (٢٨٦).

[5] شمس العرب تسطع على الغرب، لزيغريد هونكه، ص (٥٤١).

[6] إسهامات العرب في النهضة الأوروبية الحديثة، ص (٢٩٠).

[7] نتائج الحروب الصليبية، لجوزيف بورلو، ترجمة ديمة الفوال، ص (٢٣٠).

[8] موسوعة المستشرقين، لعبدالرحمن بدوي، ص (١٧٨).

[9] الإسلام في الأندلس وصقلية، لأمين الطيبي، مجلة كلية التربية، ص (٨٤).

[10] حضارة العرب، لغوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، ص (٤٣٤).

[11] ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي، لسلطان العميري، ص (٦٣).

[12] كتب غيرت وجه العالم، ص (٢٤٩).

[13] العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية، لدونالد هيل، ترجمة أحمد فؤاد، ص (٣١).

[14] وماذا لو سرق الغرب أسس ثورته العلمية من علماء العرب؟ مقال الفلكي سليم زاروبي.

[15] فضل الإسلام على الحضارة الغربية، لمونتجومري، ترجمة حسين أمين، ص (١٠٧).

[16] الرد على المنطقيين، لابن تيمية، ص (٣٣٧).

[17] تجديد الفكر الديني في الإسلام، لمحمد إقبال، ص (١٥٥).

[18] الرد على المنطقيين، لابن تيمية، ص (٢٠٩).

[19] تأثير ابن تيمية في الفكر الغربي، مقال لأحمد فتيحي، شبكة الألوكة.

[20] روائع وطرائف، لإبراهيم النعمة، ص (٣٨).

[21] حضارة العرب، لغوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، ص (٥٦٨،٤٣٧).

[22] تكوين الإنسان، لبريفولت، ص (٢٠٢)، كما نقله سيد قطب في كتابه: الإسلام ومشكلات الحضارة.

[23] شمس العرب تسطع على الغرب، لزيغريد هونكه، ص (٤٠٠-٤٠٢).

[24] الأورغانون هي مجموعة كتب أرسطو في المنطق. و«أورغانون» كلمة إغريقية تعني «الآلة». وسميت بهذا الاسم لأن المنطق عند أرسطو هو «آلة العلم» أو وسيلته للوصول إلى الصواب.

[25] النقد التيميِّ للمنطق، لسعود العريفي، ص (١٥٩).

[26] ينظر في: ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، لسلطان العميري، ص (٣٠٤، ٣١١، ٤٧٢، ٥٠٥). للاستزادة: ينظر في: مدخل إلى نظرية المعرفة، للكرساوي، ص (٨١-١٠٤).

[27] مقال العلم وسياقه الحضاري، لمازن هاشم، مجلة الرشاد.

[28] هوفمان: رؤيته في احتضار الغرب وصعود الإسلام، لمحمد السلومي، ص (٢٨٤-٢٨٨) بتصرف بإذن المؤلف مشكورًا.

[29] هل ديكارت سرق من الغزالي؟ مقال لعماد الدين الجبوري، إندبندت العربية الإلكترونية.

[30] نقله سيد قطب في كتابه الإسلام ومشكلات الحضارة، ص (٥٧).

[31] المسالك والممالك، لابن خُرْداذْبه، ص (٤).


م. طاهر صيام

باحث في الحضارات والفكر، عمل في جامعة ولاية واشنطن.


لتحميل المقال اضغط [هنا]

X