نظرات نقدية

وقفاتٌ مع مقولة: «لا يُحارَبُ الفِكرُ إلا بالفِكرِ»

مما يشيع اليوم في ساحات النزال الفكري والحوار القيمي مقولات من قبيل حصر مواجهة الرأي بالرأي، والفكر بالفكر، وتجريم ما عدا ذلك، حتى صارت كالمسلَّمات عند الكثير من أهل هذا العصر، فهل هذه الإطلاقات صحيحة؟ وهل تصح مواجهة الرأي بغير الرأي؟ وما ضوابطها؟ هذه المقالة تتناول هذه المسألة بشيء من التفصيل.

مدخل:

يعدّ الفكر -بما يتناوله من معارفَ كونية تتعلّق بالعالم والإنسان وعلومٍ نظريةٍ وتجريبيةٍ- من أهمّ مقومات الحضارة، وأسس بنيانها؛ لكونه يمثّل الأرضية المبدئية والأساس العقدي الذي يقوم عليه الاجتماع البشري والعمران الحضري، وما يتولّد عنهما من حراك ونهوض وازدهار.

وبقدر ما يكون هذا الفكر مبنيًا على أصول صحيحة ومنضبطة؛ فإنّ المعارف والعلوم التي تقوم عليه تكونُ بعيدةً عن الخطأ والانحراف، والعكس صحيح؛ لذا كان ميدانُ تميّز الأمم وتنافسها وصراعها الأكثر أهميّة: هو مجال الفكر ومنتجاته؛ فجنَّدت نفسها وأتباعها لخوض غمار معارك بسط الغلبة الفكرية والعلمية على الأمم الأخرى، وإخضاعها لها بشتى الطرق.

وإنّ من أهم ما يميز العصر الحالي كثرةُ الضخ الفكري والسيلان المعرفي الجارف، مع تنوّعه واختلافه الشديد، وسهولة وصوله لكافّة شرائح المجتمع، وتعاظم التأثر والتأثير به لتنوع الأدوات الإعلامية التي تخدمه، مما يستدعي اليقظة وتوخّي الحرص والتدقيق، والحذر مما لا يناسب ديننا وثقافتنا.

الردّ العلمي على الشبهات الفكرية منهج شرعي:

الأفكار المخالفة بما تحمله من عقائد ومعلومات خاطئة، وبما تثيره من شبهات وشكوك في مختلف أمور الدين والحضارة؛ لها أثر خطير على معتقدات الفرد والمجتمع، فهي تهدّد صفاء الدين والفكر ونقاءه، وقد تصل بالمسلم للخروج من الملّة ومفارقة دينه، لذا كان لابدّ من كشف ما تحويه من أخطاء ومغالطات وجهل، وهذا لون من ألوان نشر العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالجهل خطره كبير يؤدي إلى الانحراف عن السبيل والابتداع في الدين، لذا قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه لمن ابتدع: «ارجعوا فتعلموا ممن هو أعلم منكم، وعلّموا من أنتم أعلم منهم»[1].

والأصل في المنهج الشرعي في التعامل مع الشبهات الفكرية: الردّ عليها بالحجة والبرهان، وكشف أخطائها، وهذا هو سبيل الله وصراطه المستقيم وهديه المبين؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى يحبّ الإعذار وإقامة الحجة، ومن أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين، فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنّه قال: (… ولا أحدَ أحبُّ إِليه العذْرُ من الله، من أجل ذلك بعثَ المبشِّرِين والمنذِرين…)[2] الحديث. قال تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ١٦٥].

الأصل في المنهج الشرعي للتعامل مع الشبهات الفكرية: الردّ عليها بالحجة والبرهان، وكشف أخطائها، وهذا هو سبيل الله وصراطه المستقيم، فقد أقام الحجة، وناقش المخالفين بالدليل والبرهان، وعظَّم أمر العلم، ونعى على الكفار أنهم يجادلون بالباطل ولا يخضعون لسلطان العلم

ومن هنا فقد أقام الله الحجة على العباد، وناقش المخالفين من أهل الكتاب والمشركين والملاحدة والمنافقين بالدليل والبرهان، وعظَّم أمر العلم، ونعى على الكفار أنهم لا يخضعون لسلطان العلم ويجادلون بالباطل من غير هدى ولا كتاب منير، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ [غافر: ٣٥]، وقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ [الحج: ٨].

منهج النصوص الشرعية في الردّ على الشبهات[3]:

تولّى الوحي الردّ على شبهات المشكّكين والطاعنين في رسالة محمد ﷺ، وقد امتاز منهجه بالشمول والكمال، ومن أهمّ معالم هذ المنهج ما يلي:

  1. الدقّة في عرض شبهات المشككين والطاعنين كما جاءت عنهم، مع الأدلّة التي يستندون إليها.
  2. إبطال الشبهة والردّ عليها بتفصيل وشمول، يتضمن إبطال ما ينبني عليها من أقوال وشبهات.
  3. التنويع في الردّ على الشبهات بين الأصول الشرعية الثابتة والأدلة العقلية والحسّية والكونية.
  4. مراعاة الردّ لطبيعة الشبهة وحال قائلها من حيث الأسلوب والهدف، ونحو ذلك.

ومن هدايات النصوص الشرعية في التعامل مع المخالف أثناء الردّ على شبهاته:

  1. الحرص على هداية المخالف وردّه إلى الحق، ولذلك أصبح هذا الرسول العظيم ﷺ بحقّ كما وصفه ربه سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨].
  2. ما ينبني على ذلك من حسن التعامل معه، كما قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: ١٢٥].
  3. الأمر بالإعراض عن الجاهلين المعاندين الذين يجادلون بغير هدى ولا هدف، كما قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩]، وصولاً إلى هجرهم وعدم الجلوس معهم؛ زجرًا لهم وحماية للمجتمع من شبهاتهم، قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٦٨].

وقد أدّى هذا المنهج الواضح الصريح الحازم الرحيم إلى إبطال شُبه المشككين والمعاندين، وحماية المجتمع من ضلالاتهم وأخطائهم، مع تقديم النصيحة لهم مما كان له أثر في رجوع فريق منهم للحق وهدايتهم.

جهود أهل العلم في حوار المخالفين والرد على شبهاتهم تتفوق على ما عند الأمم الأخرى في تحرّي الصدق في النقل عن المخالف ونسبة الأقوال له، وتوخّي العدل معه، حتى أصبحت منارًا للمقتدين، ومنهجًا يُدرَّس في الردّ على المخالفين

جهود أهل العلم في الردّ على الشبهات:

اقتفى أهل العلم طريقة الوحي في الردّ على الشبهات، فناقشوا الأقوال، وردّوا على الأخطاء، وعقدوا الحوارات، وأقاموا المناظرات، وصنّفوا التصانيف الكثيرة، التي امتازت عن مثيلاتها مما يوجد لدى الأمم الأخرى فيما يتعلّق بالمناقشات والردود بتحرّي الصدق في النقل عن المخالف ونسبة الأقوال له، وتوخّي العدل معه، حتى أصبحت منارًا للمقتدين، ومنهجًا يُدرَّس في الردّ على المخالفين، وقد بلغت من العمق والشمول وتقصّي شبهات المخالفين والمبتدعة أنّه لا تكاد توجد شبهة معاصرة إلا وفي كلام السلف أصول للرد عليها.

وقد كان للعلماء جهودهم في الردود العلمية على جميع المخالفين من هذه الأمة من أهل البدع كالجهمية والمعتزلة والرافضة والخوارج، ومن غير هذه الأمّة من أتباع الديانات الأخرى كاليهودية والنصرانية والبوذية والهندوسية والملاحدة، وشملت الردودُ والمناقشاتُ في العصر الحاضر: المذاهبَ والتيارات الفكرية المعاصرة كالشيوعية والعَلمانية.

وقد امتازت تلك الردود والمناظرات والنقاشات بالقوة، والصراحة، مع اليقين من الحقّ، وعدم خشية الخوض في الردّ على أيّ انحراف أو شبهة، مع الحرص على حماية المجتمع من آثار أهل البدع والضلالات والتحذير منهم، ومن الأخذ عنهم، والاختلاط بهم.

وكل هذه الجهود منذ عهد الصحابة إلى تاريخنا هذا تندرج تحت الجهاد العلمي البياني.

مقولة «الفكر لا يُحارب إلا بالفكر»:

يُفهم من أسلوب الحصر في هذه المقولة أن الفكر يقابل بالفكر، ولا يتعداه إلى غيره. فهل هذا الكلام على إطلاقه؟ فلا تُقابَل جميع الأفكار بما فيها الباطلة والمنحرفة ولا تحارب إلا بالفكر؟

للإجابة على هذا السؤال لا بد من استحضار مقاصد الشريعة في مواجهة الأفكار الباطلة والمنحرفة، ويمكن جمعها في مقاصد ثلاثة:

  • الأول: تبيين الحق لأصحابها ورفع الجهل عنهم رجاء هدايتهم، ومن هنا ذهب جمهور العلماء إلى وجوب استتابة المرتدّ لعله يتوب ويرجع عن كفره.
    • الثاني: الحفاظ على نظام المجتمع وأمنه وطهارته، وحماية أفراده مما يفتنهم عن دينهم أو يلبّس عليهم، والناس ليسوا سواء في حصانتهم من الشبهات والشهوات.
    • الثالث: تعظيم شرع الله وحفظه من العبث أو الاستهزاء أو التنقص.

وعليه: فإن «الرأي» أو «الفكر» الذي يفرّق الأمّة ويهدّد استقرارها، أو يفتن الناس عن دينهم ويصدّهم عن سبيل الله، أو يكون انسلاخًا عن أحكام الشريعة الإسلامية ونقضًا لها، أو يتعدّى على مقدساتها وكتابها ونبيها؛ فهو خارج عن حرية الفكر. وإذا لم يرجع أصحابها عن ضلالتهم بالفكر والحجة والبرهان فيتوبوا ويصلحوا ويبيّنوا؛ فلا بدّ من التصدي لهم لمنعهم من بثّ أفكارهم، بل ومعاقبتهم عليها؛ تحقيقًا لمقاصد الشريعة الغراء.

من مقاصد الشريعة في مواجهة الأفكار الباطلة والمنحرفة، بيان الحق لأصحابها ورفع الجهل عنهم رجاء هدايتهم، والحفاظ على نظام المجتمع وأمنه، وحماية أفراده مما يفتنهم عن دينهم، وتعظيم شرع الله وحفظه من العبث أو الاستهزاء أو التنقص

ومن هنا يتبيّن أنّ مقولة «الفكر لا يحارب إلا بالفكر» توافق الحقّ من وجه، وتخالفه من وجه:

فأمّا موافقتها للحق: فمن جهة أنّ الفكر المنحرف يجب مواجهته وتفنيده بالحجّة والبرهان.

وأمّا مخالفتها للحق: ففي إيهامها قصر مجابهة الفكر الباطل على الفكر فقط، مهما كان خطره وضرره على الأفراد والمجتمع، وأن يُترك دعاة الأفكار المنحرفة ينفثون سمومهم في الناس دون رادعٍ؛ بحجّة حرّية الفكر والرأي!

«الرأي» أو «الفكر» الذي يفرّق الأمّة ويهدّد استقرارها، أو يفتن الناس عن دينهم ويصدّهم عن سبيل الله، أو يكون انسلاخًا عن أحكام الشريعة الإسلامية ونقضًا لها، أو يتعدّى على مقدساتها وكتابها ونبيها؛ فهو خارج عن حرية الفكر

بل الحقّ أنّه مع التصدّي لشبهاتهم الفكرية وتفنيدها فإنّه لابدّ من زجرهم ومعاقبتهم؛ دفاعًا عن الحرمات، ولا يعدّ هذا ضعفًا عن مقارعة الحجّة بالحجّة، فإنّ علماء الأمّة من الصحابة ومن بعدهم لم يضعفوا أو يعجزوا عن شبهة أو بدعة، بل واجهوا جميع ذلك بعلم راسخ، وعزم واثق، ففنّدوها وبيّنوا تهافتها، لكن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

وتأييد سلطان الحجّة بسلطان الحزم لإقامة الدين وصيانته أصل متواتر في الكتاب والسنّة والسياسة الشرعية النبوية وأقوال الصحابة ومَن بعدهم، ويكفي في هذا المقام قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد: ٢٥]، فبيّنت الآية أنّ قيام الدين التامّ لا يكون إلّا بسلطانِ العلمِ والبيانِ، والحديدِ والميزانِ، قال البقاعي في «نظم الدرر»: «فإنَّ مصالح الدين مِن غير هَيبة السلطان لا يمكن رعايتُها»[4].

الإسلام ليس بدعًا من الأنظمة:

لكل مجتمع مبادئه وأسسه التي يقوم عليها، وقوانينه وأنظمته التي تحافظ عليه من الضعف أو الانهيار، ولا يوجد مجتمع أيًا كان يسمح بأن يُطعن في ثوابته وأسسه، أو تُقوَّض.

فهذا الذي بيّناه من موقف الشريعة من عقوبة المخالف، لا ينفرد به الإسلام والمسلمون، بل هو من المسلّمات عند كل الشعوب والدول، إذ نجدها تتصدّى للأفكار التي تراها مناقضة لمبادئها وقيمها، وتهدّد مجتمعاتها، وتعدّها من الجرائم التي يعاقب عليها القانون، كإطلاق العبارات العنصرية، والتحريض على العنف، وإثارة النعرات بين الناس، بل حتى مجرد اتخاذ موقف مناهض للدولة من حدث تاريخي، وكلها مسائل فكرية بالأصل!

فالقول بأنّ الفكر لا يُحارب إلا بالفكر أكذوبةٌ لا يؤمن بها أحد بهذا الإطلاق[5]. لكن -لحال الضعف الذي يعيشه المسلمون- يُراد تنزيلها حصرًا على الأفكار المناهضة والمناقضة لأصول الدين الإسلامي، والموجّهة ضد علمائه ودعاته، ويراد منا نحن المسلمين خاصةً أن نقابل الأفكار التي تناقض أصول ديننا وتهدّد استقرار مجتمعاتنا بالفكر والحوار فقط، وألا نعاقب عليها!! مع أنّ هذه الأفكار -كالعلمانية والشيوعية والقومية وغيرها- لم تنحصر أبدًا في دائرة الفكر المجرّد، بل ظهرت آثارها الوخيمة في مجتمعاتنا واكتوى بنارها المسلمون، على يد الأجنبي أو أذنابهم من أبناء جلدتنا.

موقف الشريعة في عقوبة من يطعن في ثوابته وأسسه ويخرق أنظمته وقوانينه، لا ينفرد به الإسلام والمسلمون، بل هو من المسلّمات عند كل الشعوب والدول، فهي تتصدّى للأفكار التي تراها مناقضة لمبادئها وقيمها، وتهدّد مجتمعاتها، وتعدّها من الجرائم التي يعاقب عليها القانون

حرية الفكر لا حرية الكفر:

فإن قيل: أليس هذا التصرف الخشن عدوانًا على حرية الفكر؟ فيقال: هذا كلام خطابي عاطفي، لا محلَّ له في ميزان النقل والعقل والإجماع.

فالإسلام يدعو إلى حرية الفكر لا إلى حرية الكفر، فقد حضَّ الإسلام على الفكر والتفكّر في آيات الله الكونية والشرعية، وعدّ ذلك من العبادات الجليلة، وأطلق العقل من عقال التقليد والظنّ والخرافات؛ للوصول الى معرفة الله.

لكن لم يترك الفكر والعقل يسرح ويمرح ويصول ويجول كيفما شاء، وفي كل ما يشاء دون ضابط أو قيد، بل جعل له مساحته التي يتحرّك فيها وحدوده التي لا يجوز له أن يتعدّاها. ومن رضي الإسلام دينًا فليس حرًّا في نقض الكليات والمحكمات والثوابت في الدين، كالذي تفعله الفرق قديمًا وحديثًا من الفلاسفة والمتكلّمين والعقلانيين والعصرانيين ومَن يسمي نفسه تنويريًا وهو غارقٌ في الظلمات؛ لأنّ العقل والفكر إن لم ينضبط بالشرع فهو في ظلمات الهوى والنفس.

وما أجمل وأرشق وأعمق هذه الكلمة من ابن القيم رحمه الله: «وقلمٌ بلا علمٍ حركةُ عابث»[6]. وما أكثر العابثين في هذا العصر!!!

فإن قيل: إنّ محاربة الفكر بغير الفكر لا تجدي نفعًا، بل قد يستمر صاحب الفكر بفكره ويتمسّك به، فالجواب: أنّ هذا صحيح نسبيًا بالنسبة لصاحب الفكر، أمّا بالنسبة لسائر الأمّة فإنّه سيمنع عنها الشر أو يحدّ من انتشاره فيها، كما أنّه سيزجر من تسوّل له نفسه الفساد والإفساد والاقتداء بأئمة الضلال.

على أنّ معاقبة صاحب الفكر الفاسد المنحرف قد تدفعه لمراجعة نفسه والرجوع إلى الحقّ كما في استتابة المرتدّ، وقد ضرب عمر رضي الله عنه صَبِيغًا الذي كان يثير الشبهات حول متشابه القرآن، ضربه مرتين ثم أراد أن يضربه الثالثة، فقال له صَبِيغ: «إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت». ثم حَسُنَ حاله بعد ذلك[7].

فساد الأحوال وعدم القدرة على معاقبة المسيء لا يمنع من بيان الحق، والرد على الأفكار التي تشكّك في ثوابت الدين وأصوله، وتفتن الناس في دينهم، أو تمسّ من قدسية الشريعة ومكانتها

ماذا لو لم يؤخذ على أيدي أصحاب الأفكار الباطلة؟

فإن قيل: عَلِمْنَا أنّ على أهل العلم التصدّي للأفكار المنحرفة، وكشف زيفها، ومحاورة أصحابها؛ قيامًا بواجب النصح للأمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن كيف يكون التصرّف مع هؤلاء إن لم ينزجروا بالرد عليهم، ولم يأخذ السلطان على أيديهم، ويمنعهم من نشر باطلهم؟ ونحن نرى –لفساد الزمان وأهله- أنّ أمثال هؤلاء يمكّن لهم، ويبوّؤون المنابر المسموعة، بل ربما فُرضت أفكارهم على الناس فرضًا، في الوقت الذي يحارب فيه أصحاب الفكر الأصيل، والمنهج القويم، ويضيق عليهم ويودعون السجون والأقبية ظلمًا وعدوانًا.

فالجواب: أنّ فساد الأحوال لا يمنع من بيان الحق، ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: ٤٢]، فهل إذا عَطّل الحاكم حدّ الزنا سكتنا عن بيان أنّ الزاني مستوجب للحد؟! وهل إذا قال: إنّ اليهود والنصارى إخوانكم في «دين إبراهيم» جَبُنّا عن وصفهم بالكفر كما دلت عليه الآيات والأحاديث المستفيضة؟!

بل يجب على أهل العلم أن يبيّنوا أنّ الأفكار التي تشكّك في ثوابت الدين وأصوله، وتفتن الناس في دينهم، أو تمسّ من قدسية الشريعة ومكانتها، ليست من حرّية الفكر في شيء؛ بل تقابل بالفكر والحوار، فإن لم يرتدع أصحابها بالرد العلمي والبيان الشرعي، فحقّ أولئك المنحرفين أن يُسكتوا ويؤخذ على أيديهم من ذوي السلطة بما يكفّ شرّهم، فإن لم يكن هناك مَن يأخذ على أيديهم فلا أقلّ من بيان ما يستحقّون حتى لا يغترّ الناس بهم، إلى أن يأذن الله بصلاح الأحوال، وهو لا شك آت.

فإن قيل: هذا يفتح الباب للتغول على المفكرين، وظلمهم، إذ قد يستغل صاحب السلطة هذا الأمر في تصفية خصومه، والتخلص منهم بحجّة أنّ أفكارهم باطلة ومنحرفة.

فالجواب: أنّ وقوع الظلم والتغوّل وإساءة استخدام الولاية وارد، ولكن هذا لا يقتصر على التعامل مع الفكر والمفكرين، فبعض الآباء قد يظلم أبناءه، وبعض الأزواج قد يسيء إلى زوجته، وبعض القضاة يرتشون، أفنلغي ولاية الرجل على أبنائه وقوامة الزوج على زوجته، والتحاكم إلى القضاة؛ بسبب وقوع ظلمٍ أو خطأ في تطبيق بعضهم؟!

وفي كلّ القوانين: يكون منع صاحب السلطة من الظلم والتغوّل بنصحه ووعظه والاحتساب عليه، وصولاً إلى عزله إذا فحش ظلمه، لا بإسقاط القوانين التي تحفظ النظام العام.

ثم إنّ صاحب الولاية الظالم لا ينتظر إذنًا من أحد لظلمه، بل سيجد دائمًا ما يتبجح به لتبرير ظلمه كما نراه اليوم.

وختامًا:

إنّ مقولة: «لا يُحارَبُ الفِكرُ إلَّا بالفِكرِ» لا تصحّ بإطلاق، بل لابدّ فيها من التفصيل، فالفكر المنحرف يُردّ عليه بالحجة والبيان، وأمّا حامل الفكر الداعي إلى بدعته الضالّة، المفرّق للجماعة فهذا لا بدّ من القيام عليه بالنصيحة والتحذير، والانتقال في التعامل معه بحسب ضلاله، وبحسب المصلحة؛ حمايةً للدين وصيانةً له، وحماية للناس أن يتأثروا بفكره الضال.


[1]  شرح السنة، للبغوي (١٠/٥٥).

[2]  أخرجه البخاري (٧٤١٦).

[3]  ينظر: منهج القرآن الكريم في الرد على الشبهات، خصائصه وقواعده، د. مي الهدب، مجلة علوم الشريعة، العدد (٨٤)، ومواقف من السيرة النبوية في التعامل مع المخالفين، د. عابد السفياني، مجلة البيان، عدد (٣٦٥).

[4]  نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي (١٩/ ٣٠٢).

[5]  بل إنّ الدول الغربية التي تنادي بحرية الفكر والرأي لم تقل به إطلاقًا، ففرنسا التي دافعت عن الإساءة للأنبياء لم تقبل الإساءة للرئيس الفرنسي واعتبرته منافيًا لحرية الرأي يستحق المحاسبة، والغرب عمومًا يتعامل مع قضية إنكار «مذابح الهولوكوست» بالملاحقة والتجريم، كما تتعرض الدول للتهديد بالعقوبات والعزل ويتعرّض الأفراد للتهديد بالمحاكمة والسجن لمجرّد رفض بعض القوانين الغربية الحديثة كالمثلية وحقّ الطفل في تغيير جنسه! ويُواجَه الكثير من المسلمين في الغرب والشرق بِتُهَمِ الإرهاب بناء على الفكر فحسب!!

[6]  مفتاح دار السعادة، ص (٢٢٠).

[7]  تفسير القرآن من الجامع لابن وهب (١/٩٥)، والدارمي في سننه (١/٢٥٤)، والبدع والنهي عنها لابن وضّاح (٢/١١١).


أ. فايز الصلاح

ماجستير في الشريعة، باحث متخصص في الدراسات الشرعية، عضو مجلس الإفتاء في المجلس الإسلامي السوري.

X