الورقة الأخيرة

وتنسون أنفسكم

ترنُّ كلمته في الأذن منذ عشرين عامًا وهو يُلقي موعظته المتواضعة قائلًا: (إذا سمعتَ موعظةً فتوجّه بها إلى نفسك فقط ناسيًا غيرك).

ويسرحُ الخيال في فهم ما وراء هذه الكلمة ليجدَ الشيطانَ يجلب على المرء مواقف صوابه ليصرفه عن تذكر أخطائه عند سماع الموعظة، فإذا تذكّر شيئًا من أخطائه أوهمه بأنه قد أصلح خطأه بوعظ الآخرين في ذات المسألة، وأنه أدّى ما عليه، بل ربما قسى عليهم ظنًا منه أنّه بذلك يعوِّض عن تصحيح خطئه دون وعي، فيكون قد نسي نفسَه مما يأمُرُ به غيره: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤].

وللخروج من هذا المأزق ثمة حاجةٌ إلى معرفة أسباب نسيان النفس في واقعنا اليوم، وما يُعين على تذكّرها.

كيف ننسى أنفسنا؟

  • الخلطُ بين القول والفعل، مع تضخيم القيل وشأن اللسان والخطابة، خاصة مع العجز عن الفعل، أو الكسل عنه لاسترواح النفس للأسهل.
  • إجهاد النفس بتحميلها فوق طاقتها من واجبات التعليم والدعوة على حساب وقتها الخاص للعمل، مع اختلاط ذلك أحيانًا بأوهام العمل؛ مثل (ولولة) المجالس ومنابر التغريد حول الأوضاع التي اكتفى اليائسون فيها بالندب والشكوى.
  • تغليب التنظير على التطبيق في التعامل مع العلوم الشرعية والإنسانية وتعليمها، مما يجعل المتعلم والدارس قوّالًا أكثر منه فعّالًا في واقعنا المعاصر، في مقابل العناية التطبيقية بعلوم الطبيعة ودقة توظيفها في تحقيق المتعة المادية، على حساب علوم السعادة والعمران والنهضة الحقيقية.
  • ولا ننكر آلام الشدائد المسببة لـ (الإسقاط النفسي) حيث يصبُّ الإنسان غضبه من نفسه وواقعه على غيره، ثم ينعم في لذة النسيان المريح إلى حين غضبة أخرى على ضحية جديدة.

فإذا ما أردنا تذكُّر أنفسنا، فإننا سنجده في:

إعطاء النفس فرصة العمل الواجب في وقته، مع الاستعانة على ذلك بكل ما يُيسِّر العمل والإنجاز، ولن نجد مثل الصلاة المغذِّية للصبر، والمذكورة في الآية التالية مباشرة للآية التي تحذِّر من نسيان النفس: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ٤٤ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٤-٤٥].

وقبل انبعاثنا لتعليم الآخرين وتوجيههم، نحتاج أن نتعلَّم التوجيه بالفعل (القدوة)، التي تُثبِّت العلم، وتُباركه، وتزيد صاحبه علمًا جديدًا (العلم التطبيقي المواكب لاحتياجات الحياة).

أيضًا فإن تطبيق ما تعلَّمناه عمليًا هو التحضير الحقيقي للدروس قبل إلقائها، والطريق الأسرع إلى القلوب؛ لأن الشخص أمام تقصيره حينئذ كالنائحة الثكلى، لا المستأجرة. وقديمًا قالت العرب: «ويل للشجيِّ من الخليِّ»[1]. وهنا تتضاءل الحاجة إلى كثير الكلام، ولذا كان خير المعلِّمين ﷺ: (يُحَدِّثُ حَدِيثًا لو عَدهُ العَادُّ لَأحصاهُ)[2].

لن نجد لتذكُّر أنفسنا بدايةً أولى من تصحيح النية في كلِّ ما نتعلَّم ونقرأ ونكتب، بأن تكون النية رفعَ الجهل عن النفس أولًا، ثم العمل به، لا أن نكتفي برفع الجهل عن غيرنا، ولا أن يعمل غيرنا، فذلك نتيجة طبيعية لنيتنا واستهدائنا الذي نرفعه في كل ركعة خائفين من اتِّباع صراط المغضوب عليهم؛ لأنهم تركوا العمل بما تعلَّموه. وسنرى ذلك باعثًا على مزيد التعلم والتعليم والجهد التربوي والنشاط الدعوي، بجودة أفضل ومراقبة أدق وتصحيح أدوم، دونما يأسٍ أو توقُّف، بإذن المعبود الجليل.


[1]  يقال للشخص الخليّ العاطل المشتغل بنقد العاملين أصحاب الشجوى.

[2]  كما تقول عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري (٣٥٦٧) ومسلم (٢٤٩٣).

X