حضارة وفكر

هل أنتج المسلمون عمارةً إسلاميةً على مرّ العصور؟

هل أنتج المسلمون عمارةً إسلاميةً على مرّ العصور؟

الإسلام شريعة ومنهاج حياة، لم تقف تعاليمه عند حدود الحلال والحرام، ولم تقتصر مظاهره على الشعائر التعبدية ولم يكن دين رهبانية وتبتُّل، بل امتدَّ تأثيره ليشمل مختلف أنشطة المجتمع، فانطبعت آثاره على السلوك والعلاقات الاجتماعية والحركة الاقتصادية والأنظمة السياسية والعسكرية، كما شمل الجانب العمراني للمدن والمنشآت والمساكن.

العمارة هي السجِلُّ المنظور للتاريخ الإنساني، فما أقامه الإنسان منذ بدء التاريخ من منشآتٍ ومبانٍ وجسورٍ وشوارعَ وساحاتٍ يندرجُ تحت العمارة بمسمَّيات مختلفة. والعمارة كما سمَّاها ابن خلدون هي (صناعة البناء)، ووصفها بأنها أوّل صنائع العمران الحضري وأقدمها[1]. والعمران هو العلم الذي اختصَّ بدراسة الكلِّ أي المُدُن التي اجتمعت فيها المباني حيث تُخطَّط مرافقها وتوسُّعاتُها، وهو أحدُ أهمِّ مظاهر الحضارة التي ميَّزت التاريخ البشري. فما زالت الأبنية والعمائر شاهدةً على عظمة هذه الحضارات منذ القدم.
وقد تطوَّرت العمارة والعمران وفقًا للعديد من العوامل، مثل حاجات الناس، ومواد وتقنيات الإنشاء، والبيئة والمناخ، والثقافة والتراث، ليشيد كلُّ مجتمعٍ بشريٍّ مباني ومنشآتٍ تعكس هذه العوامل، وتُشكِّل جزءًا من هوية الشعوب والأمم. وللتعرف على أغوار التاريخ وثقافات الشعوب عبر العصور ندرس ونحلِّل في يومنا هذا العمارة الفرعونية، والبابلية، والرومانية، والفارسية، والمغولية، والنبطية… وغيرها.
ومع التطور العلمي الهائل في القرنين الماضيين انعكس هذا التطور على العمارة والعمران في العالم الغربي كغيرها من العلوم؛ لتظهر مدارس ونظريات فكرية تبحث في العمارة والعمران وتسعى لتحديد ملامح وهويات المباني والمنشآت من خلال مبادئ ومنطلقات تحدِّد طرازًا للمبنى وطابعًا عامًّا للمدينة، مع افتراض أنّ هذه المعايير والمبادئ الفكرية هي التي أنتجت هذه الأشكال والطُّرز المعمارية.

أكَّد الباحثون وجود عمارةٍ إسلاميةٍ في مختلف حواضر الإسلام؛ لكون المبادئ والمفاهيم التي بُنيت عليها وأنتجت هذا التنوّع في الطراز والطابع هي مبادئ واحدةٌ ومفاهيم عامةٌ نابعة من الإسلام الحنيف وتعاليمه

عمارة إسلامية أم عمارة مسلمين؟
في هذا الوقت بدأ الحديث من بعض الباحثين عن العمارة الإسلامية، طابعًا عامًا لمدن وحواضر العالم الإسلامي [2]، مع تنوُّعٍ في الطراز بين أمويٍّ وعباسي وسلجوقي وعثماني وفاطمي وأندلسي؛ لتُصبح تسمية ووصف عمارةٍ ما بأنَّها عمارةٌ إسلامية حقيقةً بدهيةً لكثيرٍ من الناس، ثم ظهر مَن يُطالب بتصحيح المصطلح لتسمَّى هذه العمارة بـ «عمارة المسلمين» بدلاً من «العمارة الإسلامية»[3]، ودارت سجالات ٌطويلة لعقودٍ حول ذلك.
فمن قال إنها عمارة إسلامية لفت النظر إلى أنه على الرغم من تنوع مناطق المسلمين ومدنهم، وتنوُّع بيئاتهم وثقافاتهم واختلاف احتياجاتهم فقد كان اختلاف الطراز في الشكل فحسب، أمّا المفاهيم والمبادئ التي قامت عليها العمارة فإمّا أنّها تنبع من فهم فلسفة الإسلام ومقاصده، أو أنّها في كثير من الأحيان ناتجة عن فهم وتطبيق أحكام الإسلام.
بينما حاول الآخرون تأكيد فكرتهم من خلال إعطاء الأمثلة عن انعدام الوحدة في السمات والأصول المشتركة لهذه العمارة، فمسجدٌ بُنِيَ في العراق في الفترة العباسية لا يُشابه بأيّ شكل مسجدًا بُنِيَ في الأندلس في الفترة نفسها [4].
نجد مثالاً على هذا الاختلاف في التنوُّع في عمارة المآذن، لكن الحقيقة أنَّ هذا التنوُّع شكليٌّ فحسب، لا يمسُّ الأساس والأصل المشترك لوجود المئذنة ووظيفتها، والخطوط العامة لبنائها.
وهنا انبرى العديد من الباحثين المتخصّصين بالعمارة الإسلامية ليؤكِّدوا وجود عمارةٍ إسلاميةٍ في مختلف حواضر الإسلام[5]؛ لكون المبادئ والمفاهيم التي بُنيت عليها وأنتجت هذا التنوّع في الطراز والطابع هي مبادئ واحدةٌ ومفاهيم عامةٌ نابعة من الإسلام الحنيف وتعاليمه كما فهمها المسلمون وطبَّقوها في مختلف جوانب حياتهم، وشيّدوا حضارةً أساسُها تطبيق فهمهم للإسلام وتعاليمه وكانت مدنهم ومبانيهم انعكاسًا لمبادئ الإسلام ومقاصد الشريعة.

المسلمون هم أكثر أتباع الأديان تطبيقًا لدينهم في مختلف شؤون حياتهم، فالصلاة التي يقيمها المسلم خمس مرات في يومه وليلته، وأحكام الاستئذان والصلة والقربى، من التجذُّر في ثقافة المسلم وسلوكه لدرجة ظهور تأثيرها المباشر على سائر شؤون الحياة، بما في ذلك العمارة والعمران

ومما يثير الدهشة أنَّ هذا الخلاف الفكري كان مُخصَّصًا فقط للعمارة والآثار الإسلامية، فلا تسمع في النقاشات أو الدراسات أو حتى المصطلحات عن عمارةٍ هندوسية، أو مسيحيةٍ مثلاً، ولا حتى يهوديةٍ أو بوذيةٍ، ولطالما كانت التصنيفات مُرتبطة بالأمم والشعوب التي أنتجت هذه العمارة، لذلك تحدّثنا عن عمارة فرعونية وبابلية وهندية، وهذا عائد إلى أمرين اثنين، وهما:
الأول: أنَّ الإسلام صار بالنسبة للمسلمين هوية وقومية إلى جانب كونه دينهم، فمهما اختلفت المناطق والأعراق والقوميات، بقيت العمارة التي شيَّدها المسلمون تحمل سماتٍ موحَّدةً، تحقِّق ذات المقاصد والغايات وتنطلق من ذات الأحكام والمبادئ، فلا يمكن نسبة هذه العمارة إلى أي قومية أو منطقة غير الإسلام.
والثاني: أنَّ المسلمين هم أكثر أتباع الأديان تطبيقًا لدينهم في مختلف شؤون حياتهم، فالصلاة التي يقيمها المسلم خمس مرات في يومه وليلته، وأحكام الاستئذان والصلة والقربى؛ من التجذَّر في ثقافة المسلم وسلوكه لدرجة ظهور تأثيرها المباشر على سائر شؤون الحياة، بما في ذلك العمارة والعمران.

شكل رقم ١: نماذج متنوعة للمآذن في العالم الإسلامي[6]

مناهج المعماريين المسلمين المعاصرين:
مع تراجع المسلمين وتفكُّكهم إلى دويلاتٍ وشعوب تفرِّق بينها القوميات والعرقيات، ومع اشتداد الحرب على الإسلام كي لا يكون الأساس والركيزة التي تجمعنا أمّةً واحدة ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٩٢]، ومع تقدم الغرب وتزايد البعثات الدراسيّة إلى الدول الغربية لدراسة العلوم ومنها العمارة؛ تأثَّر مُهندسونا بالنظريات والتصنيفات الغربية التي وُضع فيها كلُّ عُنصر معماري بمقاساتٍ وأشكال مختلفةٍ منمَّطة ومرتَّبة، وما على المهندس إلا أن يُوفِّق بين هذه العناصر وبين المساحة المتاحة أمامه دون أن يُعمل عقله فيها أو يسأل عن مدى ملاءمتها واستجابتها لحاجات المجتمعات المسلمة، لينقسموا مرّةً أخرى بين مناهج ثلاثة:

من مظاهر التراجع الحضاري تأثُّر المُهندسين المسلمين بالنظريات المعمارية الغربية، وغياب أثر المبادئ والقيم الإسلامية عن منتجاتهم، فصارت العمارة استنساخًا مجردًا للعناصر المعمارية دون مناقشة مدى ملاءمتها لحاجات المجتمعات المسلمة

المنهج الأول: يعمد إلى نقل عمارة الغرب كما هي، كما فعل «عبدالباقي إبراهيم» قبل أن يبدأ رحلته في البحث عن هويته كما ذكر هو في كتابه (البحث عن الذات)، وما زال هذا المنهج ساريًا إلى اليوم في مدارسنا وجامعاتنا، واهِمين أنَّه أحدُ مصادر التقدّم، وأنَّ الغرب لم يتقدّم إلا به. في الشكل رقم (٢) المنزل الشهير من تصميم «ميس فاندر رو»[7]، والذي يعبّر عن فلسفة التصميم (Less is More…) بمعنى الأقل هو الأكثر، والذي صمَّم فيه منزلاً مفتوحًا وشفافًا من كل الجهات، والذي قام بنقل فلسفته كثير من مهندسينا في وقتنا الحالي باعتباره أسلوبًا للتقدم والتطور الفكري والاجتماعي، دون مراعاةٍ لعدم مناسبته لتعاليم ديننا الحنيف وثقافتنا وعاداتنا بالحفاظ على الخصوصية، بل إنّهم لم يراعوا أنّ صاحبة المنزل نفسها رفعت على المهندس دعوى قضائية لأنَّ المنزل لا يناسب تقاليدها هي رغم ثقافتها وعاداتها الغربية، مُعبِّرةً بأنَّها شعرت بنفسها مكشوفة وغير محمية من أعيُن الفضوليِّين طوال اليوم، ولم تستطع أن ترتاح في منزلها الذي يُفترض أن يكون مسكنًا يعطيها الشعور بالراحة والسكينة[8].
أما المنهج الثاني: فقد تأثَّر بالغرب حينما أراد إعادة الأنماط المعماريّة الإسلامية، فقلَّدوها من حيث الشكل دون المضمون، كما فعل «حسن فتحي» في أعماله، فقاموا باستعارة ونسخ عناصر معمارية تراثية دون النظر لوظيفتها ودورها في المبنى، فقلَّ الإبداع والابتكار اللازم للاستجابة للحاجات المستجدَّة للمسلمين في هذا العصر.
أما المنهج الثالث: فهو الذي حاول أن يُثبت أنَّ النظريات العمرانية والمعمارية وما أنتجه الفكر الغربي من مدارس وأساليب عمرانية موجودة أصلاً في الفكر الإسلامي ومتوافقة معه، فقاموا (بأسلمة) الفكر الغربي لمحاولة إثبات أنّ أصل هذه الأفكار موجود في القرآن والسنّة؛ والاستدلال بذلك على الإعجاز الإسلامي في العمارة، كما في غيره من العلوم كالفلك والفيزياء والرياضيات والطب.. فنجد الدراسات التي تثبت أنَّ العمارة العضوية أو التكعيبية وحتى العمارة المستدامة بمفاهيمها ومبادئها ومعاييرها سبقها الإسلام بقرون فوضع أُسُسها في آياتٍ وأحاديث متفرّقة، جمعتها هذه الدراسات وقارنتها مع هذه المدارس الفكرية الغربية لتثبت أسبقية الإسلام! ونجد هذا الاتجاه في أعمال «يحيى وزيري» ودراساته.

شكل رقم ٢:منزل عائلة فارنسورث – الينوي أمريكا، تصميم ميس فاندر رو


فصرنا نجد دراساتٍ عن العمارة في القرآن والسنّة إمَّا بذكر كلماتٍ ومصطلحاتٍ معمارية وردت في القرآن والسنّة كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة: ١٨] مع محاولة تفسير دلالتها باصطلاحات اليوم، كالقول بأنَّ كلمة «يعمُر» هنا تدلُّ على البناء والتشييد الفيزيائي للمساجد والجوامع. وعلاوة على ذلك نجد بعض البحوث التي تحاول ليَّ أعناق النصوص لتتوافق مع الواقع المعاصر فكريًّا وتقنيًّا، حيث قام أحد الباحثين[9] باختراع تفسير لمعنى القرية والمدينة في القرآن الكريم، وزعم أنَّ (القرية) لا تُسمّى (قرية) إلا إذا كان سكّانها من نسيجٍ واحدٍ مؤتلف؛ كأن يكونوا من نسبٍ واحدٍ، أو عقيدةٍ واحدةٍ، أو صفةٍ واحدةٍ، و(القرية) عنده هي القرية المعروفة لدينا الآن، والتي لا يزيد عدد سكانها عن بضعة آلاف نسمة. وأنَّ (المدينة) عنده هي البلدة التي يسكنها أشخاصٌ ليسوا من نسيجٍ اجتماعيٍّ واحد، وهي في رأيه أكبر من القرية مساحةً وأكثرُ سكَّانًا. واستدلَّ على ذلك بقوله تعالى: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ [الكهف: ٧٧]، وبقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٨٢]. فقال: «نلاحظ في الآية الأولى (أتيا أهل قرية) في الصباح.. وفي الآية الثانية تحَّولت القرية نفسها إلى (مدينة) في المساء؟» ثم أضاف: «السرُّ في هذا، أنّها سُميت (قرية) في الآية الأولى لأنَّ أهلها كانوا مُجمعين على البخل، أي يجمعُهم وصفُ البخل، فلما جاء ذكرُ الغُلامين اليتيمين وأبيهما الصالح في الآية الثانية سُمِّيت قريتهم (مدينة) لأنّه حدث فيها تنوُّعٌ سكاني.. أي اجتمع فيها عنصر الخير والشرٍّ معًا»! هذا مثال عن محاولة تطويع النصوص لتفسير المصطلحات المعمارية والعمرانية بمفاهيم اليوم وتقسيماته بدلاً من فهم النص ومعانيه التي قصدها الشارع الحنيف، وتطبيقها اليوم بما يناسب الحاجات والظروف المعاصرة.

علينا أن نفقه أحكام الدين وآدابه كما فهمها المعماريون المسلمون السابقون فترجموها من خلال المدن والمنشآت، وأن نستنبط قواعد للعمارة بما يناسب واقعنا الذي تطورت فيه المواد والتقنيات والأساليب والاحتياجات، وذلك بأن نحذو حذوهم بالمنهج لا بالمُنتَج

فقه العمارة عند السلف:
لا نُنكر أبدًا وجود دلالاتٍ وإشاراتٍ في القرآن والسنة وأقوال السلف الصالح عن العمارة والعمران، وكيف فُهمت ووُجِّهت لتخدم المجتمع المسلم ليعيش حياته ويقوم بنشاطاته وفقًا لتعاليم الدين الحنيف، ولكن المستنكر نسيان المقاصد والغايات من هذه الإشارات في يومنا هذا، وهي إعمال العقل واستنباط القواعد التي تحكم العمارة والعمران سواء في التصميم أو التخطيط أو الإنشاء. وما يقع علينا اليوم هو أن نفهم كما فهموا، ونستنبط القواعد والأحكام لعمارتنا اليوم بما يناسب واقعنا الذي تطورت فيه المواد والتقنيات والأساليب، بل حتى الاحتياجات والمتطلّبات، وذلك بأن نحذو حذو السلف بالمنهج لا بالمُنتَج.
وما يحزُّ في صدورنا اليوم هو الغياب المعاصر لفقه العمارة والعمران، فبينما انشغل المعماريون الأوائل بدراسة الإسلام وكتبوا في فقه العمارة والعمران، وشرحوا كيف فهموا الإسلام وطبَّقوا تعاليمه وتوجيهاته في العمارة والعمران، ووضعوا الأحكام والشروط كما فعل ابن الرامي في كتابه (الإعلان في أحكام البنيان)، وعيسى بن موسى النطيلي في كتابه (القضاء ونفي الضرر عن الأفنية والطرق والجدر والمباني والساحات والشجر)، وابن عبد الحكم الفقيه المصري في كتابه (البنيان)، وكانت هذه الدراسات امتدادًا لمدوَّنات سابقة أصَّلت نوازل البنيان مُشَكِّلةً أسُسًا تصميميةً مُستمدَّةً من الأحكام الفقهية، كما في مدونة الفرسطائي والمازري على سبيل المثال لا الحصر؛ انشغل فريق منا بفهم النظريات والمدارس الغربية وتوفيقها أو تلفيقها مع الإسلام، وسعوا إلى تلبية احتياجات المجتمع من خلالها. ولا ننفي تصدُّر عدد من الدارسين ليتناولو فقه العمارة كما فعل خالد عزب وخليل الزركاني في كتابيهما (فقه العمارة الإسلامية)، لكنّهم قليل في ظلّ الاحتياج الحضاري الهائل للمسلمين في بلدانهم المترامية الأطراف.
ربما لم يحفظ لنا التاريخ أسماء المهندسين أو المخطّطين، ولكنّه حفظ الصروح والآثار الناتجة عن التطبيق العملي للمفاهيم الإسلامية، فاكتشفنا نمط حياة المسلمين من خلال دراسة مبانيهم، ولكنَّنا في الغالب ركَّزنا النظر إلى الشكل ونسينا المضمون فلم نتعلَّم ونبحث عمّا يستجيب لحاجات المسلمين في عصرنا، وغاب عنا سؤال: هل مبانينا وعمائرنا حلال أم حرام؟ بل لم يخطر على بال الكثيرين منَّا أنَّ البناء والتشييد والعمارة والعمران قد يكون مباحًا، مندوبًا، مكروهًا وربما محرمًا نأثم ونحاسب عليه، كما في قصة مسجد الضرار المشهورة بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [التوبة: ١٠٧] فكان بناء المسجد كفرًا وتفريقًا بين المؤمنين.
نحن اليوم بأمسِّ الحاجة لقراءةٍ معاصرةٍ تُنتج فقه عمرانٍ يُناسب عصرنا ويُنتج عمارةً تُناسب احتياجات الناس وتنفعُهم وبنفس الوقت تطبِّق الإسلامَ وتعاليمَه وتنتهي عن نواهيه ومحظوراته. نحن بحاجةٍ إلى معمارٍ فقيهٍ وإلى مَجمعٍ فقهيٍّ معماري يُستشار ويُسأل في أحكام العمران كما أسّسنا مجامع فقهية في الاقتصاد والتعليم والطب.

نحن اليوم بأمسِّ الحاجة لفقه عمرانٍ يُناسب عصرنا وعمارةً تُناسب احتياجات الناس وفي الوقت نفسه تنضبط بضوابط الإسلام. كما أنَّنا بحاجةٍ إلى معمارٍ فقيهٍ وإلى مَجمعٍ فقهيٍّ معماري يُستشار ويُسأل في أحكام العمران كما في الاقتصاد والتعليم والطب

نماذج من التطبيق العملي لفقه العمارة:
للدلالة على فهم السلف الصالح لفقه العمران وتطبيقهم له في البناء والعمران نجد من الأمثلة الكثير، أوّلها فهمهم أنّ عمارة الأرض تكليف من الله سبحانه وتعالى، بقوله: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ [هود: ٦١]. فقد حثَّ الإسلام على عمران الأرض وإحياء مَواتها واستثمارها بالخير وبما ينفع الناس أفرادًا ومجتمعات.
كما استلهم المعماريون المسلمون من الإسلام حثه على الوحدة والتجمع والصلة، فكانت أبنيتهم مرصوصة يشدُّ بعضُها بعضًا، فنرى مدن وحواضر العالم الإسلامي تتشابك بيوتُها ومبانيها، وتشتركُ في الجدران وتستند على بعضها البعض لتكون المدينة كأنّها بناء واحد متّصل (كما في الشكل رقم ٣ مدينة غرداية في الجزائر).


ونجد هذا الفهم أيضًا بالارتباط الوثيق بين الجامع والسوق، حتى كأنَّ مخطِّطي المدن اختطُّوا مكان المسجد بقرب الأسواق انعكاسًا وتطبيقًا لفهمهم لمكانته في الإسلام، فجعلوه في مركز العمران، وجعلوا السوق إلى جانبه، تيسيرًا وتسهيلاً على المسلمين في أداء صلاتهم في المسجد دون انقطاع عن أعمالهم وتجارتهم.
بل نجد أنّ المدن التي بُنيت قبل الإسلام عندما دخلها المسلمون قاموا بتحويلها وتعديلها بالطريقة نفسها، كما في حلب عندما بُنِيَ المسجد الكبير، الذي جُعل في وسط الأسواق المغطاة والمتَّصلة، ولم يكن داخلَ قلعة المدينة الأكثر تحصينًا والأشد تأمينًا عند الحروب. وفي موضع آخر عندما كان الانتشار في الأرض وابتغاء فضل الله يحصل عن طريق الزراعة وليس التجارة كما في قرية سدوس في نجد؛ حيث اختير موقع المسجد على أطراف المدينة بحيث يخرُج المصلُّون إلى أراضيهم ومزارعهم بعد انقضاء الصلاة، وفي الوقت نفسه يسهُل عليهم حضور صلاة الجماعة في المسجد عند كل صلاة[10]].
لقد فهم سلفنا الصالح من المعماريين مقاصد الشريعة في حفظ: الدين، والنفس، والمال، والعرض، والنسل. وطبَّقوا هذا الفهم ليُسهموا في تحقيق هذه المقاصد من خلال العمارة، ففي حفظ العرض والنسل على سبيل المثال: صمّموا البيوت وبنوا الدور التي امتنّ الله على الناس بأنْ جعلها سكنًا: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾ [النحل: ٨٠]؛ فحقَّقوا السكينة والطُّمأنينة ببناء البيوت بشكل يقي من الضوضاء، ويحقق عزل الحرارة والبرودة، ويوفر الخصوصية، كلّ ذلك في إطار منهج الوسطية في البناء مطبِّقين مبدأ لا ضرر ولا ضرار للساكن والجار، وحتى للمارة في الشوارع. هذا الفهم للمقاصد والمبادئ الواحدة نتج عنه تشابهٌ في مضمون التصميم للمساكن في مشارق بلاد الإسلام ومغاربها، مع التنوُّع الكبير في الأشكال والحلول المتَّبعة لتحقيق هذه المقاصد والأهداف، رغم اختلاف البيئة والمناخ ومواد البناء، ففي المناخ الحار كان الانفتاح على فناءٍ داخليٍّ في المنزل يحقِّق الخصوصية والعزل عن الضوضاء، وفي المناخات التي احتاجت الانفتاح على الطريق، كانت المشربيَّات والرواشن هي الوسيلة لتامين الخصوصية والعزل.
وللمساكن حُرمتُها؛ فمن الأدب عدم دخول البيت إلا بإذن أصحابه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾ [النور: ٢٧] ويعني ذلك احترام حرمة المسكن وحرمة ساكنيه؛ الأمر الذي انعكس بالتالي على التصميم الداخلي للبيوت من خلال فصل غرف استقبال الضيوف والزوار عن باقي غرف المسكن، وبالتالي تُصبح غُرف المعيشة العائلية مرتبطةً أكثر باستعمال أهل البيت ومَن هم مِن محارمهم، وذلك خلافًا للمعايير الغربية التي يختلطُ فيها الغريب بالقريب من الرجال والنساء. هذا مثالٌ واحدُ من مبادئ تصميم المساكن، ولو أردنا تفصيل كلّ عنصر فيه والفقه الذي بُنِيَ وفقًا له فسنحتاج إلى تفصيلٍ واستطرادٍ كبيرٍ، لا يتَّسِع له المقام.

فَهْمُ المعماريين المسلمين الأوائل للمقاصد والمبادئ الإسلامية نتج عنه تشابهٌ في مضمون التصميم للمساكن في مشارق بلاد الإسلام ومغاربها، مع التنوُّع الكبير في الأشكال والحلول المتَّبعة لتحقيق هذه المقاصد والأهداف، رغم اختلاف البيئة والمناخ ومواد البناء

وفي حفظ النفس قاموا ببناء المستشفيات (البيمارستانات) بما يحفظ الصحّة الجسدية والعقلية والنفسية، وحرصوا على أن يكون البيمارستان قربيًا من الأنهار ومنابع الحياة، وذلك عائدٌ إلى حرصهم الشديد على إيصال الماء الجاري إلى بيمارستاناتهم، تفقُّهًا لقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٠] والأمثلة على ذلك كثيرة، فالمستشفى العضُدي في بغداد كان الماء يدخل إليه من دجلة، والمستشفى النوري في حلب كان به بركتا ماء تأتي بالماء العذب إليهما من قناة «حيلان»، بل حرصوا في بعض الأحيان على إيصال المياه إلى جميع عنابر المرضى. ولعلّ القصة الأشهر على أهمية اختيار الموقع لبناء المشافي عندما سأل أحد الأمراء أبا بكر الرازي عن أفضل المواضع لبناء المستشفى المعتضدي، فأمر الرازي بعض الغِلمان أن يُعلِّق في كلِّ ناحيةٍ من جانبي بغداد شقَّة لحم، ثم اختار الموضع الذي لم تتغيّر فيها قطعة اللحم سريعًا وأشار بأن يبنى البيمارستان في ذلك الموضع[11]، فهذا المكان كان أفضل مواضع بغداد في نقاء الهواء وجودته واعتداله، وهي عوامل غايةٌ في الأهمية لعلاج المرضى أصحاب المناعات الضعيفة. وهذه القصة تدل على اعتناء المهندسين والأطباء بتحقيق أفضل الشروط لحفظ النفس.
هذه الأمثلة ليست إلا غيضًا من فيض المعرفة التي جمعها السابقون، ونسيناها نحن اللاحقين بمحاولتنا تقليد المدنية الغربية الحديثة، وتخلّينا عن مبادئ ومفاهيم ديننا الحنيف الذي أعزنا الله به، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلَّنا الله، كما قال الفاروق رضي الله عنه.
الخلاصة:
أنَّ الله جعل أسبابًا ماديَّة يقوم بها البشر كي يحقِّقوا الاستعمار في الأرض، ومن هذه الأسباب البناء والتشييد والعمارة والعمران. وعلى هذا الأساس إن كنا نريد اليوم أن ننتج عمارةً إسلاميةً لا عمارةً بناها مسلمون دون فهمٍ أو تطبيق لمقاصد هذا الدين العظيم، فيجبُ علينا أن نفهم دور المهندسين في المجتمعات المسلمة اليوم، وفهم حاجات هذه المجتمعات والاستجابة لها مع الفهم الكامل للشرع الحنيف والعمل على التوفيق بين حاجات المجتمع والمبادئ الدينية والمقاصد الشرعية، بتطبيق منهجنا الوسطي دون إسراف أو تقتير.
يضاف إلى ذلك كما سبق: ضرورة تأسيس مَجمعٍ فقهي للعمارة والعمران لينظر في القضايا الجديدة الناتجة عن التطوّر التقني والعلمي، ويبحث في تأصيل العمارة الإسلامية على أُسُسٍ وضوابط شرعية تُنقل وتُدرَّس للمهندسين الناشئين ليتفاعلوا معها ويعودوا إلى ابتكار وتطوير ما ينفع الناس، ويبتعدوا عن التقليد والنسخ لثقافاتٍ وأسسٍ لا تناسب ثقافتنا ومجتمعنا، بل تتعارض في كثير من الأحيان مع تعاليم ديننا وضوابطه الشرعية. ولا بد من إعادة تصنيف المباني اليوم شرعيًا، كما نُصنِّفها من حيث الوظيفة والشكل والمواد ونظام البناء، وكما توجد شهادات للمباني البيئية والخضراء والموفِّرة للطاقة؛ لا نجد تصنيفًا للمباني على الأسس الشرعية الإسلامية، فيجب تحديد ماهية: البناء الواجب، البناء المندوب، البناء المباح، والبناء المحظور. وعندها فقط نستطيع أن نصف مدينة أو مباني هنا أو هناك بأنَّها عمارة إسلامية، ولو بناها غير المسلمين.
وأخيرًا.. يجب ألّا نكتفي بتدريب وتعليم المهندسين الجدد على كيفية الاستجابة لشروط البيئة والمناخ، وكيف يتفاعلون مع تقنيات البناء وموادِّه من وجهة نظرٍ تقنيةٍ بحتة، بل على النقيض يجبُ إيلاء الاهتمام بفهم فلسفة التصميم ومبادئه لتكون مبنية على فلسفة إسلامية أصيلة وفقه إسلامي صحيح يوافق تعاليم الشرع ويحقق الحاجات الدينية والشرعية والبيئية والحياتية للمسلمين في بقاع الأرض التي أُمرنا بإعمارها.


[1] المقدمة، لابن خلدون، ص (٤٠٦).

[2] Islamic cities and conservation (المدن الإسلامية والحفاظ عليها) جيم أنتونيو ص (٢٣-٣٠).

[3] هناك العديد من الدراسات والمواقع تقارن وتناقش الفرق وضرورة تغيير التسمية بين عمارة إسلامية وعمارة المسلمين منها على سبيل المثال: مقالة (العمارة الإسلامية أو عمارة المسلمين Islamic or Muslim Architecture) على موقع islamicity.org، ومقالة (العمارة الإسلامية مقابل العمارة المسلمة: بعض الملاحظات Islamic versus muslim architecture: some observations) على موقع medinanet.org.

[4] المساجد، لحسين مؤنس، سلسلة عالم المعرفة، رقم (٣٧)، ص (٩٤-١٠٥).

[5] المدينة الإسلامية، لمحمد عبد الستار عثمان، سلسلة عالم المعرفة، العدد ١٢٨، أغسطس ١٩٨٨م، ص ( ٥-٦).

[6] المآذن والمنارات والمحاريب، مقال لجلال شوقي، ٢٠١٨م، على موقع ASPD شركة التقدم العلمي للنشر والتوزيع.

[7] مقالة (less is more) على مدونة توم ويلسون tomwilson.com

[8] مقالة (مقاضاة ميس فاندر رو: المعركة مع عائلة فارنسورث Mies van der Rohe Gets Sued – The Battle with Farnsworth)، لجاكي كرافن، ٢٠١٩م، على موقع thoughtco.com

[9] ينظر مقالة (الرد على د.علي كيالي في الفرق بين القرية والمدينة في القرآن)، محمد رجب حميدو، موقع رابطة العلماء السوريين.

[10] عمارة سدوس التقليدية، لمحمد عبد الستار عثمان، ص (٥٧-٦٤).

[11] عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة، ص (٤١٥).


د. صلاح حاج إسماعيل

مهندس معمار وباحث أكاديمي

X