لطريقة دعوة الناس دور مهم في التأثير في المدعوّين، وأثر في قبولهم للدعوة أو رفضها، ومن أهم وسائل الدعوة المؤثّرة: حوارُهم ونقاشُهم فيما يريد الشخصُ إيصاَله من أمور، أو لفتُ نظرهم إلى ما هم فيه من مخالفات؛ لذا فقد نقلَ إلينا القرآن الكريم لوحاتٍ من حوار الأنبياء عليهم السلام لأقوامهم؛ لنستفيد منها ونتعلَّم، ومن تلك الحوارت: حوارتُ الخليلِ إبراهيم عليه السلام
شوال 1441 هـ – يونيو/ حزيران 2020م
مدخل:
أرسل اللهُ نبيَّه إبراهيم عليه السلام إلى قومه في بلاد العراق، فدعاهم إلى عبادة الله وحده، وحذَّرهم من عبادة الأصنام والكواكب والنجوم التي كانت شائعةً بينهم، لكنهم كذَّبوه ولم يستجيبوا له، وعلى الرغم من ذلك فقد استمرَّ في تبليغ رسالته، مُستخدِمًا أساليبَ متنوعة؛ لإخراجهم من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان.
وقد برع عليه السلام في حوار قومه ومناقشتهم أثناء دعوته لهم، حتى كان أسلوبه محطَّ اهتمام الدعاة والمصلحين والباحثين، وخاصة أنَّ الله تعالى أرشدنا إلى اتِّباع ملَّته وطريقته وهديه، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبراهيم إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة:130].
وفي هذا المقال سنتلمَّس بعون الله وتوفيقه أهم معالم منهج الحوار في قصة إبراهيم عليه السلام، ونلقي الضوء على مرتكزاته، لما لها من أثرٍ جليلٍ في الوصول إلى الطريق القويم، ورضا رب العالمين.
تعريف المنهج والحوار:
تعريف المنهج:
يدل لفظ المنهج على الطريق والوضوح([1])، وقد ورد لفظ المنهج في قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة:48].
قال القرطبي: «الشريعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستمر»([2]).
ويُقصد بالمنهج: الطريق الواضح، المبني على أصولٍ ثابتة، وقواعدَ مستقرّة، وضوابط محدَّدة توصل إلى الغاية([3]).
منهج الحوار: الطريقة الواضحة المحدَّدة أثناء المحادثة والمناقشة بين الطرفين على قضية، بهدف الوصول إلى الحق
تعريف الحوار:
يدلُّ لفظ الحوار على مُراجعة الكلام بين جهتين، أو طرفين أثناء المخاطبة([4])، ومنه قوله تعالى: ﴿فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ [الكهف:34]، قال القرطبي: «أي يراجعه في الكلام ويجاوبه»([5]).
ويُقصد به: مناقشةٌ ومحادثةٌ بين طرفين([6]) على موضوعٍ، أو فكرةٍ، أو قضيةٍ للوصول إلى الحق([7]).
والمقصود بمنهج الحوار: الطريقة الواضحة المحدَّدة أثناء المحادثة والمناقشة بين الطرفين على قضية، بهدف الوصول إلى الحق.
الممهدات التي سلكها إبراهيم عليه السلام قبل الشروع في الحوار:
مهَّد الخليل إبراهيم عليه السلام لحواره مع قومه بعدَّة مُمهِّدات تُيسِّر إيصال ما يُريد، وتُعينه على بلوغ أهدافه، وهي كما يلي:
1-سلامة القلب مع النية:
حوار الخلق ودعوتهم إلى الحق تحتاج إلى سلامة القلب، وحسن القصد، وإخلاص النية؛ كي تؤتي أُكلها، قال تعالى: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ84 إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ [الصافات:84-85]، فالقلب السليم هو: الذي سَلِمَ من الشرك والشك، وسلم من غش الخلق وحسدهم، ويلزم من سلامته الإخلاص، ومحبة الخير للخلق، لذلك نصح إبراهيم عليه السلام الخلق وبدأ بأبيه وقومه.
وهذا إرشادٌ من ربِّنا جلَّ وعلا للمحافظة على سلامة القلب، وحسن النية، كحال إبراهيم عليه السلام، فقد كان مخلصًا لله تعالى مسلمًا وجهه له ظاهرًا وباطنًا، قاصدًا تعبيد الناس لربهم، وإخراجهم من ظلام الكفر إلى نور الإسلام، محبًا الهداية والخير لهم، فلم يطلب جزاءً من أحدٍ، أو رضًا من ملكٍ عند حواره معهم، قال تعالى: ﴿إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ [البقرة:131].
قال ابن كثير: «أَمَرَهُ الله بالإخلاص له والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعًا وقدرًا»([8]).
وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي ونسكي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 162 لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162-163].
2-الرشد:
مقاومة الكفر والطغيان تحتاج إلى التهيئة، وتوطيد النفس على ما سيُواجهها من شبهات، ورفضٍ وصدٍّ وتكذيبٍ وتبدلٍ لأحوال الناس، وربما التعرض للأذى المعنويٍّ أو الجسدي.
من أجل هذا أعطى الله تعالى لسيدنا إبراهيم الرُّشد، تهيئةً له من أجل القضية والرسالة التي سيحملها، وألهمه الهُدى منذ صغره، حتى عرف الحقَّ من الباطل، ولا شكَّ أن هذا سيجعل موقفه أقوى في الحوار والمحاجّة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ 51 إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُون﴾ [الأنبياء:51-52].
فالمُحاور لا بدَّ له من تهيئةٍ نفسية ومعنوية، يوطِّد بها نفسَه، وألا يتلبَّس بشيءٍ مما ينهاهم عنه، وأن يتعلَّم الحجَّة، ويسوقَ الأدلة العقلية والنقلية على صحة كلامه ومنطقه قبل أن يشرع في الحوار.
لا بدَّ للمحاور من تهيئةٍ نفسية ومعنوية، يوطِّد بها نفسَه، وألا يتلبَّس بشيءٍ مما ينهاهم عنه، وأن يتعلَّم الحجَّة، ويسوقَ الأدلة العقلية والنقلية على صحة كلامه ومنطقه
3-العلم:
قبل الشروع في الحوار يحتاج الداعية إلى العِلم؛ ليكون على بينةٍ فيما يدعو الناس إليه، وإلا دعاهم إلى الضلالة، وهذا من المعاني في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108].
وقد تمكَّن إبراهيم عليه السلام بعلمه وفهمه وإدراكه لحال أبيه وقومه أن يُقيم عليهم الحجَّة، ويبيِّن لهم بالبراهين ما هم فيه من ضلال، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبراهيم عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام:83].
4-التقديم بالأسئلة:
انتقل الخليل إبراهيم عليه السلام -بعد أن حقَّق العلم والفهم- إلى الاستفسار والسؤال، مقدمةً قبل الدخول في الحوار، ولهذا الأسلوب فوائد عدَّة منها: استطلاع ما عند الطرف الآخر حتى يتهيّأ للجواب المناسب، ومنها التمهيد قبل الولوج مباشرة إلى صُلب الحوار، ومنها إظهار ضعف حجة الخصم من خلال جوابه، ومنها التركيز في الحوار حتى لا يتشعب.
وهنا لفتة جميلة في الحوار؛ أنّ بعض المحاورين يهجُمون على الطرف المقابل مباشرة من دون معرفة طبيعته أو المنطلق الذي ينطلق منه، فيقعون بحرجٍ وأخطاء، فلا يصلون إلى غايتهم.
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ [الأنبياء:52].
قال ابن عاشور: «وهذا من تجاهُل العارف، استعمله تمهيدًا لتخطئتهم بعد أن يسمع جوابهم فهم يظنُّونه سائلًا مستعلِمًا، ولذلك أجابوا سؤاله بقولهم: وجدنا آباءنا لها عابدين، فإنَّ شأن السؤال بكلمة (ما) أنَّه لطلب شرح ماهية المسؤول عنه.
والإشارة إلى التماثيل لزيادة كشف معناها الدالِّ على انحطاطها عن رتبة الألوهية، والتعبير عنها بالتماثيل يسلب عنها الاستقلال»([9]).
المرتكزات المنهجية لإبراهيم عليه السلام أثناء الحوار:
اعتمد إبراهيم عليه السلام مرتكزات منهجية أثناء حواره لقومه، وهي
1-التلطف أثناء الحوار:
والمقصود بالتلطف في الحوار: ألا يستعمل الشخصُ من الكلام إلا الحَسَن، ولو قابله الآخر بالإساءة والغلظة، وأن يكون رفيقًا ليِّنًا في حواره معه، بهدف إقناعه والوصول إلى قلبه وعقله بعيدًا عن الرفض المرتبط بالشدَّة والدفاع عن النفس.
وقد بيَّن القرآن الكريم هذه الصفة في حوار إبراهيم عليه السلام مع أبيه، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا 42 يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾ [مريم: 42-43].
قال الزمخشري: «انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطًا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصا فيه أمر العقلاء، وانسلخ عن قضية التمييز، كيف رتَّب الكلام معه في أحسن اتِّساق، وساقه أرشق مساق، مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن»([10]).
2-التركيز على القضايا الفاصلة والهامة:
تركيز إبراهيم عليه السلام كان واضحًا على القضايا الكبرى؛ وعلى رأسها إفراد الله جل وعلا بالعبادة التي من أجلها خلق الإنسان، وقضايا الإيمان؛ وخاصة يوم القيامة التي سيحاسَب فيه الناس.
قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إبراهيم لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام:74].
المحاور الذي يصرف وقته على الجزئيات لن يُثمر حواره، ولن يصل إلى غايته، وسيُخرجه خصمه من الأمور الرئيسة الهامَّة إلى التيه في الفرعيات، وضياع الوقت والجهد، ثم الانصراف عن أساس الدعوة.
فالجزئيات والفرعيات كثيرة لا تنتهي، والمحاور الذي يصرف وقته على الجزئيات لن يُثمر حواره، ولن يصل إلى غايته، وسيُخرجه خصمه من الأمور الرئيسة الهامَّة إلى التيه في الفرعيات، وضياع الوقت والجهد، ثم الانصراف عن أساس الدعوة.
3-التركيز على المفهوم لا المثال:
نجد هذا في حوار إبراهيم عليه السلام مع النمرود، حيث أراد أن يُثبت كذب ادعاء النمرود للربوبية، وأنَّ الله هو الربُّ لا ربَّ سواه، فضرب له مَثَلَ الإحياء والإماتة، فلما أراد أن يُجادله فيه انتقل إلى غيره مما لا يملك أن يُجادل فيه، وهو إخراجُ الشمس من المشرق، مع أنَّ جداله في الإحياء والإماتة مُتهافت، لكن لمّا كان من الممكن أن يَصل إلى مُراده بما لا يستطيع أن يشاغب عليه خصمه انتقل إليه، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إبراهيم فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إبراهيم فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة:258].
4-الوضوح في الطرح:
خاطب إبراهيم عليه السلام أباه وقومه بطريقة واضحة لا لبس فيها، على أنَّ عبادتهم متهافتة، ومعبوداتهم ضعيفة لا تستحق العبادة، دون مجاملة ولا تزييف ولا مداهنة، فقال لهم: ما هذه التماثيل التي مثلتموها، ونَحَتُّموها بأيديكم، على صور بعض المخلوقات ثم أنتم مقيمون على عبادتها؟ وأي فضيلةٍ ثبتت لها؟ وأين عقولكم، التي ذهبت حتى أفنيتم أوقاتكم بعبادتها؟ فهذا من أكبر العجائب أنكم تعبدون ما تنحتون([11])، قال تعالى: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ 95 وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات:95-96].
5-التدرج في الحوار:
تدرَّج إبراهيم عليه السلام في حواره لكي يصل إلى غايته وهدفه الذي رسمه، بدأ بالاستفسار، ثم بيَّن لهم حقيقة ما يعبُدون من دون الله، وبعد ذلك أراد أن يُبرهن لهم عمليا على عجز الأصنام التي عبدوها من دون الله، ليصلوا إلى دليل الوحدانية.
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ 70 قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ 71 قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ 72 أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾ [الشعراء:70-73].
6-إعطاء الفرصة للطرف الآخر في الحوار ليعبِّر عن رأيه:
في جميع المشاهد الحوارية كان إبراهيم عليه السلام طارحًا لعقيدته ومنهجه، مستمعًا وطالبًا لإجابتهم ودفاعهم عن عقيدتهم، محاوراً مناقشاً لهم في تلك الإجابة، مبيناً لهم زيف عقيدتهم وبطلانها، فالمحاور الذي لا يستمع أكثر مما يتكلم، سيُشعر الطرف الثاني بالغبن وعدم العدل، وقد يدفعه ذلك لادعاء أنَّه لم يأخذ حقه في عرض وجهة نظره أو دفاعه عن نفسه، ومن ثم قد لا يكون لحواره قبول عنده، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ 70 قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ 71 قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ 72 أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ 73 قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [الشعراء:70-74].
7-التنزُّل في الحوار مع الخصم:
لما كان قوم إبراهيم عليه السلام يعبدون الأصنام والكواكب، أراد أن يُرشدهم إلى التوحيد عن طريق النظر والاستدلال وإعمال العقل في ملكوت الله، فأرشدهم إلى التفكير فيما يشابهم فكرهم وثقافتهم الدينية، منبهاً لهم خطئها، وقد اتخذ طريقة إظهار مسايرتهم في اعتقادهم ثم نقض هذا المعتقد من داخله بإظهار تناقضه وضعفه وتهافته، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾ أي: ستره بظلامه، ﴿رَأى كَوْكَبًا﴾ قيل الزهرة، ﴿قالَ هذا رَبِّي﴾ قال لقومه على سبيل التنزُّل إلى قول الخصم: هذا ربي، وإن كان هذا القول فاسدًا، فإنَّ المستدلَّ على فساد قولٍ يحكيه على ما يقوله الخصم، ثم يُبيِّن له الفساد الذي هو فيه، وهذا الأسلوب أقرب إلى استيعاب الخصم ورجوعه، ﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾ أي: غاب، ﴿قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ فضلًا عن عبادتهم فإنَّ التغيَّر بالاستتار والانتقال يقتضي الإمكان والحدوث وهذا ينافي الألوهية([12]). ثم استمرَّ في بيان منافاة استحقاق بقية الكواكب للألوهية لذات الأسباب، إلى أن وصل بهم إلى النتيجة: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾؛ لأنَّه لما انتفى استحقاقُ الألوهية عن أعظم الكواكب التي عبدوها فقد انتفى عما دونها بالأحرى.
فالمحاور لا حرج عليه أن يرخي العنان للخصم ليصل به إلى قبول الحجة، ولا ينفر من أول وهلة.
الاستدلال على فساد القولٍ بحكايته على ما يقوله الخصم ثم بيان فساده ومخالفته للمنطق والحجج والبراهين أقرب إلى استيعاب الخصم ورجوعه
8-الثبات على الحق والثقة فيه:
أعلنَ إبراهيم عليه السلام براءته من الأصنام التي يعبدونها، وعداوته لها، دون تحفُّظ ولا تردُّد: ﴿قالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ 75 أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ 76 فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء:75-77].
وقال تعالى: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام:79].
وهذا إرشاد لمن تصدَّر الحوار أن يكون الثبات على الحق والثقة فيه حاضرة في جميع مراحله.
9-الارتكاز والاستناد إلى الدليل:
ركّز إبراهيم عليه الصلاة والسلام في حواره على ثلاثة أدلة:
دليل الفطرة: فطر الله الناس على دين التوحيد والتوجه بالعبادة إلى الخالق جل وعلا، ومحبة الخير وكراهة الشر، لذا استند إبراهيم عليه السلام إلى هذه الفطرة في حواره مع قومه لإعادتهم وتذكيرهم بالفطرة السليمة على وجود الله وعبادته ونبذ عبادة الأصنام والكواكب، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ 78 وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ 79 وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ 80 وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ [الشعراء: 78-81].
ففي هذه الآيات تنبيه ولفت الأنظار من إبراهيم عليه السلام إلى الخالق والرازق والشافي، وهي لفتات تُحرك الشعور وتُعيد الإنسان إلى فطرته الأصيلة.
دليل العقل: انطلق إبراهيم عليه السلام في حواره مع قومه من الدليل العقلي، واستخدم الحجج العقلية في نقض بنيان عقائدهم الباطلة، فالأوثان التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر لا تستحق العبادة لعجزها وافتقارها لمن يرعاها، وذلك يُعرف بالعقل والمنطق، فكيف تعبدونها؟ وتتركون عبادة الله الذي خلقها ودبَّر شؤون الخلق جميعاً؟!
قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم 69 إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ70 قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ 71 قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ 72 أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾ [الشعراء:69-73].
دليل الحس: حطَّم إبراهيم عليه السلام الأصنام إلا صنمًا كبيرًا نَسَبَ إليه تحطيم الأصنام، وطالب قومَه بأن يسألوا الأصنام عمن قام بهذا العمل، ليُثبت لهم حسيا، أنَّ ما يعبدون من دون الله لا يستطيعون الكلام ولا الدفاع عن أنفسهم، لا يستحقون التقديس والعبادة، لأنهم عاجزين بالفعل عن الانتصار لأنفسهم، فكيف سينتصرون لغيرهم؟!
قال تعالى: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: 58].
والمحاور القوي هو الذي ينطلق في حواره بالاعتماد على الأدلة والبراهين التي تُثبت دعواه، فيرتكز عليها وتكون سندًا له.
ركّز إبراهيم عليه الصلاة والسلام في استدلالاته أثناء حواره على ثلاثة أدلة: 1.دليل الفطرة. 2.دليل العقل. 3.دليل الحس.
10-استدراج الخصم لإظهار تهافت دليله:
هذا ما رأيناه من إبراهيم عليه السلام يوم ذهب قومه إلى مجتمعهم في يوم عيد لهم، فقام بكسر أصنامهم بفأس وترك عَظيمهم دون كسر، ولم يتعرَّض له بشيء، وعلق الفأس في عنقه لعلهم إليه يرجعون ويرون ما فعل بغيره، فقالوا لإبراهيم: أأنت فعلت هذا بآلهتنا؟ قال: بل عظيمهم هو من حطم تماثيلكم، واسألوهم إن كانوا يتكلمون! عندها عادوا إلى صوابهم، وقالوا لأنفسهم: أنتم الظالمون بعبادتكم من لا ينطق([13]).
قال تعالى: ﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إبراهيم (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنبياء: 62-64].
كما ظهر في استدراجه لهم في الحديث عن ألوهية الكواكب، مع النمرود في إثبات عدم استحقاقه بالعبودية.
11-إقامة الحجة:
وهذا ما كان من إبراهيم عليه السلام في العديد من المواقف، فبعد أن حاور وعرض دعوته بطريقة هادئة، انتقل إلى إقامة الحجَّة عندما قوبل بالتكذيب والرفض، كما فعل مع الملك الطاغية في إقامة الحجّة عليه بعبوديته لله وضعفه، ووحدانية الله وعظمته وتفرده بتدبير هذا العالم، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إبراهيم فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إبراهيم فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258].
12-المفاصلة مع الباطل عند وضوحه:
وقد لجأ إليها إبراهيم عليه السلام في نهاية حواره ومناظرته عندما ظهر له عدم قبول الحق والتمسك بالباطل، فأعلن المفاصلة مع الباطل والبراءة منه، كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ 78 إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام:78-79].
وقوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبراهيم وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة:4].
منهج إبراهيم بعد الحوار:
بعد أن انتهى الخليل عليه السلام من حواره مع قومه، عمل بما يمكن للداعية أن يعمل به بعد ظهور الرفض لدعوته، ومن ذلك:
1-الدعاء بالهداية:
وذلك لأنَّ الخصومة كانت في سبيل الله، ليست لمصالح شخصية، ولا أطماع مادية، فبقي حب الهداية في قلبه حتى مع المفاصلة، وقد خصَّ بذلك اباه لما له من قرابة ورحم، قال تعالى: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إبراهيم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ [مريم:46-47].
ومعنى قوله تعالى: ﴿سَلامٌ عَلَيْكَ﴾ أي: ستَسْلم من خطابي إياك بالشتم والسبِّ وبما تكره، ومعنى: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ أي: لا أزال أدعو الله لك بالهداية والمغفرة، بأن يهديك للإسلام، الذي تحصل به المغفرة، فلم يزل يستغفر إبراهيم لأبيه رجاء أن يهديه الله، فلمَّا تبين له أنَّه عدو لله، وأنه لا يفيد فيه شيئًا، ترك الاستغفار له، وتبرأ منه([14]).
عندما تكون الخصومة في سبيل الله ليست لمصالح شخصية، ولا أطماع مادية، يبقي حب الهداية في قلب الداعية حتى مع المفاصلة
2-الصبر على الأذى الذي يقع بعد الحوار:
ينال الداعية في كثير من الأحيان الأذى بالقول أو الفعل، وخاصة إذا انقطعت حُجَّة الطرف الآخر، وهذا ما وقع لإبراهيم عليه السلام حينما انقطعت حُجَّة قومه، فقد أخذتهم العزة بالإثم وانصرفوا إلى طريق الغشم والغلبة، وقالوا حرِّقوه([15]).
قال تعالى: ﴿قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين (68) قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم﴾ [الأنبياء:68-69].
فصبر على ذلك، وأوكل أمره لله تعالى ولجأ إليه، مفوضاً أمره إليه، فكان بعد العسر يسرًا، وبعد الصبر الفرج، والغلبة لأهل الحق في الدنيا والآخرة.
الخاتمة:
إنّ قصة إبراهيم عليه السلام مرجعٌ في الحوار، فمن أراد أن يتصدَّر هذا الفن فعليه أن يستعين بما ورد فيها من طرائق ومرتكزات؛ لكي ينجح ويصل إلى غايته في نقل الناس إلى الهداية والسلامة، ويكون على الطريق القويم.
[1] مقاييس اللغة، لابن فارس (5/ 331).
[2] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (6/ 211).
[3] أبجديات البحث في العلوم الشرعية، فريد الأنصاري ص(40).
[4] لسان العرب، لابن منظور، (4/ 217 – 223).
[5] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (10/ 403).
[6] الطرفين: ربما شخصين أو أكثر أو فريقين أو شخص وفريق.
[7] أسلوب الحوار من خلال سيرة مصعب بن عمير رضي الله عنه وتطبيقاته التربوية، عدنان بن سليمان الجابري، ص (39)، والحوار الإسلامي المسيحي، بسام عجك، ص(20).
[8] تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (1/ 446).
[9] التحرير والتنوير، لابن عاشور (17/ 94).
[10] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري، (3/ 19).
[11] ينظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص(525 ).
[12] التحرير والتنوير، لابن عاشور، (7/ 317).
[13] {قال بل فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} أسند الفعل إليه تجوّزا وتعريضًا لهم بأن الصنم المعلوم عجزه عن الفعل لا يكون إلها، وإنما هو متسبب لما حصل، والقصد تبكيتهم وإلزامهم الحجة وحملهم على ترك الوثنية، أو للاستهزاء بهم، ولهذا قال: {فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ} أي: اسألوا هذه الأصنام عن الفاعل الذي كسرها إن كانوا يقدرون على النطق، وما روي في الصحيحين أنه صلّ الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات» تسميةً للمعاريض كذبًا، لما شابهت صورتها صورته. ينظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (5/ 349)، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، (11/ 300).
[14] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص(494).
[15] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، (11/ 303).
ماجستير في الفقه وأصوله، مدير مركز تاج لتعليم القرآن الكريم في الريحانية.