دعوة

في فقه الأولويات

تتزاحم الأعمالُ والمهامُ الواجبُ القيام بها في العديد من الأوقات، وعلى الأخص في أوقات النهوض واستعادة الأمجاد حتى يضيق بها الوقتُ والجهد، وقد يُصبح القيام بها كلها متعذِّرًا، بالإضافة إلى أنَّ هذه الأعمال مُتفاوتةٌ فيما بينها من حيث الأهمية والأثر، فعلى فعل أيها يقع الخيار؟ وبأيها يكون البدء؟ وما معايير ذلك؟ في هذه المقالة توضيحٌ لأهم هذه المسائل.

شوال 1441 هـ – يونيو/ حزيران 2020م

لم تكن الأمة الإسلامية في أي وقتٍ مضى بحاجةٍ إلى فقه الأولويات كحاجتها إليه اليوم، لتخرُج من الحيرة والتردُّد عندما تواجهها نوازل كبيرة لا يمكن النظر إليها مستقلَّةً منفردةً عن غيرها من المسائل الفقهية الأخرى.

وفقهُ الأولويات مصطلحٌ جديدٌ شاع وانتشر وكتبَ فيه المُعاصرون من علماء الأمة، لكنّه ليس مُبتدَعًا مُحدَثًا، وإنَّما هو علمٌ قديمٌ تشهد له نُصوص الكتاب والسنّة وعمل الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقد اشتملت عليه طيّات مصنَّفات السلف دون أن يُفرَد بمصنَّف مستقلٍّ إلا في العصر الحاضر للضرورة الملحَّة.

فقه الأولويات علمٌ قديمٌ تشهد له نُصوص الكتاب والسنّة وعمل الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقد اشتملت عليه طيّات مصنَّفات السلف دون أن يُفرَد بمصنَّف مستقلٍّ إلا في العصر الحاضر

أهمية فقه الأولويات:

تُواجه الأمّة أثناء سَعيِها للنُّهوض واسترجاعِ سالفِ مجدِها الكثيرَ من المسائل التي تحتاجُ لبحثٍ ونظر وعمل، وهي كثيرةٌ ومتشعِّبة، لكن من أين تكون البداية؟ وعلى أيِّها يكون التركيز؟

لقد باتَ واضحًا أنَّه من المستحيل النهوضُ بالأمّة والقيامُ بهذا الدين جملةً واحدة في وقتٍ واحد، لذا كان من الضروريِّ البحثُ في منهجٍ واضحٍ يقومُ على قواعد وأسسٍ علميةٍ تُبيِّن لنا ما هو الأحقُّ بالتقديم، وما هو الأحقُّ بالتأخير، وما هو المهمُّ، وما هو الأهمُّ والأولى. مع الإقرار بأنَّ الدينَ كاملٌ ولا يجوز التفريط في شيء منه، ألا وهو فقه الأولويات.

فما المقصود به؟ وما دليله؟ وما هي ضوابطه؟ وما هي الأسس التي يتم الاعتماد عليها في ترتيب هذه الأولويات؟

ما هو فقه الأولويات؟

فقه الأولويات: هو العلم بالأحكام الشرعية التي لها حقُّ التقديم على غيرها بناءً على العلم بمراتبها، وبالواقع الذي يتطلَّبها، فيضعُ كلَّ شيءٍ في مرتبته، فلا يؤخِّر ما حقُّه التقديم، ولا يقدِّم ما حقُّه التأخير، ولا يُصغِّر الأمر الكبير، ولا يُكبِّر الأمر الصغير([1]).

فالأولويات: ميزانٌ للأعمال الأولى فالأولى، ووضعُ الشيءِ في نصابه ومكانته ودرجته.

فيقدّم الأهمُّ فالأهمُّ، والأحوجُ فالأحوجُ، والأنفعُ فالأنفعُ، ومن هذا الباب: الدعوة إلى التوحيد قبل العبادات، وإلى الإيمان قبل الأحكام، والخوف من الله قبل النهي عن المحرَّمات([2]).

تأصيل فقه الأولويات:

يستمدُّ فقه الأولويات مشروعيته من كتاب الله عزَّ وجلَّ وسنة رسوله r، ففي الكتاب والسنة وسيرة النبي ﷺ تطبيقٌ عمليٌّ للأولويّات التي يجبُ مُراعاتُها للنهوض بالأمة وإصلاحها والعودة بها إلى سالف عهدها ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]، وهذا ما نبَّه إليه الإمام مالك رحمه الله إذ يقول: «وَلَا يُصْلِح آخِر هَذِه الْأُمَّة إلَّا مَا أصْلَح أوَّلَهَا»([3]).

فقه الأولويات: هو العلم بالأحكام الشرعية التي لها حقُّ التقديم على غيرها بناءً على العلم بمراتبها، وبالواقع الذي يتطلَّبها، فيضعُ كلَّ شيءٍ في مرتبته، فلا يؤخِّر ما حقُّه التقديم، ولا يقدِّم ما حقُّه التأخير

أدلة اعتبار الأولويات من القرآن:

قرَّر القرآن الكريم أنَّ الأعمالَ ليست سواء، وأنَّها مُتفاوتةٌ في الأهمية وتقديم العمل، ومِن ذلك:

1-قوله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: 19].

ففاضلت الآيةُ بين أمرين كلاهُما طاعةٌ وقُربة، وبيَّنت أنَّهما لا يستويان، فالجهادُ في سبيل الله أعظمُ درجةً عند الله لأنَّ نفعه أعظم للأمة.

قال ابن تيمية: «ولهذا قال العلماء: إنَّ الرباط بالثغور أفضلُ من المجاورة بالحرمين الشريفين؛ لأنَّ المرابطةَ من جنس الجهاد، والمجاورةُ من جنس الحجِّ، وجنس الجهاد أفضل باتفاق المسلمين من جنس الحج»([4]).

2-قوله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة:271]. وفيه أولوية الإسرار بالصدقة.

قال الهراسي: «فيه دلالةٌ على أن إخفاء الصدقات مطلقًا أولى»([5]).

3-قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة:219]. وفيه أولوية درءُ المفاسد على جلب المنافع.

قال الهراسي في قوله: ﴿وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما﴾: «يدلُّ على المفسدة في شُربها، وأنَّ ما فيها من المنفعة لا يُقاوَم بالمفسدة»([6]).

4-قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: 217]. وفيه أنَّ درء المفاسد العظيمة مقدم على درء المفاسد الصغيرة.

قال العزُّ بن عبد السلام: «فأخبرهم بأنَّ الصدَّ والإخراجَ والفتنةَ أكبرُ من القتل في الحرم والشهر الحرام»([7]).

أدلة اعتبار الأولويات من السنة:

دلَّت العديد من الأحاديث النبوية على مُراعاة الأولوية في المسائل كافّة، ومن ذلك:

  1. قوله ﷺ لمعاذ بن جبل: (إَّنكَ ستأتي قومًا أهلَ كتاب، فإذا جئتهم، فادعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله …) وفي رواية: (فَليكُن أوَّلَ ما تدعوهُم إلى أن يوحِّدوا الله تعالى)([8]). وفيه توضيح أولويات الدعوة عموما، وتقديم العناية بالتوحيد.
  2. وجاء رجلٌ من أهل نَجد يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: (خمسُ صلواتٍ في اليومِ والليلة. فقال: هَل عليَّ غيرُها؟ قال: لا، إلا أن تَطَوَّع. قال رسول الله ﷺ: وصيامُ رمضان. قال: هل عليَّ غيرُه؟ قال: لا، إلا أن تَطَوَّع. قال: وذكر له رسول الله ﷺ الزكاة، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تَطَوَّع. قال: فأدبَرَ الرجل وهو يقول: والله لا أزيدُ على هذا ولا أنقُص، قال رسول الله ﷺ: أفلَحَ إن صَدَق)([9]). وفيه بيان أولوية الفرائض بعضها على بعض وأولوية الفرائض على النوافل في الطاعات.
  3. وقال رسول الله ﷺ: (ما مِن أيامٍ العملُ الصالح فيها أحبَّ إلى الله عز وجل من هذه الأيام -يعني أيام العشر-، قال: قالوا: يا رسول الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلًا خرجَ بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء)([10]). وفيه أولوية عشر ذي الحجة على غيرها في العمل الصالح لفضلها وأفضلية العمل فيها.

أُسس تحديد الأولويات:

للتعرف على الأولويات الواجبِ الأخذُ بها أسسٌ ومصادر يمكن إيجازها فيما يلي:

1-الاعتماد على المصادر الشرعية في الاستدلال والتلقي:

 تُحدَّد الأولويات بالرجوع إلى الكتاب والسنة، وما يُبنى عليهما من قواعد شرعية، وضوابط استنبطها أهل العلم. قال الله تعالى:

﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام:153].

وقال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:7].

وقال رسولُ الله ﷺ: (إنِّي قد تركتُ فيكم شيئينِ لن تَضِلُّوا بعدَهما: كتابَ الله وسُنَّتي)([11]).

2-تقديم ما قدمه الشارع الحكيم([12]):

والأمثلة عليه كثيرة في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ منها: تقديم إصلاح ذات بين المسلمين على أداء النوافل، قال رسول الله ﷺ: (ألا أُخبركم بأفضلِ من درجةِ الصلاة، والصيام، والصدقة؟ قالوا: بلى قال: إصلاحُ ذاتِ البَين، قال: وفسادُ ذاتِ البِين هي الحالِقة)([13]).

3-العلم بالواقع:

ومنه قوله ﷺ لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (إنَّكَ تقدُم على قومٍ أهلِ كتاب…)([14]). قال ابن دقيق العيد: «لعله للتوطِئة والتمهيد للوصية باستجماعِ همَّته في الدعاء لهم. فإنَّ أهل الكتاب أهل علم، ومُخاطبتهم لا تكون كمُخاطبة جُهّال المشركين، وعَبدة الأوثان في العناية بها والبداءة في المطالبة بالشهادتين: لأنَّ ذلك أصل الدين الذي لا يصح شيء من فروعه إلا به»([15]).

4-الموازنة بين المصالح والمفاسد:

ومنه امتناع النبي ﷺ عن إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم لحداثة إسلام قريش وعدم ثبات الإسلام في قلوبهم، فخشي أن تحصل بسبب ذلك مفسدة عظيمة، قال ﷺ: (لولا أنَّ قومَكِ حديثُ عهدِهم بالجاهلية، فأخاف أن تُنكِرَ قلوبُهم، أن أُدخِلَ الجَدْرَ في البيت، وأن أُلصِق بابَه بالأرض)([16]).

5-مراعاة حال الأشخاص وقدراتهم:

فالنبي ﷺ لم يُعنِّف الأعرابي حين بَالَ في المسجد لحداثة عهده بالإسلام وجهله بأحكام المساجد فقال ﷺ: (لا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ، فَتَرَكوه حتى بَالَ، ثم إنَّ رسول الله ﷺ دعاهُ فقال له: إنَّ هذه المساجدَ لا تَصلُحُ لشيءٍ من هذا البول ولا القَذَر، إنما هي لِذكر الله عز وجل، والصلاةِ وقراءةِ القرآن)([17]).

6-ترشيد الاختلاف لواجب الائتلاف:

ومنه أنَّه إذا أرسل أميرين إلى مكان واحد أمرهما أن يتطاوعا ولا يتعاصيا فقد بعث النبي ﷺ معاذًا وأبا موسى إلى اليمن، فقال لهما: (يَسِّرا ولا تُعسِّرا، وبَشِّرا ولا تُنفِّرا، وتَطَاوعا ولا تَختلفا)([18]).

7-النظر إلى مآلات الأمور:

فقد امتنع النبي ﷺ عن قتل المنافقين حتى لا يؤثِّر ذلك على مسيرة الدعوة، وقال لعمر رضي الله عنه: (لا يتحدَّثُ الناس أن محمدًا يقتلُ أصحابه)([19]).

إنَّ فقدان فقه الأولويات يُحدِث خللًا بالغًا في الدعوة، ويوقع كثيرًا من الدعاة في اضطراب في المنهج؛ فتضيع بذلك الأوقات، وتُهدر الطاقات، ويُحدث ذلك أثرًا سلبيًا، بل نتائج عكسية

الأولويات الدعوية من سيرة رسول الله ﷺ:

يمكن ترتيب الأولويات التي راعاها رسول الله ﷺ في دعوته حسب الأهمية:

1-أولوية الدعوة إلى تصحيح العقيدة، وتحقيق التوحيد قبل كل شيء:

إنَّ حاجتنا إلى العقيدة الصحيحة فوق كل حاجة، فالتوحيد أوّل ما يدخل به المرء في الإسلام، فهو أول واجب على العبد وهو أول دعوة الرسل قال تعالى: ﴿ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل:36].

ولقد أمضى النبي ﷺ حياته في الدعوة إلى التوحيد وجاهد أعدائه من أجلها قال ﷺ: (أُمِرتُ أن أُقاتِلَ الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله)([20]).

وكان ﷺ حين يرسل الرسل يأمرهم أن يبدؤوا بالدعوة إلى التوحيد قبل كل شيء وقال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (فَليكن أولَ ما تدعُوهم إلى أن يُوحِّدوا الله تعالى)([21]).

لهذا كان الأمر الأحقُّ بالتقديم والأولى بالعناية من غيره، هو تصحيح العقيدة، وتجريد التوحيد، وتعميق بذور الإيمان في القلوب، حتى تؤتي أكلها بإذن ربها، ويتضح ذلك جليًا في قول عائشة رضي الله عنها: (إنما نَزلَ أولَ ما نزلَ منه سورةٌ من المُفصَّل، فيها ذكرُ الجنّة والنار، حتى إذا ثَابَ الناس إلى الإسلامِ نَزل الحلال والحرام، ولو نَزلَ أولَ شيءٍ: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا نَدعُ الخمرَ أبدًا، ولو نزلَ: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا)([22]). فعلى قدر تمكُّن الإيمان من القلوب ورسوخه فيها تكون الثمار، من فعل المأمور، أو اجتناب المحظور.

لقد نزل أول ما نزل من السور المكية المفصَّلُ من القرآن في ثلاثة عشر عامًا، وهي تُخاطِب الناس بكل مفردات الإيمان بالله وفيه ذِكر الجنَّة والنَّار، حتَّى إِذا ثَابَ النَّاس إِلى الإسلام نزل الحلال والحرام.

إنَّ هذه التربية قد تستغرق زمنًا طويلًا من أجل بناء من يحمل الدعوة ويبلغها، ولكنها بعد ذلك تثمر الثمرات الجليلة الكثيرة في زمن يسير، فهذا مصعب بن عمير y الذي رباه النبي r على الإسلام وسقاه القرآن، كيف فتح الله عز وجل به في زمن يسير قلوب الأنصار.

وانظر إلى أثر غرس العقيدة الصحيحة في صدور الرجال كيف حملتهم على الهجرة مُخلِّفين وراءهم الوطن والأهل والمال.

وانظر إلى صدق عقيدهم وقوتها وهم يتسابقون إلى الموت نصرة لدين الله وطمعًا في جنة عرضها السماوات والأرض أُعدَّت للمُتَّقين.

وتأمَّل كيف هُزم المسلمون يوم حُنين في الجولة الأولى والسبب: العُجب الذي تسرَّب إلى قُلوب البعض، فقال: لن نُغلب اليوم من قِلّة، وهذا يُظهر أهمية التربية على العقيدة الصحيحة.

وذلك من أسباب تأخر الانتصارات وتتالي الهزائم على المسلمين في الوقت الحالي لأنَّ الشعوب عامةً والجيوش خاصة لم تتربَّ على العقيدة الصحيحة ولم تُحقق عقيدة الولاء والبراء([23]).. فإذا ما غَفلَت عن عقيدتها وتعلَّقت القلوب بغيرها تقلَّبت في ثنايا الإهانات والنكبات والنكسات.

وهذا واقعنا اليوم! فما هُزمت الأمّة في موقع ما بعد النصر والتمكين إلا بعد تمكّن حبُّ الدُّنيا من القلوب، ولقد قال الله تعالى لأهل أحدٍ رضى الله عنهم مبيِّنًا سبب الهزيمة بعد النصر: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [آل عمران:152].

علمًا أنَّ الذين نعتهم الله بأنَّهم يريدون الدنيا هم قلة من الرماة، نزلوا من على الجبل وخالفوا أمرَ نبيهم r ظنًا منهم أنَّ المعركة انتهت. فكيف لجيوش تجاهر بمعصية الله ومعصية الرسول وجعلت الولاء والبراء على أساس القومية أو القُطرية أو الحزب أو الفصيل أن تنتصر؟

الإسلام حريصٌ على إيمان الناس ودخولهم في الدين بكلِّ طريقةٍ مُمكنة، والأولوية لذلك على قتالهم أو خوض معارك معهم

2-أولوية دخول الناس في الدين على قتالهم:

فالإسلام حريصٌ على إيمان الناس ودخولهم في الدين بكلِّ طريقةٍ مُمكنة، والأولوية لذلك على قتالهم أو خوض معارك معهم، لذلك سعى إلى توطيد الأمن وعقد المعاهدات لتوفير بيئة آمنة هادئةٍ لدعوة الناس للدخول في الدين، ويشهد لذلك:

مُكثُ النبي ﷺ ثلاث عشرة سنة في مكة لا يُحارب الناس، بل يصبر على إيذائهم، ويأمر أصحابه بالصبر.

حين قال له مَلَك الجبال: (إن شئتَ أن أُطبِقَ عليهم الأَخشَبين؟ فقال النبي ﷺ: بل أرجو أن يُخرِجَ الله مِن أصلابِهم من يعبدُ الله وحدَه)([24]).

وفي المدينة كتب «وثيقة المدينة» التي تُعدُّ أول دستور مدني في تاريخ البشرية، وما قاتل اليهود إلا بعد نقضها.

قَبِلَ ﷺ صُلح الحديبية تغليبًا للسِّلم على الحرب، وطمعًا في إسلام قريش وتعظيمًا لشعائر الله.

وأرسل أبا سفيان إلى مكة ليقول لهم: (مَن دخل دارَ أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن) ([25]).

3-أولوية الحفاظ على المبادئ والعهود والمواثيق على مصالح البعض:

إنَّ المبادئ في الإسلام لا تتجزَّأ، والالتزامَ بها ضرورةٌ رغمَ كلِّ الظروف، فالنبيُّ ﷺ كان حريصًا على أداءِ الأمانات التي كانتْ مودعةً لديه إلى أهلها، الذين استباحوا دمَه، وأرادوا قتْلَه، لكنَّه لم يستبِحْ أموالهم، فترَك عليًّا رضي الله عنه في فِراشه ليردَّها لهم من الغد([26]).

وحذيفة رضي الله عنه لم يشهد بدرًا لأنَّ قُريشًا خلَّت سبيله بعد أن أخذت عليه عهد الله وميثاقه أن ينصرف إلى المدينة، ولا يقاتل، قال: فأتينا رسول الله ﷺ، فأخبرناه الخبر، فقال: (اِنصرِفا، نَفِي لهم بعهدهم، ونستعينُ اللهَ عليهم)([27]).

وردَّ عليه الصلاة والسلام أبا بصير وأبا جندل وأمثالهم رضي الله عنهم إلى قريش عملاَ ببنود صلح الحديبية، (ولم يأتِ رسولَ الله ﷺ أحدٌ من الرجال إلا ردَّه في تلك المدة، وإن كان مسلمًا)([28]).

وكان بين مُعاوية رضي الله عنه وبين أهل الروم عهدٌ، وكان يسير في بلادهم، حتى إذا انقضى العهد أغار عليهم، فإذا رجلٌ على دابّة أو على فرس، وهو يقول: الله أكبر، وفاءٌ لا غدر، وإذا هو عمرو بن عبسة، فسأله معاوية عن ذلك، فقال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: (مَن كان بينه وبين قوم عهدٌ فلا يَحُلَّنَ عهدًا، ولا يَشُدَّنَّهُ حتى يَمضي أمدُه، أو يَنبِذَ إليهم على سَواء)، قال: فرجع معاوية بالناس([29]).

وهذا ما نفتقده اليوم فلقد وصل الأمر بالبعض منا أن يتعدى على أموال المسلمين ولا يحفظ لهم عهدًا ولا ميثاقًا ولا ذمَّة.

وقد قال رسول الله ﷺ: لكل غادرٍ لواءٌ يوم القيامة، يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة([30]).

وقال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقولُ: (أيُّما رجلٍ أمَّنَ رجلًا على دَمِه ثم قَتَله، فأنا من القاتل بريء، وإن كان المقتولُ كافرًا)([31]).

4-أولوية القصاص من المجرمين على الفداء:

كان رسول الله ﷺ يوصي بالأسرى خيرًا، إلا أنه أَمَرَ بقتل النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط من بين الأسرى، جزاءً وفاقًا لما ارتكبوه من جنايات ضدَّ رسول الله ﷺ والمسلمين والإسلام؛ لما في ذلك من تحقيق العدالة، وشفاء صدور المؤمنين مما أصابهم من هؤلاء المجرمين، وليكونوا عبرة لغيرهم.

قال ابن كثير: «كان هذان الرجلان من شرِّ عباد الله، وأكثرهم كفرًا وعنادًا، وبغيًا وحسدًا، وهجاءً للإسلام وأهله، لعنهما الله»([32]).

فمُجرموا الحروب هذا جزاؤهم العادل، عوضًا عن فك أسرهم بمقابل زهيد ليعودوا لحضن المجرمين ويعاودوا القتال من جديد.

غياب فقه الأولويات من أسباب تأخُّر الانتصارات وتتالي الهزائم على المسلمين في الوقت الحالي؛ لأنَّ الشعوب عامةً والجيوش خاصة لم تتربَّ على العقيدة الصحيحة ولم تُحقق عقيدة الولاء والبراء

أبرز الآثار المترتبة على إهمال العمل بالأولويات:

  1. إنَّ فقدان فقه الأولويات يُحدِث خللًا بالغًا في الدعوة، ويوقع كثيرًا من الدعاة في اضطراب في المنهج؛ فتضيع بذلك الأوقات، وتُهدر الطاقات، ويُحدث ذلك أثرًا سلبيًا، وربما نتائج عكسية في دعوة من فَقَدَ ذلك.
  2. يؤدي غياب الأولويات إلى صراع ونزاع بين أفراد الأمة وجماعاتها وجعل الولاء والبراء على أساس هذا الخلاف، كالاختلاف على صلاة التراويح، ثمان أم عشرين؟ والسجود على الركبتين أم اليدين أولًا؟ ووضع اليدين أثناء القيام، وتحريك الأصبع في التشهد، وكلها سُنن! واجتماع كلمة المسلمين واجب، والواجب أعلى من السنة. فتضعُف الأمة ويذهبُ ريحُها ويتسلَّط عليها الأعداء، فيستبيحون دَمَها ومالها وعرضها كما هو الحال الآن، وهذا ما حذّر الله عزَّ وجلَّ منه، فقال: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال:46].
  3. إنَّ إهمال ترتيب الأولويات قد يؤدي إلى حدوث اضطراب في فهم الشريعة وأحكامها، فقد يقدَّم المندوب على الفرض، ويقدَّم المفضول على الفاضل، وتُترَك المكروهات قبل المحرَّمات.
  4. تكبير الخلاف الصغير، فيتحوَّل من خلاف فقهي سائغ إلى شقاق وقطيعة ونزال.
  5. تفويت الأجر: فإهمال ترتيب الأولويات قد يؤدي إلى الاهتمام بالعمل الأقل أجرًا، وترك العمل الأكثر أجرًا.

الخلاصة:

  • فقهُ الأولويات يُعين الداعية على ترتيب ما حقُّه التقديم وما حقُّه التأخير.
  • فقهُ الأولويات يمنحُ الداعية البصيرة في دعوته.
  • فقهُ الأولويات يُراعي واقع المدعوّ وفقه الموازنات بين المصالح والمفاسد.
  • إنَّ فقدان فقه الأولويات يُحدِث خللًا بالغًا في الدعوة، واضطرابًا في المنهج؛ فتضيع بذلك الأوقات، وتُهدر الطاقات، ويُحدث ذلك أثرًا سلبيًّا، وربما نتائج عكسية في دعوة من فَقَدَ ذلك.


[1] ينظر: فقه الأولويات، للقرضاوي ص(9)، وفقه الأولويات، لمحمد الوكيلي ص(16).

[2] ينظر: أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، للقرضاوي، ص(۳۸). والأولويات، دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة، للقرضاوي ص(۹)، وفقه الأولويات، للوكيلي، ص(16).

[3] ثابت عن مالك رحمه الله؛ نقله عنه القاضي عياض في «الشفا» (2/ 88)، وينظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (27/ 118).

[4] الفتاوى الكبرى، لابن تيمية (2/ 444).

[5] أحكام القرآن، للكيا الهراسي (1/ 227).

[6] المصدر السابق (1/ 125).

[7] تفسير القرآن (1/ 209).

[8] أخرجه البخاري (1496)، (7372).

[9] أخرجه البخاري (46).

[10] أخرجه أبو داوود (2438).

[11] أخرجه الحاكم في المستدرك (319) وصححه، ووافقه الذهبي.

[12] فقه الأولويات، للوكيلي ص(114).

[13] أخرجه أحمد (27508).

[14] أخرجه البخاري (1458)، ومسلم (31).

[15] إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 375).

[16] أخرجه البخاري (1584).

[17] أخرجه مسلم (285). ومعنى (لا تُزْرِمُوهُ): لا تقطعوا عليه بوله.

[18] أخرجه البخاري (3038).

[19] أخرجه البخاري (4905).

[20] أخرجه البخاري (25).

[21] أخرجه البخاري (7372).

[22] أخرجه البخاري (4993). والمقصود بالمفصَّل: سور القرآن القصيرة التي كثر الفصل بينها بالبسملة، سمي مفصّلً لكثرة فواصله، وفي تحديدها كلامٌ لأهل العلم.

[23] ينظر: المستفاد من قصص القرآن، عبد الكريم زيدان (2/ 409).

[24] أخرجه البخاري (3231).

[25] أخرجه مسلم (1780).

[26] ينظر: صحيح الأثر وجميل العِبر من سيرة خير البشر، محمد بن صامل السُّلَميُّ (163).

[27] أخرجه مسلم (1787).

[28] أخرجه البخاري (2711).

[29] أخرجه الترمذي (1580) وقال حسن صحيح.

[30] أخرجه مسلم (1738).

[31] أخرجه ابن حبان في صحيحه (5982).

[32] ينظر: البداية والنهاية، لابن كثير، (5/ 189).

X