لكي ننجح في بيع مُنتَجٍ ما، بدلاً من تصميمه بناء على افتراضاتنا حول ما يريده مستخدمو هذا المنتج، نقوم باستطلاع آراء المستخدِمين والخبراء لفهم حاجات المستخدمين» هذه هي الفكرة الأساسية لمنهجية التفكير التصميمي، التي انتقلت من مجال الصناعة إلى مجال تطوير المؤسسات وحل المشكلات الإدارية التي تواجهها ثم انتقلت إلى المجال الاجتماعي لتصميم حلول للمشكلات الاجتماعية
العدد الثاني
شعبان 1441 هـ – نيسان/أبريل 2020 م
د. ياسر العيتي[1]
بدأ استخدام منهجية التفكير التصميمي في عالم الصناعة في ثمانينيات القرن الماضي، وهي ترتكز على فكرة: «لكي ننجح في بيع منتجٍ ما، فبدلاً عن أن نصممه بناءً على افتراضاتنا حول ما يريده المستخدمون، نقوم ببحثٍ نستطلع فيه آراء المستخدِمين والخبراء بالمنتج ، فنفهمُ بالضبط حاجاتِ المستخدِمين، وما هي أفضل طريقةٍ لتلبيتها، وبناءً على هذا الفهم نصمِّم المنتَج الذي يلبِّي حاجاتهم، وبذلك تكون فرصتُنا في تسويق المنتج أفضلَ بكثير؛ لأنَّ التصميم سيكون مبنيًا على الواقع الحقيقي وليس على افتراضاتنا المسبقة عن هذا الواقع، والتي قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة».
مثلًا، إذا أردنا أن نُصمِّم أفضل كأسٍ للشُّرب، نتوجَّه بالسؤال للمستخدمين: ما الذي يريدونه في الكأس؟ ما تفضيلاتهم لحجمِه وشكلِه ولونِه والمادةِ التي يُصنع منها؟ ونسأل الخبراء في صناعة الكؤوس عن خبرتهم في هذه الصناعة: ما نوعية الكؤوس التي نالت إقبال الناس ولماذا؟ وما نوعية الكؤوس التي لم تنل إقبال الناس ولماذا؟ وبناء على مجموع الإجابات يصبح لدينا فهمٌ أفضل لما يريده الناس في كؤوس الشرب، وبناء على هذا الفهم نصمم الكأس المناسب.
من خلال من منهجية التفكير التصميمي تكون فرصتُنا في تسويق المنتج أفضل بكثير، لأنَّ التصميم سيكون مبنيًا على الواقع وليس على افتراضاتنا المسبقة عن هذا الواقع، والتي قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة
تتكون منهجية التفكير التصميمي من خمسة مراحل:
مرحلة الاكتشاف: وتبدأ بسؤال التحدي: كيف يمكننا أن نلبي حاجة معينة؟ مع تحديد أصحاب العلاقة والخبراء والأسئلة التي ستوجه إليهم، ثم تُجرى المقابلات معهم وتطرح عليهم الأسئلة.
مرحلة التفسير: وتعني تحليل الإجابات لمعرفة حاجات أصحاب العلاقة.
مرحلة التصور: وتشمل تصميم المنتج الذي يلبي حاجات أصحاب العلاقة.
مرحلة التجريب: وفيها يُجرَّب المنتج على مجموعة صغيرة منتقاة من أصحاب العلاقة لمعرفة آرائهم والاستفادة من هذه الآراء في تحسين المنتج قبل طرحه بكميات كبيرة.
مرحلة التطوير: تطوير المنتج باستمرار من خلال معرفة آراء أصحاب العلاقة بعد طرحه في السوق على نطاق واسع.
منهجية التفكير التصميمي في خطبة الجمعة:
انتقلت منهجية التفكير التصميمي من مجال الصناعة إلى مجال تطوير المؤسسات وحل المشكلات الإدارية التي تواجهها، ثم انتقلت إلى المجال الاجتماعي لتصميم حلولٍ للمشكلات الاجتماعية كالبطالة والجهل والعنف؛ وفي خطوةٍ طموحةٍ .. قُمنا بنقل هذه المنهجيّة إلى مجال تحضير خطبة الجمعة، فبدلًا من أن يُعِدُّ الخطيبُ الخطبة من بطون الكتب ، ومما يتوقع حاجة المجتمع إليه، يُشكِّل فريقًا ويُجري بحثًا في المجتمع حول الموضوع الذي يُريد أن يخطب فيه، فمثلًا إذا أراد أن يخطب عن ظاهرة الغلوّ، فيتوجه إلى أصحاب العلاقة: (شاب تأثر بالغلاة وانضم إليهم، عائلة هذا الشاب، أحد أصدقاءه، شاب تائب من جماعات الغلو، …)، ويتوجه إلى الخبراء: (عالم أو مفكر مطَّلع على أفكار الغلاة، مختصّ اجتماعي، مختصّ نفسي…)، ويطرح على كل واحدٍ من هؤلاء بضعة أسئلة تزيده فهمًا لهذه الظاهرة، وتُزوِّده ببعض الحلول لها. وبعد الحصول على الإجابات يقوم فريق إعداد الخطبة بتحليلها واستنباط أسباب ظاهرة الغلو منها، ووضع بعض الحلول التي تعالج هذه الظاهرة أو تقي من الوقوع فيها. ثم يستفيد منها الخطيب في إعداد خطبته.
تجارب متعددة:
جُرِّبت هذه المنهجية على موضوعات عدَّة في خطبة الجمعة، كالاحتكار، والغلو، والتآلفِ وجمع الكلمة، ولمسَ الخطباء من ذلك أثرًا كبيرًا في تطوُّر قدراتهم على فهم المجتمع، والقدرةِ على تشخيص المشاكل وطرح الحلول بناءً على فهم عميق لواقع المسألة المطروحة، وكذلك جعلهم أكثر قربًا من المستهدفين بخطبة الجمعة، سواء كانوا جزءًا من الحلِّ أو المشكلة.
إحدى التجارب العملية التي أجراها بعض الخطباء كانت على موضوع (التآلف وجمع الكلمة)، حيث أعدَّ خطبة عن الموضوع بالطريقة المعتادة، ثمَّ أعدَّها مرةً أخرى بطريقةِ منهجية التفكير التصميمي، فشكَّل فريقًا، وحدَّد الشرائح التي سيستهدفُها في الميدان، وكانت فئة الخبراء تتألف من: (متخصص في علم الاجتماع، ومتخصص في الشريعة، ومتخصص في علم النفس)، ثم حدَّد فئةً ممّن كانت لهم تجارب في ذلك، ناجحة كانت أو مخفقة، وحدد بعدها فئةً من المستهدَفين المباشرين بمثل هذا الطرح، ثمَّ صمم مع فريقه الأسئلة المناسبة لطرحها على هؤلاء جميعًا، بحيث تُساعد على تشخيص أصل المشكلة ، وتُعين على اقتراح الحلول، ثم حلَّل مع فريقه الإجابات، فخرجوا من ذلك بنتيجةٍ اتضح من خلالها كم كانوا بعيدين عن المجتمع لو طرحوا الموضوع من زاوية نظرهم الخاصّة، أو اعتمدوا على فهمهم لواقع الناس، وانعكس ذلك على مضمون الخطبة؛ حيث تغيّر تشخيص المشكلة وكذلك الحلول، وبدت الخطبة عميقة بفهم أطراف العلاقة جميعًا.
إن تحضير الخطبة وفق منهجية التفكير التصميمي تجعلها أكثر التصاقًا بالواقع وملامسة لحاجات الناس وأفكارهم ومشاعرهم، وبالتالي أكثر قدرة على التأثير فيهم.
وكانت إحدى التجارب كذلك في خطبة حول موضوع الاحتكار، سار فيها الخطيب على مراحل منهجية التفكير التصميمي، فجاءت النتيجة مُذهلة لمّا توجه الخطيب بكلامه للمحتكِرين أنفسِهم، وتوجَّه كذلك للمسؤولين وأصحاب النفوذ، وهكذا حتى أحاط بالمشكلة من جميع أطرافها.
إن تحضير الخطبة وفق منهجية التفكير التصميمي تجعلها أكثر التصاقًا بالواقع وملامسة لحاجات الناس وأفكارهم ومشاعرهم، وبالتالي أكثر قدرة على التأثير فيهم. كما أنَّها تعطي الخطيب دورًا اجتماعيًا وقياديًا يتجاوز مجرد إلقاء الخطبة من على المنبر، وبما أنَّها عملٌ جماعيٌّ يحتاج إلى فريق سواءً في مرحلة الاكتشاف أو التفسير والتصور فإنَّها تُدرب الخطيب والفريق الذي يعمل معه على العمل الجماعي، كما أنها تعطي الخطيب نظرةً شاملةً للموضوع الذي يتحدَّث عنه.
هكذا يكون التغيير والتأثير في المجتمع بفهمه والاحتكاك به ومعايشة مشاكله، ولو تأمَّلنا في هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم لوجدنا كيف كان يُخالط المجتمع بجميع فئاته فيسمع من هذا ومن هذا، أو يرسل أصحابَه ليأتوا له بخبر ما يغيب عنه؛ وهكذا كان الخطباء المؤثرون على مدى التاريخ فإن من أهم أسرار تأثيرهم يتجاوز مجرد مسألة التمكُّن من الإلقاء والفصاحة إلى قُدرتهم على فهم واقعهم ومحيطهم.
وفي سبيل تحويل هذه المنهجية إلى واقع عملي ملموس أجرى، فريقٌ مختصٌّ العديد من ورش التدريب لعدد من الخطباء لاقت إقبالاً واستحسانًا منهم، وأظهر تتبُّع أثر هذه الخطب تغيرًا ملموسًا في أداء العديد منهم، وآثاراً إيجابية في تلقي عموم الناس لهذه الخطب[2].
لو أجرينا دراسةً للخطباء المؤثرين على مدى التاريخ لوجدنا أنَّ سرّ تأثيرهم يتجاوز مسألة التمكُّن من الإلقاء والفصاحة إلى قُدرتهم على فهم واقعهم ومحيطهم
تطبيق المنهجية في مجالات أخرى:
طُبِّقَت عدة مبادرات في المجتمع السوري في المناطق المحررة ضمن هذه المنهجية في مجال التعليم في مراحل دراسية مختلفة، والمأمول تعميم التجربة بهذه المنهجية في مجال التعليم ومجالات الدعوة وسياقات العمل المجتمعي، من أجل إحداث تغيير عميق في المجتمع.
وإننا إذ نذكر بكل فخرٍ واعتزازٍ قيام العديد من مؤسسات المجتمع السوري – في ظل هذه المرحلة الضاغطة والأزمة الخانقة – بمثل هذه التجارب الرائدة، واستثمارها أحدث المنهجيات العالمية في التغيير، ما يؤكد على أنَّ شعوبنا قادرة على تقديم الكثير من الإبداع والإنجاز والتميز، وأنها مجال استثمار ضخم لكل من أراد إفادتها ومساعدتها على تخطي الأزمات والتقدم في مختلف المجالات.
[1] طبيب وكاتب سوري
[2] أجرت رابطة خطباء الشام تدريبًا على منهجية التفكير التصميمي للعديد من الخطباء في عدة مناطق من الشمال السوري المحرر، وتقوم الرابطة بمتابعة الخطباء بعد هذه الورش، وتشجيعهم على تطبيق ما تدربوا عليه.