تزكية

عطايا الله للمتقين

التقوى وصية الله لعباده، وهي مراتب، ولها ثمرات في الدنيا وثمرات في الآخرة، ولعل في بيانها والتذكير بها ما يشوّق العبد ويحفّزه لسلوك سبيله.

د. أيمن هاروش[1]

الوصية الخالدة التي وصى اللهُ بها عبادَه الأوَّلين والآخرين، وخصَّ بها المؤمنين، هي التقوى، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء:131].

وهي وصية الأنبياء جميعًا لأقوامهم، كما قصَّ علينا القرآنُ الكريمُ أخبارَهم، ولعل سِرَّ ذلك أنَّ التقوى هي غاية الغايات، فالغايةُ من خلق الإنسان هي عبادة الله تعالى، قال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، والغاية من العبادة هي الوصول للتقوى، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾ [البقرة: 21].

والتقوى سبب السعادة في الدارين، وكلُّ خيرٍ فرعٌ عن التحقُّق بالتقوى، وفي هذا المقال نُحاول أن نشير إلى الثمرات الطيِّبة التي يجنيها من تخلَّق بخُلُق التقوى، لعلَّ في بيانها مُشوقًا ومحركًا للسير على نهجها.

تعريف التقوى:

التقوى هي صيانة الإنسان نفسَه عن أذى أو شرٍّ يخافه، باتِّخاذ ما يحولُ بينه وبين ما يخاف[2] .

وأما المعنى الشرعي للتقوى فكثرت تعابير العلماء عنها، وهي ترجع إلى جعل وقاية بين العبد وبين عذاب الله، بفعل الطاعات وترك المعاصي.

التقوى مراتب:

بالنظر إلى جانب فعل الطاعات وترك المعاصي: يتبيَّن أن للتقوى مراتب، فما هي المرتبة التي يجب التحقُّق بها للوصول لدرجة التقوى؟

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]، وحقُّ التقاة كما جاء بيانه عن ابن مسعود رضي الله عنه: «أن يُطاع الله فلا يعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يكفر»[3].

وبما أنَّ هذه مرتبة عليا قد لا يُطيقها أغلب الناس، فقد جاءت الآية الأخرى موضحةً القدر الواجب من التقوى، فقال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، فبيَّن أنَّ التقوى مطلوبة على قدر استطاعة الإنسان.

وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستطاعة تكون في دائرة الأوامر، أما دائرة النواهي فيجب اجتنابها كلها، فالأوامر قد يشقُّ على الإنسان فعلُها على الوجه المطلوب، فيتوجَّه إليه الأمر بفعل ما يستطيع، أما النواهي فلم يكلَّف الله العبد ما لا يُطيق، ولم ينهه عن شيء لا يمكنه تركه.

قد يقال: إن ترك ما نهى اللهُ عنه كلَّه يقتضي ألا يقع الإنسان في معصية أبدًا، وهذا محال، فالعصمة للأنبياء فقط، فكيف يصل لهذه المرحلة؟

هنا لا بد من فهم حديث ابن مسعود السابق في ضوء نصوص أخرى، تبيِّن أن المتقين يرتكبون المعاصي، لكن لا يُصرون عليها، كقوله تعالى في وصف المتقين: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون﴾ [آل عمران: 133 – 135]، فالآية وصفت المتقين بأنَّهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله، فاستغفروا لذوبهم، وبأنهم لم يُصرُّوا على الذنب، وفيها معنيان اثنان:

المعنى الأول: أن المتقين يقعون في المعصية، وهذا من الطبيعة البشرية، ودلالة ذلك من أداة الشرط (إذا)، فالأصل فيها أنها تدخل على متحقِّق الوقوع، أي: شرطها مقطوع بوقوعه، بخلاف (إنْ)، فشرطها ليس مقطوعًا به[4].

 والمعنى الثاني: أنهم لا يُصرون على المعصية، بل يدركون خطأهم مباشرةً، ويعودون للتوبة، وهذا هو الفرق بين معصية المتقين ومعصية الفاسقين.

فالاجتناب في الحديث السابق هو ترك المعصية وعدم الإصرار عليها إن وقع فيها العبد، وهذا هو ما دل عليه الحديث النبوي: (كُل بني آدمَ خطَّاء, وخيرُ الخطّائينَ التَّوابونَ)[5].

 وبذلك يمكن القول: التقوى هي فعل ما أمر الله به على قدر الاستطاعة، وترك ما نهى الله عنه، مع الاستغفار وعدم الإصرار إن وقع في الذنب.

والمعنى السابق للتقوى حالة يختلف الناس في تحقيقها، لذا يمكن جعل التقوى على ثلاث درجات:

1- البراءة من الشرك:

الشرك هو المعصية التي لا يغفرها الله تعالى، ولا تجتمع مع الإسلام والإيمان: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، فتركها مطلوب من المسلم تركًا قطعيًا، ولا يصحُّ إيمان المسلم إلا بترك كل أنواع الشرك، وهذه مرتبةٌ لا بدّض من تحقيقها، ولا يُقبل إسلام المرء إلا بها.

2- التقوى من المعاصي:

كلُّ ما عدا الشرك يغفرُهُ الله للعبد إن وقع فيه واستغفر منه، والمتَّقي يُجاهد نفسه حتى لا يعصي الله تعالى، ويستغفر إن ألمَّ بمعصية.

3- الابتعاد عن الشبهات:

من خُلُق المؤمن التقي أن يترك الشُّبهات، وهي أمور ليست محرَّمة قطعًا، ولكنها ليست حلالًا خالصة، أي التبس فيها الحلال بالحرام، فترك الشبهات أنقى وأتقى، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (لا يَبلغُ العبدُ أن يكونَ مِن المتقينَ حتى يَدعَ ما لا بَأسَ به حذرًا مما بِه بَأس)[6]، وقال صلى الله عليه وسلم : (دَع ما يَريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ)[7].

وهذه المرتبة هي ما تسمى بالوَرع، وهي أعلى درجات التقوى

قال الإمام مالك للشافعي رحمهما الله تعالى أول ما لقيه: “إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بظلمة المعصية”

ثمرات التقوى

التقوى جماع الخير كله، أي هي التي جمعت كل الخير، فمن أراد خير الدنيا وخير الآخرة فسبيله التقوى.

ويمكن تقسيم هذه الثمار لمجموعتين: ثمرات دنيوية، وثمرات أخروية.

فأما الثمرات الدنيوية:

فمن أهم ما تثمره شجرة التقوى من ثمرات في الدنيا لمن حققها، ما يلي:

أ- العلم: قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 282].

من سَلك طريق العلم وحرص وجدَّ نالَ مراده، وهذا القَدر يستوي فيه التّقي وغير التّقي، بل المسلم والكافر، إلا أن هناك علمًا أو جانبًا من العلم لا يصل إليه العبد مهما جدّ وتعب، إلا بالتقوى، وهو النور الذي يقذفه الله تعالى في قلب المؤمن، فيدرك من أسرار العلوم وحقائقها ما لا يدركه غيره، قال الإمام مالك للشافعي رحمهما الله تعالى أول ما لقيه: «إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بظلمة المعصية»[8].

وللتقوى أثر أعمق في فهم العلوم، وهو أنها تُنير قلب صاحبها ليُبصر الحق من الباطل، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: 29]، والفرقان كما قال بعض المفسرين: «هدى في قلوبهم يفرقون به بين الحق والباطل»[9].

ب- الرزق: قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ٢ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2-3].

ليست حقيقة الرزق في مقدار ما يعطيه الله للعبد من المال والذي قد يستوي فيه المسلم والكافر، والطائع والعاصي، بل حقيقة الرزق أن يجدَ العبدُ الراحة في طلبه وكسبه وإنفاقه، وأن يستمتع به، وهذا لا يُعطيه الله إلا للتَّقي، فمن أعطي التقوى فقد أعطي في رزقه أمورًا كثيرة منها:

يأتيه من حيث لا يحتسب، ويسوقه له من طرق ما كان يخطر بباله أنه يأتي منها.

البركة في رزقه، وهي مفهوم معنوي له أثر مادي، فالمال المبارك يكفي صاحبَه أضعاف غيره.

 أن ينتفع به في وجوه تعود بالفائدة عليه في بدنه ودينه ودنياه.

أن يصرف عنه من السوء والبلاء ما لو وقع لكان يستهلك رزقه وماله.

يُوفِّقه لإنفاقه في الخير والمعروف، فالتوفيق لاستثمار المال بالخير رزق من الله وتوفيق.

الرزق أن يجدَ العبدُ الراحة في طلبه وكسبه وإنفاقه

ت- الفرج: قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2].

جبل الله تعالى الحياة على المحن والكروب، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4]، ولربما تشتدُّ على العبد حتى يفقد صبره وتهلكه، لكن التقي الذي استنار قلبه بنور الطاعات، يجعل الله له من همه فرجًا ومن ضيقه مخرجًا، ويدافع عنه ويرد عنه، ويرزقه من برد اليقين ما يهون عليه المصائب والمحن.

ث- مغفرة الذنوب: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنفال: 29]

وقد نتساءل ما أثر التقوى هنا؟ فإذا كان الله تعالى يغفر لكل من تاب وأناب فما فضيلة التقوى؟

 ولعل أثر التقوى أن الله تعالى لا يترك المتقين فريسة للشياطين وأهوائهم، بل يلهمهم التوبة والاستغفار فورًا، فهم بتقواهم أعز على الله من أن يتركهم للهلكة، بخلاف أهل الضلال يمدهم في الضلالة مدًا، كما قال عن إخوان الشياطين ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 202].

من آثار التقوى أن الله تعالى لا يترك المتقين فريسة للشياطين وأهوائهم، بل يلهمهم التوبة والاستغفار فورًا،

ج- تعظيم الأجر: قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ [الطلاق: 5].

قال ابن كثير: «ويجزل له الثواب على العمل اليسير»[10].

إن الحسنات تتضاعف لأهل التقى والإيمان كقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد: 18]، كما يتضاعف العذاب للكافرين، قال تعالى: ﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾ [هود: 19-20]، ولعل من مضاعفة الأجر التوفيق بسبب التقوى لأعمال البر والخير فيزداد ثوابه، كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى٥وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى٦فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ [الليل: 5-7]، أو بالتوفيق للإخلاص والصدق في نفس الطاعة فيعظم قدرها وأجرها.

ح- الهداية: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد: 28].

من التزم الطاعات وترك المنكرات، قذف الله في قلبه نورًا يهتدي به، وكافأه الله على تقواه بالهداية للحق والثبات عليه، ولقد بين الله تعالى أن القرآن وإن كان قد نزل هداية للعالمين لكن في الواقع إنما ينتفع ويهتدي به المتقون، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]، فالتقوى جعلت من قلب صاحبها محلًا أثمر فيه الكتاب وأينع.

خ- المحبة: قال تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 76].

إن أسمى ما تسمو له أنظار العارفين، هي أن يدخلوا في زمرة من أحبَّهم الله تعالى، فليس الأمر أن تُحِبَّ بل الأمر أن تُحَبَّ، ولنتأمل هذا المعنى الكبير من الحديث القدسي: (وما تقرَّب إليَ عبدي بشيءٍ أَحبَّ إلي مما افترضتُ عليه، وما يزالُ عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبَّه، فإذا أحببتُه: كنتُ سمعهُ الذي يسمعُ به، وبصرهُ الذي يُبصر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورجلَه التي يمشي بها، وإن سألني لأُعطِينَّه، ولئن استعاذَني لأُعيذَنه)[11].

فأي فضل أعظم من أن يُصبح العبد ينظر ويسمع بنور الله، ويمشي ويبطش بتوفيق الله، ولا يُرد له طلب، ويكون في كنف الله ورعايته؟!

د- المعية: قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 194].

كثيرة هي المصاعب التي تعترض حياة الإنسان، والإنسان بطبعه عاجز وضعيف، لذا ما أحوجه لمن يعينه ويؤازره، وليس هناك ركن أقوى ولا أمنع من الله تعالى، فمن كانت معه معية الله ما ضرَّه أحد أبدًا، وامتلأ قلبه باليقين الذي يجعله يحتقر كل المخاطر، ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62]، ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40].

ذ- السعادة: قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَة﴾ [النحل: 97].

السعادة مطلبُ كل ساعٍ في هذه الحياة، وقل من يسلك طريقها الصحيح وهو التقوى، فالسعادة راحة في القلب وطمأنينة في النفس، وسكينة لا يمنحها الله تعالى قلبًا مظلمًا بعتمة المعصية، بل كلما استنار القلب بنور الطاعات كلما وجد السعادة في الدنيا.

قد يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أنَّ السعادة تكون في أمور مادية، كما في حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مِن سعادةِ ابنِ آدمَ ثلاثة، ومن شِقوةِ ابنِ آدم ثلاثة، من سعادة ابن آدم: المرأةُ الصالحة، والمسكنُ الصالح، والمركب الصالح، ومن شِقوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء) [12]؟

فيقال: إن هذه فروع، والأصل هو التقوى، فإن وجدت مع الأصل طابت به وطابت بها الحياة وكانت نورًا على نور، وإن عُدم الأصل فلا ينفع الفرع، بل ربما ينقلب عكس مقصوده.

ر- الولاية: قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الجاثية: 19].

يلجأ الطفل لوالده، والمظلوم للحاكم، فيشعرون بالأمان؛ لأنَّهم يرون فيمن ولي أمرهم العلم والحكمة والقدرة والقوة والإعانة والتعليم، فكيف لو كان وليُّك هو الله تعالى؟

 الولاية المعنية هنا، كالمعية التي سبق الحديث عنها؛ ليست ولاية ومعية العلم والتدبير فحسب، وهما اللتان يشترك فيهما الخلق جميعًا، بل ولاية ومعية النصرة والرعاية والتأييد، وهاتان لا تكونان إلا للمتقين.

ز- العاقبة الحسنة: قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود: 49].

في صراع الحق والباطل، قد يكون للباطل جولات وصولات، وقد يكون للحق آلام وآهات ونكبات، وذلك لحكم جليلة يريدها الله تعالى، لكن نهاية المطاف لا بد أن ينتصر الحق ويزهق الباطل، ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: 135].

ولهذا أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قصص من قبله من الرسل ليثبِّت فؤاده مما لاقاه من أذى الكفار، وختم إحدى القصص بالآية التي سبقت: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود: 49].

وأما ثمرات التقوى الأخروية:

أ- الحشر وفدًا: قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ٨٥ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾ [مريم:85، 86].

لا يكن المتقون في مأمن من أهوال القيامة فحسب، بل يأتون إلى الله تعالى في المحشر وفدًا، أي مكرمين راكبين على نجائِب مخصصة، وقيل مراكب من نور، فلنتأمل الفرق بين الحشر في غاية التكريم، وبين سوق المجرمين في غاية الذل: ﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾.

ب- النجاة من أهوال القيامة: قال تعالى: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الزمر: 60، 61].

فأهوال يوم القيامة يراها صاحب التقوى لكن لا تمسه، قال تعالى: ﴿لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون﴾، وهي كقوله في غيرها عن المؤمنين: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: 103].

ت- اجتياز الصراط: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ٧١ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ [مريم: 71، 72].

حين يضرب الصراط جسرًا على نار جهنم، ويأمر الله العباد بالمرور فوقه، فهناك يجد صاحب التقوى آثار صبره على الطاعات وعن المعاصي؛ إذ تنير أعماله الصالحة الطريق أمامه فيبصر الصراط، ويعبر فوقه إلى الجنة، ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ [الحديد: 12]، ولا يجد أهل النفاق نورًا يبصرون به الطريق، فيطلبون النور من المؤمنين، ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ [الحديد: 13]، ولكن هيهات! فهذا النور حملوه معهم من الدنيا بالمحافظة على الطاعات وترك المنكرات، ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ [الحديد: 13]، وهنا يكون القرار والحكم الفصل والعدل من الله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾.

ث- شفاعة الإخوان: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67].

من صاحب المتقين نال من خيرهم وسعادتهم، فهم القوم لا يشقى جليسهم، كما قال بعض السلف: «استكثروا من الإخوان، فإن لكل مؤمن شفاعة»[13].

ج- مقعد صدق: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ٥٤ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 54، 55].

آخر ما يستقر بالمؤمنين المقام في الجنة، في جوار المليك العلام، ولنتأمل (عند) لنرى حسن المقام وطيب الختام.

لعل في هذه الجولة السريعة والمختصرة، وضعنا بين يدي القارئ الكريم بيان الثمرات التقوى في الدنيا والآخرة لتكون محفزًا له على سلوك سبيل التقوى، والفوز بها، ليكون ممن قال تعالى فيهم: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ [الفتح: 26].


[1] دكتوراه في الشريعة والقانون تخصص أصول الفقه، أستاذ مساعد بكلية العلوم الاسلامية جامعة آغري.

[2] ينظر: لسان العرب، لابن منظور، مادة (وقى)، (15/401)، وفتح المتعال على القصيدة المسماة بلامية الأفعال، لحمد بن محمد الصعيدي المالكي، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، 1417هـ، ص (241).

[3] تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، لابن كثير (2/87).

[4] بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح، عبد المتعال الصعيدي (1/169).

[5] أخرجه الترمذي (2499)، وابن ماجه (4251)، وصححه الحاكم في المستدرك (4/272).

[6] أخرجه الترمذي (2451) وقال: حديث حسن غريب.

[7] أخرجه الترمذي ( 2518) وقال :  حديث صحيح.

[8] إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (4/199).

[9] زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي (2/ 204).

[10] تفسير ابن كثير (8/152)

[11] أخرجه البخاري (6502) .

[12] أخرجه أحمد (1445)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/272): «رواه أحمد، والبزار، والطبراني في الكبير، والأوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح».

[13]  مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة ص (99)، وقد ورد مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره السيوطي في الجامع الصغير وعزاه لابن النجار عن أنس ورمز لضعفه، ينظر: الجامع الصغير المطبوع مع فيض القدير، للمناوي (1/500).

X