للمسلم نظرة خاصة للكون والحياة، تنطلق من عبوديته لله تعالى، واستخلافه في الأرض لعمارتها والاستعانة بما فيها لعبادة الله والفوز في الآخرة؛ فما على الأرض من المخلوقات والثروات مسخَّر له بأمر الله، وهو مُستأمن عليه، يسير فيه بهدي الإسلام ونور الوحي، وفي هذه المقالة توضيح للأسس التي تضبط تصوُّر المسلم وتعامله مع ما يحيط به من كون ومخلوقات.
يتنادى العالم للالتقاء على مشتركات تحمي سكان الأرض من الآثار السيئة للتعامل مع البيئة، ويجتمع زعماء العالم في مؤتمرات دولية مختصَّة في مجال البيئة، أشهرها ما أطلق عليه اسم قِمّة الأرض[1]، ولكلِ مُدافع عن نقاء البيئة منطَلَقُه الذي ينبع من اعتقاد أو مصلحة أو فكرة أو غير ذلك من المنطلقات البشرية.
غير أنَّ الإنسانية بحاجة إلى الاسترشاد بهدي الوحي لضبط حركة الإنسان وتعامله مع الكون، فيُصلح بهدي الإسلام ما أفسده الإنسان في بيئته وينطلق إلى استثمار هذا الكون في عبادة الله وإعمار الأرض.
والبيئة في مفهومها العام هي: “الإطار الذي يعيش فيه الإنسان، ويحصل منه على مقوِّمات حياته من غذاء وكساء ودواء ومأوى، ويمارس فيه علاقاته مع أقرانه من بني البشر”[2].
وتُعرَّف البيئة في دائرة المعارف البريطانيَّة بأنها: “مجموع العوامل الطبيعيَّة والكيميائيَّة والحيويَّة التي تعمل على كائنٍ حيٍّ أو مجتمعٍ بيئيٍّ، وتُحَدِّد بشكل تامٍّ شكله وبقاءه”[3].
فالبيئة جزء من الكون وعلاقة الإنسان بها تظهر من خلال نظرة الإنسان للكون، وسنورد بعض المنطلقات المتعلقة بالعقيدة والفكر وفلسفةِ الفَهمِ العام للإسلام، ولعل الجانب الفقهي والأخلاقي والوظيفي المتعلق بعلاقة الإنسان مع البيئة هو أثر من آثار تلك المنطلقات، فترشيد الاستعمال للموارد جانب أخلاقي مرتبط بمنطلق استخلاف الإنسان في الأرض، والنهي عن الإسراف كالزيادة عن ثلاث مرات في غسل الأعضاء في الوضوء مثلاً جانب فقهي مرتبط بمنطلق عبودية الإنسان لله.
تعامل الإنسان مع البيئة عائد إلى معتقداته وتصوراته:
الخلل الواقع في التعامل مع البيئة هو نتاج النظرة الخاطئة للكون وما يترتب على تلك النظرة من تصرفات.
فالمعتقدات هي التي تضع الإطار العام لنظرة الإنسان للكون، فإذا كانت المعتقدات وضعية تخضع للأهواء والمصالح الشخصية والعقول البشرية والتجارب القاصرة على الأمكنة والأزمنة فهي ناقصة مهما حاول أصحابها تقديمها في قالب زخرفي.
وأما إذا كانت المعتقدات مستمدة من وحي خالق الكون والإنسان والبيئة -خالق كل شيء سبحانه- فلا شك أنها تملك من المعايير الدينية والأخلاقية ما يحافظ على توازن البيئة والمحافظة عليها.
قال الله تعالى: ﴿ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ﴾ [الروم: 41]. جاء في تفسير هذه الآية: “ويجوز أن يكون المعنى أنَّ الله تعالى خلق العالم على نظامٍ مُحكَمٍ مُلائمٍ صالحٍ للناس، فأحدث الإنسان فيه أعمالاً سيئة مفسدة… فأخذ الاختلال يتطرق إلى نظام العالم”[4].
المعتقدات هي التي تضع الإطار العام لنظرة الإنسان للكون؛ فإذا كانت مستمدة من وحي خالق الكون والإنسان والبيئة -خالق كل شيء سبحانه- فلا شك أنها تملك من المعايير الدينية والأخلاقية ما يحافظ على توازن البيئة والمحافظة عليها.
-
النظرة المادية:
المعتقَد السائد في الحضارة المادية يميل إلى اعتبار سيطرة الإنسان على البيئة سيطرةً مطلقةً من القيود، يتحكَّم فيها على النحو الذي يريد، بعيدًا عن الأخلاق والمعتقدات الدينية، فظهر أثر ذلك في الفساد في الأرض والاختلال الواضح في عناصر النظام البيئي، وأضحت الموارد الطبيعية عرضة للتهديد في بقائها وتجددها واستقرارها ونمائها وهذه هي العوامل الأربعة الأساسية في التوازن البيئي[5].
من أمثلة الفساد البيئي عند أصحاب النظرة المادية للكون: الاستهلاك المفرط للموارد الطبيعية، بدوافع الجشع وحب السيطرة وجني المال، دون نظر في مآلات هذا الفعل على تلوث البيئة وإفساد معيشة الناس والارتفاع الحراري، ويعتبر تدخل الإنسان المباشر في البيئة سببًا رئيسًا في اختلال التوازن البيئي، فتغيير معالم الطبيعية من تجفيف للبحيرات وبناء السدود، واقتلاع الغابات وردم المستنقعات واستخراج المعادن، ومصادر الاحتراق، وفضلات الإنسان السائلة والصلبة والغازية، بالإضافة إلى استخدام المبيدات والأسمدة، كلها عوامل تؤدي بالضرورة إلى اختلال التوازن البيئي[6].
-
النظرة الخرافية:
في مقابل النظرة المادية تقف النظرة الخرافية التي تجعل الكون هو المتصرِّف في أفعال العباد، فيخضع له أصحاب هذا الاعتقاد خضوع المستسلم الذي يخاف غوائل الكون؛ كما كان أهل الجاهلية يعتقدون عندما يرون كسوف الشمس، قال الخطّابي: “كانوا في الجاهلية يعتقدون أنَّ الكُسوف يوجب حُدوث تغير في الأرض من موت أو ضرر”[7]، وكذلك من يخضع اليوم لفيضانات الأنهار المقدسة في اعتقاده ولا يحاول أن يمنع دمارها بحجة أنها هي المتصرِّف فيه وفي أفعاله.
منطلقات أساسية للتصور الشرعي:
من أبرز المنطلقات التي يتبناها المسلم لتحقيق التعامل الأمثل مع البيئة حفاظًا عليها، واستثمارًا لها، وحمايةً لمعطياتها من غير إجحافٍ أو تقصير:
-
المنطلق الأول: البيئة أحد مخلوقات الله:
ينطلق المسلم في نظرته للوجود من إيمانه بوحدانية الخالق سبحانه، وكل شيء سواه فهو مخلوق، وبالتالي فلا يخطر في قلبه تأليه غيره سبحانه وتعالى، ومنشأ ضلال كثير من الناس هو تأليه غير الله عز وجل: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾ [الفرقان: 3]، فالبيئة ليست خالقةً، وإنما مخلوقةٌ مربوبةٌ لله تعالى طائعة، ويتعبَّد الإنسان لله في امتثال أمره -في ما يتعلق بالبيئة وغيرها- طلبًا للثواب وتحقيقًا لعبوديته لله؛ فهو الخالق وهو المشرّع سبحانه، وهو أعلم بما يصلح الخلق من الأفعال والتصرفات ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].
ويظهر الخلل في مخالفة هذا المنطلق حينما ينظر الإنسان إلى البيئة أنها خالقة، فيعبدها من دون الله – كما عبد أقوام الشمس أو القمر- ويحدث الخلل في التعامل مع البيئة بحيث يُترك لها العنان دون ضوابط علمية أو شرعية فيهلك الإنسان، كما يُذكر عن تقديس مَن عَبَدَ الأنهار فيتركها تفيض لتهلك الزرع والضرع دون حدود، ومن يعبد البقر فيحرّم على نفسه ذبحها أو الفئران فلا يقتلها؛ فيختل التوازن البيئي، فضلاً عن الضلال الكبير في عبادة غير الله ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصلت: 37].
يقول الدكتور أحمد شلبي: “حظيت البقرة في الهند بأسمى مكانة، وهي من المعبودات الهندية التي لم تضعف قداستها مع كر السنين وتوالي القرون، ففي الويدا حديث عن قدسيتها والصلاة لها. ولا تزال البقرة حتى الآن تحتفظ بهذه القدسية”[8].
وينقل عن المهاتما غاندي قوله: “عندما أرى بقرة لا أعدُّني أرى حيوانًا؛ لأني أعبد البقرة وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع”[9]، وهذا يدل على انحراف التفسير لظواهر الكون انطلاقًا من الاعتقاد بأن الطبيعة وهي الكون -والبيئة جزء منها- هي الآلهة التي تستحق الخضوع لها والعبادة.
وهذه النظرة لا تقتصر على الوثنيات القديمة، بل وُجدت في بعض الفلسفات الحديثة التي حاولت تفسير الوجود بنسبة الخَلق إلى الطبيعة، أو أنها أوجدت نفسها بنفسها، ومن ذلك تسميتُها بالطبيعة الأم.
-
المنطلق الثاني: البيئة مسخرة للإنسان بموجب الاستخلاف في الأرض لعمارتها لا لخرابها:
هذا التسخير يبدو واضحًا في قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 13].
“فكلُّ شيءٍ في هذا الوجود منه وإليه، وهو مُنشئُه ومُدبّرُه، وهو مُسخّره أو مُسلّطُه. وهذا المخلوق الصغير.. الإنسان.. مُزوَّدٌ من الله بالاستعداد لمعرفة طرفٍ من النواميس الكونية، يسخر به قوى في هذا الكون وطاقاتٍ تفوق قُوَّته وطاقته بما لا يقاس! وكل ذلك من فضل الله عليه”[10].
فالكون هو بيئة الإنسان ومجال عمله، وهو مُستخلف فيها ومُستخلف عليها، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30]. وقال جل شأنه: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الحديد: 7].
يقول سيد قطب رحمه الله: “إنَّ التصوُّر الإسلامي يجعل وظيفة الإنسان في الأرض هي الخلافة عن الله بإذن الله وفق شرط الله، ومن ثمَّ يجعل العمل المنتج المثمر وتوفير الرخاء باستخدام كل مقدرات الأرض وخاماتها ومواردها، بل الخامات والموارد الكونية كذلك، هو الوفاءُ بوظيفة الخلافة، ويعتبر قيام الإنسان بهذه الوظيفة وفق منهج الله وشريعته حسب شرط الاستخلاف طاعةً لله ينالُ عليها العبد ثواب الآخرة”[11].
فالاستخلاف مقصدٌ من مقاصد وجود الإنسان للقيام بوظيفة عمارة الأرض استثمارًا ونماء ومحافظة ورعاية.
“إنَّ التصوُّر الإسلامي يجعل وظيفة الإنسان في الأرض هي الخلافة عن الله بإذن الله وفق شرط الله، ومن ثمَّ يجعل العمل المنتج المثمر وتوفير الرخاء باستخدام كل مقدرات الأرض وخاماتها ومواردها… هو الوفاءُ بوظيفة الخلافة، ويعتبر قيام الإنسان بهذه الوظيفة وفق منهج الله وشريعته حسب شرط الاستخلاف طاعةً لله ينالُ عليها العبد ثواب الآخرة”
سيد قطب
ويظهر أثر هذا المنطلق بموجب استخلاف الإنسان في الأرض ألا يفسد فيها ويحافظ عليها؛ وأي تعدٍ أو طغيان أو خلل في التعامل مع البيئة هو مخالفةٌ لوظيفة الاستخلاف.
فالإنسان بمثابة القيّم على ما تحت يده من عناصر البيئة، يرفع عنها الخلل في الاستعمال والاستغلال والتصرف.
فقد جاء النهي عن تعذيب الحيوان، وذبحه لغير هدفٍ مشروعٍ، أو ضررٍ واقع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غَرَضًا)[12] ، وهذا يصب في المحافظة على التوازن البيئي، مع ما يحصل للمسلم من الأجر بترك ما نهى الله عنه.
ومن باب استثمار المسلم للبيئة وإعمار الأرض طاعةً لله وطلبًا للثواب، جاء الحثُّ على الزراعة والغرس[13] وقام الخلفاء والحكَّام المسلمون باستصلاح الأراضي المفتوحة في بلاد الشام وسواد العراق وغيرهما.
ومن ذلك حثُّ الإسلام على التوسُّط في الإنفاق، فلا إسراف ولا تقتير ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67]، ولا شك أن من مقاصد ذلك المحافظة على الموارد الطبيعية حتى تكفي هذه الموارد أكبر قدر من الناس، سواء كانت هذه الموارد منتجات نباتية أو حيوانية، أو مما يخرج من الأرض من المعادن أو الوقود الأحفوري وغيره.
بل كفّ الإسلام يَدَ السفيه الذي لا يُحسن التعامل بالمال بمفهومه العام[14]، فقد منع الإسلام تسليم الأموال لأهل السفه وفرض عليهم الحَجْر حتى لا يتصرَّف أحدهم بالمال تصرُّفًا يؤدِّي إلى تبديده أو استعماله في الضرر المحض ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5].
-
المنطلق الثالث: الحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه الله:
إنَّ من لوازم الإيمان بربوبية الله تعالى وأنَّه هو الخالق سبحانه: الإقرار بأنَّ ما شَرَعَه لعباده من الحلال والحرام هو بحكمته سبحانه لمصلحة الإنسان ومنفعته، وما أحلَّه لعباده فنفعُهُ يَرجعُ إليهم، وما حرَّمه عليهم إنما هو لما فيه من ضرر وخبث ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: 157]، قال في التحرير والتنوير: “ولما كان الإسلام دين الفطرة ولا اعتداد بالعوائد فيه، ناط حالَ المأكولات بالطيب وحرمتها بالخبث، فالطيب ما لا ضُرَّ فيه ولا وخامة ولا قذارة، والخبيث ما أضر، أو كان وخيم العاقبة، أو كان مستقذَرًا لا يقبله العقلاء”[15].
يتضح أثر هذا المنطلق في الضرر الحاصل في البيئة: نتيجة استباحة ما حرَّم الله وعبث الإنسان واتِّباع هواه في الحظر والإباحة؛ حيث يتم تغليب المصالح الشخصية وإهمال النظر في النفع والضر المحض.
فمن الحكم المتوخاة في تحريم الخمر والخنزير والميتة والدم: ما تؤدي إلى الضرر والشر في حياة الإنسان وبيئته.
نجد أمثلة ذلك في الإغضاء عن انتشار الأمراض التي تفتك بالبشر وبالحيوانات نتيجة ارتكاب المحرمات ومخالفة الفطرة طمعًا في الثروة، فتقنين المثلية الجنسية، وإباحة الإجهاض، ونشر الرذيلة مما يؤدي إلى انتشار الأمراض: إضرار بالإنسان، فضلاً عن مخالفة الشريعة، وإطعام الحيوانات المأكولة ما لا يصلح لها –مخالفة للفطرة- أدى إلى أمراض مثل جنون البقر، وكذا طريقة ذبح مأكول اللحم بغير هدي الشريعة الإسلامية.
-
المنطلق الرابع: علاقة الإنسان بالبيئة علاقة اعتبار وتذكير:
وردت الآيات في مواضعَ كثيرةٍ في القرآن تأمُرُ بالنظر في الكون للاعتبار والاستدلال على الحقائق العقدية، من خلال التفكّر والتحليل والاستنباط ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ١٧ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ١٨ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ١٩ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية: 17-20]، قال الطاهر بن عاشور رحمه الله: “والنظَرُ: نَظَرُ العَينِ المُفِيدُ الاعتِبارَ بِدَقائِقِ المَنظُورِ، وتَعْدِيَتُهُ بِحَرفِ (إلى) تَنبيهٌ على إمعانِ النظَرِ لِيشعُرَ الناظِرُ مِما في المَنظُورِ مِنَ الدقائِقِ”[16].
ومع معرفة عناصر البيئة اليوم علميًا وخصائص هذه العناصر وكيفية توظيفها لصالح البشرية، أصبح النظرُ في الكون مدعاةً للإيمان أكثر مما مضى، وكم من الناس دخل في الإسلام من خلال النظر في الكون وآيات الله المنظورة ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
وأصبح لوسائل الشرح والدراسة من الأفلام الوثائقية والبرامج العلمية المتعلقة بالإنسان والبيئة والفضاء ما يُعتبر حجّةً لحمل الناس على الإيمان، ومعرفتهم بالله، وزيادةُ طمأنينةٍ للمؤمنين أن لهذا الكون خالقًا يستحقُّ وحده العبادة ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: 19].
وقد استخدم بعض علماء الطبيعة عباراتٍ تدلُّ على كراهية الطبيعة أو التحدِّي لها، مثل: قَهَرنا الطبيعة وتغلَّبنا عليها، وألفاظ التشاؤم مثل: التخويف من الكوارث القادمة والموارد الشحيحة وغُول أو غضب الطبيعة.
مع معرفة عناصر البيئة اليوم علميًا وخصائص هذه العناصر وكيفية توظيفها لصالح البشرية، أصبح النظرُ في الكون مدعاةً للإيمان أكثر مما مضى، وإنما علاقة الاعتبار والتذكير للمسلم بالطبيعة تحمل على محبة هذه المخلوقات، ولا يصحُّ التشاؤم بمظاهرها ولا كراهيتها أو تحدِّيها
وإنما علاقة الاعتبار والتذكير للمسلم بالطبيعة تحمل على محبة هذه المخلوقات؛ يدل على ذلك ما ورد في الحديث عَن طَلْحَةَ بنِ عُبَيدِاللهِ رضي الله عنه أَن النبي صلى اللهُ عليه وسلم كان إِذا رَأى الهِلالَ قال: (اللهم أَهِلَّهُ علينا بالأَمنِ والإِيمانِ، والسلامةِ والإِسلامِ، رَبِّي ورَبُّكَ الله)[17].
فالعبارة تدل على المحبَّة للهلال المتولِّد والتفاؤل برؤيته؛ وليس بما تنطِق به عبارات بعضُ علماء البيئة، أو بعض الجَهَلة.
ولا يصحُّ التشاؤم بمظاهر الكون خلافًا لما كان في أهل الجاهلية من التشاؤم وربط الأحداث الكونية بالموت والدمار، مثل كسوف الشمس؛ لما كسفت الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إِن الشمسَ والقمرَ لا يَنكسِفانِ لِمَوتِ أَحدٍ مِن الناسِ، ولكنهُما آيَتانِ مِن آياتِ اللهِ، فإِذا رَأَيتُمُوهُما فَقُومُوا فَصَلُّوا)[18] ، فالبيئة ليست مسيطرةً على حركة المخلوقات.
وعلاقة التذكير مع البيئة تظهر في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: 44]، وهذا يتمثل في خضوع الكون كله بمخلوقاته وأحيائه وجماداته، وتوحيدها وتسبيحها له، وهنا يشعر المؤمن حين يتعامل مع هذه المخلوقات بأن عليه أن يعاملها بالرفق والاعتدال، فيستفيد منها بقدر حاجته ولا ينهكها فوق طاقتها، وقد جاء في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على قومٍ وهم وقوفٌ على دوابٍّ لهم ورواحل، فقال لهم: (اركبوها سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرُبَّ مركوبةٍ خيرٌ من راكبها وأكثرُ ذكرًا لله منه)[19].
كما أن بعض عناصر البيئة يعين الإنسان في تنظيم معيشته، قال تعالى: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ١٥ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: 15-16]، وفي قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: 189]. فمعرفة مواقيت العبادات مثل أوقات الصلاة بحركة الشمس، ودخول شهر رمضان وأشهر الحج وحَولِ الزكاة بحركة القمر، وتحديد القبلة بالنظر في النجوم.
تظهر آثار علاقة اعتبار الإنسان بالبيئة: في اتخاذ معلومات البيئة لتكون طريقة في الدعوة إلى الله، والتذكير بالعبادات وأوقاتها، والتعليم للناس، واستخدام الوسائل العلمية المناسبة لذلك في إثبات الأهلة وأوقات الصلاة وإعلانها، وصحة عبادة المسلم من صلاة وصيام وحج وغيرها.
وقد كان في أهل الجاهلية مَن جعل النظر في الكون سببًا لإيمانه مثل قس بن ساعدة الإيادي كما ذكر ابن كثير: أنه وقف بعكاظ في الشهر الحرام وهو على جمل أحمر، وهو يخطب الناس وهو يقول: “يا أيها الناس اجتمعوا واستمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخَبرًا، وإن في الأرض لعِبرًا، مِهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور، وأقسم قس قسمًا حقًا لئن كان في الأمر رضى ليكونن بعده سخط، إن لله لَدينًا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرَضُوا بالمقام فأقاموا، أم تُرِكوا فناموا؟”[20].
تظهر آثار علاقة اعتبار الإنسان بالبيئة في اتخاذ معلومات البيئة لتكون طريقة في الدعوة إلى الله، والتذكير بالعبادات وأوقاتها، والتعليم للناس، واستخدام الوسائل العلمية المناسبة لذلك في إثبات الأهلة وأوقات الصلاة وإعلانها، وصحة عبادة المسلم من صلاة وصيام وحج وغيرها.
-
المنطلق الخامس: العلاقة الأخلاقية للإنسان بالبيئة:
فمفردات الأخلاق كالصدق والإخلاص والإحسان وكفِّ الأذى ونحوها في حالات السلم والحرب لها أثر في البيئة وحفظها وحمايتها واستثمارها بالطريقة المثلى.
عن شَدَّاد بن أوس قال: ثِنْتَانِ حفظتهما عن رسول الله قال: (إِن اللهَ كَتَبَ الإِحسانَ على كلِّ شَيءٍ؛ فإِذا قَتَلتُم فَأَحسِنُوا القِتْلَةَ، وإِذا ذَبَحتُم فَأَحسِنُوا الذَّبحَ، وليُحِدَّ أحدُكُم شَفْرَتَهُ، فلْيُرِح ذَبيحَتَهُ)[21].
جاء في وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لقائد جيشه: “وإني موصيك بعشرٍ: لا تقتلَنَّ امرأةً، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هَرِمًا، ولا تقطعَنَّ شجرًا مثمرًا، ولا تخرِّبَنَّ عامرًا، ولا تعقِرَنَّ شاةً ولا بعيرًا إلا لمأكلةٍ، ولا تحرقنَّ نخلاً ولا تُغرِقَنَّه، ولا تَغْلُل، ولا تجبُن”[22].
ويبدو أثر هذا المنطلق في تصرف الجهات والمؤسسات التي تقوم على تضليل الناس بمعلومات خاطئة عن البيئة، وتعمل على تقديم الكسب المادي على حساب المبادئ الأخلاقية؛ ومن ذلك ما أعقب الثورة الصناعية من فوضى أدَّت لتلوُّث البيئة وزيادة التصحُّر وتراجع الغابات وتلوث مياه الأنهار، وكان الكثير من مراكز الدراسات يقدم دراسات مضللة مدعومة من كبار المستثمرين تخفي الأضرار المروعة للمصانع ومنتجاتها على البيئة، فضلاً عن سلوك قادة الحروب التي لا تراعي إنسانيةً ولا أخلاقًا وتساهم في دمار البشرية والإفساد في الأرض، ضاربين بشعارات الإصلاح البيئي والمحافظة على الطبيعة عرض الحائط.
إنَّ المسؤولية الأخلاقية للدول لا تقل أهمية عن مسؤولية الأفراد -في العلاقة مع البيئة- بل تزيد عليها في ظل ما نراه اليوم من حروب تستخدم فيها الأسلحة بأنواعها التقليدية والكيماوية والجرثومية، وتنتهك فيها قوانين البشر، ولا تراعى فيها تعاليم الأديان، ولا يتبقى لحرمة فيها ذمام، فتخلّف وراءها دمارًا مستمرًا لعقود، وآثارًا سلبية على الإنسان والحيوان والنبات والتربة وعناصر البيئة المختلفة.
وإذا لم تتداعَ الأمم لإصلاح هذا الفساد على منهج دين الله تعالى فإن الفساد الذي ظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس سيكون وبالاً على البشرية كلها.
إنَّ المسؤولية الأخلاقية للدول لا تقل أهمية عن مسؤولية الأفراد -في العلاقة مع البيئة- بل تزيد عليها في ظل ما نراه اليوم من حروب تستخدم فيها الأسلحة بأنواعها التقليدية والكيماوية والجرثومية، وتنتهك فيها قوانين البشر، ولا تراعى فيها تعاليم الأديان، ولا يتبقى لحرمة فيها ذمام، فتخلّف وراءها دمارًا مستمرًا لعقود، وآثارًا سلبية على الإنسان والحيوان والنبات والتربة وعناصر البيئة المختلفة.
خلاصة القول:
بناءً على هذه المنطلقات يمكن أن نفهم علاقة البيئة بخصائص التشريع الإسلامي من الربانية والوسطية والشمولية وصلاحيته لكل زمان ومكان، وموافقته للفطرة، وأنَّ سيادة الشريعة -التي لا شطط فيها ولا خلل- هي التي تعيد للبيئة استقرارَها ونماءها وتوازنها.
ونفهم من خلال هذه المنطلقات التشريعات الفقهية والتي لها علاقة بالبيئة وحمايتها، مثل: أحكام الطهارة والمياه والنهي عن ملابسة النجاسات، ونظافة المساجد والأفنية وغيرها، والمحرمات من الأطعمة والأشربة، واستصلاح الأراضي، واستعمال الطرق وحقوق الارتفاق، والمبادئ الأخلاقية في الحرب، وغيرها من التشريعات التي تؤول بالمجتمع والفرد إلى المحافظة على البيئة والتعامل معها بضوابط واضحة.
د. جمال الفرا
خطيب وداعية.
[1] في عام 1992م انطلقت أعمال “قمة الأرض” التي نظمتها الأمم المتحدة في ريو دي جانيرو في البرازيل، وقد جمعت القمة أكثر من 100 رئيس حكومة، وأكثر من 2000 منظمة غير حكومية، لمناقشة المشاكل المرتبطة بالتدهور البيئي والتنمية المستدامة، ونتج عنها اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ والتي أصبحت بمرور الوقت قانونًا دوليًا ملزمًا، وصدقت 197 دولة عليها.
[2] البيئة ومشكلاتها، لرشيد الحمد ومحمد سعيد صباريني، ص (24-25).
[3] موقع موسوعة دائرة المعارف البريطانية على الإنترنت، مادة (بيئة).
[4] تفسير التحرير والتنوير (22/112).
[5] ينظر: مجلة المنار للدراسات والبحوث القانونية والسياسية – مجلد 3 العدد 2 / بحث: ظاهرة اختلال التوازن البيئي.
[6] المرجع السابق.
[7] فتح الباري (2/613).
[8] مقارنة الأديان: أديان الهند الكبرى، لأحمد شلبي (4/28).
[9] المرجع السابق (4/31).
[10] في ظلال القرآن (8/484).
[11] في ظلال القرآن (2/932).
[12] متفق عليه: أخرجه البخاري (5196)، ومسلم (1958).
[13] في الحديث: (ما من مسلمٍ يغرسُ غرسًا أو يَزرَعُ زَرعًا فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلا كان له به صدقة) أخرجه البخاري (2320) ومسلم (1553).
[14] المال: كل ما يمكن حيازته والانتفاع به، سواء أكان عينًا، أو منفعة، أو عرَضًا.
[15] التحرير والتنوير (9/135).
[16] المرجع السابق (30/304).
[17] أخرجه الترمذي (3451).
[18] أخرجه البخاري (1041).
[19] أخرجه أحمد (15629).
[20] البداية والنهاية (3/300-301).
[21] أخرجه مسلم (1955).
[22] أخرجه مالك في الموطأ (1627).