تزكية

مقارنة قرآنية بين سرعة طلب الدنيا والدين

القرآن الكريم كتاب معجز في بيانه وبلاغته، تحدى الله به فصحاء العرب وأرباب اللغة أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا وأقروا بكماله، وهذا الإعجاز يعرفه أهل البيان في نظم القرآن وأمره ونهيه وأمثاله وقصصه، والإعجاز يشمل الكلمة القرآنية في اختيارها واختيار موضعها وسياق وُرودها وطرق توظيفها، ومن أمثلة ذلك: الكلمات التي تدلُّ على المسارعة والتسابق والتنافس، وهذه جولة في بستانها للتعرف على مدلولها وما ترشدنا إليه من المعاني والقيم.

يحكى أنَّ إمامًا كان يمر على صاحب حانوت في طريقة لمسجده، فيذكره بصلاة الجماعة –والمؤمن إذا ذُكِّر تذكَّر- فيرد عليه صاحب الحانوت: عندما أنتهي من العمل وينفضّ الزبائن، وتمضي الصلوات وتنقضي الأيام والبائع غارق في عمله غافل عن ربه، فقال له الإمام ذات مرة: أريدك أن تفرِّغ نفسك اليوم لأمر هام، سنذهب أنا وأنت لمكان قريب، وفعلاً اصطحب الإمام صاحب الحانوت معه وذهبا إلى مقبرة البلد الكبيرة، ثم قال الإمام للتاجر: أترى كل تلك القبور؟ قال التاجر: بلى، قال الإمام: لقد مات أصحابها جميعًا ولم ينتهوا من أعمالهم ولم يفرغوا من أشغالهم، فإن كنت تؤجل الصلاة لتنتهي من عملك، فلن تنتهي أبدًا، ولن تصلي أبدًا.

استفتحتُ بهذه القصة لنعرفَ كيف ننظم سيرنا إلى الله، وكيف ننظم سيرنا في الدنيا، فنعطي الدنيا حقَّها ونعطي الدين حقَّه، في ضوء الهَدي الرباني من خلال المفردات القرآنية المستخدمة في سياق الدين وسياق الدنيا.

بدايةً للكلمة القرآنية أهمية عظيمة وقيمة كبرى، فهي الأصل الذي يدور معه المعنى، فإن وضعت في مكانها الملائم فقد أصابت المعنى.

واختيار الكلمات في التعبير القرآني له أسراره البديعة وعجائبه التي لا تنقضي، وكما قال ابن عطية: “كتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أُدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد، ونحن تبين لنا البراعة في أكثره، ويخفى علينا وجهها في مواضع؛ لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام”([1]).

والمفردة القرآنية مختارة مقصودة ومنتقاة، كما يقول الباقلاني: “كلُّ كلمةٍ لو أُفردت كانت في الجمال غاية، وفي الدلالة آية، فكيف إذا قارَنَتْها أخواتُها وضامَّتْها ذواتها، تجري في الحسن مجراها، وتأخذ في معناها”([2])، ويقول عن دقة اختيار الكلمة ومدلولها: “وهو أدقُّ من السِّحر وأهول من البحر وأعجب من الشعر، وكيف لا يكون كذلك، وأنت تحسب أن وضع الصبح موضع الفجر يحسن في كل كلام، إلا أن يكون شعرًا أو سجعًا، وليس كذلك؛ فإن إحدى اللفظتين قد تنفر في موضع، وتزل عن مكان لا تزل عنه اللفظة الأخرى، بل تتمكَّن فيه”([3]).

وهاكم مثالاً على اختيار الكلمة ليس من حيث المعنى فحسب، بل من حيث الحروف وخفة الحركات. ففي قوله تعالى: ﴿‌فَسَخَّرْنَا ‌لَهُ ‌الرِّيحَ ‌تَجْرِي ‌بِأَمْرِهِ ‌رُخَاءً ‌حَيْثُ ‌أَصَابَ﴾ [ص: 36].

لو وقفنا عند كلمة (رخاء) لوجدنا جزئيات الحركة المعنية، وتصويرًا للحدث، فالصوت هو الذي يوحي الآن، ويرسم الحركة في عملية نطق تحاكي الحركة.

“فالضمة على الراء تعني انضمام الشفتين على حرف ليس من حروف اللين، واستدارة الشفتين تتطلب جهدًا، وفي هذا قوة الريح، ثم يأتي الانتقال من الضم إلى الفتح على حرف حلقي ليدعو إلى تصور بدءِ سهولة، وتكثر السهولة في مد الألف، فليس هناك انقباض ولا انكماش، بل تدرج من الصعب إلى السهل، مما يمثل طواعية الريح للنبي بأمر الخالق، ولا يكون هذا في كلمة سوى رخاء”([4]).

“كتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أُدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد، ونحن تَبيْنُ لنا البراعةُ في أكثره، ويخفى علينا وجهُها في مواضع؛ لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام”
ابن عطية

ومن خصائص الكلمة القرآنية:

الدقة في الاختيار: أن تأخذ الكلمة القرآنية موضعها في الآية مع استحالة استبدالها بكلمة أخرى؛ فلا يُؤدى المعنى المراد إلا بهذه الكلمة، ومن أمثلة الدقة في اختيار الكلمة القرآنية قول الله تعالى: ﴿‌وَإِنَّ ‌مِنْكُمْ ‌لَمَنْ ‌لَيُبَطِّئَنَّ﴾ [النساء: 72].

يقول سيد قطب رحمه الله: “لفظة (ليبطّئن) مختارة هنا بكل ما فيها من ثقل وتعثر، وإن اللسان ليتعثر في حروفها وجَرسها حتى يأتي على آخرها، وهو يشدها شدًا، وإنها لتُصَوِّر الحركةَ النفسية المصاحبة لها تصويرًا كاملاً بهذا التعثر والتثاقل في جَرسها. وذلك من بدائع التصوير الفني في القرآن، الذي يرسم حالة كاملة بلفظة واحدة”([5]).

والحال كذلك في كلمة (اثَّاقلتم) من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ‌اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ﴾ [التوبة: 38].

“نلاحظ الأداء الفني الذي قامت به كلمة (اثَّاقلتم) بكل ما تكونت به من حروف ومن صورة ترتيب الحروف والتشديد على الحرف اللثوي (الثاء). إنّ البطء في تلفظ الكلمة يوحي بالحركة البطيئة التي تكون في التثاقل، فإن استبدلت بـ (تثاقلتم) فقدت معناها المراد، وأوحت بسبب رصف حروفها وزوال الشدة على تثاقل آخر فيه من الخفة والسرعة ما فيه”([6]).

وإذا انتقلنا إلى علاقة السرعة بالحركة:

إن صيغة الفعل تدل على الحركة والتي يقابلها السكون، والكون كله في حركة دؤوبة لا يتوقف والإنسان جزء من هذا الكون فلا بد أن يكون في حركة مستمرة في كافة المجالات.

والسرعة لا تتأتى إلا عندما تكون هناك حركة، فالساكن لا سرعة له، وتأتي علاقة السرعة بالحركة في قياس وتحديد هذه الحركة، فكما هو معلوم الحركة ليست واحدة، بل لها عدة مستويات وسرعات، من البطيء إلى السريع، وهذا ملاحظ وواضح في استخدام التعبير القرآني لكلمات لها سرعات متفاوتة حسب السياق القرآني، ولو وقفنا عند مثال للحركة مع تقدير السرعة:

قال تعالى: ﴿‌وَالشَّمْسُ ‌تَجْرِي ‌لِمُسْتَقَرٍّ ‌لَهَا ‌ذَلِكَ ‌تَقْدِيرُ ‌الْعَزِيزِ ‌الْعَلِيمِ﴾ [يس: 38].

وسرعة جريان الشمس عالية جدًا، فهي تجري بسرعة تبلغ ملايين الكيلو مترات في السنة فناسبها استخدام التعبير القرآني لكلمة تجري.

ففي اللغة: يَجري، اجْرِ، جَرْيًا، فهو جارٍ، جرَى الفرسُ وغيرُه: اندفع في السَّير، عدا.

جرت الشمس وسائر النجوم: سارت من المشرق إلى المغرب. والجارية: الشمس سميت بذلك لجريها من القطر إلى القطر([7]).

“والجري حقيقته: السير السريع، وهو لذوات الأرجل، وأطلق مجازًا على تنقل الجسم من مكان إلى مكان تنقلاً سريعًا بالنسبة لتنقل أمثال ذلك الجسم، وغلب هذا الإطلاق فساوى الحقيقة وأريد به السير في مسافات متباعدة جد التباعد فتقطعها في مدة قصيرة بالنسبة لتباعد الأرض حول الشمس. وهذا استدلال بآثار ذلك السير المعروفة للناس معرفة إجمالية بما يحسبون من الوقت وامتداد الليل والنهار وهي المعرفة لأهل المعرفة بمراقبة أحوالها من خاصة الناس وهم الذين يرقبون منازل تنقلها المسماة بالبروج الاثني عشر، والمعروفة لأهل العلم بالهيئة تفصيلاً واستدلالاً، وكل هؤلاء مخاطبون بالاعتبار بما بلغه علمهم”([8]).

وأمَّا في آية الجبال فقال تعالى: ﴿‌وَتَرَى ‌الْجِبَالَ ‌تَحْسَبُهَا ‌جَامِدَةً ‌وَهِيَ ‌تَمُرُّ ‌مَرَّ ‌السَّحَابِ ‌صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 88].

قال القنوجي: “أي: وهي تسير سيرًا حثيثًا كسير السحاب التي تسيرها الرياح، وذلك أن كل شيء عظيم، وكل جسم كبير، وكل جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وعظمه، وبُعد ما بين أطرافه، فهو في حساب الناظر واقف وهو سائر، كذلك سير الجبال يوم القيامة لا يرى لعظمها، كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه.

وقال القتيبي: وذلك أن الجبال تجمع وتسير، وهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير. قال النسفي: وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد إذا تحركت أي: في سمت واحد، لا تكاد تبين حركتها، ونحوه قال البيضاوي”([9]). فلا نلحظ السرعة والاندفاع في كلمة مَرّ، كما لاحظناها في كلمة تجري.

وبعد هذه المقدمات التي لابدَّ منها للولوج إلى موضوعنا المراد، سأقف معكم عند المفردات التي تناولها القرآن في طلب الدين وطلب الدنيا، وسنلحظ فيها جانب الحركة بشكل واضح جلي ونحاول قياس سرعة هذه الحركة للكلمة القرآنية المستخدمة، فنقف على مراد الله الدقيق منها:

قال تعالى: ﴿‌وَسَارِعُوا ‌إِلَى ‌مَغْفِرَةٍ ‌مِنْ ‌رَبِّكُمْ ‌وَجَنَّةٍ ‌عَرْضُهَا ‌السَّمَاوَاتُ ‌وَالْأَرْضُ ‌أُعِدَّتْ ‌لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133].

قال ابن عطية: “والمسارعة المبادرة وهي مفاعلة، إذ الناس كأنَّ كل واحد يسرع ليصل قبل غيره، فبينهم في ذلك مفاعلة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿‌فَاسْتَبِقُوا ‌الْخَيْرَاتِ﴾ [المائدة: 48]”([10]).

والسرعة في الآية إما في الجانب النفسي القلبي فتكون مجازًا في الحرص والمنافسة والفوز إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة، وإما أن تكون السرعة في الجانب الجسدي فتكون على الحقيقة، وهي سرعة الخروج إلى الجهاد عند التنفير، كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (وإذا استنفرتم فانفروا)([11]).

من خصائص الكلمة القرآنية: الدقة في الاختيار، وهو أن تأخذ الكلمة القرآنية موضعها في الآية مع استحالة استبدالها بكلمة أخرى؛ فلا يُؤدى المعنى المراد إلا بهذه الكلمة، وهذا من وجوه الإعجاز البياني في القرآن الكريم

أما دلالة استخدام كلمة (وسارعوا) في الآية الكريمة:

لمَّا ذكر المولى سبحانه وتعالى أعظم ما يطمح إليه العبد ويسمو إليه المؤمن، مغفرة الذنوب والخطايا ثم الجنات والنَّعيم، ووصف عرض الجنَّات بأنَّها كعرض السموات والأرض، زيادة في الإثارة والتشويق لها والعمل لأجلها، ناسب أن يذكر الكلمة التي فيها معنى المبادرة والإسراع والتنافس.

والمفردة فيها معنى الحركة والسرعة، والسرعة هنا السرعة المقصودة التي يطلبها الإنسان ويتكلَّفُها بقصدٍ وإرادة، فكأنَّه يطلب بذل غاية الجهد والطاقة والوسع.

لأنَّه كلَّما عظمت الجائزة وكبرت المكافأة، استحقت بذلاً وجهدًا يناسب حجمها ومنزلتها، فما بالك عندما تكون مغفرة من الله وجنَّة عرضها السموات والأرض، لذلك استفتحت الآية بهذه الكلمة المناسبة في سياقها.

ولم يستخدم التعبير القرآني هذ المفردة (المسارعة بصيغة الأمر) إلّا في إطار أعمال الآخرة وسياق الدين وطلب المغفرة والجنَّة؛ فالسلوك الإيماني للعبد في رحلة عمره يجب أن ينضبط بمقاييس السرعة القرآنية.

ففي رحلتنا إلى الله وفي طريقنا إلى الآخرة لا بد أن نغذَّ السير، ونمضي بهمة وعزيمة، مسرعين مقبلين على وعد الله سبحانه وأوامره، وأن لا تشغلنا الدنيا بشواغلها فنتثاقل عن أوامر الله والحياة الآخرة فتبطئ حركتنا، ويخف إقبالنا على المولى سبحانه، فنكون في الطريق الصحيح ولكن بالسرعة غير المناسبة، ولا أن نسرع هذه السرعة ونسابق هذه المسابقة في غير طريق الآخرة والمغفرة والجنَّات، فنكون قد حققنا السرعة المطلوبة ولكن في الاتجاه الخطأ غير مراد الله سبحانه وتعالى؛ فلا بد أن يجتمع الاثنان: الوجهة الصحيحة والسرعة المناسبة، لنحقِّق مُرادات الله سبحانه من عباده.

وفي آية أخرى قال تعالى: ﴿‌سَابِقُوا ‌إِلَى ‌مَغْفِرَةٍ ‌مِنْ ‌رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد: 21].

والفعل (سابقوا) لخلق الحماس وحض النفوس على الاستجابة لما أمروا به، حتى لكأنَّهم في حالة مسابقة يحرص كل قرين فيها على أن يسبق غيره، فسارعوا مسارعة المتسابقين لأقرانهم في المضمار.

ويلاحظ أن الأمر بالسباق ليس في ميدان جمع الدنيا وزخرفها ومتاعها الزائل، بل في ميدان أعظم وأجل؛ في ميدان الباقية التي يطمح لها كل عظيم ويقدم في سبيلها كل غال ونفيس.

لم يستخدم التعبير القرآني مفردة (سارعوا) بصيغة الأمر إلا في إطار أعمال الآخرة وسياق الدين وطلب المغفرة والجنَّة؛ فالسلوك الإيماني للعبد في رحلة عمره يجب أن ينضبط بمقاييس السرعة القرآنية

ولكن ما الفرق بين المسابقة والمسارعة:

قال البقاعي: “سابقوا: فعل مَن يسابق شخصًا، فهو يسعى ويجتهد غاية الاجتهاد في سبقه، ولكن ربما كان قرينًا بطيئًا فسار هوينًا.

أما المسارعة: فلا تكون إلا بجهد النفس من الجانبين، مع السرعة في العُرف، فآية آل عمران الآمرة بالمسارعة -الأخص من المسابقة- أبلغ؛ لأنَّها للحث على التجرد من النفس والمال وجميع الحظوظ أصلاً ورأسًا لذلك كانت جنتها للمتقين الموصوفين”([12])، أي ناسب المتقين أن يخصهم بالمسارعة، وناسب المؤمنين أن يخصهم بالمسابقة.

وليس بين الآيتين ترادف ولا تعارض، والآيتان تتحدثان عن السباق إلى الجنَّة، لكن كل آية تتحدث عن مرحلة من مراحل السباق، أي سباق مهما كان نوعه ومسافته لا بد له من مرحلتين: الأولى: مرحلة السباق والانطلاق. والثانية: مرحلة الإسراع في السباق. فالأمر بالمسابقة هو أن يبادر بالشيء قبل غيره، والأمر بالمسارعة هو أمر بالإسراع إلى إدراك الشيء بغض النظر عن مشاركة غيره له، بل بين الآيتين تكامل، فآية آل عمران: (سارعوا) فكأن قائلاً يقول: كيف نسارع؟ فقيل: مسارعة المتسابقين الذين بذل كل واحد منهما أقصى الجهد وغايته. وأوضح ما يكون هذا في سباق الجري، فعندما يبدأ الشوط الأول يتسابقون، وبعد فترة يسارعون في السباق، فيبدأ السباق إلى الجنَّة في سورة الحديد، حيث ينطلق المسابقون، وفي أثناء الطريق تبدأ المرحلة الثانية، وهي المسارعة في السباق، بأن يضاعف المتسابقون سرعتهم، ويتحولون من مجرد مسابقة إلى المسارعة في المسابقة.

وفي آية أخرى استخدم التعبير القرآني لفظة التنافس، قال تعالى: ﴿‌إِنَّ ‌الْأَبْرَارَ ‌لَفِي ‌نَعِيمٍ ٢٢ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ٢٣ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ٢٤ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ٢٥ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 22-26].

(وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) إيقاع عميق يدل على معنى كبير.

واستخدام كلمة التنافس في التعبير القرآني مقصود في هذا الموضع من عدة جوانب، فهو تسابق وتباري، وفيه الاندفاع والعمل بقوة ومجاهدة للنفس وبذل غاية الوسع، ولكن دون أن يُلحق أحدنا الضرر بمتنافس آخر.

وكذلك يأتينا السؤال هنا: ما هو الميدان الذي أمرنا ربنا سبحانه بالتنافس فيه والتسابق والتباري، ما هو مجال التنافس المطروح ومضماره؟

إنَّه التنافس الأكبر والأعظم، تنافس على النعيم المقيم، على الرحيق المختوم، على جنَّات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

فليكن تنافسنا وتبارينا واندفاع همتنا وغاية قوتنا في الميدان الصحيح، وفي المضمار الحق، في مجال الآخرة والطريق الموصل إلى مرضاة الله تعالى.

قال السعدي: “وفي ذلك النعيم المقيم الذي لا يعلم حسنه ومقداره إلا الله فليتنافس المتنافسون، أي يتسابقوا في المبادرة إليه بالأعمال الموصلة إليه، فهذا أولى ما بذلت فيه نفائس الأنفاس، وأحرى ما تزاحمت للوصول إليه فحول الرجال”([13]).

وفي آية أخرى استخدم التعبير القرآني لفظة فاسعَوا، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌إِذَا ‌نُودِيَ ‌لِلصَّلَاةِ ‌مِنْ ‌يَوْمِ ‌الْجُمُعَةِ ‌فَاسْعَوْا ‌إِلَى ‌ذِكْرِ ‌اللَّهِ ‌وَذَرُوا ‌الْبَيْعَ ‌ذَلِكُمْ ‌خَيْرٌ ‌لَكُمْ ‌إِنْ ‌كُنْتُمْ ‌تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة: 9].

قال الطبري: “فاسعوا إلى ذكر الله: امضوا إلى ذكر الله، واعملوا له، وأصل السعي في هذا الموضع العمل… والسعي يا ابن آدم أن تسعى بقلبك وعملك هو المضي إليها”([14]).

وذكر القرطبي من معاني السعي في الآية: “الجري والاشتداد، قرأها عمر: فامضوا إلى ذكر الله. فرارًا عن طريق الجري والاشتداد الذي يدل عليه الظاهر، وقرأ ابن مسعود كذلك وقال: لو قرأت (فاسعوا) لسعيت حتى يسقط ردائي”([15]).

فالسَّعي المأمور به هو التوجه لذكر الله، الذي فيه النشاط والرغبة الشديدة والهمة النفسية، والتي عبرت عنها الحركة النشيطة.

فهو سعي فيه معنى الهمة والنشاط وزيادة الحركة، والغرض من ذلك الحركة النفسية والقلبية والجسدية، والاهتمام والمبادرة، وذلك لأن ثواب الآخرة يتبع مقدار العمل في الحياة الدنيا، وليس مضمونًا ضمانًا منفصلاً عن العمل، بل هو نتيجة تابعة بفضل الله لمقدار ما يكسب العبد من العمل الصالح، من أجل ذلك كانت الدقة في اختيار اللفظ في التعبير القرآني في هذا الموضع، بكلمة السَّعي للدلالة على معنى مقصود؛ لأن المشي دون رغبة قلبية وهمة نفسية وحرص على الطلب ورغبة واهتمام يبطئ العمل، فيترتب عليه نقصان الأجر على قدر التقصير الحاصل.

الميدان الذي أمرنا ربنا سبحانه بالتسابق فيه هو التنافس على النعيم المقيم، على الرحيق المختوم، على جنَّات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر. فليكن تنافسنا وتبارينا واندفاع همتنا وغاية قوتنا في الميدان الصحيح، وفي المضمار الحق، في مجال الآخرة والطريق الموصل إلى مرضاة الله تعالى

فالله تعالى يريد منا الانخلاع من شؤون الدنيا من المعاش والتجارة من جواذب الأرض في هذه الساعة، ليخلو العبد إلى ربه ويتجرد إلى ذكره سبحانه وتعالى.

أما في جانب طلب الدنيا والرزق فاستخدم التعبير القرآني كلمة (امشوا).

قال تعالى: ﴿‌هُوَ ‌الَّذِي ‌جَعَلَ ‌لَكُمُ ‌الْأَرْضَ ‌ذَلُولًا ‌فَامْشُوا ‌فِي ‌مَنَاكِبِهَا ‌وَكُلُوا ‌مِنْ ‌رِزْقِهِ ‌وَإِلَيْهِ ‌النُّشُورُ﴾ [الملك: 15].

فالله تعالى جعل لكم أيها النَّاس الأرض مسهلة ميسرة لقضاء مصالحكم عليها، وإذ جعلها كذلك فامشوا في نواحيها المرتفعات منها، عاملين في اكتساب ما تحتاجون إليه من رزق الله الذي ييسِّره لكم.

ولدى التدبر في سر اختيار كلمة (فامشوا) في هذا الموضع نجد أن َّالله تعالى قد أمرنا بطلب الرزق عن طريق المشي المعتاد، لا عن طريق السعي الذي فيه مبادرة واهتمام وفيه حالة نفسية وجسدية، فأمرنا بطلب الرزق مع الإجمال في الطلب، وذلك لأن الرزق مضمون بالمقادير الربانية من خلال الأخذ بالأسباب والسنن الكونية، فعلى الإنسان أن يتخذ الأسباب برفق ليصل إلى ما قسمه الله له من رزق، فالمشي برفق يوصلك إلى ما قسمه الله لك من رزق، أما السعي الحثيث وانشغال القلب وتعلقه، وزيادة الاهتمام والمبادرة فلن تزيد ما قسمه الله تعالى لك من رزق. إنَّما يزيدك ذلك كدًا وتعبًا وأرقًا وانشغالاً عن خيرات أخروية كثيرة.

فالكلمة مقصودة في هذا الموضع ولها مدلول حسي أن يكون سعيك للرزق مشيًا طبيعيًا معتدلاً، دون السعي والعدو وفوق العجز والكسل. ولها مدلول معنوي بأن يكون سعيك للرزق دون تلهف وتعلق قلب به، كما قال ربنا تبارك وتعالى: ﴿‌وَابْتَغِ ‌فِيمَا ‌آتَاكَ ‌اللَّهُ ‌الدَّارَ ‌الْآخِرَةَ ‌وَلَا ‌تَنْسَ ‌نَصِيبَكَ ‌مِنَ ‌الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77]، وكما قال نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له)([16]).

لذا كان الفارق بيننا وبين الصحابة رضي الله عنهم أن الصحابة ملكوا الدنيا فكانت في أيديهم ولم تتمكن من قلوبهم، أما نحن فتعلقت قلوبنا بالدنيا؛ فبدلاً من أن تكون في أيدينا ملكت علينا قلوبنا فغدت الشغل الشاغل في حياتنا، والهمَّ الذي يؤرقنا، فأشغلتنا عن رضى ربنا وعن المقصد الأسمى من حياتنا.

الأمر بالمسابقة هو أن يبادر بالشيء قبل غيره، والأمر بالمسارعة هو أمر بالإسراع إلى إدراك الشيء بغض النظر عن مشاركة غيره له

وختامًا:

بعد أن تبيَّن لنا سرعة الكلمات القرآنية المستخدمة في سياق الدين والدنيا فالأصل في المسلم أن يلتزم بهذه السرعة الربانية التي حددها لنا ربنا سبحانه في طريقة تعامله مع الدنيا، وفي طريقه تعامله مع الآخرة، حتى يسرع السرعة المطلوبة في الطريق الصحيح الذي رسمه له ربنا سبحانه. فهناك تناسب حقيقي واطِّراد دقيق بين وجهة المسير القرآنية، وسرعة الكلمة القرآنية المستخدمة.

والله عز وجل يريد منا الانخلاع من شؤون الدنيا ومن جواذب الأرض، من حيث التعلق القلبي والتلهف النفسي والحرص عليها، والإقبال على الله وعلى شؤون الآخرة برغبة نفسية وهمة قلبية، فراعى الحالة النفسية القلبية والحالة الجسدية في التعبير القرآني.


د. قمر الزمان غزال
دكتوراه في التفسير وعلوم القرآن، محاضر في المركز الثقافي الإسلامي- الكويت.


([1]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية (1/52).

([2]) إعجاز القرآن، للباقلاني، ص (190).

([3]) المرجع السابق، ص (184).

([4]) جماليات المفردة القرآنية، للدكتور أحمد ياسوف، ص (32).

([5]) في ظلال القرآن، لسيد قطب، (2/41).

([6]) المرجع السابق (2/311).

([7]) لسان العرب، لابن منظور (3/135).

([8]) التحرير والتنوير، لابن عاشور (23/19).

([9]) فتح البيان، للقنوجي (4/259).

([10]) المحرر الوجيز (1/508).

([11]) أخرجه البخاري (1834).

([12]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي (19/291-191).

([13]) تيسير الكريم الرحمن، للسعدي، ص (916).

([14]) جامع البيان، للطبري (22/637).

([15]) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (18/102).

([16]) أخرجه الترمذي (2465)، وابن ماجه بمعناه (4105).

X