كان فيمن كان قبلنا ثلاثة نفر، أبرص وأقرع وأعمى، عافاهم الله وشفاهم وحباهم مالاً وفيرًا، ثم اختبرهم بملَك جاءهم على صورة محتاجٍ يطلب معونة، فكابر الأبرص والأقرع وبخلا، واعترف الأعمى فبذل، فحفظه الله، ومحق الجاحدَين، كما في الحديث[1].
مع نمو الخبرة وزيادة العلم وارتفاع الوعي وامتداد العمر يطغى الإنسان الكنود جاحدًا عناية مولاه مذ كان نطفة، حتى قد يشبه حال قارون: ﴿قَالَ إِنَّمَا أوُتِيتُهُ عَلَ عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: 78]، أو ينسيه ما هو فيه من نعمة وطول العهد ما اعتراه من ضعفٍ ورهَقٍ وضغوطٍ وبلاءٍ، أو يجهل حال غيره بسبب انشغاله وبعده عن وقائع حياتهم اليومية ومشاكلها.
قد تتجلى تلك الأخطاء الخفية في: حدّة المعلم أو المدير أو المفتي على المتعلِّم أو المستفتي أو الموظف، ونُفرة المربي من المتربي المخطئ، وقسوة الإنكار على العاصي، وشدة العبارة الناقدة، ونقص الصبر على الأولاد، وتأخير تزويج الشباب سهوًا عن أيام الصبا، والتغافل عن نزغات سابقة، وتناسي ذنوب القلوب والخلوات، واستبطاء استجابة المدعوين غفلةً عن الذنوب، والتقاعس عن الدعوة بعد الهداية، واستصعاب قبول النصيحة من الأدنى شبيهِ الأمس، وتعجُّل المآلات تناسيًا للمراحل، وافتراض المثالية جهلاً بواقعه من قبل.
الجامع بين هذه المظاهر أحيانًا نسيان المرء أنه كان كذلك من قبل، وأن عليه أن يأخذ الناس بحنانه.
دواؤه يبدأ باستشعار منة الله ونعمته التي حُرمها كثيرون طال بهم الجهل والضعف والفقر والعجز، أو تقلَّبوا في موجاتٍ من الحيرة والاضطراب والتيه والعِلل، ولم يحظوا بما حظي به، من والدٍ موجِّه، أو والدة عاقلة، أو زوجة رشيدة، أو أبناء بررة، أو مربٍ قدوة يرعى أولادَه، أو علم راسخ، أو دراسة متينة، أو منهج نقي، أو جار تقي، أو صحبة صالحة، أو حاكم عادل، أو قوة عقل، أو تجربة حصيفة، أو نشاط في العبادة والدعوة، أو صبر جميل.
﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 78]، فيدوم افتقاركم الصادق إليه، مجاهدين اعتداد النفس والعقل، صابرين على تبصير خلق الله ومساعدتهم، كما بصّركم الله فضلاً منه ونعمة.
﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا﴾ [النساء: 94]
أحوج الناس إلى هذه الذكرى القائمون على مصالح الناس: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى 6 وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى 7 وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنى﴾ [الضحى: 6-8]، تذكرة ضرورية دائمة تعينه على الخلق العظيم: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ 9 وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ 10 وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: 9-11].
فما أحرى المتأسِّي باتخاذ أسباب دوام اليقظة للنعم ورصدها والتحدُّث بها خشية الخذلان والحرمان، فما ثمة إلا رحمةُ الرحمن الرحيم: (أَبوءُ لكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وأبوءُ بِذَنْبي)[2]، فإن أحسنت فبنعمته وحده، وإلا فذنبك أنت، ولا شيء غيرهما.
[1] خبرهم في صحيح البخاري (3464).
[2] مِن دعاءٍ سماه النبي ﷺ: (سيد الاستغفار)، أخرجه البخاري (6306).