الإمام الشافعي شخصية مركزية في التاريخ العلمي الإسلامي، فهو ابن مدرسة الحديث وواضع علم أصول الفقه، وصاحب القدح المعلى في الفقه والأدب، اتصل بتلاميذ أبي حنيفة وتتلمذ على مالك وتتلمذ عليه أحمد بن حنبل، فكان حلقة وصل بحق بين أهل الحديث وأهل الرأي، بل بين المذاهب الفقهية المعروفة، فما سر شخصيته المحورية؟ وهل يمكننا الوقوف على شيء من عبقريته؟ هذا ما تبينه هذه القراءة
لا ينقضي تعجب قارئ كتاب عبقرية الإمام الشافعي من أمرين:
الأول: عبقرية الإمام الشافعي رحمه الله، وتعدد نواحيها ومبتكراتها.
الثاني: الجهد الموفق الذي بذله مؤلفه الشيخ مشاري الشثري في تأليف الكتاب وحسن رصده للجوانب التي شكلت ملامح عبقرية هذا الإمام بطريقة غير مألوفة، فهو كتاب عبقري في عبقرية الشافعي[1].
وصف الكتاب:
الكتاب من إصدار مركز البيان للبحوث والدراسات، يقع في ٢٨٤ صفحة، وصدرت الطبعة الثانية منه في محرم سنة ١٤٤١ه. وقد تولَّدت فكرة الكتاب في ذهن المؤلف بعد تتبُّعه لكثير من الكتب حول حياة الشافعي ومنهجه وأقواله وسيرته.
أقسام الكتاب:
سلك المؤلف في النظر لسيرة الشافعي جهة التأثُّر والتأثير فقسم الكتاب إلى قسمين[2]:
- القسم الأول: (المدد): ويعني تأثر الشافعي بغيره أثناء نبوغه، وفصل فيه الحديث عن تكوينه الشخصي والعلمي الذي أوصله إلى ما هو عليه.
- القسم الثاني: (المداد): ويعني التأثير النوعي للشافعي في محيطه العلمي منهجًا وتأليفًا.
أهمية الكتاب ومقصوده:
تولدت فكرة الكتاب في ذهن المؤلف بعد تتبعه لكثير من الكتب حول حياة الشافعي ومنهجه وأقواله، وليس المقصود بالكتاب ترجمة الشافعي رحمه الله، وإنّما المقصود التركيز على الجوانب التي ميّزت الشافعي وجعلت منه فقيهًا عبقريًا لم يُعرف له مثيل، فالمقصود هنا تقريب دعائم العبقرية متمثلة في شخص الإمام الشافعي.
وتكمن أهمية الكتاب في أنّ البيئة العلمية المعاصرة أحوج ما تكون لطلاب علم لهم القدرة على الإبداع والابتكار؛ فيرون في الإمام الشافعي وتكوينه العلمي ما يحفّزهم على ذلك.
مسارات النظر في العبقرية:
من أراد أن ينظر في العبقرية العلمية وما يتصل بها يجد نفسه أمام مسارين:
- مسار النظر من زاوية العلوم والمعارف والنظريات والأفكار، وما فيها من إبداع وابتكار، وينتقل بعدها للحديث عن تاريخ هذه العلوم وأطوارها وأعلامها.
- مسار النظر من زاوية الأعلام الذين كان لهم إسهام في الدفع بعجلة تلك العلوم، ثم ينفذ من خلالهم إلى النظر في تلك العلوم وبناها المعرفية.
وقد سلك المؤلف المسار الثاني نظرًا لما يتضمنه هذا المسار من الاطلاع على مواقع التأثُّر والتأثير في تكون تلك العلوم وتطورها، بما في ذلك من معالجة للظرف العلمي التاريخي الذي تكونت فيه عقول الأعلام.
الحديث عن الشافعي ليس حديثًا عن فردٍ فحسب، وإنّما عن حقبةٍ ثريةٍ من تراثنا العلمي، فهو علامةٌ فارقةٌ في التاريخ الفقهي، فمشروع الشافعي المعرفي مشروع مراجعة للمدارس الفقهية في زمانه
مثلث العبقرية:
من خلال التتبع التاريخي لعبقرية الأعلام يحدد المؤلف أمورًا تشكل أسس العبقرية وهي:
- القابلية والاستعداد الفطري.
- اتساع الحصيلة المعرفية والحذق فيها.
- القدرة على التأثير النوعي[3].
وهذه الثلاث قد اجتمعت في الشافعي على أتم وجه.
لماذا اختيار الشافعي للحديث عن العبقرية:
يعلل المؤلف اختياره الإمام الشافعي بعدة أسباب أهمها:
- الشافعي أفسح الطريق للحديث عن عبقريته؛ لاجتماع أسس العبقرية فيه ووفرة إنتاجه العلمي بخلاف بقية الأئمة.
- الحديث عن الشافعي ليس حديثًا عن فرد فحسب، وإنّما عن حقبة ثرية من تراثنا العلمي، فهو علامةٌ فارقةٌ في التاريخ الفقهي، فمشروع الشافعي المعرفي مشروع مراجعة للمدارس الفقهية في زمانه.
- الحديث عن الشافعي حديث مستلذٌّ لأنه من رجال الكمال متعدّد الجوانب.
جغرافيا العبقرية.
عني المؤلف بها لرسم خارطة تنقلات الشافعي وظرفه الزمني الذي مكنه من الاستفادة من مختلف المدارس الفقهية المنتشرة في عصره، وفي الصفحة التالية توضيح ذلك.
القسم الأول – دعائم العبقرية (المدد):
طليعة العبقرية:
لكل عبقرية نشأة فريدة ونبوغ مبكر، وهذا النبوغ من أخص دعائم العبقرية لأنه يتيح للعالم تحقيق عدة فوائد كالقدرة على إنضاج المعرفة في زمن كاف ومعاودة النظر في المشكلات التي تعرض له مرة بعد مرة وصولاً إلى المعرفة المنشودة.
وكل ذلك تحقق في الشافعي مبكرًا، فمن إشراقة نبوغه:
- حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، والموطأ وهو ابن ثلاث عشرة سنة.
- شُهد له أنّه أهل للفتوى وله خمس عشرة سنة فقط.
- قول الأصمعي: «صححت أشعار الهُذَليين على شاب من قريش بمكة يقال له: محمد بن إدريس الشافعي»، وكان بينهما خمس وعشرون سنة.
- لما كتب الرسالةَ لابن مهدي كان الشافعي شابًا، وكان عبد الرحمن بن مهدي يكبره بخمس عشرة سنة.
مشروع العبقرية:
كان النبوغ المبكر لا سيما في الفقه خير عون للشافعي على بلوغ ما يقصده من تحقيق مشروعه، والذي جناه الشافعي من تركيزه المبكر على مشروعه ما يأتي:
- إخلاص الفكرة لعلم الفقه أورثه نظرًا دقيقًا به.
- الحذق بالمدارس والاتجاهات الدائرة حول علم الفقه.
- التمكن من التجديد فيه.
لكل عبقرية نشأة فريدة ونبوغ مبكر، وهذا النبوغ من أخص دعائم العبقرية لأنه يتيح للعالم تحقيق عدة فوائد كالقدرة على إنضاج المعرفة في زمنٍ كافٍ، ومعاودة النظر في المشكلات التي تعرِض له، وصولاً إلى المعرفة المنشودة، وكل ذلك تحقق في الشافعي مبكرًا
التركيز على المشروع:
تركيز الشافعي على مشروعه الفقهي جعله متميزًا عن بقيّة الأئمة ممن فرّق همّه على عدة علوم، لذا لم يكن لهم من الإسهام في الفقه ما كان للشافعي، وإذا نظرنا لنتاج الشافعي من أوله إلى آخره نجده قد استنفر أدواته وقواه العقلية في تثبيت فقهه، ومن دلائل إقبال الشافعي على الفقه ما يأتي:
- كان همته الفقه: فمع نبوغه بالشعر وأيام الناس والأنساب كان يجمع همّه على الفقه، مع ابتعاده عن الانشغال بعلم الكلام، لذلك غدا طرازًا رفيعًا لم يزاحمه فيه مُزاحم، قال أحمد واصفًا الشافعي: «خير خصلة كانت فيه: لم يكن يشتهي الكلام، وإنّما همّته الفقه».
- التركيز على آيات وأحاديث الأحكام: وهذا التركيز مكّن الشافعي من مقاليد أحكام الفقه ولذلك ترى للنص القرآني والسنة النبوية حضورًا بارزًا في تقريراته ومناظراته الفقهية، وبيان ذلك كما يأتي:
أما القرآن: فقد كان للشافعي عنايةٌ باستنباط معاني القرآن المتصلة بأحكام الفقه وهذا الإقبال كان حالةً دائمةً له، قال الربيع بن سليمان: «قلّما كنت أدخل على الشافعي إلا والمصحف بين يديه يتتبّع أحكام القرآن».
وأما الحديث: فلم يكن يتوسع فيه توسُّع المحدِّثين بل كان يتَّجه إلى ما يُعينه على بناء فقهه لاسيما أحاديث الأحكام حتى كاد يحيط بها، قال يحيى بن منصور: «سمعت إمام الأئمة ابن خزيمة يقول وقد سألته: هل تعرف سنة لرسول الله ﷺ في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتبه؟ قال: لا» وإذا نظرت إلى مسند الشافعي المخرج من كتبه علمت عظيم اختصاص الشافعي بهذا النوع من الأحاديث.
- التضلُّع من علم العربية وشعر العرب وأخذه من العلوم الأخرى بقدر ما يخدم علم الفقه: فقد أقام الشافعي عشرين سنة على تعلم العربية وأيام الناس، وعلّل ذلك بقوله: «ما أردت بهذا إلا الاستعانة للفقه».
كان الشافعي ممن استهواه التأليف مبكرًا، وكان له طقس خاص في التأليف؛ فقد كان يديم النظر ليلاً حتى إذا تكاملت عنده الفكرة كتبها، ولا يتأخر في كتابتها متى سنحت له، ولا يؤجل ذلك خشية أن تفوته
صحائف العبقرية:
التأليف أداة لترسيخ العلم ومراجعته ونضوجه، وقد كان الشافعي ممن استهواه التأليف مبكرًا، وكان له طقس خاص في التأليف فقد كان يديم النظر ليلاً حتى إذا تكاملت عنده الفكرة كتبها وكان لا يتأخر في كتابة الفكرة متى سنحت له ولا يؤجل ذلك خشية أن تفوته.
وتجلّى حصاد هذا التأليف في الكتب التي صنفها الشافعي بمصر فقد أملى ألفًا وخمسمائة ورقة وخَرَّجَ «كتاب الأمّ» ألفي ورقة، وكتاب «السنن»، وأشياء كثيرة، كلّها في أربع سنين.
ويفسر ابن راهويه هذا الكم الهائل من التأليف فيقول: «إنّ الله عجّل له عقله لقلة عمره».
ولم يكتف بالتأليف فحسب بل حرص عند تحريره لباب من العلم على إبلاغ طلابه، فقد حكى تلميذه بحر بن نصر الخولاني قال: «وكان يضع الكتب بين يديه، ويصنف الكتب، فإذا ارتفع له كتاب جاءه صديق له يقال له: ابن هَرِم، فيكتب ويقرأ عليه البويطي، وجميع من يحضر يسمع، في كتاب ابن هرم، ثم ينسخونه بعد».
وهذه القيمة العلمية لكتب الشافعي جعلت العلماء في عصره يحرصون على اقتناء كتب الشافعي ولا سيما الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه.
مبتكرات الشافعي وتأثيره على محيطه العلمي:
من النواحي التي أثبتت للشافعي وصف العبقرية: تلك المبتكرات التي جاء بها وهذا التأثير النوعي في محيطه العلمي، فلم يكن الشافعي متصفًا بالجمود على ما تلقّاه بل جاء بأشياء لم يسبق إليها، ومن ذلك ما يأتي:
أولاً: مبتكرات الشافعي.
سجل الشافعي مبتكرات في جملة من الأبواب والمعارف فمنها:
- عدد من الأبواب الفقهية مثل (كتاب الجزية والسبق والرمي والقسامة وقتال أهل البغي)[4].
- تشجير النسب: فقد أرسل لهارون الرشيد النسب على شكل شجرة في رقعة.
- نهج الاحتجاج لخبر الواحد. كما هو مبثوث في الرسالة واختلاف الحديث وجماع العلم.
- علم الناسخ والمنسوخ.
الشافعي أول من جرّد الكلام في أصول الفقه، فمهّد الأدلة ورتَّبها وبيَّنها وصنَّف فيها رسالته، وكان الفقهاء يستدلُّون ويعترضون ولم يكن لهم قانون يرجعون إليه حتى استنبط الشافعي أصول الفقه ووضع لهم قانونًا في مراتب الأدلة
ثانيا: تأثير الشافعي على محيطه العلمي.
نظرًا لعبقرية الشافعي وتعدُّد مواهبه فقد تعدَّدت جوانب تأثيره، ومن ذلك ما يأتي:
١. تأثيره فيمن صنّف في أصول الفقه:
فهو أول من جرّد الكلام في أصول الفقه، وامتازت كتاباته بالابتكار؛ فقد مهَّد الأدلة ورتَّبها وبيَّنها وصنَّف فيها رسالته، وكان الفقهاء يستدلُّون ويعترضون ولم يكن لهم قانون يرجعون إليه حتى استنبط الشافعي أصول الفقه ووضع لهم قانونًا في مراتب الأدلة.
٢. تأثيره فيمن صنف في أصول الحديث:
كثير مما كتبه الشافعي في أصول الحديث كان عمدةً لمن جاء بعده لا سيما في قضية حجية السنة وخبر الآحاد، كما هو واضح في كتابه الرسالة.
٣. تأثيره في الأعلام ومصنفاتهم:
لندرك حجم تأثير الشافعي بمن حوله نلاحظ أنّ الذين تأثّروا به من سادات العلماء فمنهم:
- أحمد بن حنبل: يمكننا أن نعتبر منهج الإمام أحمد تطورًا وامتدادًا لمنهج الشافعي مع قدر من التفاوت النسبي في التعامل مع الأدلّة ضيقًا واتساعًا، قال أبو داوود صاحب السنن: «ما رأيت أحمد بن حنبل يميل إلى أحدٍ ميله إلى الشافعي»[5].
وهذا الميل ليس سببه حبُّ أحمد للشافعي فقط، بل له مسوغاته الشرعية والعلمية، قال ابن تيمية: «وأحمد كان معتدلاً عالمًا بالأمور يعطي كل ذي حق حقه؛ ولهذا كان يحب الشافعي ويثني عليه ويدعو له ويذب عنه عند من يطعن في الشافعي أو من ينسبه إلى بدعة، ويذكر تعظيمه للسنة واتباعه لها ومعرفته بأصول الفقه».
- أبو عبيد القاسم بن سلام: ظهر تأثره بكتب الشافعي من خلال ما يأتي:
- صنّف في الفقه والخلاف واستعمل في كثيرٍ منها ألفاظ الشافعي وحججه.
- في أصول الفقه: تأثر بالشافعي ولاسيما في مسألة منزلة السنة من القرآن.
- إسحاق بن راهويه: فقد وضع جامعه الكبير على كتاب الشافعي.
- محمد بن نصر المروزي: ظهر تأثير الشافعي عليه من خلال كتابين له هما:
الأول: كتاب السنة فهو شعبة من كتاب الرسالة. والثاني: كتاب فيما خالف فيه أبو حنفية عليًّا وابن مسعود، وهو على غرار كتاب الشافعي الذي يبيّن اختلاف علي وعبد الله بن مسعود.
- ابن جرير الطبري: فقد كان أول أمره شافعيًا ثم استقلّ. وظهر تأثّره بالشافعي من خلال:
- كتاب (الاختلاف) وكتاب (اللطيف) للطبري موضوعهما ذات الموضوعات التي ذكرها الشافعي في رسالته.
- تشابه الإمامين في نمط التأليف والكتابة.
- ابن حزم الظاهري: فقد كان يلهج بالثناء على الشافعي، وممن نبّه على تأثر ابن حزم بالشافعي الشيخ محمد أبو زهرة إذ يقول: «يكاد يجزم القارئ أنّ ابن حزم استملى تفكيره عن الشافعي»، ولعل من بواعث هذا التأثّر ما للشافعي من نزعة ظاهرية في فقهه ومنهاجه.
مشكاة العبقرية (الكتاب والسنة):
لا شك أنّ الكتاب والسنة هما أصل العلوم ونبعها؛ لذا كان الاستهداء بهما وإدمان النظر فيهما من دعائم العبقرية ولنرى ما كان حظ الشافعي منهما؟
أولاً: الكتاب:
كان إقبال الشافعي على القرآن إقبالاً تامًّا مما أثّر في تفكيره ومنهجه ومكّنه من الابتكار في العلوم، ومن دلائل ذلك: قول الشافعي في مقدمة الرسالة: «فليست تنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلةٌ إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها». وقال أحمد: «ما رأيت أحدًا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى القرشي».
يتتبع أحكام القرآن:
قال الربيع: «قلما كنت أدخل على الشافعي إلا والمصحف بين يديه وهو يتتبّع أحكام القرآن».
وهذا التركيز العلمي هو الذي مكن الشافعي من مقاليد الفقه، وتراه ظاهرًا في حجاجه مع غيره عند استعماله للنص القرآني. وقد جمع البيهقي أحكام القرآن من كلام الشافعي.
ثانيًا: السنة.
إن اهتمام الشافعي بالقرآن لم يشغله عن الاهتمام بالسنة والدفاع عنها فقد أوجد نظامًا معرفيًا لحماية موقع السنة من المنظومة التشريعية، من حيث الاحتجاج بها أصلاً ورتبتها في الاستدلال، ومن أخصِّ كتبه في ذلك كتاب جماع العلم، وقد أطلق المحدثون عليه لقب ناصر الحديث، قال الشافعي: «سُمّيت ببغداد ناصر الحديث».
ولا غرابة في إطلاق هذا اللقب على الشافعي رحمه الله فقد ثبّت حجية السنّة ورسم منهج النظر والاستدلال في الحديث فاعترف بفضله أكابر المحدّثين كأحمد بن حنبل وسفيان بن عيينة.
قال الإمام أحمد للفضل البزاز عن الإمام الشافعي: «وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف ألّا تجده إلى يوم القيامة»
عقل العبقرية ودعائمها:
قال ابن تيمية: «والعلم له مبدأ، وهو: قوة العقل الذي هو الفهم والحفظ، وتمام، وهو: قوة المنطق، الذي هو البيان والعبارة»، وقد نال الشافعي من هاتين القوتين الحظ الأوفى، وقد دلّ على ذلك معيار الفوت الذي عناه الإمام أحمد بقوله للفضل البزاز: «وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف ألّا تجده إلى يوم القيامة».
ولهذه القوة العقلية للشافعي تمثلات هي:
- القدرة العالية على الاستنباط.
- التتبع الحثيث لدقائق المعاني والعلوم.
- استخراج الكليات وإنشاء نظام الاستدلال ورسم منهج النظر الفقهي.
دعائم العقل:
إضافة لتوفيق الله فممّا دعم القوة العقلية الفذة لدى الشافعي جملة من المواهب: كالاستعداد الفطري، والقوة البيانية، والاحتكاك بالمدارس والمناظرة، وقوة الفراسة.
بيان العبقرية وحجاجها:
قد تتفاوت عند الفقيه الواحد القوة العقلية والبيانية، والسعيد من أوتي حظًّا من القوتين معًا ومنهم الشافعي، أما عن قوته العقلية فقد أسلفنا الكلام عنها، ونبيّن هنا ما امتاز به من القوة البيانية فنقول:
إنّ من أجلّ ما امتاز به الشافعي علمه بالعربية، ويظهر هذا من خلال ما يأتي:
- حثه على تعلم العربية: قال الشافعي: «تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة».
- تعدّ كتب الشافعي في الذروة العليا من البيان: شهد له بذلك أكابر العلماء قديمًا وحديثًا ومنهم الجرجاني والجويني وابن تيمية، قال الجاحظ: «تتبعت كلام النَّبَغة في العلم فلم أرَ أحسن تأليفًا وفصاحة من الشافعي، كأن فاه ينظم درًا إلى در».
قال الشيخ أحمد شاكر: «كتاب الرسالة بل كتب الشافعي أجمع: كتب أدب ولغة وثقافة».
ومما يستملح هنا أنّ الشيخ علي الطنطاوي كان يقرأ فصولاً من كتاب الأم للشافعي لا لمعرفة الحكم بل للاستمتاع بذلك البيان.
للشافعي اختصاصٌ بالجدل والحجاج لا سيما في عصره الذي اشتدّت فيه المناظرات، وتلك المناظرات هي التي صقلت موهبته حتى استخلص منها الأصول والقواعد والكليّات، ومن براعة الشافعي أنه يجمع في مناظراته بين لطف الأدب وحسن العشرة واستيفاء الحق
- القدرة على نقض الخصوم بالبيان: فهو يعمل ببيانه ما لا يعمل المقاتل بسيفه، قال أبو ثور لأصحابه: «إن نقض أحد أمرنا فهذا ينقضه بلسانه وكلامه».
حجاج العبقرية:
للشافعي اختصاصٌ بالجدل والحجاج لا سيما في عصره الذي اشتدّت فيه المناظرات، وتلك المناظرات هي التي صقلت موهبة الشافعي حتى استخلص منها الأصول والقواعد والكليّات، ومن براعة الشافعي أنه يجمع في مناظراته بين لطف الأدب وحسن العشرة واستيفاء الحق.
قال ابن عبد الحكم: «ما علّم الناسَ الحجاجَ إلّا الشافعي… ما رأيت أحدًا ناظر الشافعي إلا رحمته مع الشافعي».
يقول الدكتور الناجي لَمِين: «الشافعي أول فقيه مجتهد حرص على أن يذيل كل فرع بأصله، وعلى أن ينشر مشروعه الأصولي في الناس ويناظر عليه ويستمع لمخالفيه، ويعيد النظر في اجتهاده بعد سماعه ومطالعته كتب الفقهاء الآخرين»[6].
ومما يدل على هذا الاقتدار العالي على المناظرة والمكنة العلمية القصة الآتية:
قال الربيع: «قال لي الشافعي يومًا: كيف تركتَ أهل مصر؟ فقلت: تركتهم على ضربين: فرقة منهم قد مالت إلى قول «مالك» وأخذت به، واعتمدت عليه، وناضلت عنه، وفرقة مالت إلى قول «أبي حنيفة» فأخذت به، وناضلت عنه. فقال: أرجو أن أقدم مصر، إن شاء الله، وآتيهم بشيء أشغلهم به عن القولين جميعًا. قال الربيع: ففعل ذلك -والله- حين دخل مصر».
عطاءات الحِجاج:
اكتسب الشافعي نتيجة مناظراته مواهب فريدة منها ما يأتي:
- ملكة التمييز بين الصحيح والسقيم من الحجج وما يصلح منها وما يردّ.
- العناية الفائقة بطرد حجته واستقراراها وثباتها ودفع ما يكدر عليها.
- السبق والإقدام: فكتابه الأم حوى مثلاً مئة وخمسين مناظرة، فكتب الشافعي هي كتب حجج ومناظرات.
القسم الثاني – اتصال العبقرية وانفصالها:
ويقصد به ما كان للشافعي من اتصال وتأثر بالمدارس الفقهية حوله وهي: المدرسة المكية والمدرسة المدنية والمدرسة العراقية، والمدرسة اليمنية بنسبة أقل؛ لقلة إقامته بها واشتغاله بالقضاء.
- خلاصة الاتصال: أنّ الشافعي استفاد من تعدد المدارس التوجهَ إلى الكليات والقواعد وأصول الاستنباط، فقد كان اعتناؤه بها أكثر من التفاصيل، وهو بما وضعه من كتب جعل كتبه معينًا غنيًا من جهتين:
- الأولى: جهة الوقوف على فقهه والنظر في أدلته.
- الثانية: جهة البصر بأصول الأئمة الذين ردّ عليهم من حيث أصولهم وفروعهم، فكتب الشافعي تعدّ وثيقة تاريخية إضافة لكونها وثيقة علمية دالّةً على كمال علمه.
- انفصال العبقرية: ونعني بها انفصال منهج الشافعي تحديدًا عن المدرسة العراقية والمدنية، أما المدرسة المكية فكانت فيها انطلاقة الشافعي العلمية، وأما اليمنية فلم تطل إقامة الشافعي فيها كثيرًا.
أولا: انفصال العبقرية عن المدرسة العراقية:
سبب الانفصال:
ما السبب الذي حدا بالشافعي للانفصال عن المدرسة العراقية؟
الجواب أنّه كان أوسع منهم وأجود مادة في الحديث، إضافة إلى أنّه أوجد نظامًا استدلاليًا وأظهره في كتاباته ومناظراته.
(هات) كلمةٌ كان بها انفصال الشافعي عن المدرسة العراقية وقصتها «أنّ محمد بن الحسن قال للشافعي ذات يوم في الغضب: بلغني أنك تخالفنا، فناظرني، فقلت: إني أُجلّك وأرفعك عن المناظرة، فقال: لابدّ من ذلك، فلما أبى قلت: هات».
يصف ابن كثير هذه المناظرات بقوله: «كانا يتناظران فيما بينهما كما جرت عادة الفقهاء، هذا على مذهب أهل الحجاز، وهذا على مذهب أهل العراق، وكلاهما بحرٌ لا تُكدِّره الدِّلاء».
وخلاصة هذا الانفصال أن الشافعي طعن في جهتين مهمتين في الفقه العراقي هما:
- الأولى: قلة خبرتهم بالسنة مقارنة مع أهل الحديث، ولذا كان يقعون بالاستدلال بالحديث الواهي.
- الثانية: إسرافهم في الرأي، وربما احتجُّوا بأشياء فيقلبها حجّةً عليهم.
دستور النقض:
كان نقض الشافعي على المدرسة العراقية يقوم على دعامتين:
- الدعامة الأولى (المناظرات): ففي كتاب الأم وحده ما يزيد عن مئة وخمسين مناظرة.
- الدعامة الثانية: (المؤلفات).
فقد وضع الشافعي مؤلفات في الرد على المدرسة العراقية ومنها: كتاب على سير الأوزاعي، والرد على محمد بن الحسن، واختلاف العراقِيَّيْنِ (ابن أبي ليلى وأبي حنيفة)، واختلاف عليٍّ وابن مسعود رضي الله عنهما، وإبطال الاستحسان.
انفصل الشافعي عن المدرستين السائدتين في عصره، وألّف في الردِّ عليهما، فكان له نمط متميز ومدرسة متميزة فريدة بذاتها وهو في طوره الأخير
حصاد الانفصال:
لقد تم للشافعي نقض أصول أهل الرأي سريعًا وقد دلّ على ذلك أمران:
- الأمر الأول: انفضاض كثير من حلقات أصحاب الرأي سريعًا، يقول إبراهيم الحربي: «قدم الشافعي بغداد، وفي المسجد الجامع الغربي عشرون حلقة لأصحاب الرأي، فلما كان في الجمعة الثانية لم يثبت منها إلا ثلاث حلق أو أربع حلق».
- الأمر الثاني: ارتحال عدد من العلماء من المدرسة العراقية إلى منهج الشافعي نتيجة مناظرات الشافعي مع أصحاب أبي حنيفة، ومن أهمهم: أبو ثور وحسين الكرابيسي والزعفراني والمزني رحمهم الله تعالى.
ثانيا: انفصال العبقرية عن المدرسة المدنية:
عندما اتسعت معارف الشافعي ومداركه أدرك ما عند أهل المدينة ولاسيما مالك من نوع اضطراب، ولعلّ مناظرات الشافعي مع محمد بن الحسن كانت بداية لنقضه فيما بعد على المدرسة المدنية لا سيما أنه ّربما وقف على ضعفٍ في بعض أصولهم.
سبب انفصال العبقرية:
لمّا وجد الشافعي أصحاب مالك يتعصبون له ويعظمونه تعظيمًا مبالغًا فيه خرجوا فيه إلى الغلو[7] ردّ على أستاذه مالك؛ للتخفيف من هذا الغلو، ولبيان أنّ مالكًا بشرٌ يخطئ ويصيب[8].
دستور النقض:
كان مبدأ نقض الشافعي على المالكية عندما وضع كتابه (اختلاف مالك والشافعي) حيث بدأ بنقض أصولهم وفروعهم ولم يكن قبل ذلك ينقض إلا العراقيين. وكان أظهر ما امتاز به الشافعي في زعزعة أصول المدنيين قضية عمل أهل المدينة واعتباره إجماعًا.
وقد أنكر الشافعي على أهل المدينة ما يأتي:
- مسائل متعلقة بالإجماع: كالتساهل في ادعاء الإجماع في مسائل لا يعلم فيها أقوال لموافق أو مخالف، أو تسمية عمل أهل المدينة وحدهم إجماعًا، أو استدلالهم بإجماع وهو منقوض أو فيه مخالفة من أهل المدينة أنفسهم.
- سيولة استعمالهم لمصطلح عمل أهل المدينة مع جهده في وضع ضابط له فلم يستطع.
حصاد الانفصال:
ويتمثّل في تلك الارتحالات المالكية إلى منهج الشافعي فمنهم: البويطي، والربيع بن سليمان، ومحمد بن عبد الحكم: كان مالكيًا ثم شافعيًا وبعد وفاة الشافعي رجع مالكيًا.
مدرسة فريدة ومنهج متميز:
إذا كان الشافعي قد انفصل عن المدرستين السائدتين في عصره، وألّف في الردِّ عليهما، فما المدرسة التي كان يتبعها بعد هذا الانفصال؟
يجيب الدكتور أيمن صالح بجواب دقيق محكم فيقول: «الشافعي له نمط متميز يجعلنا نعزله عن أهل الحديث ونجعله مدرسة متميزة فريدة بذاتها وهو في طوره الأخير، متميزًا عن الجميع في الأصول والفروع، ممتازًا بثلاث خصائص رئيسة جعلته مختلفًا عن الاتجاهات الفقهية السائدة في زمنه (أهل الرأي وأهل المدينة وأهل الحديث بالمعنى الضيق)، وهي:
- تعظيمه أخبار الآحاد، وهذا وافق فيه أهل الحديث وأهل الرأي وأهل المدينة.
- قصره الاجتهاد على قياس غير المنصوص على المنصوص وإبطاله جميع ضروب الاجتهاد كالاستحسان وسد الذرائع. وهذا خالف فيه أهل الرأي وأهل المدينة بطريقة مباشرة، وأهل الحديث بطريقة غير مباشرة؛ لأنهم كانوا يعتمدون أقضية السلف وفتاويهم التي تقوم على الاستحسان وسد الذرائع.
- قلة اعتماده واعتباره لآثار الصحابة والتابعين، وهذا خالف فيه جميع الاتجاهات وبدرجة أساس فقه المحدثين، والذي يظهر لي في فقه الشافعي أنه نَزَّاع إلى الظاهر مقتصد متردد في التعليل، جمع بين النزعة الظاهرية عند المحدثين وبين النزعة الظاهرية عند أهل الرأي لذا كان هذا الفقه مقدمة لظهور الفقه الظاهري».
والمؤلف وصل إلى خلاصة مفادها:
أنَّ الشافعي قد تميَّز بأمورٍ لم تكن عند غيره، ومنها ما يأتي:
- تضلعه من مختلف المدارس الفقهية في عصره.
- التركيز الدقيق على مشروعه العلمي وهو الفقه، وأخذه من العلوم بقدر ما يمكنه من ذلك.
- العناية بالتصنيف والقدرة على المناظرة لتثبيت حجته واطرادها.
ولئن فاتنا عصر الشافعي وعبقريته فقد رسم لنا منهاجًا لكي نحاذي عبقريته، فهل من مشمّر؟!
أ. مهند تركي الدعفيس
ماجستير في الفقه وأصوله، داعية ومدرس.
[1] برنامج الخزانة مع الشيخ الكتبي عبد الله بن سالم البطاطي.
[2] المرجع السابق.
[3] يقصد المؤلف بالتأثير النوعي أن يكون التأثير على مستوى آليات النظر والمعالجة لا على مستوى العرض والنتائج المحصلة.
[4] مناقب الشافعي، للبيهقي (١/٢٦١).
[5] سير أعلام النبلاء، للذهبي (٨/٢٥٣).
[6] علاقة الإنتاج الفقهي بعلم أصول الفقه المدون، ص (١٠).
[7] وضع الشافعي كتابه على مالك بن أنس؛ لأنه بلغه أن بالأندلس قلنسوة لمالك يستسقى بها! وأنه كان يقال للأندلسيين: قال رسول الله r فيقولون: قال مالك! ينظر: البيهقي، مناقب الشافعي (١/٥٠٨).
[8] هل فاتنا عقل الشافعي، لفايز الصلاح، مقال في مجلة رواء، العدد الثامن.