تأصيل

فقه الواقع وأثره في الفتوى

 

لم يجعل الله تعالى الأنبياء ملائكة، بل بشرًا يوحى إليهم، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويتزوجون وينجبون، حتى تكون حياتهم مشابهة لحياة الناس، قريبين منهم، يعايشونهم ويفهمون أحوالهم، ويرشدوهم إلى تطبيق الدين في واقعهم، وينبغي لأهل العلم أن يكونوا كذلك على قدر كافٍ من القرب من الناس ومعايشتهم وفهم واقعهم، حتى تتحقق فيهم صفة القدوة ويكونوا أقدر على الإرشاد

مدخل:

غير خافٍ أنَّ عصرنا الراهن يشهد تطورًا ملحوظًا في جميع الجوانب العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها؛ مما يحتم على المجتهد معرفةَ الحكم الشرعي في النوازل المستجدة، ولا يتأتّى له ذلك إلا من خلال فقه الواقع فقهًا صحيحًا.

ولفقه الواقع أثر فَعّال في توجيه المجتمع الإسلامي توجيهًا سليمًا، وربطه بأحكام الشريعة الإسلامية، التي تعصمه من الانحراف والزلل، وتقيه خطر الانزلاق، والمروق عن الدين والخطل. لذلك كان لزامًا على المجتهد المستنبط للحكم الشرعي معرفةُ الواقع معرفةً صحيحةً، ومواكبتُه من جميع حيثياته؛ لأنه يُعين على استخراج الحكم الشرعي، وتنزيله على الوقائع المستجدَّة التي لا يوجد نصٌّ صريحٌ فيها.

فما مدى أهمية فقه الواقع، وما أبرز الأمور المعينة على فهمه؟ هذا ما تناقشه هذه المقالة بحول الله انطلاقًا مما يلي:

المقصود بفقه الواقع:

تعددت عبارات أهل العلم في تعريف فقه الواقع، ومنها:

  1. «فهم النوازل والمتغيرات ودراستها دراسة مستفيضة والاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية لها عبر منهج فقهي يجمع بين العلم بالشرع ومقاصده والمعرفة بالواقع ومستجداته»[2].
  2. كما أشير إلى أنه فقه: «واقعي مبني على دراسة الواقع المعيش دراسة دقيقة مستوعبة لكل جوانب الموضوع معتمدة على أصح المعلومات وأدق البيانات والإحصائيات»[3].

ومن هذا يتضح أن فقه الواقع له جانبان:

  • معرفة واقع المستفتي وحاله، فلا يُفتى لشخص حتى يكون عند المفتي تصور لحال المستفتي وعلمٌ بواقعه.
  • معرفة واقع المجتمع وما فيه من أحداث ومستجدات وأمور مؤثرة على الفتوى.

إنَّ التعمُّق في دراسة الواقع وفهمه ومعرفته معرفةً تامّةً يثمر نضجًا في فهم الدين؛ ذلك أن تنزيل حكمٍ شرعيٍّ على واقعةٍ ما، لا يُمكن إلا بفهم ملابسات وظروف هذا الواقع

أهمية فقه الواقع:

أكّد ابنُ القيم رحمه الله على ضرورة فقه الواقع تنبيهًا على أهميته ومكانته، حيث قال: «ولا يتمكَّن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله ﷺ في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا..»[4].

إنَّ التعمُّق في دراسة الواقع وفهمه ومعرفته معرفةً تامّةً يثمر نضجًا في فهم الدين؛ ذلك أن تنزيل حكمٍ شرعيٍّ على واقعةٍ ما، لا يُمكن إلا بفهم ملابسات وظروف هذا الواقع. وإذا كان الأمر كذلك فإنه تزداد أهمية فقه الواقع في استنباط الحكم الشرعي الذي يحتاجه كلُّ مُكلَّف، قال الخطيب البغدادي: «إنَّ الفقيه يحتاج أن يتعلَّق بطرفٍ من معرفة كلِّ شيءٍ من أمور الدنيا والآخرة، وإلى معرفة الجِدِّ والهزل، والنفع والضر، وأمور الناس الجارية بينهم، والعادات المعروفة منهم»[5].كما أن فقه الواقع والإحاطة به يعين على ضبط الفتوى في النوازل والمستجدات، وإخضاعها للأحكام الشرعية.

ويتعلَّق فقه الواقع بمسألةٍ مهمّة ذات بعدٍ عقدي، وهي صلاحية الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان، وهذا مقتضى شمولها وكمالها، كما قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣]، قال سيد قطب: «فأعلن لهم إكمال العقيدة، وإكمال الشريعة معًا، فهذا هو الدين.. ولم يعد للمؤمن أن يتصور أنَّ بهذا الدين – بمعناه هذا – نقصًا يستدعي الإكمال، ولا قصورًا يستدعي الإضافة، ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير.. وإلا فما هو بمؤمن، وما هو بمقر بصدق الله، وما هو بمرتضٍ ما ارتضاه الله للمؤمنين، إنَّ شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن هي شريعة كل زمان، لأنها -بشهادة الله- شريعة الدين الذي جاء «للإنسان» في كل زمان وفي كل مكان، لا لجماعة من بني الإنسان، في جيل من الأجيال في مكان من الأمكنة، كما كانت تجيء الرسل والرسالات، الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي، والمبادئ الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان، دون أن تخرج عليه، إلا أن تخرج من إطار الإيمان، والله الذي خلق الإنسان ويعلم من خلق، هو الذي رضي له هذا الدين، المحتوي على هذه الشريعة، فلا يقول: إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان وبأطوار الإنسان»[6].

يتعلَّق فقه الواقع بمسألةٍ مهمّة ذات بعدٍ عقدي، وهي صلاحية الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان، وهذا مقتضى شمولها وكمالها

المعرفة المطلوبة بفقه الواقع:

تنقسم المعرفة بالواقع بالنظر إلى المستفيد من الفتوى إلى مستويين:

  • الفتاوى ذات الطابع الخاص:

وقد تكون الخصوصية هنا فرديةً، أو تخصُّ تجمعًا معينًا أو مؤسسة، أو جماعة من الناس تجمع بينهم الصفة التي يدور حولها فتوى المفتي أو حكم القاضي، وهنا ينبغي للمتصدِّر لتقديم الرأي الفقهي أو الفتوى أن يُلمَّ بواقع المستفيد وأحواله والجوانب المؤثرة فيه، والفروق بينه وبين غيره، بما يتمُّ به المقصود كالسؤال والاستشارة والتحري، فقد أفتى ابن عباس عندما سأله رجلٌ عن توبة القاتل بقوله: «لا توبة له»، وسأله آخر، فقال: «له توبة»، فلما استفسر منه جلساؤه، قال: «أما الأول فرأيت في عينيه العزم على القتل. وأما الثاني فجاء نادمًا بعد أن قتل، فلم أُقنِّطه من رحمة الله»[7].

  • الفتاوى ذات الطابع العام:

وهي الفتاوى التي تتضمَّن الإجابة عن النوازل المستجدَّة التي يعمُّ أثرها عامة الأمة أو معظمها، وفي هذه الحالة لا بد من الاطلاع على آراء المتخصصين في النازلة بحسب نوعها، طبية كانت أو اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك، وإذا كان الفقيه هو الأعلم بالنصوص الشرعية والأصول الفقهية وقواعد الفتوى وأدواتها، فتفاصيل المعاملات المالية يعرفها الاقتصاديون، والأمراض ومتطلباتها يعرفها الأطباء، وهكذا، وقد بّين الونشريسي: «أنَّ الناسَ يفزعون عند معرفة أحوال الناس وتقديم بعضهم على البعض إلى الاختصاصات ودقائق الزيادات في حسن الفضل وكمال الحال»[8].

فقه الواقع وعلاقته بأصول الفقه:

إنَّ لفقه الواقع علاقة وثيقة بأصول الفقه، إذ هو العلم الذي يضبط عملية الاستنباط والتنزيل، ولا يمكن فهم النصوص الشرعية والتعامل معها إلا من خلاله؛ لذا فإن لفقه الواقع مصطلحاتٍ ترافقه، ولها صلةٌ قويةٌ به من قبيل تنقيح المناط الذي يعني في اصطلاح الأصوليين كونَ الوصف المعتبر في الحكم مذكورًا مع غيره في النص، فينقَّح بالاجتهاد؛ حتى يميَّز ما هو مُعتَبر مما هو مُلْغًى، مثل ما رواه أبو هريرة t قال: أتى النبيَّ ﷺ رجلٌ، فقال: (هلكتُ، قال: ولم؟ قال: وقعتُ على أهلي في رمضان، قال: فأعتقْ رقبةً، قال: ليس عندي، قال: فصُم شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع، قال: فأطعم ستينَ مسكينًا، قال: لا أجد، فأُتي النبي ﷺ بعرقٍ فيه تمر، فقال: أين السائل؟ قال: ها أنا ذا، قال: تصدَّق بهذا، قال: على أحوج منا يا رسول الله؟ فوالذي بعثك بالحق، ما بين لابتيها أهلُ بيتٍ أحوج منا، فضحك النبي ﷺ حتى بدت أنيابه، قال: فأنتم إذًا)[9].

فالحنفية والمالكية حذفوا خصوص المواقعة، وأناطوا الحكم بمطلق الإفطار، فجعلوا الإفطار علة لوجوب الكفارة، بخلاف الشافعية والحنابلة[10].

فالمجتهد إذا اجتهد في استخراج الوصف الذي علَّق عليه الشارع الحكم، يتبين له أن الحديث يمكن أن يستخرج منه أوصافٌ أخرى، فلا بدَّ له من أن يخرج الأوصاف التي لا مدخل لها في العِليَّة لعدم صلاحيتها للتعليل، وهي في هذا الحديث: كون المجامع أعرابيًّا، وكونه قد وطئ في رمضان في تلك السنة، وكونه قد وطئ امرأته.

في النوازل المستجدَّة لا بد للفقيه من الاطلاع على آراء المتخصصين بحسب نوع النازلة، طبية كانت أو اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك، وإذا كان الفقيه يعلم النصوص الشرعية وقواعد الفتوى، فتفاصيل الأمور الاختصاصية لها من يعرفها

علاقة فقه الواقع بفقه الأحكام الشرعية:

إنَّ فقه الواقع ينتجُ عنه الوصولُ إلى الفقه الدقيق للحُكم الشرعي؛ والوصول إلى الحكم الشرعي بمثابة توقيعٍ عن الله أحكمِ الحاكمين، وعن الرسول الأمين، صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين؛ وعليه فلا بد أن يكون بعلمٍ، وإلا كان ضربًا من الافتراء والكذب، أو كان اتّباعًا للهوى والتعصب، والله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ [النحل: ١١٦].

ولذا فإن المجتهد يحتاج إلى بذل الجهد والوسع والطاقة من أجل تجلية الأحكام، وتنزيلها على الوقائع الحادثة والمستجدة التي لا نصَّ فيها صريح، تنزيلاً صحيحًا، يتماشى مع قواعد الاجتهاد، ولا يمكن تقويم اعوجاج المجتمع الإسلامي إلا بضبط فقه الأحكام الشرعية، مع مراعاة فقه الأولويات فيه؛ ذلك أن الله جَلَّ وعَزَّ لا يُعبد بجهلٍ، وإنما يُعبد بعلم، والأمة اليوم تُعاني ما تعاني من أزمة عدم فقه الحكم الشرعي. فحينما نذهب إلى المساجد نجد تغييبًا لكثير من المسائل الفقهية، وحينما نذهب إلى الأسواق نجد الشيء نفسَه، وفي المدارس والجامعات حدِّث ولا حرج، وهلمَّ جرًا في كل القطاعات نجد الفقه مُغَيّبًا، وقَلَّ مَن يعلم الحكم الشرعي في المسألة التي يريد أن يُقدم عليها.

أهمية الاستفادة من الوقائع الماضية وأعراف الناس:

تُعدُّ الاستفادة من وقائع الماضي التي هي إما من قبيل السنن الكونية، أو من قبيل المسائل التي عالجت قضايا عرفها المجتمع الإسلامي من قبلُ؛ مُهِمَّة وضرورية بالنسبة للمجتهد الذي تُوَجّه إليه المسائل قصد الإجابة عنها؛ لأنه سيبني معالجةَ واقعِهِ على ضوء ما عولجت به تلك القضايا من قبل إنْ كانت مشابهةً لها، وهي بدون شك تُفيد في فهم الحاضر، وتسهم في بنائه بناءً سليمًا، وفي استشراف المستقبل.

بعد ذلك تأتي طريقة معالجة قضايا الواقع، وتعتمد أساسًا على الاطِّلاع الواسع على أعراف الناس وعاداتهم وتقاليدهم؛ لكي يميز المجتهد بين ما هو موافقٌ للشرع فيعتمده، وبين ما هو مخالفٌ له فيطّرحه، ولا يتأتَّى تحرير محلِّ النزاع ولا الفصل في أية حادثةٍ تحدُث للمجتمع الإسلامي إلا بعد بذل الجهد في معرفة العُرف الصحيح؛ لأنه هو المعتبر شرعًا، ومراعاته واجبة؛ كيف لا وهو دليلٌ مهمٌّ من الأدلة الإجمالية المعتمدة عند المالكية.

قال ابن عاصم:

العرف ما يُعرف بين الناس *** ومثـله العـادةُ دون بـأس

ومقتضـاهـما معًا مشروع *** في غير ما خالفه المشروع[11]

حتى إنَّهم اعتبروه نوعًا من المصلحة، وتوسَّعوا فيه كثيرًا فخصصوا به بعض العمومات من مثل: جواز بيع المعاطاة[12]، فقد ذهب المالكية إلى القول بصحة هذا البيع، قال الشيخ خليل: «ينعقد البيع بما يدل على الرضا، وإنْ بمعاطاة»[13]، بأن يأخذ المشتري المبيع ويدفع للبائع ثمنه من غير تكلم ولا إشارة ولو في غير المحقرات.

قال الدسوقي: «قوله: بما يدلُّ أي: عرفًا سواء دل على الرضا لغةً أيضًا، أو لا، كبعتُ واشتريتُ وغيره من الأقوال كالكتابة والإشارة والمعاطاة. وعلق الصاوي: «قوله: وما دلَّ على الرضى، أي: عرفًا سواء دلَّ عليه لغةً أيضًا أو لا…»[14]، ويستدلُّون على دعواهم بالعرف؛ لأنَّ الشارع لم يوضح كيفية البيع ولا طريقة الإيجاب والقبول، بل ترك هذا كُلَّه إلى العرف، وحينئذ فإن البيع يكون صحيحًا بالمعاطاة.

ومعلوم أنَّ رسول الله ﷺ حين بعثه الله في قومه، وجد أعرافًا وعاداتٍ، فأقرَّ منها ما كان للشرع موافقًا، وأبطل ما كان فاسدًا ومخالفًا، وموقف الصحابة واضحٌ في هذا الأمر، فقد اعتبروه وحَكَّمُوه في كل ما لا يُصادم النص الشرعي، أو يتعارض مع روح مبادئه، فهم واجهوا خليطًا من العادات في البلاد التي فتحوها، فأقرُّوا الصالح منها، وألغَوا ما سواه، وموقف التابعين من العرف لا يختلف عن موقف الصحابة كذلك، وعلى مَهيع الصحابة والتابعين سار الأئمةُ بعدهم، فكلُّ المذاهب الفقهية حَكَّمَت العرف على اختلاف في التوسُّع في الأخذ به وعدمه، ولذا يجب على المفتي المجتهد أن لا يُصدر حكمًا ولا فتوى حتى يَعرف عُرْف البلد الذي هو فيه، وقد قال المقري في هذا المعنى: «كل متكلِّم له عُرف، فإنَّ لفظه يُحمل على عُرفه في الشرعيات والمعاملات»[15]، وقال أيضًا: «من تقرَّرت له عادة عمل عليها»[16].

مثال على ما تقدَّم:

إذا جرى عرفُ بعض الناس في الطلاق بلفظ التسميح، بحيث لا يعرفون لهذا المعنى غيرَه، فإذا قالت المرأة: اسمح لي، فقال: سمحتُ لكِ، فهذا صريحٌ في الطلاق عندهم[17]. وهذا بابٌ عظيم من لم يعرفه من المفتين أوقع الناس في الغلط، وكذب على الله ورسوله وغيّر دينه، وحرّم ما أحله الله، أو أحلّ ما حرمه الله، وأوجب ما لم يوجبه الله.

إذا لم يكن المفتي أو القاضي يقظًا فطنًا: راجَ عليه المكرُ والخداع، فقد يبدو له الظالم في صورة المظلوم، فإن لم يجتهد ويبذُل وُسعه في معرفة محيطه ومجتمعه، فإنه يصعب عليه التمييز بين الناس وأحوالهم، وقد تنطلي عليه الحيل

نماذج معاصرة لفقه الواقع، وأهمية تصوُّرها في استنباط الحكم الشرعي:

إنَّ عصرنا الحالي كما تقدَّم يشهد تقدُّمًا ملحوظًا في فنونٍ شتى، وما من مجال إلا ويحوي نوازل عديدة، فكان هذا سببًا داعيًا إلى الإحاطة بتلك النوازل، وتصوُّرها تصورًا صحيحًا من أجل الوصول إلى الحكم الشرعي، إذ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره، كما هو مُقرَّر عند المناطقة. والنماذج المعاصرة كثيرة جدًا، أذكر منها ما يلي:

  1. فقه الواقع الافتراضي الذي يُعتبر مجتمعًا من نوع خاص، ويضم مسائل كثيرة، ينبغي الإحاطة بها، والتعرُّف على ما يجري به من معاملات تجارية، وعلاقات اقتصادية، وغيرها.
  2. معرفة واقع المنشآت الصناعية وما يروج داخلها، وما ينتج فيها من مواد استهلاكية، والمركّبات التي تدخل في إنتاجها.
  3. معرفة واقع المعاملات الاقتصادية المعاصرة، وتفاصيلها الدقيقة، ومداخلها ومخارجها.
  4. معرفة واقع بعض المواد الدراسية بالجامعات، وأثرها السلبي على الناس عمومًا، والشباب على وجه الخصوص (مثل مادة مقاربة النوع، أو ما يسمى بالجندر) وأثرها في الدعوة إلى الشذوذ الجنسي.
  5. معرفة واقع الهجرة، خاصة هجرةَ الشباب إلى الديار الغربية، وزواجهم بالكتابيات، والذي لم يعد يحقق المقصد الذي أباحه الإسلام من أجله.
  6. فقه واقع الأسواق وما يباع فيها، ومختلف المعاملات التي تجري بداخلها، سواء الأسواق الغذائية، أو الأسواق الإلكترونية، أو غيرهما.
  7. فقه واقع الأسرة وما تواجهه من تحديات ومشاكل.
  8. فقه واقع الجيران على مستوى العمارات السكنية، وما يحدث من مشاكل بسبب انتشار مد الفردانية.

على المفتي أن يتوسط بين التشديد على الناس والتسرع في التحريم، وبين تمييع الدين والتساهل في الفتوى بحجة الواقع الجديد غير المسبوق، وعليه أن يبذل جهده في تحري الجواب الصحيح بالمعرفة الشرعية المكتملة، والفهم الدقيق للواقع مع التوسط والاعتدال

بعض الضوابط المهمّة في فهم الواقع:

إن من الأمور الضرورية التي تعين المجتهد على فهم الواقع:

  1. أن يكون المفتي متيقظًا حذرًا حتى يعرف الناسَ من جميع مستوياتهم، ومن جميع حيثياتهم؛ ذلك أن بعض الناس اعتاد المكر والخداع، فإن لم يكن المفتي أو القاضي يقظًا فطنًا راج عليه مكرُهم وخداعُهم[18]، فقد يتصوَّر له الظالم في صورة المظلوم، والزنديق في صورة الصدِّيق، والكاذب في صورة الصادق، فإن لم يجتهد ويبذُل وسعه في معرفة محيطه ومجتمعه، فإنه يصعب عليه التمييز بين هؤلاء الناس وأحوالهم، ويؤدي به الجهل بما تقدَّم إلى أن تنطلي عليه الحيل[19]. وهذا مما لا يَليق بالمفتي المجتهد، وقد أومأ النبي ﷺ إلى هذا المعنى في قوله: (ولعلَّ بعضَكم أن يكون أَلحنّ بِحُجَّته من بعض، وأقضي له على نحوِ ما أسمع…)[20].
  2. دراسةُ نفسية المستفتي، والجماعة التي يعيش فيها المفتي المجتهد، ليعرف أثر الفتوى في مجتمعه سلبًا وإيجابًا.
  3. والمعهود عند فقهاء المالكية وغيرهم، أنه لا يجوز للذي يهتم بالإجابة عن قضايا الناس الواقعة والمتوقعة، أن يُعالجها من غير أن يعرف عُرْف المجتمع الذي تنزل به تلك الوقائع والحوادث؛ لأنَّ الأحكام المبنية على الأعراف تتغير بتغير الزمان والمكان والإنسان، فإذا كان المجتهد يجهل حال الناس، ربما أفتى بغير الصواب، نتيجة جهله بعرف الناس.

ومن أجل أهمية معرفة عُرْف الناس اشترط فقهاء المالكية في إقامة الجمعة بالنسبة للإمام أن يكون مقيمًا، بحيث لا تصحُّ الجمعة خلف مسافر على الرأي الصحيح[21]، وذلك حتى يطَّلع على ما يمكن معالجته من مستجدَّات الأسبوع.

  1. عدم الاستغراق في الواقع: بحيث يكون الانشغال بتفاصيل الحياة اليومية ودقائقها مستغرقًا لغالب الوقت والجهد، أو غالبًا على دراسة العلم الشرعي والتبحُّر فيه، ويكفي فيه ما يوضح الصورة ويوصل العلم ويرفع الجهالة، ومما يغني عن الاستغراق فيه: استشارةُ المتخصصين وسؤالهم، كما هو حاصلٌ في المجامع الفقهية ومجامع الفتوى من استشارة المتخصصين وسؤالهم في تصوير الواقعة وفهمها.
  2. عدم استغراق جميع المجتهدين فيه؛ فليس المطلوب من جميع المجتهدين وطلبة العلم أن ينشغلوا بمتابعة تفاصيل الواقع ومجرياته، إذ يكفي لذلك إحاطة فريقٍ منهم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢].
  3. استفراغ الوسع في النظر في القواعد والأصول والقطعيات، والتوسط بين التشديد على الناس والتسرع في التحريم وإيقاع الناس في الحرج، وبين تمييع الدين والتساهل في الفتوى بحجة الواقع الجديد غير المسبوق وأنَّ الواقع صار ضرورة لا يمكن الانفكاك عنه، وقد ينشأ مثل هذا من التغافل عن مراتب الأحكام والنصوص بين القطعي والظني وما إلى ذلك، والصحيح هو بذل الجهد في تحري الجواب الصحيح بالمعرفة الشرعية المكتملة، والفهم الدقيق للواقع مع التوسط والاعتدال في الفتوى.

لا يمكن استنباط الأحكام، أو تنزيلُها تنزيلاً صحيحًا على المستجدَّات إلا من قِبَلِ الفقيه المجتهد الذي توفَّرت فيه شروط الاجتهاد، وكان ماهرًا في كيفية التنزيل، ومحيطًا بفقه الواقع الذي يعيشُه في بيئته ومجتمعه

وختامًا:

الفقيه الواعي بجسامة ما كُلف به شرعًا، هو الذي يتفقَّد أحوال الناس، ويخرج إلى أماكن عملهم في المؤسسات التعليمية، والطبية، والحكومية، والدكاكين، والبساتين، وأوراش الأعمال، والمقاولات؛ حتى تكون له دراية بما يجري في عالم الناس، ولا يستطيع أن ينزِّل الأحكام على الوقائع تنزيلاً حقيقيًا إلا إذا خالط الناس، سواء كانت هذه المخالطة واقعية أو افتراضية، إذ لا يخفى ما نعيش اليوم في أمواج التكنولوجيا العاتية، والتي فيها أمورٌ غامضةٌ جدًا، فلا بد إذًا من الإحاطة بتلكم الأحداث، وتلكم المسائل التي صارت جزءًا لا يتجزَّأ من حياة الناس اليوم، بغضّ النظر عن السلبيات أو الإيجابيات المحيطة بها، وذلك مثل حكم الصداقة الافتراضية، وما ينبني عليها، وهل يمكن أن تقاس على الصداقة الحقيقية؟ ومثل طلب الصداقة من ذكر لأنثى في وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، انستغرام، واتساب..) والعكس بالعكس، ومثل حكم إجراء كثير من العقود عبر وسائل التواصل، وهل تعتبر أو لا؟ وهل الأيمان المكتوبة في الدردشات منعقدة أو غير منعقدة، وهلم جرًا.

مع العلم أن تاريخ الأمة الإسلامية سجل لنا حضور الفقهاء ومشاركاتهم في ميادين كثيرة من المهن، والحرف، وأنواع التجارة، فكان منهم الخراز، والزيات، والخياط، والنساج، والجندي وهلم جرًا..

وعلى ضوء ما سبق، يمكن القول إنَّه لا يمكن إيجاد الأحكام، أو تنزيلُها تنزيلاً صحيحًا على المستجدَّات إلا من قِبَلِ الفقيه المجتهد الذي توفَّرت فيه ضوابطُ وشروط الاجتهاد، وكان أيضًا ماهرًا في كيفية التنزيل، ومحيطًا إحاطةً كاملةً بفقه الواقع الذي يعيشُه هو أولاً، ومجتمعه ثانيًا، فمن كان ضعيفًا فيه زلَّ في تقرير الأحكام، والْتبستْ عليه المسائل حتى صار يتخبَّط في كثيرٍ من الأوهام.

[1] أستاذ وباحث في العلوم الشرعية.

[2] مقال حول فقه الواقع، د. عصام البشير.

[3] أولوية الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، د. يوسف القرضاوي، ص (٣٠).

[4] إعلام الموقعين، لابن القيم (١/٦٩).

[5] الفقيه والمتفقه (٢/٣٣٤).

[6] في ظلال القرآن (٢/٨٤٣).

[7] أخرج ابن أبي شيبة (٢٧٧٥٣): جاء رجل إلى ابن عباس فقال: لمن قتل مؤمنًا توبة؟، قال: «لا إلا النار»، فلما ذهب قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا، كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنًا توبة مقبولة، فما بال هذا اليوم؟ قال: «إني أحسبه رجلاً مغضبًا يريد أن يقتل مؤمنًا» قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك.

[8] المعيار المعرب (٦/٣٥١).

[9] أخرجه البخاري ( ٥٣٦٨).

[10] فتح القدير، لابن الهمام (٢/٣٢٧).

[11] نظم مرتقى الوصول إلى علم الأصول لابن عاصم.

[12] المعاطاة اصطلاحًا: هي أن يأخذ المشتري المبيع ويدفع للبائع الثمن، أو يدفع البائع المبيع فيدفع له الآخر ثمنه من غير تكلّم ولا إشارة.

[13] مختصر خليل، ص (١٤٣).

[14] ينظر الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي الشرح الكبير (٢/٣).

[15] القواعد لأبي عبد الله المقري، القاعدة ٤٥٣.

[16] المصدر نفسه، القاعدة ١١٩.

[17] ينظر: إعلام الموقعين، لابن القيم (٤/١٧٥).

[18] الفكر السامي (٢/٤٢٨).

[19] إعلام الموقعين (٤/٢٠٥).

[20] أخرجه البخاري (٦٩٦٧).

[21] شرح ميارة الصغير، ص (٣٠٧).

X