ما زال أعداء الإسلام يشككون بالسنة النبوية، وما زال أهل العلم يردّون شبههم، ومن الكتب النافعة التي ردت على مؤلَّف لأحد الطاعنين في صحيح البخاري كتاب (الجناية على البخاري)، حيث عمد مؤلفه الشيخ (مروان الكردي) إلى رد كثير من الشبه القديمة والأباطيل الحديثة التي وردت بمنهجية سلسة وأجوبة مسكتة.
مدخل:
تعرّضت السنّة النبوية لمحاولات التشكيك بها على مرّ العصور، ولا يزال المشكّكون من أعداء الإسلام وأذنابهم يكرّرون شبهاتِ مَن قبلَهم ويخترعون شبهات جديدة، ولا يزال أهل العلم يَردون شُبهَهم ويدمغون باطلهم بالحقّ الأبلج؛ قيامًا بحق الله عليهم.
ومن هؤلاء الطاعنين: «زكريا أوزون»، وهو مهندس سوري مختصّ في دراسات البيتون المسلّح وأعمال التدعيم الإنشائي، مقيم في إيرلندا[1].
سوَّد بياضَ صفحاتٍ جمع فيها شبهًا قديمة نقلها، وأضاف إليها ما وسوس إليه شيطانه، وألقى بها في فضاء الإنترنت، وأعانه على نشر أباطيله وجناياته على الإسلام بعضُ القنوات غربية الهوى والتمويل، وجمع في هذا ما سمّاه (جناية البخاري، إنقاذ الدين من إمام المحدثين).
فانبرى لهذا المأفونِ عالمٌ فحل بَيَّن بقوة الحجة تهافتَ الشبهات التي جمعها «أوزون»، وكشف عَوارَ فِكره، وأبطل كيده وردّه في نحره، إنّه الشيخ: «مروان الكردي»، مؤلف كتاب (الجناية على البخاري) الذي نقدّم قراءة فيه في هذه المقالة.
نبذة عن المؤلف[2]:
مروان بن عزيز الكردي، باحث شرعي عراقي، من كردستان العراق، يكتب بالعربية والكردية، تخصص في الدفاع عن الإسلام وردّ الشبهات، له من الكتب: (الجناية على البخاري، الجناية على سيبويه، الجناية على الشافعي، الوحي الثاني في ضوء الوحي الأول)، وله شروح على كتب في علوم متعددة.
اسم الكتاب:
الجناية على البخاري: قراءة نقدية لكتاب جناية البخاري.
وصف الكتاب:
يقع الكتاب في ٥٠٠ صفحة من القطع المتوسط، طبعه مكتب التفسير للنشر والإعلان، في أربيل، ٢٠١٧م.
تتبع المؤلف فيه ما في كتاب الجاني «أوزون» من الشبهات وجمع بين المتشابه منها وأجاب عليها شبهةً شبهة، مع استطراده في ذكر الحجج التي تكفي للرد على شبهات «أوزون» وغيره من المتقدمين والمعاصرين.
تتعرض السنة للطعن من غير المتخصصين الذين لا يعرفون القواعد الحديثية، ولا يميزون بين الصحيح والفاسد، ويعتمدون في معلوماتهم على كتابات المستشرقين، فكانت كتاباتهم مبنيةً على الجهل، وأبعد ما يكون عن العدل والإنصاف والموضوعية والموثوقية
القراءة في الكتاب:
ذكر المؤلف في مقدّمة كتابه لمحة عمّا تتعرّض له السنّة المطهّرة من طعون من غير المتخصصين الذين لا يعرفون شيئًا عن القواعد الحديثية، ولا يميّزون بفهمهم السقيم بين الصحيح والفاسد، ويعتمدون في معلوماتهم على كتابات المستشرقين، فكانت كتاباتهم كلّها مبنيةً على الجهل، وأبعد ما يكون عن العدل والإنصاف والموضوعية والموثوقية.
لا يزال المشكّكون من أعداء الإسلام وأذنابهم يكرّرون شبهاتِ مَن قَبلهم ويخترعون شبهات جديدة، ولا يزال أهل العلم يَردون شُبهَهم ويدمغون باطلهم بالحقّ الأبلج؛ قيامًا بحق الله عليهم
«زكريا أوزون» وأزمة المصادر:
في هذا الإطار بيّن المؤلّف حال «أوزون» مع المصادرِ التي اعتمد عليها وأنّها غير موثوقة في الجملة، فمِن أهم ما اعتمد عليه: (حياة الحيوان للدميري، والبيان والتبيين للجاحظ، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ومروج الذهب للمسعودي)! وهي كتب قصص وفكاهة، وفيها أكاذيب وأساطير، ومؤلف كتاب (الأغاني) متّهم بالكذب والتشيع[3].
وإذا نقل «أوزون» مِن كتب التاريخ: عزا النقل إلى الكتاب بذكر اسمه دون ذكر الجزء والصفحة، حتى لو بلغ عدد مجلداته ثلاثين مجلدًا. ويعتمد على مجرّد النقل منها دون تمحيص، ومعلوم أنّ كتب التاريخ كـ (تاريخ الطبري، تاريخ دمشق، الكامل في التاريخ، سير أعلام النبلاء، تاريخ الإسلام، البداية والنهاية، تاريخ بغداد، المنتظم) جمع فيها مصنفوها ما وصلهم مِن الروايات بأسانيدها دون تحقيق، وتركوا التمحيص في صحّتها لمن يليهم مِن المحقّقين، وقد صرّح بعضهم -كالطبري[4]– بأنّ فيها الضعيف والموضوع-، وفيها أخبار بلا أسانيد أصلًا، فهل يجوز الاعتماد على ما ورد بإسناد ضعيف أو موضوع أو بلا إسناد؟!
«زكريا أوزون» وأزمة الفهم والمغالطة والافتراء:
ملأ «أوزون» كتابه بالكثير من الجهل والمغالطة والافتراء، فأخذ في الطعن في السنّة النبوية وحجّيتها وكونها مصدرًا للتشريع، والتشكيك في عدالة رواتها وفي مقدّمتهم الصحابة رضي الله عنهم، ثم بدأ التشكيك بصحّة أحاديث البخاري بزعم مخالفتها للعقل، وللقرآن الكريم، وللمعطيات العلمية والأعراف السائدة اليوم! إلى غير ذلك من الشبهات والترّهات التي قام المؤلف –جزاه الله خيرًا- بالردّ عليها وتفنيدها. وسأقتصر في هذه القراءة على بعض هذه الردود بذكر خلاصتها، وأترك سائرها لمن سيقرأ الكتاب كاملًا.
مشكلة «أوزون» مع العقل والنقل:
ذكر المؤلف أن «أوزون» ليس أول ولن يكون آخر من يقدِّم العقلَ على النقل، وهذه مشكلة منهجية، فـ«أوزون» حين يُهدي كُتبه (جناية البخاري، جناية سيبويه، جناية الشافعي) إلى كل مَن يحتكم إلى العقل في الحكم على النقل يدّعي بأنّه لم يهتدِ إلى الحق إلا هذه الفئة التي يُهدي إليها كتبه.
حجية السنة النبوية عند جميع الفرق الإسلامية:
يدعي «أوزون» أنّ إشكالية الحديث النبوي مِن أهم وأعقد الأمور في الدين الإسلامي.
فإن كان يقصد أنّ السنّة اختلط صحيحها بضعيفها: فهذا ليس مشكلًا ولا معقدًا، بل يميزها الطالب المبتدئ في علم الحديث، ولا يوجد حديث واحد لا نستطيع أن نحكم عليه بالصحة أو الضعف.
وإن كان يقصد أنّ السنّة ليست حجةً: فيُرد عليه بأنّ السنة النبوية حجّة عند جميع الفرق الإسلامية، وقد ذكر المؤلف نقولات تفيد ذلك.
تلقّى المسلمون صحيح البخاري بالقَبول واعتقدوا صحّته، لكن هذا لم يجعلهم عُميًا عن نور البحث والتدقيق، بل وضعوه تحت الدراسة والتحليل العلمي الرصين، وبمنهجية رصينة لم يعرفها غيرُ المسلمين
هل صحيحُ البخاري مقدّس؟
تلقّى المسلمون صحيح البخاري بالقَبول واعتقدوا صحّته، لكن هذا لم يجعلهم عُميًا عن نور البحث والتدقيق، بل وضعوه تحت الدراسة والتحليل العلمي الرصين، وبمنهجية رصينة لم يعرفها غيرُ المسلمين.
وقد انتقد الدارقطني في الصحيحين عددًا من الأحاديث، ومع أنّه لم يُصِب في جلِّ الأحاديث التي تكلّم فيها إلّا أنّ العلماء لم يقدحوا فيه، بل ردّوا عليه باحترام بالغ؛ لأنّه تكلم بعلمٍ واعترض بحلمٍ دون هوىً أو فظاظة.
الأجوبة المسكتة لتساؤلات «أوزون» حول السنة النبوية:
1. هل الحديث النبوي وحي منزّل؟
يدعي «أوزون» أن الحديث النبوي ليس وحيًا منزلًا.
والردّ عليه جاء في قول الله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ٣ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: ٣-٤]، ولا يمكن أن يُراد بالضمير (هو) القرآن الكريم؛ لأنّه ليس له ذِكر من بداية السورة، والآية جاءت مطلقةً في نفي الهوى عن قوله ﷺ، وهذا يشمل قولَه في أمور الدين والدنيا، أمّا أمور الدنيا فليس قولُه فيها دينًا ملزِمًا، وأمّا أمور الدين فنُطقُه فيها إمّا قرآن وإمّا سنّة، وكلاهما وحي من الله، ونفيُ الهوى شامل للنوعين.
يضاف إلى هذا: اقترانُ طاعةِ الرسول ﷺ بطاعة الله، واقتران (القرآن) بـ (الحكمة) في آيات عديدة بحرف العطف الذي يقتضي المغايرة، فينبغي أن تكون (الحكمة) هي سنته ﷺ.
2. هل ثبوت الأحاديث جميعها محل الظن؟
يعترض «أوزون» على الحديث بأنّه: «ظنّي الثبوت، ولو كان ظنّي الثبوت لم يكن وحيًا».
والجواب: أنّ كثيرًا من الأحاديث ثبتت بالتواتر اللفظي أو المعنوي، وغالب الأحكام العقدية والفقهية تندرج تحت أحد هذين النوعين.
كما أنَّ المسائل الفقهية يكفي فيها الظنّ الراجح، وقد أُخرجت الأحاديث الصحيحة بطريقة التنقية التي لا تدع مجالًا للشك فيها.
3. الأحاديث نُقلت بالمعنى دون اللفظ.
هذا الاعتراض يُظهر قلّة بضاعة «أوزون» في المعقول والمنقول؛ فالأحاديث معناها وحي من الله تعالى واللفظ للنبي ﷺ، والرواية بالمعنى وقعت في بعض الألفاظ لا في كلّ المتن، ووضع العلماء شروطًا لجواز الرواية بالمعنى مِن أهمّها: معرفته بالعربية بحيث لا يتغير المعنى.
4. لم يأمر النبي ﷺ بكتابة السنة.
وهي شبهة استشراقية قديمة، فالكتابة لم تكن منتشرة في ذلك العصر حيث كان العرب يعتمدون على مَلَكَة الحفظ، فكان الرجل يحفظ القصيدة من عشرات الأبيات من مرّة واحدة.
وعلى الرغم من ذلك فقد كُتبت أحاديث كثيرةٌ في عهد النبي ﷺ، وقد أمر النبي ﷺ بكتابة العقود والعهود والرسائل التي أرسلها إلى الملوك، وأمر بكتابة وثيقة المدينة عندما وصل إليها، وأمر بكتابة (كتاب الصدقات)، وكان عند كثير من الصحابة صحف كتبوها من حديث النبي ﷺ[5].
5. النهي عن كتابة السنّة.
يستدلّون بحديث: (لا تَكتبوا عني، ومَن كتب عني غيرَ القرآنِ فَلْيَمْحُهُ)[6] والراجح أنّ الحديث موقوف على أبي سعيد الخدري رضي الله عنه كما رجّح ذلك البخاري، ويرى مَن يصححه أنّ هذا كان في أول الإسلام ثم نُسخ بالأحاديث التي يأمر فيها النبي ﷺ بالكتابة.
قرر علماء الإسلام أن ما صدر عن النبي ﷺ كله شرع، فإما أن يفيد الوجوب أو الندب أو الإباحة، بحسب القرائن والجمع مع الأدلة الأخرى
6. هل السنّة مصدر تشريع؟
يقول «أوزون»: «أغلب الحديث النبوي ليس مصدر تشريع؛ لأنّ معظم ما وصلنا عن طريقه لم ينفرد به النبي ﷺ عن غيره من الناس لكي يُتخذ شرعة ومنهاجًا مِن بعده، فمثلًا لم يكن النبي ﷺ أول إنسان يأكل باليمين أو يأكل التمر… أو يبكي على وفاة ابنه أو ينام على جنبه الأيمن أو يقبّل النساء».
والجواب: أنّ علماء الإسلام قرّروا أنّ ما صدر عن النبي ﷺ إن كان من أمور الدنيا فهو ليس شرعًا مُلزِمًا، وإن كان من أمور الدين فكلّه شرع. وصحيح أنّ النبي ﷺ ليس أول من أكل باليمين لكنّه نهى عن الأكل بالشمال فيستفاد من النهي الكراهة، ولم يكن أول من يقبّل النساء لكن يستفاد من هذا الفعل جواز التقبيل للصائم وعدم فساد الصيام بالقُبلة، والبكاءُ على الولد يستفاد منه أنّه لا ينافي الصبر المأمورَ به.
7. هل الحديث النبوي مقدَّس؟
يتساءل «أوزون» ثم يقرّر: «بناء على ما سبق فإنّ الحديث النبوي ليس مقدسًا» ثم يستدل على هذا بقوله: «معظم ما ورد في الصحاح والمتون وغيرها عند أهل السنّة لا يُعترف به عند الإخوة الشيعة».
والجواب: ليست قداسةُ شيءٍ متوقفةً على إقبال الناس عليه أو عدم إقبالهم، بل هو متوقف على ذات الشيء هل هو صحيح؟
ويقال: إن كنت تقصد الزيدية فهذا غير صحيح، فهم يؤمنون بكتب الحديث عند أهل السنة ويحترمونها، وإن كنت تقصد الروافض فهم يصرّحون بتحريف القرآن الكريم ونقصه.
ولو طبقنا هذه القاعدة «الأوزونية» لَآلَ كلُّ مقدس إلى الزوال.
8. هل كلّ رواة الحديث من الصحابة عُدول؟
يقول «أوزون»: «إنّ الصحابة كغيرهم من الناس يخطؤون ويصيبون، يضلون ويهتدون، يعلمون ويجهلون، ونزلت فيهم آيات عديدة من القرآن الكريم تنتقدهم وتصحح مسارهم وأعمالهم، حتى إنّ سورة التوبة سُميت بالفاضحة لأنّها أظهرت حقائق الكثير منهم آنذاك».
والجواب: لماذا لا يكون «أوزون» صادقًا، ويصرّح بأنّ سورة التوبة نزلت في المنافقين وفضحتهم؛ لأنّهم تركوا الجهاد وأعانوا الكافرين؟!.
يكفي الصحابةَ رضي الله عنهم ثناءُ الله عليهم، من مثل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: ٧٤]، وقوله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ إلى قوله فيها ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: ٢٩].
وليس معنى عدالة الصحابة أنّهم معصومون من الآثام، فهم بشر كغيرهم، يقعون في الصغائر، وقد يقع بعضهم في الكبائر لكنه لا يستمر عليها فيرجع ويتوب، ولكنّ معناها أنّهم صادقون فيما نقلوه من حديث رسول الله ﷺ وهذا بإجماع الأمة.
وأعداء الإسلام وأذنابهم أرادوا الطعن في الصحابة؛ ليَردُّوا كلّ ما جاء عن طريقهم.
تكررت إساءات «أوزون » لكبار الصحابة، فطعن بأبي هريرة وافترى على أم المؤمنين عائشة وكذلك على حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، حيث سرق بعض إساءاته من سابقيه، واعتمد في الأخرى على مرويات باطلة لم تثبت
جناية «أوزون» على أبي هريرة:
إنّ الادعاءات التي ساقها «أوزون» على أبي هريرة رضي الله عنه سرقها من الشقي محمود أبي رية دون أن ينسبها إليه، وهو يتكلّم عن المنهجية العلمية والبحث والتنقيح، فلِمَ لَم ينسبها إليه؟ ولو أنّه قرأ ما كتبه الشيخ عبد الرحمن المعلِّمي أو الدكتور مصطفى السباعي في تفنيد شبهات أبي رية ما نقل منه حرفًا.
مدة صحبة أبي هريرة رضي الله عنه للنبي ﷺ وعدد رواياته:
يقول «أوزون»: «التقى أبو هريرة بالرسول[7] لفترة لم تزد على السنة وتسعة أشهر بأية حال من الأحوال، ومع ذلك فقد كان أكثرَ الصحابة رواية عن الرسول، مما جعل الصحابة وعلى رأسهم السيدة عائشة يتهمونه وينكرون عليه ذلك».
وفي هذا عدة تحريفات:
- كلامه يُشعر بأن اللقاء كان في السوق أو الطريق، ليسلب من أبي هريرة رضي الله عنه فضيلة الصحبة والهجرة إلى النبي ﷺ، مما يبين حقده الدفين.
- قوله: «لفترة لم تزد على السنة وتسعة أشهر» هو باطل محضٌ، فأبو هريرة صحب النبي ﷺ أكثر من أربع سنوات؛ قال الحافظ ابن حجر: «قدم في خيبر سنة سبع وكانت خيبر في صفر ومات النبي ﷺ في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، فتكون المدة أربع سنين وزيادة»[8].
- أما عن كثرة الأحاديث المروية عن أبي هريرة: فهذا لأنّ أبا هريرة رضي الله عنه عاش بعد النبي ﷺ سبعًا وأربعين سنة، ونشر العلم الذي سمعه منه، وهذه الأحاديث مكررة تكرارًا كثيرًا في كتب السنة، وما انفرد به أبو هريرة في الكتب التسعة هو اثنان وأربعون حديثًا فقط، تشمل الصحيح والضعيف[9].
- أما اتهام الصحابة لأبي هريرة رضي الله عنه فلا يمتُّ إلى الحقيقة بصلة، قال ابن عمر رضي الله عنهما: «أبو هريرة خير مني وأعلم بما يُحَدِّث»[10].
وما ذكره «أوزون» مِن أنّ عليًا رضي الله عنه كذَّب أبا هريرة رضي الله عنه فباطل، ذكره ابنُ أبي الحديد في شرح نهج البلاغة بلا سند عن أبي جعفر الإسكافي، وبينهما أكثر من أربعة قرون، وبين أبي جعفر وعلي رضي الله عنه مئتا سنة.
وأما عن تكذيب عائشة لأبي هريرة رضي الله عنه فباطل أيضًا، إنّما كانت اجتهادات اختلفا فيها كسائر العلماء، وكانت رضي الله عنها تُقَرِّبُ أبا هريرة، وكان يستعين بها في تثبيت الأخبار عن النبي ﷺ، فكان له مجلس في المسجد قريبًا من حجرتها وإذا حدّث عن النبي ﷺ رفع صوته ليُسمعها، ويقول: «اسمعي يا رَبَّةَ الحُجرة»[11].
هل خان أبو هريرة مال البحرين؟
ذكر «أوزون» قصة سؤالِ عمر رضي الله عنه لأبي هريرة رضي الله عنه عن المال الذي يملكه بعد عزله له عن البحرين، فأجاب أبو هريرة رضي الله عنه بأنّه مالٌ اجتمع له مِن الأعطيات، ومن غلة رقيقه ونتاج خيوله، فرضي عمر بجوابه، فقلب «أوزون» القصة وأوحى للقارئ خلاف الحق، وقدم وأخَّر، وحذف ما يُفصِح عن صدق أبي هريرة وتصديق عمر له، ويفسد عليه تدبيره ودَسَّه وطعنَه في أبي هريرة رضي الله عنه، خصوصًا حذف ما ورد في القصة: فنظروا فوجدوه كما قال، فدعاه عمرُ بعدُ ليوليه فأبى[12].
افتراءات «أوزون» على أم المؤمنين عائشة:
أساء «أوزون» إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي ارتضاها ربنا جل وعلا أمًا للمؤمنين جميعًا في كتابه، ووجه إليها إساءات منها:
- كانت سيرة حياتها مليئة بالخلاف مع الآخرين، وضرب لهذا مثالًا: أنّها كانت تغار من باقي زوجات النبي ﷺ!! ويرد عليه: بأنّ الغيرة فطرة في النساء ولا لوم عليهن فيها.
- صراعها مع عثمان وتكفيرها له، وهذا من الكذب الذي أخذه من كتاب (الأغاني) للأصفهاني، وقد ذكره بسند فيه مجاهيل وكذّابون.
افتراءات أوزون على حَبر الأمة ابن عباس:
ادعى «أوزون» أنّ ابن عباس كان في الحادية عشرة عند وفاة النبي ﷺ، ومع ذلك فقد روى (١٦٦٠) حديثًا أثبتها البخاري ومسلم في كتابيهما.
وهذا كذب؛ فقد ولد ابن عباس قبل الهجرة بثلاث سنين، فيكون عمره عند وفاة النبي ﷺ (١٤)، ولم يرو له الشيخان هذا العدد، بل اتفقا على (٧٥) وانفرد البخاري بـ(٢٨) ومسلم بـ(٤٩)، وليست هذه الأحاديث كلها عن النبي ﷺ مباشرة، بل روى أيضًا عن أبيه العباس وعن عمر وعلي ومعاذ وابن عوف وأبي ذر وعدد من الصحابة رضي الله عنهم.
ثم ادعى «أوزون» أنّ ابن عباس استولى على مال البصرة عندما كان واليًا لعلي، وذهب به إلى مكة، وهذا كذب رواه الطبري بسند فيه أبو مِخْنَفٍ الرافضي الكذاب الوضاع، وهو رواها عن مجهول عن مجهول.
يعترض أناس على النصوص الصريحة مِن الكتاب والسنة زاعمًا عدم توافقها مع الحقائق العلمية، وفي الحقيقة ما هي إلا نظريات لم تثبت. وليس هناك نص صحيح صريح يخالف الحقائق العلمية، كما لا يخالف صحيح المعقول
جناية «أوزون» على الأحاديث النبوية:
اعتراض «أوزون» على الأحاديث النبوية بحجّة أنّها «لا توافق المعطياتِ العلمية والنظمَ والأعرافَ السائدةَ اليوم».
ونلفت النظر إلى أنّ الإنسان مهما توصل إلى اكتشاف المجهولات والعلم بالأشياء التي لم يعرفها من قبل ومهما بحث في السماء والأرض والبيئة التي يعيش فيها كانت الأشياء التي لم يكتشفها أكثر، والعقلُ البشري في غاية القصور، وهو محدودٌ بحدود لا يتجاوزها، والعلم التجريبي أكثر محدودية من العقل وتقريراته[13].
النظرية شيء والحقيقة شيء آخر:
من المهم جدًا التفريق بين النظرية العلمية والحقيقة العلمية؛ فالنظرية العلمية على قيد البحث والتنقيح ليست ثابتةً ولا تفيد العلم اليقيني باتفاق. أما الحقيقة العلمية فخرجت مِن دائرة البحث وصارت مجمعًا عليها، كجمع الواحد مع الواحد الذي يصير اثنين.
ويقع الخلط بين الأمرين، فيعترض أناس على النصوص الصريحة مِن الكتاب والسنة زاعمًا عدم توافقها مع الحقائق العلمية، وفي الحقيقة ما هي إلا نظريات لم تثبت.
وليس هناك نص صحيح صريح يخالف الحقائق العلمية، كما لا يخالف صحيح المعقول[14].
جناية «أوزون» على أحاديث صحيح البخاري:
اعترض «أوزون» على أحاديث كثيرة رواها البخاري في صحيحه، وفيما يلي بعضها والجواب عنها:
1. كيف تسجد الشمس تحت العرش؟
هذا الأمر مِن الغيبيات التي لا علم لنا بحقيقتها، واعتراض «أوزون» على الحديث هو اعتراض على القرآن الذي أثبت سجود الشمس: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: ١٨]. فلماذا لا يكون صريحًا في انتقاد الآية كما انتقد الحديث!
إنّ لهذه السجدة كيفيةً مخصوصةً أودعها اللهُ تعالى في الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، مباينًا لما ألفناه مِن السجود، تشتركان في الاسم دون الهيئة والماهية، كما تشترك الأشجار في التنفس مع الإنسان والحيوان في الاسم دون الهيئة.
2. كيف يكون طول آدم سبعين ذراعًا والعلم لا يثبت ذلك؟
الجواب: عدم اكتشاف الشيء لا يدل على عدم وجوده، والتغير في الخَلق طبيعي مِن زمن إلى آخر، فقد عاش نوح أكثر مِن ألف عام، فما الفرق بين طول آدم وعمر نوح؟![15].
3. لا فائدة في الحبة السوداء:
يقول «أوزون»: «لم تثبت فعاليتها في كثيرٍ مِن الأمراض السائدة اليوم أو حتى في أيامهم كالطاعون مثلًا».
والجواب: «أوزون» لا يفهم أساليب العربية، فالمقصود مِن الحديث (أمراض كثيرة) لا كلّ الأمراض، وهذا معروف في لغة العرب، وقد ذكر علماء الطب الحديث أكثر مِن عشرين فائدة للحبة السوداء[16].
4. كيف يَنزل الله إلى السماء؟
الجواب: نحن لا ندرك كُنْهَ ذات الله ولا ندرك كنه صفاته، فلا يُسأل عنها بكيف.
5. قتل كعب بن الأشرف لاتهامه بهجاء النبي ﷺ!
يوهم «أوزون» أنّ النبي ﷺ أمر بقتل كعب لأنّه كان صاحب رأي وفِكر، والحقيقة أنّه كان يهجو النبي ﷺ في شعره ويحرّض كفار قريش عليه، وهذه خيانة عظمى لا يشملها عفوٌ، حتى في قوانين العالم اليوم.
6. في صحيح البخاري أنّ الرسول ﷺ كان غازيًا همه الغنائم وقهر الآخرين!
الجواب: أمر الله تعالى بالجهاد لدفع العدوان وتثبيت قوة المسلمين وإقامة العدل وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، وأباح الله الغنائم في الكتاب العزيز، و«أوزون» يعترض على حكم الله ويريد منّا رده.
7. هل سُحر النبي ﷺ؟
الجواب: السحر من جنس الأمراض التي تواجه بني آدم لا فرق بين نبي وغير نبي، وسحر النبي ﷺ لن يؤثر في دعوته أو يشكّك فيها؛ لأنّ الله تكفّل بحفظ الرسالة مهما اشتدت الأزمات، واقتصر تأثير السحر على تخيّل حدوث أشياء من أمور العادات لم تحصل، كما حصل مع موسى عليه السلام حيث تخيّل الحَبل حيةً تسعى.
8. لم يَقبل النبي ﷺ –حسب البخاري- إلا باتباع الناس له رافضين كلّ الأديان!
الجواب: هذا كذب؛ ماذا عن أهل الكتاب الذين يعطون الجزية؟ وماذا عن غير المسلمين الذين يعيشون في ديار الإسلام آمنين؟
9. المرأة في صحيح البخاري لا تتساوى مع الرجل!
الجواب: المرأة هي أم وأخت وزوجة وبنت، وليست في درجة ثانية كما يدّعي «أوزون»، بل لها حقوق وعليها واجبات كالرجل، والنبي ﷺ أمر الرجل الذي يريد الغزو أن يلزم أمّه، وأخبره أنّ الجنّة تحت رجليها[17].
كلمة الختام:
هذه مجرّد أمثلة لردود المؤلّف على ما جاء به «أوزون» من جنايات وأباطيل تتعلّق بأحاديث أصحّ كتب السنّة على الإطلاق، تصبّ كلّها في ضرب الأحاديث بالقرآن للتشكيك فيهما معًا، والطعن في تشريعات الإسلام، وتشويه صورة الصحابة رضي الله عنهم، فضلًا عن الطعن في شخص البخاري رحمه الله تعالى.
وقد أجاد المؤلف في تتبّع هذه الشبهات وتفنيدها، وختم بترجمة وافية للإمام البخاري رحمه الله، مع بيان منهجه في صحيحه وشروطه التي وضعها لقبول الأحاديث.
وكَشَفَ عن غاية «أوزون» من كتابه الـمُجحف، فهو لم يأت بجديد في اعتراضاته، فكلّ اعتراضاته قديمة، وقد أجاب عنها العلماء بما يفنّدها ويقطع بوَهائها، لكنّه الولع بانتقاد الشرع الشريف مِن غير أهل الاختصاص، يلبس صاحبه لباس المدافع عن الدين والخائف على دين الناس، حيث يدعي «أوزون» أنّه (يُنقذ الدين مِن إمام المحدثين) فلم يُبق لنفسه ولا لمن يتابعه في خزعبلاته دينًا، لا سيما مع اتضاح كامل منهجه في الطعن بأصول الدين وأركانه في بقية كتبه، فماذا يبقى بعد هذه الجنايات مِن الدين؟!
[1] وجَّه «زكريا أوزون» اهتمامه إلى الطعن في ثوابت الإسلام ومصادره في عدة كتب، ككتاب (الإسلام هل هو الحل؟) صرح فيه بأن: «الحل يكون في العلمانية» وبأن: «لا مكان للدين في سياسة البلاد»، وله كتب في الطعن في أركان الإٍسلام الأربعة (الصلاة، الصوم، الزكاة، الحج)، ويتهم المسلمين عمومًا وعلماءهم خصوصًا بالكذب والتزوير في كتابه (لفَّق المسلمون إذ قالوا).
[2] مستفادة من الصفحة الشخصية للمؤلف على الفيس بوك.
[3] روى الخطيب في تاريخ بغداد (١٣/٣٣٧) عن أبي الحسن النوبختي (وهو معاصر لأبي الفرج) أنه قال: «كان أَبُو الفرج الأصبهاني أكذبَ الناس، كان يدخل سوق الوراقين، وهي عامرة والدكاكين مملوءة بالكتب، فيشتري شيئًا كثيرًا من الصحف ويحملها إِلى بيته، ثم تكون رواياته كلها منها».
[4] تاريخ الطبري (١/٨)، قال رحمه الله: «فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنّه لم يعرف له وجهًا في الصحّة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنّه لم يُؤتَ في ذلك من قِبَلنا، وإنّما أتي مِن قِبَلِ بعض ناقليه إلينا، وإنا إنّما أدينا ذلك على نحو ما أُدي إلينا».
[5] ينظر: دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه، للدكتور مصطفى الأعظمي، تتبع فيه الكتب التي دونت سنة النبي ﷺ منذ عصر الصحابة وما بعده.
[6] أخرجه مسلم (٣٠٠٤).
[7] ذكر «أوزون» رسولَ الله ﷺ مرات كثيرة، وترك الصلاة عليه ﷺ، ونادرًا ما يكتب (ص) هكذا، وكذا ترك الترضي عن الصحابة رضي الله عنهم، مما ينبئ عن عدم احترامه للنبي ﷺ وللصحابة رضي الله عنهم.
[8] فتح الباري (٦/٦٠٨).
[9] ينظر للأهمية مقال: (اتقوا الله في أبي هريرة) في موقع الدكتور محمد عبده يماني رحمه الله. قلت: أخبرني شيخنا المحقق محمد طاهر البرزنجي حفظه الله أن عدد ما انفرد به أبو هريرة من الصحيح هو ثمانية أحاديث فقط، حسب إحصاء قام به.
[10] الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر (٧/٣٥٧).
[11] أخرجه مسلم (٢٤٩٣) (٧١).
[12] القصة بتمامها في سير أعلام النبلاء، للذهبي (٢/٦١٢).
[13] ذكر الشيخ مروان نظريات كسب المعارف والعلوم واختلاف المدارس فيها (القديمة والحديثة) وهو استطراد يبين اختلاف الناس في معنى العلوم التي يدَّعون أنها مقياسٌ لقَبول الآيات والأحاديث.
[14] هذا القول ليس ادعاءً بلا دليل، بل هو الحق الذي لا شك فيه، وأكبر أدلته عدم الوجود. وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مصنفًا كبيرًا حافلًا في استحالة مخالفة صحيح المنقول لصريح المعقول، وسماه (درءُ تعارض العقل والنقل) طبع في عشرة مجلدات.
[15] الروايات الصحيحة في الصحيحين (ستون ذراعًا) فهل تعمد «أوزون» ذكر الرواية الضعيفة لزيادة الاستغراب؟
[16] ذكر الدكتور حسام عرفة في مقال أعده عن الحبة السوداء أكثر من مئة وخمسين بحثًا عن فوائدها، ويأتي معظم هذه الأبحاث من أوربا، وتحديدًا النمسا وألمانيا، ينظر: مقال: مِن الإعجاز العلمي في الطب النبوي «الحبة السوداء شفاء من كل داء»، لزكريا الحسيني محمد، موقع مداد. وينظر أيضًا: مقال: أسرار الحبة السوداء تتجلى في الطب الحديث، للدكتور حسان شمسي باشا، موقع قصة الإسلام.
[17] ينظر: النسائي (٣١٠٤).