قراءات

قراءة في كتاب: الإسلام ومشكلات الحضارة لسيد قطب

قراءة في كتاب: الإسلام ومشكلات الحضارة لسيد قطب

حقَّقت الحضارة الغربية المعاصرة إنجازاتٍ كبيرةً في الجوانب العلمية والمخترعات والمكتشفات، فانبهر بها كثير من الناس ووقفوا موقف المستعدِّين للذوبان فيها، وفي المقابل تكرَّرت نداءات وتحذيرات العديد من المفكرين الغربيين والمسلمين من تلك الحضارة بسبب مشكلاتٍ جوهرية فيها، فما هي هذه المشكلات؟ وما الذي جعلهم يقفون هذا الموقف منها؟

التعريف بالمؤلف:

ولد سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي يوم ٩ أكتوبر/تشرين الأول ١٩٠٦م في قرية موشا بمحافظة أسيوط في مصر، في أسرة ميسورة الحال، درس القرآن الكريم في كُتاب القرية وأكمله في السنة الرابعة من دراسته الابتدائية، ولم يتزوّج.

تخرج بشهادة بكالوريوس آداب ١٩٣٣م، عمل بالتدريس، كما اشتغل منذ شبابه في الصحافة، وتولّى وظائف إدارية وتربوية في وزارة المعارف، وأرسلته الوزارة إلى الولايات المتحدة ١٩٤٨م للتخصُّص في التربية وأصول المناهج، وبعد عودته قدم استقالته من الوزارة ١٩٥٢م.

مهَّدت كتاباته الإسلامية منذ ١٩٤٧م لبداية علاقته بجماعة الإخوان المسلمين التي انضمَّ إليها رسميًا ١٩٥٣م، وأصبح عضوًا بمكتب إرشادها ومسؤولَ قسم نشر الدعوة، ورئيس تحرير صحيفة «الإخوان المسلمون» حتى أغلقت ١٩٥٤م.

تنوَّعت كتاباته ما بين أدبية خالصة، وسياسية متنوعة، وإسلامية فكرية وحركية، بدأت كتاباته السياسية في النصف الثاني من الأربعينيات، ثم برزت أكثر بعد الثورة على المَلكية ١٩٥٢م.

عقب واقعة المنشية ٢٦ أكتوبر/تشرين الأول ١٩٥٤م اتهـِم الإخوان بالحادثة، واعتقِل مئات منهم بينهم سيد قطب وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة ولقي أشد العذاب، وأفرج عنه في مايو/أيار ١٩٦٤م، لكن أعيد اعتقاله بعد أشهر، ثم أعدِم رحمه الله فجر يوم ٢٩ أغسطس/آب ١٩٦٦م.

التعريف بالكتاب:

تبلغ عدد صفحات الكتاب: ١٩٨ صفحة، وقد حظي بطبعات كثيرة داخل مصر وخارجها، وطبعة هذه القراءة لدار الشروق، مصر – القاهرة، وهي الطبعة الثالثة عشرة ١٤٢٦ه – ٢٠٠٥م.

موضوع الكتاب:

يعالج الكتاب حال العالم اليوم وما يعيش به من تخبط وضياع، وما سببته الحضارة الحديثة من تدمير الإنسان وتجهيله على الرغم من التقدم المادي الكبير، ويقترح لعلاج هذا التخبط والضياع الحل الإسلامي، والخلاص من أعباء الحضارة المادية الحديثة.

فصول الكتاب:

يتضمن الكتاب سبعة فصول، وهي:

  1. تدمير الإنسان.
  2. الإنسان ذلك المجهول.
  3. تخبط واضطراب.
  4. حضارة لا تلائم الإنسان.
  5. عقوبة الفطرة.
  6. كيف الخلاص؟
  7. طريق الخلاص.

١. تدمير الإنسان:

الحياة الإنسانية -كما هي اليوم- لا يمكن أن تستمرَّ في طريقها هذا، ولا بدَّ لها من تغيير أساسي في القاعدة التي تقوم عليها. تغييرًا يعصمها من تدمير الإنسان ذاته، بتدمير خصائصه الأساسية.

وخطُّها الحالي يمضي يومًا بعد يوم في تدمير خصائص الإنسان، وتحويله إلى آلةٍ من ناحية، وإلى حيوانٍ من ناحيةٍ أخرى، وإذا كان هذا الخط لم يصل إلى نهايته بعد، فالذي ظهر منها حتى اليوم، وفي الأمم التي وصلت إلى قمة الحضارة المادية، يشي بتناقص الخصائص الإنسانية وضمورها وتراجعها.

وحين نتلفَّت من حولنا في الماضي والحاضر وفي المستقبل لا نجد الحلَّ المقترح لتجنيب البشرية ذلك الدمار وللخروج بها من الأزمة الحادَّة وللاحتفاظ بالإنسان بالمحافظة على خصائصه الإنسانية إلا في التصوُّر الإسلامي والمنهج الإسلامي والحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي.

ولكن كيف تبدو الحياة مهددةً بتدمير الإنسان عن طريق تدمير خصائصه الإنسانية؟ لعلَّه يحسُن الكشفُ عن أهم عناصر هذه المأساة باختصار.

الحياة الإنسانية في ظل الحضارة الغربية المعاصرة لا يمكن أن تستمرَّ في طريقها هذا، ولا بدَّ لها من تغيير أساسي في القاعدة التي تقوم عليها. تغييرًا يعصمها من تدمير الإنسان ذاته، بتدمير خصائصه الأساسية

إن أهم عناصر هذه المأساة تتمثل في:

  1. جهل الإنسان بذاته وعدم استطاعته أن يضع لنفسه نظامًا شاملاً يتناسب مع طبيعته وخصائصه، ويحتفظ بها جميعًا في حالة تجدُّدٍ ونموٍّ وازدهار موسومٍ بالتناسق والاعتدال.
  2. تخبُّط الحياة البشرية لقيامها على أساسٍ من هذا الجهل منذ افترق طريقها عن المنهج الذي وضعه الله الخبير للإنسان بفطرته وبخصائصه.
  3. قيام حضارة مادية لا تُلائم الإنسان ولا تحترم خصائصه، تعامله بالمقاييس الآلية والحيوانية التي أمكن دراستها في عالم الحيوانات!
  4. بروز آثار هذه الحضارة وتضخُّمها بدون كبير اعتبارٍ للخصائص الإنسانية الأصلية التي تُفرّق الإنسان عن الآلة والحيوان، وظهور طلائع مفزعة تنذر بما وراءها من دمار.

ثم عرض «سيِّد» هذه العناصر بشيءٍ من الشرح والتفصيل.

٢. الإنسان ذلك المجهول

وهو عنوان مستقى من عنوان لكتاب مشهور (للدكتور ألكسيس كاريل)، حيث قرر في كتابه أن حقيقة علمنا عن الإنسان لا شيء! وأننا نعيش في جهل مطبق بهذا الكائن الذي هو نحن! مع ما تيسَّر له من إمكاناتٍ هائلة وعلوم شتّى لدراسة الإنسان والتعرف عليه، وينقل عنه كلامًا طويلاً في ذلك وصولاً إلى خلاصة: «وفي الحقِّ لقد بذل الجنس البشري مجهودًا جبارًا لكي يعرف نفسه، ولكن بالرغم من أننا نملك كنزًا من الملاحظة التي كدّسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان، فإننا استطعنا أن نفهم جوانبَ معينةً فقط من أنفسنا.. إننا لا نفهم الإنسان ككُل.. إننا نعرفه على أنه مُكون من أجزاء مختلفة، وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلُنا، فكل واحدٍ منا مكون من موكبٍ من الأشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة!!».

ثم ينقل عنه طويلاً في محاولة للإجابة عن سؤال: لماذا يبقى جهلُنا بالإنسان مع كل هذا التقدم العلميّ الهائل؟

ويصل إلى خلاصة: أنَّ التقدُّم البطيء في معرفة بني الإنسان يُعزى إلى عقباتٍ أساسية وليس هناك أملٌ في تذليلها، وسيظل التغلُّب عليها شاقًا يستلزم جهودًا مضنيةً، وأن هذه العقبات أساسية، وليس هناك أملٌ في تذليلها. وأن معرفة نفوسنا لن تصل أبدًا إلى تلك المرتبة من البساطة المعبِّرة والتجرُّد والجمال التي بلغها علم المادة؛ لوجود فارقٍ أساسي بين علوم المادة وعلوم الحياة، بين طبيعة علوم المادة وطبيعة علم الإنسان، وبين طبيعة موقف العقل من هذه وتلك، وأن هذا الفارق كامنٌ في أمرين ثابتين لا يتعلَّقان ببيئةٍ ولا زمان، ولا بظروف وقتيةٍ مرهونةٍ بالزمان والمكان.. هما:

  1. تعقُّد الموضوع.
  2. طبيعة تركيب عقولنا.

وأن تقدم الإنسان في علوم المادة وإبداعَه في العالم المادّي، وصحَّة بحوثه ونظرياته في ذلك الحقل، لا تقتضي تقدمه في علم الإنسان ولا صحَّة بحوثه ونظرياته في الحقل الإنساني.

لينتقل بعد تقرير هذا العجز والجهل إلى التصوُّر الإسلامي ويُرتِّب عليها نتائجَ عديدة، من إطلاق يدِ الإنسان في عمارة الأرض، واستخدام طاقاتها وخاماتها. بينما هو يضع لهذا الإنسان منهج حياته الذي يَحكم هذه الحياة، ولا يَكِل إليه هو وضعَ هذا المنهج، لأنه مُزوَّدٌ بطاقاتٍ مُعيّنةٍ ليتحكم في المادة عن علمٍ -نسبي- وفي المقابل هو غير مُزوّد بمثل هذه الطاقات لمعرفة نفسه، حتى يتحكم في أمرها عن علم كما يتحكَّم في المادة.

فالإنسان -في التصور الإسلامي- هو سيِّد هذه الأرض بخلافته فيها عن الله، وكل ما فيها مُسخَّرٌ له بقدرة الله تعالى، وقد أوتي إمكان العلم بشؤونها هبةً من الله سبحانه، والاستمتاع بطبيعتها وجمالها نعمةً خالصةً منه.

ولكن هذا الإنسان -في التصور الإسلامي كما هو في الحقيقة- على كلِّ ما استودعه الله من أمانة الخلافة الكبرى في هذا الملك العريض، وعلى كلِّ ما سخَّر له من القوى والطاقات والأشياء والأحياء فيه، وعلى كلِّ ما أودعه فيه من طاقات المعرفة والاستعداد لإدراك الجوانب اللازمة له في الخلافة من النواميس الكونية.. على كلِّ هذا .. هو مخلوقٌ ضعيفٌ، تغلبه شهواته أحيانًا، ويحكمه هواه أحيانًا، ويقعد به ضعفه أحيانًا، ويُلازمه جهله بنفسه في كلِّ حين.. ومن ثمَّ لم يترك الله أمرَ نفسه ومنهجَه في الحياة لشهواته وهواه وضعفه وجهله.. ولكنْ أكمل عليه نعمته ورعايته، فتولَّى عنه هذا الجانب الذي يعلم -سبحانه- أنَّ الإنسان لا يقدر عليه قدرته على المادة، ولا يعلم بمقتضياته علمه بقوانين المادة، وهي جوانب التشريع ورسم المنهج.

ثم استفاض في الاستدلال على هذه الحقيقة وتقريرها من خلال النصوص الشرعية، ومن ذلك تسخير الكون والحياة للإنسان، مع التشديد على جعل شريعة الله ومنهجه منهجًا للإنسان، وألا يتَّخذ من عند نفسه لحياته منهجًا ولا شريعة، وإلا ادَّعى لنفسه -بهذا- حقَّ الألوهية ورفض إفراد الله بالألوهية.

وبعد تقرير هذا العنصر ينتقل لمعالجة العنصر الثاني من عناصر هذه المأساة كما رتَّبها في كلمة الافتتاح.

الإنسان في التصور الإسلامي هو سيدِّ الأرض بخلافته فيها، وكل ما فيها مُسخَّرٌ له، وقد أودع الله فيه الطاقات والمعارف اللازمة له للخلافة، وهو مع ذلك ضعيفٌ تغلبه شهواته ويلازمه جهله بنفسه، فلم يتركه تعالى وأكمل عليه نعمته ورعايته، وتولى عنه جوانب التشريع التي لا يقدر عليها

٣. تخبُّط واضطراب:

إنَّ جهل الإنسان بذاته كما سبق تقريره كان يقتضي أن يبقى الإنسان قريبًا من الله تعالى، ملتجئًا إليه، مهتديًا بمنهجه الذي يضعه له عن علم وحكمة، وألا يغترَّ بفتوحات العقل والعلم في عالم المادة، ولا بمهارته في الإبداع المادي، وألا يفتنه هذا الغرور أيضًا فيجعله يُحاول أن يضع لحياته مناهج مستقلةً عن منهج الله، بله أن تكون معادية له شاردة عنه.

ولكن الذي وقع في أوروبا أولاً ثم عمَّت بلوته الأرض كلَّها فيما بعد كان على الضدِّ من هذا كلِّه، ومن ثَمَّ كان التخبط، وكانت الشقوة، وكان خطُّ الدمار الذي تنحدر فيه البشرية إلى الهاوية في هذا الزمان.

وقد عرض لأسباب شرود العلم وابتعاده عن الدين واصفًا تأثُّر أوروبا بالنهضة العلمية التي كانت تعمُّ العالم الإسلامي، ونقلَها عنها وتتلمُذَها على حضارتها، ثمَّ موقف الكنيسة العنيد في وجه هذا الاتجاه الجديد، ومقابلة نتائج بحوث الطليعة من العلماء الأوروبيين في عداءٍ شديد، واستخدمت سلطانها ضدَّهم بوحشيةٍ كان من جرائرها ذلك الشرود من الكنيسة، ومن كلِّ ظلٍّ للدين وللتوجيه الديني. فقد كان كلُّ اعترافٍ أو خضوعٍ للدين معناه الاعتراف والخضوع لهذا الطغيان الكَنَسيِّ الغشوم.

وعندئذٍ كان ذلك الفصام النكد بين الدين والعلم حتى مطلع القرن العشرين في أوروبا، وظل اندفاع الناس -والعلماء خاصة- في شرودهم الآبق عن الدينِ كلِّه. ولم يهدأ هذا الشرود -شيئًا ما- إلا في مطلع القرن العشرين، حيث جعل بعضهم يقف ليلتقط أنفاسه اللاهثة، وهو يُحسُّ بالخواء الروحيِّ من آثار الرحلة الجاهدة في التيه المقفر نحو أربعة قرون.

ولتوضيح آثار هذا الفصام بين الدين والعلم عرض «سيد» لنماذج من تجارب البشرية الذاتية في معزلٍ عن هَدي الله ومنهجِهِ للحياة من القديم إلى الحديث، وهي:

  1. مسألة النظرة إلى الإنسان وحقيقة فطرته واستعداداته.
  2. مسألة النظرة إلى المرأة وعلاقة الجنسين.
  3. مسألة النظم الاقتصادية والاجتماعية.

جهلُ الإنسان بذاته يقتضي أن يُبقيه قريبًا منه تعالى، ملتجئًا إليه، مهتديًا بمنهجه الذي يضعه له عن علمٍ وحكمة، وألا يغترَّ بفُتوحات العلم في عالم المادّة، وألا يفتنه الغرور فيجعله يُحاول أن يضع لحياته مناهجَ مستقلةً عن منهج الله، بله أن تكون معاديةً له شاردةً عنه

النظرة للإنسان وحقيقة فطرته واستعداداته:

ناقش «سيد» نظريات داروين وفرويد وماركس في أصل الحياة، وأصل الإنسان وعلاقته ببقية المخلوقات وتحليل شخصيته وتركيبه، ناقلاً عن علماء غربيين نقدهم لهذه النظرية وبيان أوجه خطئها وقصورها، متوصلاً لنتيجة: تفرُّد الإنسان في الكون بطبيعته وتركيبه، وفى وظيفته وغاية وُجوده، وفى مآله ومصيره، وهو الذي يقرِّره التصوُّر الإسلامي عن الإنسان في نصوصه الكثيرة: أنَّ هذا الإنسان هو مِن خلق الله، وأن خِلقته فذَّةٌ خاصة مقصودة، وعيَّنت له وظيفةً، وجَعَلت لوجوده غايةً، وأنه كذلك مبتلى بالحياة مُختبرٌ فيها، مُحاسب في النهاية على سلوكه فيها، هذا السلوك الذي يُقرِّر جزاءه ومصيره.

مستدلاً على ذلك بأدلّةٍ شرعية وعلمية عديدة، ونقول عن كبار علماء الغرب والمسلمين.

مع عرض دور الكنيسة في حصول هذا الانحراف من نظرتها للإنسان وتحميله الخطيئة، وتبنيها للعديد من الخرافات والأساطير ووقوفها ضد العلم وأهله.

وأنَّ تلك الموجة العاتية انساحت إلى جنبات الأرض، وما تزال ماضيةً في طريقها عاصفةً مدمِّرةً، تنفُخ فيها أبواقُ الصحافة والسينما والمسرح والأدب والتصوير والنحت.. وسائر الفنون، وسائر أجهزة الإعلام والتوجيه.. وما تزال البشرية تهوي إلى هاوية الدمار الأكيد، وعجلة الحياة جامحةً مجنونة تُلهبها سياط الأجهزة المتعددة، حتى يأذن الله فتتسلم القيادة يدٌ غيرُ تلك اليد الرعناء المجنونة الشاردة المحمومة.

النظرة إلى المرأة وعلاقة الجنسين:

استعرض «سيد» طبيعة النظرة للمرأة وللعلاقات بين الجنسين، والتأرجُح العنيف الذي تعرَّضت له بين الغلوِّ والتفريط، والشدِّ والجذبِ الذي لا يستقرُّ على طريقٍ وسطٍ، فقد تأرجحت النظرة للمرأة في الحضارات الأوروبية بين كائنٍ منحطٍّ أشبَهَ بالأشياء منه بالأحياء! إلى اعتبارها شيطانًا رجيمًا يُوسوسُ بالشرِّ والخطيئة! إلى اعتبارها سيِّدةَ المجتمع والحاكمةَ في أقداره وأقدار حاكميه! إلى اعتبارها عاملةً عليها أن تُكافح وتشقى لتعيش.. ثم تحمل وتضع وتُربّي!

كما تأرجحت العلاقةُ بين الجنسين بين اعتبارها علاقة حيوانٍ بحيوان، إلى اعتبارها دَنَسًا ورِجسًا من عمل الشيطان، إلى اعتبارها مرَّةً أخرى علاقة حيوانٍ بحيوان!

مبينًا في الوقت نفسه منهج الإسلام في تصحيح النظرة للمرأة وللعلاقة بين الجنسين، وبنائها على أسس راسخة من التكريم والتناسق مع الفطرة السليمة، وإعادة المرأة للمكانة اللائقة بها بإقامة العلاقة بين الجنسين على أساس من حقائق الفطرة، وبتوضيح هذه العلاقة في كل فرع من فروعها النفسية والعملية، بحيث لا تضطرب ولا تتأرجح ولا يكتنفها الغموض في زاوية من زواياها.

ثم استعرض «سيد» جانبًا من التشريعات الإسلامية في جانب علاقة الرجل بالمرأة والأسرة والأبناء.

خاتمًا هذه الفقرة بقوله: وهكذا يتَّضح من هذا الاستعراض مدى التخبُّط والاضطراب في النظرة إلى المرأة وعلاقات الجنسين في تاريخ أوروبا، ومدى التأرجح بين الطرفين المتباعدين، هذا التأرجح الذي لم يعتدل به الميزان قط، لوضع كل شطرٍ من شطري النفس الواحدة في مكانه الحقيقي، ولإدراك دور المرأة الحقيقي ومكانها الطبيعي، والذي شقي به الجنسان وشقيت به البشرية –وما زالت تشقى– حتى يأذن الله، فتتسلم زمام الحضارة البشرية يد أمينة موصولة بالله ومنهجه للحياة.

التخبُّط والتطرُّف والهزات العنيفة وعدم اعتدال الميزان كانت السمة الطاغية في نظرة الحضارة الغربية للإنسان، وفي النظرة إلى المرأة وعلاقات الجنسين، وفي النظم الاقتصادية والاجتماعية سواءً بسواءٍ. وهذا طبيعي من نُظُمٍ تقوم على نظرة خاطئة قاصرة للإنسان

النظم الاجتماعية والاقتصادية:

كما وقع التخبُّط والتطرُّف والهزات العنيفة وعدم اعتدال الميزان في النظرة إلى الإنسان وفطرته واستعداداته، وفي النظرة إلى المرأة وعلاقات الجنسين، كذلك وقع في النظم الاقتصادية والاجتماعية سواءً بسواءٍ.

وكان هذا طبيعيًا ومنتظرًا من نُظُمٍ تقوم على تلك النظرة الخاطئة إلى الإنسان، وعلى الجهل المُطبِق بحقيقة الإنسان، فما لم تصحَّ النظرة إلى الإنسان ذاته، وحقيقةِ فطرته واستعداداته وغايةِ وجوده وحدود سلطانه.. إلخ، فلا مفرَّ من التخبُّط والأرجحة في كلِّ ارتباطاته الأخرى، وبخاصة ارتباطاته الاقتصادية والاجتماعية.. فهذه فروعٌ من تلك وأثرٌ من آثارها.

وقد تناول «سيد» تحت هذا العنوان النظريات الاقتصادية والاجتماعية التي عانت منها أوروبا على وجه الخصوص، ومنها انتقلت إلى بلدان العالم، فعرض طويلاً للنظرية الماركسية في الاقتصاد والاجتماع -لعلوِّ صوتها في وقته- مفنِّدًا ناقدًا لهذا المذهب الإلحادي المدمِّر.

معرِّجًا على نظام الرقِّ الروماني، ونظام الإقطاع الأوروبي وما عانته البشرية بسببه من ظلمٍ رهيبٍ أُهدرت فيه كرامة الإنسان وإنسانيته.

وكيف استمرَّت أوروبا في ذلك التخبُّط إلى حين احتكاك الصليبيين بالمجتمع الإسلامي، وعرفوا عن كثب أوضاعَ حياة الناس فيه، ورأوا نظامًا آخر، رأوا الناس أحرارًا في العمل والانتقال والتعبير، وشريعةً يتحاكم إليها الناس جميعًا، حاكمُهم ومحكومُهم، غنيُّهم وفقيرُهم، صاحبُ الأرض والعاملُ فيها على السواء. يتولّى الحكم بها قضاةٌ لا يُداهنون الحكام ويتصدَّون لهم إن ظلموا، وكان لوقفاتهم صداها الذي تتناقله الجماهير في العالم الإسلامي، وتعرفُها جموع الصليبيين الذين يحتكُّون بهذا المجتمع خلال قرنين من الزمان.

فكانت الانطباعات والتأثيرات بالمجتمع وأوضاعه تفعل فعلها في نفوس الصليبيين الذين شاهدوها، والملايين ممن وراءهم ممّن سمعوا قصص العائدين من هناك.

فتخمَّرت في المجتمع الأوروبي هذه الانطباعات والتأثيرات، إلى جانب عوامل محلية أخرى مما أدى إلى الثورة على نظام الإقطاع.

لكن الثورة لم تسلُك الاتجاه الصحيح، فقام على إثرها ردَّة فعلٍ على إهدار الوجود الإنساني، مما أدى لقيام النظام الرأسمالي على أساس إطلاق العنان لنشاط الفرد إلى غير حدّ، وللحرية الفردية من غير قيد، ولاعتبار الصالح الفردي هو الصالح الأعلى.

ولم يكتفِ بإتاحة الفرصة للمواهب الفردية أن تصل إلى قمة الإبداع والحركة والطلاقة، وأن تتجه الجهود إلى استثمار كنوز الأرض وقوى الطبيعة للصالح البشري العام، بل انطلق السُّعار بدايةً من النظام الرِّبوي بحيث أصبح هو أساسَ الاقتصاد الحديث، انتهاء إلى اعتبار جميع القيم الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية هراءً لا معنى لها إذا شاءت أن تتدخل في قواعد الاقتصاد.

كما صاحب النظامَ الرأسمالي الانحلالُ الخلقيُّ تحت نظريات الحرية الفردية التي لا يجوز أن يحدها حدٌّ أو قيد، أو نظريات حيوانيةِ الإنسان وماديةِ الكون، وكلُّها منبَثِقَةٌ من حركة الهروب من الكنيسة والشرودِ من كل تفكير دينيٍّ على الإطلاق.

تضاف له حركة الاستعمار الرأسمالية الشرسة وما ارتكتبه من جرائم، وما خلفته من آثار.

ثم تتمثَّل الطامة الكبرى في (النظم الجماعية) التي طبقتها أوروبا في الشرق أو في الغرب، على اختلاف أسمائها وأشكالها، وكلّها تجتمع عند دعوى تمليك الموارد العامة ووسائل الإنتاج إما للشعب (كالنَّازية) وإما لطبقة من الشعب (كالماركسية)، والتي جاءت ردَّ فعلٍ للجموح الشارد في النظم الرأسمالية.

وكانت هذه هي الضريبة الفادحة التي دفعتها أوروبا –ومن ورائها البشرية كلُّها مع الأسف– لشرودها عن الله ومنهجه في الحياة.

جنايةُ الحضارة الراهنة وسببُ فسادها الأساسي وإهدارِها للقيم والخصائص الإنسانية والمقومات الفردية يكمُنُ في رفضها ابتداء أن تكون للدين الاختصاصات التشريعية والسلطان المنهجي، أي رفضها لألوهية الله سبحانه

٤. حضارةٌ لا تلائم الإنسان:

إنَّ الإبداع المادي في هذه الأرض على يد الإنسان -فوق أنه ضرورة لحياته ولنمو هذه الحياة ورُقيِّها- هو في الوقت ذاته وظيفةٌ أساسيةٌ له أودعها الله فيه، لكنَّ هذا الإبداع المادي بكل مدلولاته يجب أن يكون في خدمة الإنسان، وأن يكون ملحوظًا في هذا الإبداع وفي بناء الحضارة التي تقوم عليه تنميةُ خصائص الإنسان التي تُفرِّقه عن المادّة وعن الحيوان، وألا يكون في طرائق الإبداع الماديّ ولا في بناء الحضارة التي تقوم عليه ما يناقض هذه الخصائص أو يدفنها أو يعوق نموها أو يحطمها، ولا أن يهينها كذلك ويحقرها، ولا أن يجعل دور الإنسان في هذه الأرض دورًا ثانويًا أو تابعًا للإبداع الماديّ بأيِّ حالٍ من الأحوال.

ثم أورد «سيد» جملةً من النقولات عن كبار علماء الغرب في نقد الحضارة الغربية، وعقب على ذلك بقوله: وهذه المقتطفات –وحدها– تكفي للدلالة العميقة على أنَّ هذه الحضارة «حضارة لا تلائم الإنسان». لأنَّها قامت دون معرفةٍ بطبيعته، وسارت في طريقها دون اعتبار لخصائصه، ودون اعتبار كذلك لما تُنزله به من ويلات.

وجنايةُ الحضارة الراهنة وسببُ فسادها الأساسي وإهدارِها للقيم الإنسانية والخصائص الإنسانية والمقومات الفردية يكمُنُ في رفضها ابتداء أن يكون للدين –بوصفه منهجًا للحياة من عند الله– هذه الاختصاصات وهذا السلطان، أي رفضها لألوهية الله سبحانه، هذا الرفض المتمثِّل في اتخاذ مناهج للحياة غير منهجه، ولو لم تعلن رفضها لألوهية الله جهرًا – كالبلاد الشيوعية– فاتخاذ مناهج من صنع البشر هو رفض لألوهية الله قطعًا.

٥. عقوبة الفطرة:

عرض «سيد» تحت هذا العنوان ما انتكست به المجتمعات الغربية والشرقية عن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، سواء في النظرة لأصل الإنسان والغاية من وجوده في الحياة، أو الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية التي أحلها محل الأنظمة الربانية، أو العلاقة بين الرجل والمرأة، وغير ذلك، مما أدى إلى طمس الفطرة وتغييرها وحرفها، وما المصائب والكوارث التي تعانيها المجتمعات اليوم إلا نتاج لهذا الطمس والتغيير والعبث.

ثم أورد على ذلك شواهد عديدة ونقولاتٍ كثيرة عن علماء ومفكرين مسلمين ومن تلك المجتمعات، خاتمًا هذا العنوان ببيان أنَّ الله تعالى قد حذَّر عبادَه عواقبَ الإعراض عن القوانين الإلهية وعن منهج الله وهداه المتمشِّي مع سنته في الكون، فلا تكون لهم من عواقبها نجاة ولا مفر:

﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ٤٤ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٤٤-٤٥].

﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس: ٢٤].

المجتمع الإسلامي هو طريق الخلاص الوحيد للبشرية المهددة بالدمار والبوار، وهو الاستجابة الوحيدة لنداء الفطرة، والدوافع لبروزه أقوى من كل قوةٍ معوقة، وأقوى من الأجهزة المسلَّطة في كل زاوية من زوايا الأرض، وأقوى كذلك من جهل أهل الإسلام بالإسلام

٦. كيف الخلاص؟

تحت هذا العنوان يناقش «سيد» المقترحات لخلاص البشرية من هذا الواقع الذي تعيشه تحت الحضارة الغربية:

١- هل هو الحكم عليها بالإعدام؟

ويقرِّر أنَّه ليس أنسب الحلول التي تملكُها البشرية؛ أولاً لأننا لا نملك إصدار حكم بالإعدام على الحضارة الصناعية؛ فهي نتاجٌ طبيعيٌّ عميقُ الجذور أصيل الوجود، وُجد لتلبية حاجةٍ طبيعية للبشرية ومن ثمَّ لا تكون قابلة للإعدام.

وعلى فرض أنَّنا نملك تنفيذ حكمٍ كهذا فإن تحطيم هذه الحضارة يبدو أنه ليس في صالح البشرية، وفي حدود هذه النظرة لا نملك أن نُصدر حكم الإعدام على هذه الحضارة على الرغم من جرائمها البشعة ضد العنصر الإنساني!

٢- أم هل هو مزيد من علوم الإنسان؟

ويرى أن هذا وحده لا يكفي، وأنه لا يثق فيما قد نصل إليه من المزيد في علوم الإنسان، وصحيح أنَّ المزيد من علوم الإنسان ضروريٌّ لنا، لكنَّ هذا العلم يمثِّل جانبًا من جوانب التكوين الإنساني فحسب، ألا وهو الجانب المادي، وليس فيه ما يُلبي جانب التكوين الروحي والذي تفتقده الحضارة المادية؛ وبالتالي فهو لا يصلح سبيلاً للخلاص.

الطريق إلى المجتمع الإسلامي طويلٌ وشاقٌّ ومليءٌ بالأشواك، وأعسرُ ما في هذا الطريق هو أن نرتفع نحن بتصوُّراتنا وبأفكارنا وبأخلاقنا وبسلوكنا -ثم بواقعنا الحضاريِّ المادي- إلى مستوى الإسلام

٧. طريق الخلاص:

بعد كل هذا التطواف الكبير في جانب الحضارة المادية الحالية ومشاكلها، يقرر «سيد» أن المجتمع الإسلامي -مع كل ما فيه- هو طريق الخلاص الوحيد للبشرية المهددة بالدمار والبوار.

وأنَّه الاستجابة الوحيدة لنداء الفطرة، إنَّه ضرورةٌ إنسانية وحتمية فطرية، ومن ثمَّ فإن الدوافع لبروزه أقوى من كل قوةٍ معوقة، وأقوى من الأجهزة المسلَّطة في كل زاوية من زوايا الأرض، وأقوى كذلك من جهل أهل الإسلام بالإسلام، ومن بلادتهم وانغمارهم في التيار الجارف العام!

إنَّه لا مفر من قيام المجتمع الإسلامي، إنه إن لم يقم اليوم فسيقوم غدًا، وإن لم يقم هنا فسيقوم هناك.

إنَّ حتمية قيام هذا المجتمع بوصفه ضرورةً إنسانية لإنقاذ الإنسانية، وبوصفه الترجمة العملية للمنهج الإلهي الذي لا بد أنه غالب ليس معناه أنَّ الطريق إليه نزهةٌ مريحة، ولا أنه هناك على بعد خطوات!.

فالطريق إلى المجتمع الإسلامي طويلٌ وشاقٌّ ومليءٌ بالأشواك، وأعسرُ ما في هذا الطريق هو أن نرتفع نحن بتصوُّراتنا وبأفكارنا وبأخلاقنا وبسلوكنا -ثم بواقعنا الحضاريِّ المادي- إلى مستوى الإسلام.


أ. أحمد بن أسامة حلاق

ماجستير في التفسير وعلوم القرآن، مدير معهد الحِكمة في إسطنبول.

لتحميل المقال اضغط [هنا]

ماجستير في التفسير وعلوم القرآن، مدير معهد الحِكمة في إسطنبول.
X