تأصيل

قاعدة سد الذرائع وتطبيقاتها في السياسة الشرعية

صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان حقيقة ماثلة للعيان، وواقع مبرهن على صحته، وتجربة نجحت في نقل أمة الإسلام إلى سدة القيادة بين الأمم قرونًا متطاولة وعصورًا متتابعة، وحتى تكون هذه العبارة مفهومة للناس في هذا العصر لا بد من إظهار أسرار هذه الصلاحية وجواهرها ليعرفها القاصي والداني، وليسعد الناس في ظلها من جديد، وهذه المقالة تسلط الضوء على قاعدة سد الذرائع وتطبيقاتها المتعددة في السياسة الشرعية.

من رحمة الله بعباده أن حباهم بشريعته السمحاء التي اشتملت على ما فيه خير العباد في العاجل والآجل كما قال تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} [النحل: 30].

وأي خير أعظم من حماية الأنفس والأعراض والأموال والعقول، وفوق ذلك دينهم الذي هو عصمة أمرهم! وهذه الأمور تعرف في الفقه الإسلامي بالضرورات الخمس، وهي مقصد أساسي من مقاصد التشريع، يقول الغزالي: “إنّ الشرع إنما جاء ليحفظ على الناس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأنسابهم وأموالهم؛ فكل ما يؤدي إلى الإخلال بواحد منها فهو مضرة يجب إزالتها ما أمكن”[1].

ولما كان هدف الشريعة هو تحقيق مصالح الناس الضرورية والسهر عليها وإزالة المفاسد والأضرار عنهم؛ فقد وجب العمل بالسياسة الشرعية، والتي تعني: “تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية، بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار، مما لا يتعدى حدود الشريعة، وأصولها الكلية”[2].

ولن يختلف العقلاء على هذا المعنى، بل ولن يخرج عن مجموع النصوص الشرعية، يقول الشاطبي: “اتفقت الأمة -بل سائر الملل- على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس؛ وهي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل”[3].

قاعدة سد الذرائع:

الذريعة في معاجم اللغة: هي الوسيلة أو السبب إلى الشيء[4]، وفي الاصطلاح الشرعي عرفها القرطبي بأنها: “أمر غير ممنوع لنفسه يُخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع”[5].

وتدور تعريفات العلماء لها حول معنى: الوصول، فقال ابن العربي المالكي: “هي كل عمل ظاهر الجواز يتوصل به إلى محظور”[6]، وقال ابن تيمية: “هي الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم”[7]، وعرفها الشاطبي بأنها: “التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة”[8].

وبناء على ذلك فقد جاء الشرع بمنعها حتى لا يتوصل بها إلى الفساد، وهذا هو معنى سدّها.

وقد بنى الشاطبي قاعدة سد الذرائع على “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا، سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة؛ وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ”[9].

قاعدة سد الذرائع تعني: سدّ الطرق المؤدية إلى الفساد، وقطع الأسباب الموصلة إليه، وحسم مادة الفساد من أصلها

مشروعية القاعدة:

دليل مشروعية قاعدة سد الذرائع من القرآن قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، قال ابن القيم: “فحرّم الله تعالى سب آلهة المشركين مع كون ‌السب ‌غيظًا ‌وحمية ‌لله ‌وإهانة ‌لآلهتهم؛ لكونه ذريعة إلى سبّهم الله تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبّنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببًا في فعل ما لا يجوز”[10].

ومن أدلة مشروعية القاعدة من السنة: حديث عائشة رضي الله عنها: “أنّ أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا كنيسة رأيْنَها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنّ أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات؛ بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)[11]، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فأولئك شرار الخلق عند الله) فيه نهي عن اتخاذ القبور مساجد، “قال المهلب: وإنما نهى عن ذلك -والله أعلم- قطعًا للذريعة، ولقرب عبادتهم الأصنام واتخاذ القبور والصورة آلهة”[12].

أمثلة تاريخية لقاعدة سد الذرائع:

1. عدم تجديد بناء الكعبة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم:

روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (يا عائشة، ‌لولا ‌أنَّ ‌قومك ‌حديثُ ‌عهدٍ ‌بجاهلية، لأُمرت بالبيت فهُدم، فأدخلتُ فيه ما أُخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا، فبلغت به أساس إبراهيم)[13].

قال ابن حجر العسقلاني: “وفي الحديث: اجتناب ولي الأمر ما يتسرّع الناس إلى إنكاره، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا، وتألّف قلوبهم بما لا يترك فيه أمر واجب، وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة، وأنهما إذا تعارضا بُدِئ بدفع المفسدة”[14].

فالنبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن إعادة بناء البيت على قواعد إبراهيم سدًا للذريعة ومنعًا لوقوع فتنة في نفوس حديثي العهد بالإسلام؛ وذلك لقدسية الكعبة في قلوبهم فيقع أمر تغييرها شديدًا عليهم.

2. منع عُمر الزواج من الكتابيات:

وهذا مثال لسد الذرائع في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، فقد منع الفاروق -رضي الله عنه- الصحابة من الزواج بالكتابيات من اليهود والنصارى؛ وذلك أن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- تزوج بيهودية، فكتب إليه عمر أن يفارقها، وعلل ذلك بقوله: “إني أخشى أن تَدَعُوا المسلمات”[15]، لقد خشي عمر من سوء استخدام المباح وما يترتب عليه من تعنيس المؤمنات، إضافة إلى الخطر المتوقع منهن لاطلاعهن على أسرار الدولة المسلمة إذا تزوج القادة والفاتحون من الكتابيات.

أساس وجود قاعدة سد الذرائع هو الأخذ بالاحتياط، والتحرُّز من كل طريق قد يؤدي إلى مفسدة أو ضرر، ويعمل على تدارك المشكلات قبل وقوعها

الفقهاء بين سد الذرائع وفتحها:

قاعدة سدِّ الذرائع معمولٌ بها في الفقه الإسلامي، وهي محل اتفاق بين الفقهاء في الجملة، قال القرافي رحمه الله: “فليس سد الذرائع خاصًا بمالكٍ رحمه الله، بل قال بها هو أكثر من غيره، وأصل سدها مجمع عليه”[16]، وقال الشاطبي: “وإنما النزاع في ذرائع خاصة”[17].

وقال الشاطبي رحمه الله: “قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة، وإنما الخلاف في أمر آخر”[18].

ثم كان للفقهاء فيها اتجاهان:

الأول: يرى التوسع في سد الذريعة حتى لا يُتوصَّل عن طريق الوسائل إلى فعل محظور؛ فكل عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصل به إلى محظور يجب سده[19].

الثاني: يرى عدم التوسع في سد الذرائع حتى لا يوقع الأمة في حرج، وهؤلاء وإن ضيقوا فيها من ناحية تأصيلية، لكنهم عملوا بها من ناحية عملية.

والفرق بين الاتجاهين في تنزيل هذه القاعدة على تفاصيل المسائل وجزئياتها من خلال نظرهم لأصل المسألة.

أهمية القاعدة وتطبيقاتها:

يقول ابن القيم: “وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان أحدهما مقصود لنفسه والثاني وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما ما يكون المنهي عن مفسدة في نفسه، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين”[20]، وأساس وجود قاعدة سد الذرائع هو الأخذ بالاحتياط والتحرُّز من كل طريق قد يؤدي إلى مفسدة أو ضرر ويعمل على تدارك المشكلات قبل وقوعها، يقول السرخسي: “والأخذ بالاحتياط أصل في الشرع”[21].

من الأهداف الكبيرة للشريعة الإسلامية: صيانة الدماء وتعظيم شأنها، ومن ثم سدَّت الشريعة كل ذريعة أو وسيلة من شأنها أنْ تصل بالضرر إليها. كما أنّ بعض الوسائل غير المشروعة لذاتها قد تتحوَّل إلى مشروعة لغيرها إذا كان في ذلك حفظٌ للأرواح وحماية لها

ويرى الشاطبي أنّ “الشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم والتحرز مما عسى أن يكون طريقًا إلى مفسدة”[22].

وهذا التحرز والاحتياط يدور مع قاعدة المصالح والمفاسد وأيهما يمكن تقديمه أو تأخيره عن طريق فقه الموازنات وواجب الوقت ومراعاة ظروف الحال، والمتفق عليه شرعًا هو أنّ درء المفاسد أولى من جلب المصالح؛ “فإذا تعارضت مفسدة ومصلحة: قدم دفع المفسدة غالبًا؛ لأنّ اعتناء الشرع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات”[23]، يتفرع عن ذلك “أنّ الضرر الخاص يُتحمل لأجل دفع الضرر العام، وهذا مقيِّد لقولهم: الضرر لا يزال بمثله”[24]. وفيما يأتي جملة من تطبيقات القاعدة:

قررت الشريعة منع القاتل من الحصول على ميراثه من مورثه إذا قام بقتله، وهذا معناه: إغلاق باب القتل وسدّ هذه المفسدة حتى لا يستعجل كل وارث قتلَ مُورِّثه ليجد النص الشرعي أمامه: (ليس للقاتل شيء)[25]، وفي رواية (ليس لقاتل ميراث)[26]. وقد ألحق الفقهاء به (الموصَى له) إذا قتل الموصي لذات العلة ولاستعجال ما أوصى له به.

وقال ابن القيم: “قال الإمام أحمد: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة. ولا ريب أن هذا سدًا لذريعة الإعانة على المعصية … ومن المعلوم أن هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم والعدوان، وفي معنى هذا كل بيع أو إجارة أو ‌معاوضة ‌تعين ‌على ‌معصية الله؛ كبيع السلاح للكفار والبغاة وقطاع الطريق، وبيع الرقيق لمن يفسق به أو يؤاجره لذلك … ومن هذا: عصر العنب لمن يتخذه خمرًا”[27]. فمن الأهداف الكبيرة للشريعة الإسلامية: صيانة الدماء وتعظيم شأنها، ومن ثم سدَّت الشريعة كل ذريعة أو وسيلة من شأنها أنْ تصل بالضرر إليه.

ولا خلاف بين الفقهاء في أن بعض الوسائل غير المشروعة لذاتها قد تتحوَّل إلى مشروعة لغيرها إذا كان في ذلك حفظٌ للأرواح وحماية لها، ومثال ذلك: أكل الميتة محرم لذاته، لكن إن توقفت عليه حياة إنسان فقد يصير واجبًا، بل قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحةٍ راجحةٍ؛ كالتوسُّل إلى فداء الأسارى المسلمين بدفع المال للكفار الذي هو محرم عليهم الانتفاع به[28].

ومعنى ذلك أن الشريعة توازن بين المصالح والمفاسد؛ فتقدم هذه تارة وتلك أخرى في موازنة تنتهي بحماية الإنسان في نفسه وعرضه وعقله وماله وقبل ذلك دينه وعقيدته، يقول العز بن عبدالسلام: “وربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح لا لكونها مفاسد بل لكونها مؤدية إلى المصالح؛ وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظاً للأرواح”[29]، ولذلك قتل الفاروق -رضي الله عنه- خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه قتْلَ غِيلة، وقال عمر: “لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا”[30].

والصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجماعة بالواحد وإنْ كان أصل القصاص يمنع ذلك؛ لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء”[31]. قال ابن بطال: “ولو لم تقتل الجماعة بالواحد لأدى ذلك إلى رفع الحياة في القصاص الذي جعله الله حياة، ولم يشأ أحد أنْ يقتل أحدًا ثم لا يُقتل به إلا دعا مَن يقتله معه ليسقط عنه القتل، والنفس لا تتبعض في الإتلاف؛ بدليل أنه لا يقال: قاتل بعضِ نفس؛ لأن كل واحد قد حصل من جهته فعل ما يتعلق به خروج الروح عنده، وهذا لا يتبعض؛ لامتناع أن يكون بعض الروح خرج بفعل أحدهم وبعضها بفعل الباقين، فكان كل واحد منهم قاتل نفس”[32].

وسدَّ الإسلام الذريعة إلى شرب الخمر؛ وحيث كانت أم الخبائث أغلق الإسلام كل وسيلة تؤدي إلى شربها وتعاطيها؛ فحرم شربها وبيعها وتصنيعها واستيرادها وتصديرها وحملها والمتاجرة فيها (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه)[33]، وفي رواية أنس رضي الله عنه: (وآكل ثمنها والمشتري لها والمشترى له)[34]، كأن الباب أمام تناولها محكم الإغلاق؛ بل إنّ الفقهاء لم يبيحوا التداوي بها، وعن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه أنّ رجلاً يقال له طارق بن سويد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر (فنهاه أو كره أن يصنعها)، فقال: “إنما أصنعها للدواء” فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس بدواء، ولكنه داء)[35].

ويترتب على ذلك: منع تصديرها واستيرادها والترخيص لها، مع سن قوانين تشريعية لتجريمها بالكلية؛ لأنّ في القيام بذلك سدًا للذريعة وحماية للمصالح الكلية المعتبرة والتي منها المحافظة على العقل والذي ميز الآدمي به على غيره، بل والمحافظة على نسيج المجتمع من وقوع العداوة والبغضاء بسببها.

لمّا حرّم الإسلام الخمر سدّ كل وسيلة تؤدي إلى شربها وتعاطيها، فحرم شربها وبيعها وتصنيعها واستيرادها وتصديرها وحملها والمتاجرة فيها، بل وحتى التداوي بها

ضوابط العمل بقاعدة سدّ الذرائع:

ينبغي أن يكون سدّ الذرائع في إطار القواعد العامة الكلية والمقاصد الضرورية للشريعة وفق ضوابط وشروط شرعية، ومن ذلك:

أولاً- ألا تعارض النص الشرعي:

مثل قول البعض بالنهي عن صوم ستة أيام من شوال سدًا لذريعة ظن البعض إلحاقها برمضان؛ لأن ذلك يعارض الحديث: (‌من ‌صام ‌رمضان ‌ثم ‌أتبعه ‌ستًا ‌من ‌شوال كان كصيام الدهر)[36].

ثانيًا- ألا تعارض المقاصد الشرعية المعتبرة:

ومنها رفع الحرج، فلا نسد ذريعة أو نفتحها لنضيق بها على الناس، وكما قال العز بن عبدالسلام: “أن الوسائل تسقط بسقوط المقاصد”[37].

ثالثًا- عدم تعميم الفتوى الناتجة عن العمل بالقاعدة:

فلا تنقل فتوى سد الذريعة لغير الزمان والمكان التي عمل بها فيهما؛ وذلك بسبب تغير العادات والأحوال بين الناس، وهو ما أكده الإمام القرافي بقوله: “إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك؛ لا تُجْرِه على عُرف بلدك، واسأله عن عُرف بلده وأَجْرِه عليه”[38].

من تطبيقات القاعدة في السياسة الشرعية[39]:

لهذه القاعدة تطبيقات عديدة في السياسة الشرعية، وكثير منها يساعدنا على التعامل مع الواقع الحالي وتلافي الكثير من الإشكالات المعاصرة، ومنها على سبيل المثال:

1. تولية أهل الكفاءة:

الدولة لا تقوم ولا تسير أمورها إلا بالولايات العامة وبالوظائف التي تقوم عليها مصالح العباد، لكن هذه الوظائف لا بد أن تسند إلى أهل الكفاءة القادرين على إنفاذ المصالح المنوطة بها، وهنا نرى أن الصحابي الجليل أبا ذر طلب من النبي صلى الله عليه وسلم تقليده إحدى هذه الولايات، فقال رضي الله عنه: “ألا تستعملني؟” فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده على منكبه ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها)[40].

فأبو ذر رضي الله عنه لا ينقصه التقوى ولا تعوزه الأمانة، لكن هذه الأمور وحدها ليست كافية في الولايات العامة، وتولية مَن تنقصه الكفاءة ليس محرمًا لذاته، وإنما سدًا لذريعة التقصير في القيام بشؤون الوظيفة.

2. نهي الولاة عن قَبول الهدايا:

مع اختلاط الولاة والعمّال بالناس وتقديمهم للخدمات التي يحتاجها الناس؛ قد تصلهم هدايا يعبر بها الناس عن شكرهم وامتنانهم، أو للتقرب منهم، أو لأي سبب آخر، وبالرغم من كون الهدية شيئًا مرغبًا به في الشريعة، ومدعاة للتحابِّ والتوادّ؛ إلا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عماله عن قبولها، وقال لابن اللُّتْبية الذي قال عند محاسبته على ما جمع من الصدقات: “هذا مالكم، وهذا هدية”: (فهلّا جلست في بيت أبيك وأمك، حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقًا)، ثم خطب الخطبة المعروفة التي قال فيها: (والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رُغاء، أو بقرةً لها خُوار، أو شاةً تَيعَر)[41]. فنهي العمال عن قبول الهدية شُرع سدًا لذريعة قبول الرشوة، واستغلال السلطة التي تمنحها لهم مراكزهم الوظيفية.

من تطبيقات القاعدة في السياسة الشرعية: ترك تولية مَن تنقصه الكفاءة مع تقاه وورعه؛ منعًا من الإخلال بشؤون الولاية. ونهي الولاة عن قَبول الهدايا سدًا لذريعة قبول الرشوة، واستغلال السلطة التي تمنحها لهم مراكزهم الوظيفية

3. تجاوز معاقبة بعض المستحقين:

الأصل في المجتمع الإسلامي التماسك والترابط ووحدة الصف، لكن عند ظهور الحق واستعلاء أهله يخفت صوت أهل الباطل في العلن، ويظهرون ما لا يبطنون، وهنا يطل مجتمع النفاق الذي يشعر الناس بوجوده وبتحركاته، وقد يبرز له رموز يقولون قولاً لا تصدقه أفعالهم، وقد ترصد لهم إساءات ظاهرة، وهنا ينبغي على الحاكم أن يوازن بين إيقاع العقوبة عليهم أو تركهم وتحمل سلوكهم المؤذي؛ لأن عقوبتهم لن تكون مفهومة لمن لا يعرفون تفاصيل إساءاتهم، ولربما يكون في معاقبتهم إثارة لفئة من المجتمع تأخذهم الحمية والعصبية.

وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع رأس النفاق عبدالله بن أبي ابن سلول، الذي قال: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبيَ صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: “دعني أضرب عنق هذا المنافق”، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)[42]. فقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن عقاب زعيم المنافقين رغم استحقاقه العقوبة، وبالرغم من وجود مصلحة في تخليص المجتمع من هذه الفئة التي تشكل خطورة على النظام السياسي؛ سدًا لذريعة مفسدة أكبر ستترتب على هذه العقوبة، وهي تنفير الناس عن الدخول في الإسلام لأنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه.

إذا ظهر الحق واستعلى أهله يطل مجتمع النفاق، وقد ترصد لهم إساءات ظاهرة، وهنا ينبغي على الحاكم أن يوازن بين إيقاع العقوبة عليهم أو تركهم وتحمل سلوكهم المؤذي؛ لأن عقوبتهم لن تكون مفهومة لمن لا يعرفون تفاصيل إساءاتهم، ولربما يكون في معاقبتهم إثارة لفئة من المجتمع تأخذهم الحمية والعصبية

  1. التدرج في إحداث التغيير:

يتسم الفقه الإسلامي بالواقعية، ومما يتفرع عن هذه الخصيصة: عدم تجاوز الطبيعة البشرية، وما جبل عليه الإنسان من طباع، بل تطويع هذه الطبيعة لتنسجم مع التكاليف الشرعية، ولأن الإنسان يألف السلوك الذي يعتاد عليه، فيغدو جزءًا من طبيعته، ويكون له دور في تشكيل مفاهيمه عن الواقع، بغض النظر عن حسن هذا السلوك أو قبحه؛ فإن نزعه مما اعتاد عليه ليس بالأمر السهل، لذلك اعتمدت الشريعة على التدرج في التغيير الاجتماعي، ومما جاء عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: “إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا”[43].

لقد وعى الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبدالعزيز هذه الحقيقة في سياسة أمور الدولة، فقد روي أن ابنه عبدالملك قال له: “ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق، قال له عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة: وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون مِن ذا فتنة”[44].

لا شك أن من أهم مقاصد النظام السياسي في الإسلام: العمل على تغيير واقع الأمة تغييرًا جذريًا بحيث ينسجم مع التنزيل، إلا أن التغيير السريع في كل مرافق الحياة قد يولد حالة من الاغتراب عند الناس، فيشعرون بنوع من النفور من هذا النظام، وقد يولد حالة من الرفض، وسدًا لذريعة هذه الحالة التي تشكل خطرًا على السلم الاجتماعي؛ يأتي دور التدرج في التغيير، بما لا يتناقض مع قطعيات الشريعة.

التغيير السريع في كل مرافق الحياة بعد التمكين قد يولد حالة من الاغتراب عند الناس، فيشعرون بنوع من النفور من هذا النظام، وقد يولد حالة من الرفض، وسدًا لذريعة هذه الحالة التي تشكل خطرًا على السلم الاجتماعي يأتي دور التدرج في التغيير، بما لا يتناقض مع قطعيات الشريعة

كثرة أمثلة قاعدة سد الذرائع في السياسة الشرعية:

الأمثلة الآنفة ليست إلا غيضًا من فيض، ولو اتسع المقام فالأمثلة والتطبيقات كثيرة، ولا يكاد يخلو موقف فقهي في السياسة الشرعية من تطبيق قاعدة سد الذرائع، ومنها على سبيل العد لا الحصر: (تعطيل الحدود في أرض الحرب، وتعطيل سهم المؤلفة قلوبهم، ومسألة التترس، ونهي الناس عن اتخاذ حمى لرعي مواشيهم، والتشديد على أقارب الحاكم، والامتناع عن توزيع الأراضي المفتوحة على الفاتحين، وجواز إمامة المفضول والمتغلب، والتضييق على الخروج على الحاكم)، وغيرها.

قاعدة سد الذرائع مثال واضح على مرونة الشريعة وعدم جمودها على قوالب واختيارات جامدة، ودليل على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، فحتى الأحكام التي دل عليها الشارع بالأدلة الواضحة قد يفضي الاجتهاد والنظر السليم في الفقه وأدلته إلى إيقاف العمل بها لوجود مفسدة متحققة في زمان من الأزمنة أو مصر من الأمصار

أخيرًا:

هذه القاعدة مثال واضح على مرونة الشريعة وعدم جمودها على قوالب واختيارات جامدة، ودليل على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، فحتى الأحكام التي دل عليها الشارع بالأدلة الواضحة قد يفضي الاجتهاد والنظر السليم في الفقه وأدلته إلى إيقاف العمل بها لوجود مفسدة متحققة في زمان من الأزمنة أو مصر من الأمصار.

وبها عمل المسلمون على مر العصور وسعد الناس بها وبغيرها من القواعد في ظل الشريعة قرونًا متطاولة وعصورًا متتابعة، ولا شك أن أهل النظر في هذه القاعدة وتطبيقاتها هم أهل الاجتهاد والاستنباط الذين شهد لهم العلماء بعلو كعبهم في العلم والفتوى.


د. علي مدني رضوان

دكتوراه في الشريعة الإسلامية، جامعة طنطا


[1] ينظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (28/181).

[2] السياسة الشرعية، لعبد الوهاب خلاف، ص (15).

[3] الموافقات (1/38).

[4] ينظر: لسان العرب، لابن منظور (8/96).

[5] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (2/57-58).

[6] أحكام القرآن، لابن العربي (2/265).

[7] الفتاوى الكبرى (6/172).

[8] الموافقات (4/199).

[9] المرجع السابق (5/194).

[10] إعلام الموقعين (3/110).

[11] أخرجه البخاري (427)، ومسلم (528).

[12] شرح صحيح البخاري، لابن بطال (2/82).

[13] أخرجه البخاري (1586).

[14] فتح الباري (5/374).

[15] السنن الكبرى، للبيهقي (7/280).

[16] الفروق، للقرافي (2/43).

[17] الموافقات (4/66).

[18] المرجع السابق (5/185).

[19] ينظر: أحكام القرآن، لابن العربي (2/265).

[20] إعلام الموقعين (3/153).

[21] أصول السرخسي (2/21).

[22] الموافقات (2/364).

[23] الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، لابن نجيم، ص (78).

[24] ينظر: المرجع السابق، ص (74).

[25] أخرجه أبو داود (4564).

[26] أخرجه ابن ماجه (2646).

[27] إعلام الموقعين (3/152).

[28] ينظر: الفروق، للقرافي (2/33).

[29] قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/14).

[30] أخرجه مالك في الموطأ (3246).

[31] إعلام الموقعين (3/137).

[32] شرح صحيح البخاري، لابن بطال (8/526-527).

[33] أخرجه أبو داود (3674).

[34] أخرجه الترمذي (1295).

[35] أخرجه مسلم (1984).

[36] أخرجه مسلم (1164).

[37] قواعد الأحكام (1/128).

[38] الفروق (1/322).

[39] هذه التطبيقات مستفادة بتصرف من دراسة بعنوان “سد الذرائع وتطبيقاته في الفقه السياسي” أعدها الباحث: صايل أحمد حسن أمارة، بكلية الشريعة/ قسم الفقه والتشريع – جامعة النجاح الوطنية/ نابلس – فلسطين، والبحث منشور على موقع الجامعة على شبكة الإنترنت.

[40] أخرجه مسلم (1825)، قال القرطبي: أي ‌ضعيفًا ‌عن ‌القيام ‌بما ‌يتعين على الأمير من مراعاة مصالح رعيته الدنيوية والدينية، ووجه ضعفه عن ذلك أن الغالب عليه كان الزهد واحتقار الدنيا، ومن هذا حاله لا يعتني بمصالح الدنيا وأموالها اللّذَين بمراعاتهما تنتظم مصالح الدين ويتم أمره وقد كان أبو ذر أفرط في الزهد في الدنيا…”، المصدر: حاشية السيوطي على سنن النسائي (6/ 255).

[41] أخرجه البخاري (6979) ومسلم (1832).

[42] أخرجه البخاري (4905) ومسلم (2584).

[43] أخرجه البخاري (4993).

[44] الموافقات (2/148).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *