الورقة الأخيرة

فَلَوْلا نَفَر

فَلَوْلا نَفَر

تصوير بديع لمجتمع المدينة حال نفرته للجهاد، تحكيه سورة التوبة كأنك تراه، فترى المتصدق بملئ كفه غيرَ آبه بسخرية المنافقين، وتشهد الفقراء الراغبين في النفير وأعينهم تفيض من الدمع، وبين الصورتين مشاهد حية تعبر عن استجابتهم لقول الجليل: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة: ١٢٠]، ومع تلك الهبّة يأتي الميزان: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة: ١٢١].

ترى ما الشيء الذي يستحق تلك النفرة، وبكل ما تحمله كلمة (نَفَرَ) من: اندفاع جادّ وتفرغ لما نُفِر إليه؟ إنها نفرة إلى التعلم والتعليم تعلمنا توأمة الميدان العَملي مع الميزان العِلمي. وقوام الدين وحي يقود وسلاح يذود ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ [الفرقان: ٣١]، و«إن اتساعَ الفتوحِ وبسالةَ الأمةِ لا يكفيان لاستبقاءِ سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والساسة وأولي الرأي المهتمين بتدبير ذلك السلطان»[1].

إذا استحضرنا اليوم ضعف مخرجات التعليم عمومًا، وحالة الهشاشة الثقافية والشتات المعرفي، والحرب المستعرة على الهوية والفطرة، ولاحظنا التوسع المستمر في المجالات الحياتية، ونمو التخصصات الدقيقة في مجالات العلوم التطبيقية والإنسانية التي تخدمها جيوش من الكوادر والنظم والمؤسسات الأكاديمية والرسمية، بما لا تحظى بعشر معشاره العلوم الشرعية كمًّا وكيفًا.. وبالنظر إلى الأهمية العليا لعلوم الوحي في معاش الناس ومعادهم، فإن الواقع في هذه القضية أصبح معكوسًا يتطلب نفرة جماعية وفردية جادة لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح.

تفطن أحد المفسرين في هذه الآية إلى حل استراتيجي لهذه النفرة العلمية العملية، قائلاً: «وفي هذه الآية أيضًا دليل وإرشاد وتنبيه لطيف لفائدة مهمة، وهي: أن المسلمين ينبغي لهم أن يُعِدّوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم، وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم، ونهاية ما يقصدون قصدًا واحدًا، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة، والقصد واحد، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور»[2].

حل يفتح باب الطموح في مجال تعلم الدين وتعليمه ونشره عن طريق التخصص ليس في المجال فحسب، بل على مستوى الفرع والتخصص الدقيق والفئة المخاطبة والبلد المستهدف، على نحو من تخصص الشيخ ديدات والشيخ ذاكر في دعوة النصارى، وتخصص آخر في تعليم الفاتحة، وجمعية تخصصت في الدعوة إلى الصلاة، ورابطة تخصصت في الخطيب دون غيره. ولعل كثيرًا من الطلبة إنما عرف البخاري والشافعي والشاطبي بكتبهم الفريدة: الصحيح والرسالة والموافقات.

كما يتسع أفق ذلك الحل إلى تقاسم ذلك التخصص الدقيق جدًا بين أكثر من شخص أو جهة، في تعاون تكاملي يذكرنا بحديث: (إِن الله عز وجل يُدخلُ الثلاثةَ بالسهمِ الواحدِ الجنةَ: صانعَهُ يحتسِبُ في صَنعتِه الخيرَ، والمُمِدَّ به، والراميَ به)[3].

من شأن هذه (التخصصية الدقيقة) تحقيق الإتقان، وصولاً إلى (المرجعية التخصصية) التي يستفيد منها حتى من هو أعلم منه ممن لم يتخصص مثله. ولعلها تكون ممهدة لعلاجات عميقة لحالة التشرذم والتفرق، حينما يصمت من لا يعلم عما لا يعلم، ولا يتكلم أحد إلا فيما يحسن، وحينما تبدو خريطة التكامل واضحة لمن يلحظ الصورة الكلية الشاملة ويرغب في مساندة المتخصصين وخدمتهم بما يكمّل أعمالهم، ويكامل بين جهودهم، ويحوِّل طاقاتهم من ساحات الازدحام والتنافس، إلى مساحات الثغور والفرائض والتكامل.


[1]  التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور(١١-٥٩).

[2]  تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص (٣٥٥).

[3]  أخرجه أحمد (١٧٣٠٠)، وحسنه المحقق بمجموع طرقه وشواهده.


لتحميل الورقة اضغط [هنا]

X