تتسرَّب إلى البعض في قمة عطائهم مشاعر وأفكار تَحرف مسيرتهم وتهدم كثيرًا مما بُني، وتقضي على الإنجاز الذي تحقَّق من خلالهم، ومن أبرزها الشعور بالوصاية الذي يغمط الحقوق، ويحيط النفس بحُجُب وحواجز تحول دون رؤية الحق، ويجعلهم يرون ما قد يقعون فيه من باطل حقًا لا يُمارى فيه.
«الحق» هو القيمة العظمى التي يبذل الشخص دونها كل شيء بما في ذلك المال والنفس، ومع أنها قيمة مُهمَّة! ولها طرق ووسائل شرعية للوصول إليها والتعامل معها، وقد نختلف في تفاصيلها أو في زاوية النظر إليها، إلا أن البعض صار يسلك مسلك (الوصاية) على هذا الحق؛ ويتخذه حجة لارتكاب كثيرٍ من أنواع الباطل في سبيل الوصول إلى ما يظنه حقًّا.
فكرة (الوصاية على الحق، أو احتكاره) ليست جديدةً، فقد تبنَّاها إبليس عندما احتكم لمنطقه في أنَّ النارَ خيرٌ من الطين؛ فرفض السجود لآدم عليه السلام، وتبنّاها فرعون إذ قال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر: ٢٩]، وتبنّاها اليهود عندما زعموا أنَّهم أبناءُ الله وأحباؤه، وأنَّه لا يمكن أن تكون النبوَّات في غيرهم، ولا نجاةَ للناس إلا عن طريقهم، فلمَّا ظهر الحقُّ في غير طريقهم كذَّبوا المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وكادوا يقتلونه، وحرفوا التوراة، وكذا فعلوا عند ظهور دعوة الإسلام.
هذه الفكرةُ تحوَّلت إلى ظاهرةٍ مشاهَدةٍ هذه الأيام، كلٌّ بحسب نصيبه وموقعه، فردًا كان أو جماعة، فمن الوصاية على العمل السياسي إلى الوصاية على فريضة الجهاد أو حماية الدين، ولم تسلم من ذلك القضايا المركزية الكبرى، كالوصاية على الحريات وحقوق الشعوب.
احتكار الحقِّ هو زعمُ شخصٍ أو جماعةٍ أنَّه يمتلك الحقيقة المطلقة والصواب الكامل في آرائه دون الطرف الآخر، وما يترتب على ذلك من سلوكيات في التعامل مع الآخرين
تحرير معنى احتكار الحق:
يمكن القول: إنَّ احتكار الحقِّ هو زعمُ شخصٍ أو جماعةٍ أنَّه يمتلك الحقيقة المطلقة والصواب الكامل في آرائه دون الطرف الآخر، وما يترتب على ذلك من سلوكيات في التعامل مع الآخرين[1].
وهو بهذا المعنى ليس مجرَّد قناعةٍ بصحة منهجه وطريقه المتَّبَع، بل هو اعتقاد الحقِّ الخالص في جميع المسائل وما عداه هو الباطل، دون ترك أيِّ قدرٍ للآخرين في الاختلاف معه في رؤيته تلك.
وقد يكون المخالف ممَّن يتَّفقُ معه في المنهج عقيدة أو مذهبًا فقهيًّا، لكنَّه مخالف في بعض المسائل أو التطبيقات.
دوافع الوصاية على الحق:
للوصاية على الحق دوافع وأسباب، من أهمها:
1. الكِبر: وهو من أعظم الخطايا التي يُبتلى بها المخلوق؛ لدرجة أن النبي ﷺ عرَّفه تعريفًا دقيقًا، فجعل معناه الإعراضَ عن الحقِّ والتعالي على الخلق، فلا يمكن لصاحب الحق أن يكون متكبرًا، ومجرَّدُ تسلُّل هذه الصفة إليه يعني أنَّه حاد عن الطريق؛ قال ﷺ: (الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النّاس)[2].
وذلك لأنَّ المتكبِّر يرى من صفاته وخصائله ما هو غير موجود عند غيره، وبالتالي فإنه يرى أنَّ عدم الوصاية على الحقِّ تعني التفريطَ به وضياعَه، وأنَّه هو الأمين على هذا الحق، ولا أحد غيره يملك القوة والحكمة في الدفاع عن الحق وصيانته.
2. التصور غير الصحيح عن إمكانات الآخرين وقدرتهم على حمل الرسالة والمضيِّ بها: وذلك بسبب الكبر الذي يورث في نفس صاحبه تقزيمَ إنجازات الآخرين، فهو يعرفها لكنه لا يستطيع تقديرها وبيان مدى أهميَّتها، أو بسبب الجهل بقدرات الآخرين وإمكانياتهم، وهذا ما يجعله يُسارع إلى المشاركة في تبنِّي القضية والمساهمة فيها.
3. عدم فهم سنن الله في هذه الأمور: فيتسلل إلى تفكير صاحب القضية أنه مؤيد بالله – وإن كان ضعيفًا – وأن الله سينصره ويظهره على من خالفه، ثم ينتقل بعدها تدريجيًا إلى الاعتماد كليًا على الأسباب الكونية المادية، محاولًا الوصول إليها وحيازتها، وينسى أنها ليست إلا أسبابًا، وأنَّ الله هو مُسبِّبُ الأسباب، قال تعالى: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ إنَّكَ عَلى الحَقِّ المُبِينِ﴾ [النمل: ٧٩]. وهذا يحدث في مسائل النضال والجهاد، فإنَّ البعض يبدأ جهاده في سبيل الله بأقلِّ الإمكانيات، حتى إذا طال عليه العهد وتحققت له بعض الانتصارات ركن إلى حنكته وقوته، وصار يبحث عن أسباب أخرى يجعلها محورًا للنصر والثبات، وينسى أنَّ سبب نصره الأول كان إيمانه بحقه قبل أي شيء، وأن دوام النصر مرهون بدوام الإيمان. لكنه مع ذلك يبرِّر هذه الانتكاسة بأنَّه صاحبُ الحق.
المتكبِّر يرى من صفاته ما لا يوجد عند غيره، ويرى أنَّ عدم وصايته على الحقِّ تعني التفريطَ به وضياعَه، وأنَّه هو الأمين على هذا الحق، ولا أحد غيره يملك القوة والحكمة في الدفاع عن الحق وصيانته
4. عدم الإحاطة بالقضية التي يحملها؛ فيشعُرُ بضعفها وهشاشتها، وأنها لو خرجت من بين يديه فستظهر نقاط الضعف التي قد تُسقط القضية بالكلية. لذلك كان النبي ﷺ ينتدب من يرى أنَّه محيط بالأمر الذي أرسل فيه.
5. الخوف من انتقال القضية إلى غيره: فينضجها ويضيف إليها نقاط القوة، ويتلافى الخطأ والضعف الذي طرأ عليها، أو أن يجددها بعد أن طال عليها العهد، فيظنُّ صاحب الوصاية أنها خرجت من يده، فيمارس سُلُوكه في الوصاية عليها.
تنشأ الجماعات والأحزاب لجمع الجهود الفردية لخدمة الأمة والعمل في الصالح العام. ومع مرور الزمن، وما يجتمع لهذه الجماعة من تاريخ وجهود وتضحيات في نصرة قضايا الأمة، نجد أنها تبدأ في إظهار نوع من الاحتكار، إما رغبة في الحفاظ على مكتسبات الأمة، أو ظنًا منها أنه لا أحد يستطيع حمل هذه الأمانة
صور الوصاية على الحق:
للوصاية على الحق صور عديدة تتجلى في الأفراد والجماعات، ومن أهمها:
1. وصاية الفرد على الجماعة: ويكون ذلك بأن يُجعل فردٌ من الأفراد محورَ الحق في جماعةٍ ما، يدور الحقُّ حيث دار هذا الشخص، مع أنَّ الأصل أنَّ مكانة هذا الفرد تُحفظ ما حفظَ الحق في نفسه وفي جماعته، ويُعدُّ الغلوُّ والتزلُّف والغشُّ في النصيحة من أهم أسباب بروز هذا السلوك عند بعض الأفراد؛ فيرتبط وجود الجماعة وحفظها بوجوده، حتى يصل به الحال إلى تسفيه وعزل من يعارضه؛ لأن معارضته تعني معارضة الحق الذي يمثله.
2. وصاية الجماعة على الأمة والمجتمع: تنشأ الجماعات والأحزاب لجمع الجهود الفردية بغية تنظيمها وزيادة الفاعلية فيها؛ بهدف خدمة الأمة والعمل في الصالح العام. ومع مرور الزمن، وما يجتمع لهذه الجماعة من تاريخ طويل وجهود كبيرة، وخبرات كثيرة، وتضحيات عظيمة في نصرة قضايا الأمة، نجد أنها تبدأ في إظهار نوع من الاحتكار لهذا الحق، إما رغبة في الحفاظ على مكتسبات الأمة، أو ظنًا منها أنه لا أحد يستطيع حمل هذه الأمانة والقيام بها غيرهم، وبالتالي قد تصل إلى نتيجة: أن كل من يحاول حملَ هذا الحق دونها سيكون مفرقًا للأمة، وأن على باقي فئات المجتمع أن لا تعمل إلا من خلالها.
3. الوصاية على إمام من الأئمة أو مذهبه: ويكثر هذا في الأوساط ذات الاهتمام العلمي الذي يكون محوره خدمة تراث إمام من الأئمة أو مذهبه، ونتيجة لطول الخبرة والملاصقة لعلمه وميراثه يميل البعض إلى احتكار تفسير كلامه وفهمه والعلم بمذهبه، وتدريس علمه، وربما طباعة كتبه والقيام بخدمتها.
4. الوصاية في شعيرة من شعائر الدين أو قيمة من القيم: وذلك كالجهاد في سبيل الله أو العمل الخيري أو الدعوي أو حتى العمل السياسي، فلطول الممارسة أو السبق في العمل بها يتحول بعض الأفراد أو الجماعات من خدمة هذه الشعيرة والقيام بها إلى احتكار العمل بها والدعوة إليها، ورمي الآخرين بالمخالفة أو عدم الفهم.
الحماسة غير المنضبطة الناتجة عن احتكار الحق تُزهِّد الناس في الرسالة، أو تجعلهم يحمِّلون الأخطاء والتصرفات السيئة عليها؛ مما يؤدي لنفورهم منها وإعراضهم عنها، وقد تجعلهم ينفرون من أي مشروع مشابه أو مقارب، وبالتالي الإعراض عن الحق والبعد عن الدين.
الآثار السلبية لهذه الظاهرة
ينتج عن هذه الظاهرة آثار سيئة على مستوى الأفراد والمجتمعات:
فمن الآثار على مدعي الوصاية:
1. انسحاب الادِّعاء على كلِّ مناحي الحياة: حيث إنَّه يتحوَّل إلى الشعور أنه على الحق في كلِّ شيء، بما فيه جوانب الحياة التقنية والأساليب العملية، فلا يقبلُ الانتقاد في سياسات مالية أو إدارية أو معالجة المشاكل الإعلامية والتنظيمية.
2. عدم قَبول النصيحة: فشعوره بالحقِّ الدائم يجعله يظن أنه لا يحتاج نصيحةَ غيره؛ بسبب قصور فهمه أو عدم هدايته، وأنه هو من يحق له أن ينصح غيره دون العكس وهذا هو بطر الحق.
3. بطر الحق: بحيث ينظر إلى إنجاز غيره بعين الاستصغار والتسفيه، وأنه لا يستحق حتى النظر أو المناقشة.
4. تقزيم أخطائه وتصغيرها: بحيثُ يراها لا تستحق المراجعة ولا الاعتذار؛ نظرًا لحجم الحق الكبير الذي يحمله، وبدلًا من أن يُصلح هذه الأخطاء يشغلُ نفسه بتبريرها؛ لأنَّه لا يريد الاعتراف بها، بل قد يؤدِّي الأمر إلى أن يدعي العصمة بلسان حاله، وإن لم يصرِّح بذلك، وهو بهذا يشابه اليهود وأهل الضلال القائلين: نحن أبناء الله وأحباؤه، الرافضين لدعوات الأنبياء ونصائح المصلحين.
ومن آثارها على المجتمعات:
-
توليد الغلو والتطرف:
فاحتكار الحق في فهم الدين وتفسيره والعمل به يضيف نوعًا من القداسة على الشخصية أو الجماعة المحتكرة، مما يؤدي إلى نوع غلو عند بعض أتباعهم؛ إذ ينظرون إليهم بعين القداسة والتقديس.
-
تحميل أخطاء الوصي على الرسالة ذاتها:
الحماسة غير المنضبطة لخدمة الرسالة أو القيمة التي يحملها الشخص أو الجماعة والتصرفات الناتجة عن احتكار الحق وادعائه تُزهِّد الناس في هذه الرسالة، أو تجعلهم يحمِّلون أخطاءه وتصرفاته السيئة على رسالته التي يحملها؛ مما يؤدي إلى نفورهم منها وإعراضهم عنها، وقد يجعلهم ينفرون من أي مشروع مشابه أو مقارب، وصولًا إلى الإعراض عن الحق والبعد عن الدين.
-
التقاعس عن نصرة الحق، ومحاكمة حامله:
عندما يحتكر بعض الأشخاص أو التنظيمات مشروعًا أو فكرة دون بقية الناس -وصايةً على الحق- فإنَّ ذلك يؤدِّي إلى شعور عامة الناس أنَّهم خارج إطارها، وأنَّه لا قيمة لهم بحملها والعمل لأجلها، مما يدفعهم إلى الإعراض عنها وعدم المشاركة والإسهام في خدمتها ونشرها، ويجعلهم ينظرون إليها بعين الناقد والمراقب بدلًا من عين النصير والمعين؛ فينتج بسبب ذلك خسارة جهود وقدرات كبيرة، بل ربما تحولت هذه الجهود إلى صف الخصوم المتربصين بها والناقدين لها، فتكون معولًا من معاول هدم هذه المشروعات أو فشلها.
وأخيرًا:
فإنَّ نقدَ فكرة (الوصاية على الحق) والسلوكيات الناتجة عنها لا يعني أن يتخلّى الشخص عن اعتقاد الحقِّ في إيمانه وسلوكياته، ولا يُنافي التمسُّك به والتضحية لأجله، ولا أن يميع الحق بين كثرة مدَّعيه والمشكِّكين فيه، ولا التراخي في الدفاع عن الحق، بل هو دعوة للتنبه إلى هذه السلوكية وآثارها ومعالجتها بصورة صحيحة، وحتى لا تكون (الوصاية على الحق) تهمة أو سيفًا مسلطًا على رقاب الخلق، والطعن في أهل الخير العاملين لخير دين الناس ودنياهم.
د. إبراهيم الحسون
دكتوراه في التفسير وعلوم القرآن، رئيس مجلس أمناء جامعة المعالي.
[1] ينظر: مقالة إنهم يحتكرون الحق، عبد الحميد الكبتي – موقع المسلم.
[2] أخرجه مسلم (91).