في ذروة تهديد فرعون لبني إسرائيل بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم، يأمر موسى عليه السلام قومه بالصبر والاستعانة بالله عز وجل، ويجدّد أملهم قائلاً: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]، فالتكليف مستدام في الضراء والسراء.
هكذا وجد أهل سوريا الشام أنفسهم وقد هلك عدوهم، واستخلفهم الله في الأرض، لينظر كيف يعملون، فتأكَّد في حقّهم أن يكونوا ممن يعبدون الله لا يشركون به شيئًا، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور.
بمجرّد هلاك العدوّ تتغير الأولويات، فتنشأ فرص كانت غير مستطاعة، وتتبدل مراتب الأعمال، وتتّسع المجالات للعاملين؛ الأمر الذي يوجب إعادة ترتيب الواجبات على المستوى العام والخاص، ويُـحَمّل الرواحل[1] حينها مسؤولية الارتقاء بأدوارهم إلى أعلى قدر ممكن، مما قد لا يستطيعه غيرهم، فيفسحوا بذلك المجال للكوادر. وليس العاطلُ هو فقط مَن لا يعمل، وإنما هو أيضًا الذي يعمل عملاً ويستطيع أفضل منه. ومَن عجز عن القيام بواجب، وجب عليه إعانة القادر عليه.
فالدخول في الوظائف العامّة، والبروز لخدمة الناس تزدحم فيه الأعمال غير المألوفة التي يرغب عنها أكثر الناس، فيزداد فضلها ومرتبة احتساب عنائها الذي يكون فيه بذل الجاه، وإشغال الأوقات، واحتمال الأذى، والذي يُستعان عليه بعد الله تعالى بإنكار الذات، وبناء الثقة بين شركاء الدرب، والإصغاء الذي ينشّط التفاكر، والحوار الموصل إلى التوافق، والتشارك الذي يحقق التكامل.
وبجوار هذا المسار مسار دعوي ومجتمعي آخر غير رسمي يتمدّد في الفراغات، ويسابق الزمن، ويتكامل مع المسار الرسمي في بناء الإنسان والعمران، وتتسع مساحات بناء الإنسان وتحرير عقله ونفسه وقلبه بعد جسده وبلده بما يفوق جهود الكيانات جميعًا وإمكاناتها، فلا مكان حينها لدى العقلاء للسفاسف والصغائر والضغائن والخلافات[2].
أول ما تحتاجه النفوس الحرة تخلّصها من عقدة الخوف والإحجام، واستشعار القدرة على الفعل والإقدام، كي تتمكّن من المبادرة بالأعمال واستباق الخيرات والمسارعة إلى مغفرة من ربهم، تلك عقبة كأْداء لا تبنى الأوطان دون اقتحامها البتّة، وأسرع ما يغسل الخوف: العلم الحيّ الذي ينير القلوب ويريح النفوس فينهض العقول، والعلم بحقيقة الخلق، وعظمة الخالق الجليل، وغاية الحياة، وسنّة الابتلاء بالخير والشرّ فتنة.
المبادرون أحوج الناس إلى المشورة وترك التفرّد الذي غُذّيت به نفوسهم وقامت عليه حياتهم أيام البطش والتفريق، مشورة لا تعني الانتظار والتوقف الطويل حتى تتعطل الطاقة وتكلّ النفس وتفوت الفرص، إنّما استشارة المتخصص والخبير والحكيم والسابق في المجال، تتبعها استخارةٌ تقوّي القلب وتشدّ العزم وتزيل المخاوف وتزرع الرضا، حتى ترى في الفشل فرصة التجديد والنهوض من جديد، أو التحوّل إلى عمل جديد.
زادُ أولئك المبادرين صبرٌ جميلٌ لا يعرف التذمُّر، فضلاً عن التبرُّم أو الإحباط.
نفسٌ صبورة، وشخصٌ مبادر مشاور، يتلمس أحسن العمل، فيجده في حدود موهبته المركّبة في طبعه، وخبرته المصقولة بتجربته، فلا يتجاوزها إلى ما لا يحسن، ولا يخوض فيما لا يعلم، إنّما يَلزم ما آتاه الله، فلا يحتقر من المعروف شيئًا، عالـمًا بأنّ السبق إلى الجنة إنما هو بالقلوب مهما كانت الأعمال، ولربما سبق عاملُ النظافة الذي يميط الأذى عن الطريق إلى الجنة خطيبَ المنبر وإمامَ المحراب، بحسب ما يقوم بقلبه من إخلاص واستعانة وتواضع ورضى، وما يَعمُر به وقته من فعل ما يقدر عليه، مهما رآه الناس صغيرًا أو حقيرًا.
يلتقي أولئك السائرون باختلاف مجالاتهم وأهدافهم ومساراتهم ومشروعاتهم على الصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم، الذين اهتدوا في سيرهم بالوحي والتزموا أمره، فما أهملوا العلم والسؤال، ولا تركوا العمل في المجال.
بهؤلاء وحدهم تُحفظ البلدان ويُبنى الإنسان ويقوم العمران، بعد اجتيازهم ذلك الامتحان، امتحانِ العمل بعد النصر، والبناء بعد النجاة، والسراء بعد الضراء، مستشعرين أنّ الله تعالى ينظر إليهم كيف يعملون.
د. خير الله طالب
[1] هم الرجال الذين يصلحون للقيام بالمهمّات، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّما النَّاسُ كالإِبِلِ المِائَةِ، لا تَكادُ تَجِدُ فيها راحِلَةً) متفق عليه.
[2] يراجع كتاب: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا) لنور الجندي، للتعرف على خصائص الإنسان بعد تحرره.