كان ملكًا واسع السلطة، كثير المال والجند، وافر القدرة، تنقل بين مغرب الشمس ومطلعها حتى بلغ بين السدين فوجد قومًا طلبوا منه حمايتهم من قوم مفسدين، فجعل لهم ردمًا أكثر حمايةً لهم من السدِّ الذي طلبوه.
عرض القوم على ذي القرنين المال، فاستغنى عنه بمشاركتهم في بناء السد بالجهد والآلات، فنقلهم بذلك من مستجْدين طالبين للحماية، إلى شركاء في العمل، (قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة) أي: «بفَعَلةٍ وصُنّاعٍ يُحسنون البناء والعمل»، «وهذا تأييدٌ من الله تعالى لذي القرنين في هذه المحاورة، فإن القوم لو جمعوا له خَرجًا لم يُعنه أحد»[1].
أُوتي ذو القرنين نعمتين: المنصب، وتوجيه الطاقات نحو الهدف. وإن تعجب فاعجب من الثانية التي يقف دونها كثيرٌ من القادة والرؤساء والعلماء الذين منحهم الله الجاه والنفوذ أو العلم والفكر، ثم جعل حوائج الناس إليهم، فوقع التفاوت بينهم في التأثير والإنتاجية، بحسب قدرة أحدهم على استعمال ما آتاه الله في توجيه طاقات الناس.
وإذا كانت إمكانات بعض الناس متواضعة أحيانًا، فقد كان أولئك القوم (لا يكادون يفقهون قولاً)، فاجتهد ذو القرنين في فهم مرادهم، وإفهامهم مراده بما آتاه الله من الحكمة. وبحكمة ذي القرنين وحسن تصرفه استطاع استثمار ما لديهم من قدرات وطاقات، فوظفها ووجهها نحو الإنتاج النافع، فتفجرت وحققت الهدف المنشود.
ولا يخلو فرد أو مجتمع من البشر من وجود طاقات وقدرات كثيرةٍ متنوعة، تفتقد القائد الخبير الذي يتلمَّسها ويكشف عنها، ثم يُحسن توجيهها والربط والتنسيق بينها، فتنطلق الأمة بكافّتها لتحقيق الرفعة والتقدم. والغفلة عن هذا الأمر أو الجهل به يُهدر القدرات ويفوت الفرص ويبعثر الجهود ويترك الطاقات تتلفت يمنة ويسرة تنتظر من يأخذ بيدها وينقذها، والخير عظيم مدفون في داخلها.
فما أحوج مجتمعاتنا اليوم إلى من يجسد قاعدة ذي القرنين (فأعينوني بقوة) ليثمّر الخير المذخور، وينظم الدرّ المنثور.
ونتلمس في عمل ذي القرنين ملمحًا آخر، وهو أنه انتشل طالب المعونة من حال الطلب والحاجة للآخرين في كل وقت، إلى أن جعله في مصاف الباذلين المستغنين، فقدم لهم إعانة تغنيهم عن الطلب بعد ذلك، فكانت إعانة دائمة مستمرة، كما يقال: لا تُعطِني سمكة، ولكن علِّمني كيف أصطاد[2].
تلك أسوةٌ لمن مكّنه الله من مسؤوليةٍ تربويةٍ أو مجتمعيةٍ ليقوم بتمكين الآخرين فيما آتاهم الله، واستخراج الحلول من داخلهم التي يُحسنون تطبيقها فتزيده وإياهم قوة.
ولن يستطيع توظيف قدرات الناس إلا صاحبُ الرؤية الواضحة العارف بما يريد ويريده الناس، ومن يعرفُ أين يقف، فلا يتجاوزُ وظيفته ولا يدخل فيما لا يُحسن، فيُضعِف نفسه ويزاحم غيره ويعطله. كما أن إدراك المسؤول لما عند الآخرين لا يقل أهمية عن إدراكه لما عنده، وذلك أساس لمنح الثقة التي تبعث القوة المخبوءة وتفجر الطاقة الكامنة. وهكذا تبنى المسؤولية المشتركة والاستقلالية التعاونية بين القائد والأعوان، الذي يحصل به تكامل القدرات والجهود.
قصة ذي القرنين قائدة لكل قائد ومربٍ إلى تفعيل الناس وتوجيه إمكاناتهم الجبارة، بأفق مفتوح لا يعرف الأنانية، وعقل منصف لا يعرف العصبية.
ومن مكَّنه الله فليصبر على تمكين خلق الله.
ويبقى شعار القائد عندما تتجسد الإنجازات العظيمة بين يديه: (هذا رحمة من ربي).
[1] تفسير الطبري ت شاكر (18/ 112)، ثم القرطبي (11/ 60).
[2] ينظر في بعض ما سبق: أصول الدعوة وطرقها 4 – جامعة المدينة (ص: 323)، تفسير الشعراوي (14/ 8990).