ارتبطت المصائب والكوارث بحياة الإنسان أفرادًا وجماعات منذ القدم، ومع اشتمالها على الكثير من الآلام والأحزان إلا أنَّها لا تخرج عن تقدير الله تعالى وأمره وعلمه، ومن هنا فإن حدوثَها يثير الكثير من الأسئلة والاستفسارات التي تاهت فيها العقول وحارت فيها الألباب، وفي هذا المقال عرضٌ لأشهر هذه التساؤلات التي تتعلَّق بجانب عدالة الله تعالى في إيقاعها
عند كل حادثة أو مصيبة تتجدَّد التساؤلات: هل من العدل أن تقع هذه الخسائر والضحايا؟ لماذا يصيب المسلمين كلُّ هذه المصائب والحوادث وتقع بهم هذه الخسائر مع أنَّهم مؤمنون بالله تعالى؟ أليس من العدل أن يحظى المسلم ببعض النعيم في هذه الدنيا؟ ويلقى جزاء طاعته؟
ما ذنب الأطفال والأبرياء الذين يفقدون أقاربهم أو تُبتر بعض أعضائهم؟ وما ذنب الناس الذين يفقدون بيوتهم وأعمالهم؟ وغير ذلك من الأسئلة.
وحيث إنَّ الموضوع متشعِّب، وتدخل في نقاشه العديد من المسائل التي تصل إلى حدِّ مناقشة فكرة وجود الإله، لذا سأقصُر الحديث عن مسألة: هل يتناقض العدل الإلهي مع وقوع المصائب والكوارث أم لا؟
مقدمات أولية:
المقدمة الأولى: لا يخلو مَن يطرح أمثال هذه الأسئلة من أن يكون أحد اثنين: مؤمنًا بالله تعالى، أو غير مؤمن به.
فالذي لا يؤمن بالإله ابتداءً، ولا يصدِّق بأخباره، ولا يسلّم بعلمه وحكمته، ولا يُطيع أوامره، فالحديث معه عن عدالة الإله والحكمة من تقدير المصائب والابتلاءات غيرُ مجدٍ، إلا إن كان من باب التوضيح وربط الأفكار ببعضها، وليس هذا مجالُه.
أمّا المؤمن بالله تعالى، المصدِّق بأخباره، المطيعُ له، فهذا هو الذي يتوجَّه الحديث إليه في توضيح وبيان مسألة عدل الله تعالى، وهل تتناقض مع مَا يقع من أحداثٍ ومصائب.
المقدمة الثانية: من آمن بالله تعالى لا بدَّ أن يؤمن ويصدِّق بما أخبر به عن نفسه، وما أخبر عنه رسوله ﷺ من لوازم ربوبيته وأُلوهيته والإيمان به.
وقد أخبر تعالى في كتابه الكريم أنَّه عدلٌ يُحبُّ العدلَ ويأمر به، وأنه منزه عن الظلم، يكرهه وينهى عنه.
قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [غافر: ٢٠]، قال ابن كثير في تفسيره: «أي يحكم بالعدل»[1].
وقال تعالى نافيًا الظلم عن نفسه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٤٠] وفي الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا)[2].
وقال تعالى في الأمر بالعدل والنهي عن الظلم: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٩٠].
فالواجب على المسلم التسليمُ بعدل الله تعالى واليقينُ به، وأنّه ليس بظلّام للعبيد؛ فإنّ ذلك من لوازم الإيمان به وبرسوله ﷺ.
المقدمة الثالثة: البحث عن الحكمة مما يقدِّره تعالى من مصائبَ وابتلاءات، وعن كيفية فهم آيات الله الشرعية والكونية على ضوء عدل الله؛ لزيادة الاطمئنان، فهذا جائزٌ لا إشكالَ فيه، بل هو داخل في التفكُّر والفهم الذي حث عليه الشرع، وأخذ العبرة والعِظة، وقد صدر البحث عن الحكمة والسؤال عنها من بعض الأنبياء، كإبراهيم عليه السلام حينما سأل ربه أن يُريه كيف يحيي الموتى، فأجابه ربه: ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠]، كما وقع من الصحابة رضي الله عنهم حينما قالوا للنبي ﷺ: «إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ»، قَالَ: (وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟) قَالُوا: «نَعَمْ»، قَالَ: (ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ)[3].
قال النووي رحمه الله: «فقوله ﷺ: ذلك صريح الإيمان ومحض الإيمان معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإنّ استعظام هذا وشدّة الخوف منه ومن النطق به فضلاً عن اعتقاده إنّما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً محقّقًا وانتفت عنه الريبة والشكوك»[4].
مهما بلغ ذكاء الإنسان فإنه يبقى عاجزًا عن الإحاطة بكامل حكمة الله في خلقه وتدبيره، فشطرُها الأعظم سيبقى خافيًا على البشر، وهو من علم الغيب؛ لذا لا يجوز للمسلم أن يُعلِّق إيمانه أو تسليمه بمعرفة هذه الحِكَم أو إدراكها، فقد لا تظهر له، وقد لا يظهر بعضها إلا بعد زمن طويل
المقدمة الرابعة: مع ما سبق ينبغي ألّا يغيب عن الذهن أنَّ الإنسان مهما بلغ من العلم والذكاء والإدراك وتوسَّعت معارفُه فسيبقى عاجزًا عن الإحاطة بكامل حكمة الله في خلقه وتدبيره، فشطرُها الأعظم سيبقى خافيًا على البشر، وهو من علم الغيب الذي استأثر الله به؛ لذا لا يجوز للمسلم أن يُعلِّق إيمانه أو رضاه أو تسليمه بمعرفة هذه الحِكَم أو إدراكها، فقد لا تظهر له، وقد لا يظهر بعضها إلا بعد زمن طويل.
بل الواجب على المسلم، أن يؤمن ويُسلِّم حتى تتحقّق له الراحة والطمأنينة والسكينة، ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: ١١].
وعندما حاول بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام البحث فيما لا يمكن للبشر الإحاطة به أو معرفة الحكمة منه؛ نهاهم الله تعالى عن الخوض فيه، فقال لنوح عليه السلام حينما سأله عن كفر ابنه: ﴿فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ٤٦ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هود: ٤٦-٤٧].
وهذا موسى عليه السلام كليم الله ومن أولي العزم من الرسل، عندما ظنّ أنّه أعلم مَن على الأرض بيّن الله له من خلال الأحداث مع الخضر أنّه لا أحدَ يحيط بجميع العلم، ولا بحِكمة الله من تقديراته، وأنّ ما قد يكون ظاهره الفساد قد يكون باطنه الرحمة والإحسان.
كيف نفهم العدالة الإلهية في حدوث الكوارث والمصائب؟
إذن: ومع إيماننا بأنّ الله عدلٌ يحب العدل وينهى عن الظلم؛ فكيف نفهم العدالة الإلهية مع ما تخلّفه المصائب والكوارث من مآس وآلام؟ من مرض وقتل وفقد وتشريد وجوع؟
الحياة ليست مقصورة على هذه الدنيا فحسب، بل إنَّ شقَّها الأكبر والأهم هو في الآخرة، لذا فإنَّ تحقُّق العدالة الإلهية المطلق بصورتها النهائية هو في الآخرة، وهذا أمرٌ يرتبط بتصوّر الحياة والغاية منها، ومن أراد النعيم والجزاء في الدنيا فإنّه لم يدرك معناها ولا المقصود منها
أولاً: الحياة ليست مقصورة على هذه الدنيا فحسب، بل إنَّ شقَّها الأكبر والأهم هو في الآخرة، لذا فإنَّ تحقُّق العدالة الإلهية لا يقتصر على الدنيا، بل إنّ تحققها المطلق بصورتها النهائية هو في الآخرة، وهذا أمرٌ يرتبط بتصوّر الحياة والغاية منها؛ فالحياة الدنيا دار تكليفٍ وابتلاءٍ وامتحان، وليست دار قرارٍ ولا جزاء، والآخرة هي دار القرار والجزاء، قال تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٤]، أي: فيها الحياة الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع ولا موت معها.
فمن أراد النعيم والجزاء في الدنيا فإنّه لم يدرك معنى الحياة ولا المقصود منها.
طُبعت على كدر وأنت تريدها ** صـفوًا من الأكـدار والأقـذار
ومكـلف الأيـام فوق طباعها ** متطـلب في المـاء جـذوة نـارِ
في الدنيا قد يتحقَّق جانب من العدالة الإلهية بمجازاة الطائع ومعاقبة الظالم، لكن لا يحصُلُ كلُّ طرفٍ على كامل حقِّه فيها، بل يؤجِّل الله تعالى استيفاء الحقوق ليوم القيامة لحِكَم يريدها، ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: ٤٢]، ولعلّ من أهم هذه الحكم: استمرار الحياة الدنيا وعدم انتهائها، قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل: ٦١].
بل إنّ النعيم والبلاء في الدنيا لا قيمة له في الآخرة، كما قال ﷺ: (يؤتَى يومَ القيامةِ بأنعَمِ أَهْلِ الدُّنيا منَ الكفَّارِ فيُقالُ: اغمِسوهُ في النَّارِ غَمسةً، فيُغمَسُ فيها، ثمَّ يقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ نعيمٌ قطُّ؟ فيقولُ: لا، ما أصابَني نعيمٌ قطُّ، ويؤتَى بأشدِّ المؤمنينَ ضرًّا وبلاءً، فيقالُ: اغمِسوهُ غمسةً في الجنَّةِ، فيُغمَسُ فيها غمسةً، فيقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ ضرٌّ قطُّ أو بلاءٌ، فيقولُ: ما أصابَني قطُّ ضرٌّ ولا بلاءٌ)[5].
أما في الآخرة فتتحقَّق العدالة بأكمل صُوَرها، ويأخذ كلّ شخص ما يستحقه من جزاء دون ظلم أو نقصان، قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٧]، وقال: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [غافر: ١٧].
ومن ابتُلي في الدنيا ولم يُنعَّم فمِن كمال عدل الله تعالى أن يعوّضه في الآخرة، كما في الحديث: (يوَدُّ أهلُ العافيةِ يومَ القيامةِ حينَ يُعطَى أهلُ البلاءِ الثَّوابَ لو أنَّ جُلودَهم كانت قُرِضَت في الدُّنيا بالمقاريض)[6].
ثانيًا: في الدنيا نعيمٌ عظيمٌ حقيقي، يختصّ الله به أهل الإيمان والطاعة، ويتمثّل في طمأنينة القلب، وهدوء النفس، وراحة البال، ويتحقّق هذا النعيم في الإقامة على طاعة الله، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: ٢٨].
وهذا النعيم هو الحياة الطيبة التي جاء ذكرها في القرآن: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧].
وهو أعظم من نعيم المال والجاه، وتتضاءل أمامه متع الدنيا وملذّاتها، مَن افتقده عاش ضيق النفس مضطربًا وإن حاز الدنيا وما فيها؛ لهذا كان من دعاء النبي ﷺ: (اللهم اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصيبات الدُّنْيَا)[7].
والطمأنينة تورث الرضا، والتي لا يحصل للنفس سعادة ولا هناءة إلا بها، قال ابن القيم رحمه الله: «وطريق الرضا طريق مختصرة، قريبة جدًا، موصلة إلى أجلِّ غاية، ولكن فيها مشقَّة، ومع هذا فليست مشقَّتها بأصعب من مشقَّة طريق المجاهدة، ولا فيها من العقبات والمفاوز ما فيها، وإنما عقبتها: هِمّةٌ عالية، ونفسٌ زكية، وتوطينُ النفسِ على كل ما يَرِد عليها من الله»[8]، وهو تعريفٌ عميقٌ للغاية، جعل النفس والإيمان هما مفتاح الرضا، فإذا اقتنعت النفس وفهمت أصبحت مشقَّة التقلُّب في صروف الدهر أمرًا هينًا يسيرًا، لأنَّها في تلك الحال تُدرك حقيقةَ الجائزة والفوز في الآخرة، وحقيقةَ تقدير الخالق سبحانه وتعالى لمجريات الأمور.
كما تورث القوة ورباطة الجأش والصمود في هذه المواقف، يطرح الجبن والحرص جانبًا، فقد جاء في الحديث: (واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، وإنِ اجتمعوا على أن يضُرُّوك بشيءٍ لم يضُروك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفَ)[9]، قَالَ تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٤]، مع ذهاب الحزن والغم، كما قال تعالى: ﴿لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ [الحديد: ٢٣].
من أشدِّ أنواع البلاء: الابتلاءات المعنوية، كالحرمان من الهداية، وضنك العيش، فقد يبدو الإنسان سعيدًا أو معافىً وهو يتقلَّب بين نيران القلق والتيه وعدم الراحة، حتى تضيق عليه نفسه وأنفاسه
ثالثًا: البلايا والمصائب والشدائد ليست خاصةً بالمسلمين بل هي عامةٌ لكلِّ البشر، وتشمل حتى الحيوانات وسائر المخلوقات، وهي من سُنن الله في تدبير الكون والتصرُّف فيه، فكلُّ مظهرٍ من مظاهر الآلام والمصائب مرتبطٌ بالغاية الأساسية والحكمة الإلهية لهذه الدنيا وهي الابتلاء والتمحيص.
وما أصاب المسلمين منها فقد أصاب غيرَهم أضعافه، ونظرة على تاريخ البشرية منذ القدم ندرك ما أصاب الأقوام الآخرين من ابتلاءات ومصائب كونية كالزلازل والبراكين والفيضانات، أو بأيدي البشر أنفسهم كالحروب ونحوها.
قال تعالى: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ١٠٤]، وقال: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٠].
وكثير من الرخاء ورغد العيش الذي يراه المسلم في بلاد الكفار هو نعيم قصير الأمد، سبقه قرون من المحن والمصائب والبلايا، فلا يصح غضّ النظر عنها وإهمالها.
كما توعَّد الله سبحانه وتعالى الكفَّار بنزول أنواع البلاء والعذاب عليهم بسبب كفرهم وإعراضهم عن الهداية فقال: ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [الرعد: ٣١]. قال ابن كثير رحمه الله: «أي: بسبب تكذيبهم، لا تزال القوارع تصيبهم في الدنيا، أو تصيب من حولهم ليتَّعظوا ويعتبروا، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأحقاف: ٢٧]»[10].
ثم إنَّ البلايا والمصائب لا تختصُّ بالجانب الماديِّ المنظور، بل تمتدُّ إلى جوانب كثيرة قد لا تكون منظورة كالتوفيق، والبركة، والصحة، ونحو ذلك، فكثيرٌ ممّن ظاهرهُ التمتُّع بالنِّعم وعدم الابتلاء قد يكون مبتلىً بأنواعٍ أخرى أشدَّ من بلاء الأمراض والكوارث، كعقوق الأبناء، أو فشل الحياة الزوجية، أو ذهاب بركة الرزق، أو الأمراض، ونحو ذلك.
ومن أشدِّ أنواع البلاء: الابتلاءات المعنوية، كالحرمان من الهداية، وضنك العيش، فقد يبدو الإنسان سعيدًا أو معافىً وهو يتقلَّب بين نيران القلق والتيه وعدم الراحة، حتى تضيق عليه نفسه وأنفاسه، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه: ١٢٤].
في المصائب والكوارث منح وفوائد كثيرة، فوجودها يدفع الإنسان للبحث والتنقيب فتظهر الكشوفات والصناعات ويتقدم العلم، كما أن التعامل معها ومواجهتها يورث في الإنسان صفات القوة والإقدام، ويكسبه الوعي والتقدّم في التفكير، وتنمية الطاقات، ومن ثَمَّ رقيّه وتقدّمه
رابعًا: المصائب والكوارث تنطوي على منح وفوائد كثيرة، لكن المقياس في مثل هذه الأمور لا يكون من خلال نظر الأفراد وحساباتهم وأعمارهم، بل من خلال النظر العام، فحالة الإنسان وعمره قد لا يكفي لتبيّن الحكمة من بعض التقادير، التي قد تحتاج لأجيال أو سنواتٍ طويلة حتى تظهر فوائدُها، فكم نتج عن الكوارث الطبيعية والحروب من فوائد كثيرة اجتماعية، أو اقتصادية، أو مناخية، وغيرها، ولم يتبين ذلك إلا بعد عقود طويلة، نتيحة التغيُّرات التي حدثت في تلك المناطق، ومنها الهجرات التي تحدث أثرًا كبيرًا في السكّان وتركيبتهم النفسية والاجتماعية.
ومثل ذلك يقال في الفوائد التي تعقب الفيضانات على التربة والزراعة، والمعادن التي تخرج بسبب الزلازل والبراكين، وغير ذلك كثير.
فوجود الكوارث والمصائب يدفع الإنسان للبحث والتنقيب؛ فتظهر الكشوفات والصناعات ويتقدم العلم، فلولا الأمراض لما تقدّم الطب، ولولا الكوارث البحرية لما تقدّمت صناعة السفن وعلوم الملاحة، ولولا المجاعات لما تقدّمت علوم الزراعة والغذاء، وهكذا.
فخوض غمار التعامل مع الكوارث ومقاومتها ومواجهتها يورث في الإنسان صفات القوة والإقدام والشجاعة، ويكسبه زيادة الوعي والتقدّم في التفكير، وتنمية الطاقات، ومن ثَمَّ رقيّه وتقدّمه، وإلا فالخمول والكسل وتلاشي الفكر والحضارة.
وكما قيل: الأمم التي تريد أن تتقدّم لابدّ أن تدميها المصائب والكوارث.
الأحزان والآلام ملازمةٌ للإنسان في جميع أمور حياته، لا يخلو منها أمر، لكنّها تتضاءل في عينه مقابل مصالح عاجلةٍ مظنونةٍ يراها فيستعذب تلك الآلام ولا يقف عندها، فكيف إذا كانت المصالح والفوائد مؤكَّدةً، وبوعدٍ من ربِّ السماوات والأرض؟
خامسًا: المصائب والكوارث من سنن الله تعالى في تدبير الكون، فقد قضى جلَّ شأنه أنّه ليس في هذه الدنيا فرحٌ دون حزن، ولا أمن دون خوف،… وهذا شاملٌ لكلِّ شيء، فتحصيل المال لا بدَّ فيه من الشقاء والتعب وبذل النفس، وتحصيل الولد فيه آلام الحمل والمخاض والولادة، وتحقيق النجاح لا بدَّ فيه من مشاقِّ العمل والكدِّ …، والاستطبابُ لا بدَّ فيه من تجرُّع مرِّ الدواء، وربما استئصال الأعضاء، وبناء الأوطان وتحقيق أمنها لا بدَّ فيه من القتال، مع ما فيه من إزهاق الأنفس والآلام الكبيرة المترتبة عليه.
بل إنَّ دخول الجنَّة لا يكون إلا بالمرور على الموت وما فيه من الشدائد والفتن، فالأحزان والآلام ملازمةٌ للإنسان في جميع أمور حياته، لا يخلو منها أمر، لكنّها تتضاءل في عينه مقابل مصالح عاجلةٍ مظنونةٍ يراها فيستعذب تلك الآلام ولا يقف عندها، فكيف إذا كانت المصالح والفوائد مؤكَّدةً، وبوعدٍ من ربِّ السماوات والأرض؟
سادسًا: ما يقع بسبب المصائب والكوارث من آلامٍ وأحزانٍ ليس محبوبًا لله تعالى في ذاته، لكنه تعالى يقدِّره لما يرتب عليه من مصالح أخرى محبوبة له، قال تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ [النساء: ١٤٧]، قال السعدي: «وهو يريد منكم التوبة والإنابة والرجوع إليه، فإذا أنبتم إليه، فأيَّ شيءٍ يفعل بعذابكم؟ فإنَّه لا يتشفَّى بعذابكم، ولا ينتفع بعقابكم»[11]، كما جاء في الحديث القدسي: (وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرهُ المَوْتَ، وأنا أكْرهُ مَساءَتَهُ)[12]. قال ابن تيمية: «الرَّبُّ يكرهُ أن يسوءَ عبده ومحبوبَه، فلزِمَ مِن هذا أن يكرهَ الموتَ؛ ليزدادَ مِن مَحابِّ محبوبِه، واللهُ سُبحانَه وتعالى قد قضى بالموتِ، فكلُّ ما قضى به فهو يُريده، ولا بدَّ منه؛ فالرَّبُّ مُريدٌ لموتِه؛ لِما سبَقَ به قضاؤه، وهو مع ذلك كارهٌ لِمَساءَةِ عبِده، وهي المَساءَةُ الَّتي تحصُلُ له بالموتِ، فصار الموتُ مُرادًا للحقِّ مِن وجهٍ، مكروهًا له مِن وجهٍ»[13].
ومرجعُ هذا إلى الإرادة الكونية التي لا يلزم منها محبَّةُ الله ورضاه بها، كما قال: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: ٧]، فالله يوقعها لكونها جارية على سننه ولما يعقبها من خير توصل إليه.
كما أنَّ وجود الظلم والظالمين في هذه الدنيا ليس رضًا من الله بهم ولا إقرارًا لهم، ولا غفلة من العدالة الإلهية عنهم، بل ليبلي الناس بعضهم ببعض ويختبر عزمهم وجهدهم في الدفاع عن المظلوم، وهو سبحانه ربما أخّر عقوبة الظالم ليوم القيامة ليكون أشدّ وأبقى.
ومثل ذلك ما يفعل الشخص بمحبوبه من آلام وأوجاع ليست مقصودة في ذاتها بل لما يرتب عليها من منافع وفوائد، كتأديب التربية، قال الشاعر:
فقسا ليزدجروا ومن يكُ راحمًا ** فلْيَقْسُ أحيـانًا على مـن يرحم
الله تعالى يبتلي بالمصائب كما يبتلي بالنعم، فهو يعطي ليختبر ويحاسب، كما يبتلي بالمنع ليختبر ويحاسب، أما لماذا أعطى هذا ولماذا منع هذا؟ فهذا مما لا سبيل للعلم به ولا إدراكه، وهو من علم الغيب الذي اختصَّ الله تعالى به
سابعًا: الابتلاء بالمصائب هو أحد نوعي الابتلاء، فالله تعالى يبتلي بالمصائب كما يبتلي بالنعم، ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الانبياء: ٣٥]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «نبتليكم بالشر والخير فتنة، بالشدّة والرخاء، والصحة والسَّقَم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال»[14].
فكما أنّ المرض والفقر والخوف ابتلاء، فكذلك الصحة والمال والأمن ابتلاء، كما ورد في الحديث: (لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرهِ فيما أفناهُ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ)[15]، فالله يعطي ليختبر ويحاسب، كما يبتلي بالمنع ليختبر ويحاسب.
أما لماذا أعطى هذا ولماذا منع هذا؟ فهذا مما لا سبيل للعلم به ولا إدراكه، وهو من علم الغيب الذي اختصَّ الله تعالى به، ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ٤٣ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ٤٤ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ٤٥ مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ٤٦ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى ٤٧ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ [النجم: ٤٣-٤٨].
وقد يتمنى الإنسان الخير أو الابتلاء بالنعمة، لكن لا يعلم هل هو خير له أم لا[16]، فليس الإعطاء دليل العافية ولا العاقبة الحسنة، كما مرّ!
وختامًا:
فإنَّ عدالة الله تعالى -كسائر صفاته وأفعاله تعالى- أعظم من أن يحيط بها بشر، أو يُدرك كُنهها إنسان، فالواجب على المسلم التسليم بها والتصديق، وعدم النظر إليها من زاويته الخاصة، أو بنظرة جزئية يسيرة لا يوضح معناها ولا يكشف كنهها، وأن يفوض أمرها لله تعالى، وينشغل بما هو قادر عليه داخل في قدرته ومعرفته، ومحاسب عليه مجازى، وهو: كيفية التعامل مع أقدار الله تعالى في حال المصائب والكوارث، والاستعداد لها بتقوية الإيمان واليقين، والاستعانة بالله على ذلك.
د. عماد الدين خيتي
باحث ومتخصص في الدراسات الإسلامية، نائب رئيس مجلس الإفتاء في المجلس الإسلامي السوري.
[1] تفسير ابن كثير (٧/١٢٤).
[2] أخرجه مسلم، حديث رقم (٢٥٧٧).
[3] أخرجه مسلم، حديث رقم (١٣٢).
[4] شرح صحيح مسلم، للنووي (٢/١٥٤).
[5] أخرجه ابن ماجه، حديث رقم (٤٣٢١).
[6] أخرجه الترمذي، حديث رقم (٢٤٠٢).
[7] أخرجه الترمذي (٣٥٠٢).
[8] مدارج السالكين، لابن القيم (٢/١٧٣).
[9] أخرجه الترمذي (٢٥١٦).
[10] تفسير ابن كثير (٤/٣٩٧).
[11] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (ص ٢١١).
[12] أخرجه البخاري (٦٥٠٢).
[13] مجموع الفتاوى (١٨/١٣١).
[14] تفسير ابن كثير (٥/٣٠٠).
[15] أخرجه الترمذي، حديث رقم (٢٤١٧).
[16] مما يشيع على الألسنة وورد في الآثار -ولا يصح نسبته للنبي ﷺ: قول «إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا الغنى ولو افتقر لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، وإني أدبر لعبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير». ولهذا الكلام نصيب كبير من الصحة، فلا يعلم الغيب إلا الله.