قضايا معاصرة

هل يمكن للبشر أن يصنعوا زلزالاً؟

يحلو لبعض المفتونين بنظرية المؤامرة أن يجعلوا كل حدث يصيب المسلمين مؤامرةً صنعها الأعداء لينالوا من أمة الإسلام ويقضوا عليها، وكان بعض ذلك متفهمًا في الجوانب التي ينشط فيها البشر كالإعلام والتعليم والسياسة والاقتصاد وغيرها، أما أن يصل الأمر إلى نسبة حدوث الكوارث الطبيعية إلى الأعداء، فهذا مما لا يقبله العقل ويرفضه العلم

مدخل:

المقالات والمقاطع المتداولة عن أنّ أمريكا هي التي صنعت الزلزال الأخير في تركيا وسورية مضحكة مبكية.

هي مضحكة لأنّ مَن كان عنده الحدّ الأدنى من العلم بالجيولوجيا وطبقات الأرض، سيعلم أنّ هذا أمر مستحيل من الناحية العلمية.

ومبكية لأنّ البعض تنطلي عليهم مثل هذه الترّهات، فيتناقلونها ويروّجونها، ولا يعلمون أنّ أعداءنا يستغلّون أيّ فرصة ليضحكوا علينا ويوهمونا بأنّ أمريكا هي ربنا الأعلى!

وقبل أن نبيّن لماذا هي مضحكة مبكية، دعونا نأخذ لمحة سريعة عن كيفية حدوث الزلازل.

كيف تحدث الزلازل؟

تتكون الكرة الأرضية من ثلاثة أجزاء رئيسة: القشرة الخارجية، والقشرة الداخلية، والنواة.

القشرة الخارجية هي الطبقة الصلبة التي نعيش عليها، وما نراه من سهول وجبال ووديان، وهي التي تمتدّ من البر وحتى قاع المحيطات والبحار. وتبلغ سماكتها القصوى في المناطق الجبلية حوالي ٧٠ كيلومترًا، وعلى اليابسة في المناطق السهلية ٤٠ كيلومترًا، في حين لا تتجاوز سماكتها في قاع المحيطات ٥ كيلومترات، علمًا أنّ ارتفاع أعلى سلسلة جبال في العالم، وهي جبال الهيمالايا، يقارب ٩ كيلومترات (٨٨٤٥ متر).

والقشرة الداخلية هي طبقة صخرية مرنة تتوضّع تحت القشرة الخارجية، سماكتها حوالي ٢٨٠٠ كيلومتر، وقد اكتسبت مرونتها من الحرارة الشديدة التي تصلها من نواة الكرة الأرضية.

والنواة هي كرة نصف قطرها حوالي ٢٤٠٠ كيلومتر تتكون من معادن وصخور منصهرة شديدة الحرارة، تتراوح حرارتها ما بين ٤٠٠٠ إلى ٥٠٠٠ درجة مئوية، تحيط بها القشرة الداخلية.

القشرة الخارجية للأرض ليست غلافًا متماسكًا بل هي صفائح قارية ضخمة تتحرَّك فوق القشرة الداخلية، التي تعوم بدورها فوق النواة المنصهرة، والتي لا تجد متنفّسًا للطاقة الهائلة التي تتراكم تحتها إلا في المناطق الفاصلة بين صفائح القشرة الخارجية، مما يؤدي لتحركها اصطدامًا أو تباعدًا، أو ينزلق بعضها فوق بعض، وهذا ما يؤدِّي للزلازل

وقد كان العلماء يظنّون حتى منتصف القرن الماضي أنّ القشرة الأرضية الخارجية، هي قطعة واحدة متماسكة ثابتة ساكنة، ولكنهم اكتشفوا أنّ هذه القشرة ليست متماسكة من حيث البنية، وليست ثابتة ساكنة من حيث الحركة، بل هي مقسّمة إلى صفائح قارّية ضخمة، منفصلة، تتحرّك فوق القشرة الداخلية، وتكاد تكون في حركة دائمة، لكن لا نشعر بها، لأنّها بطيئة جدًّا لا تزيد عن بضع سنتيمترات في السنة، باستثناء حركتها أثناء الزلازل، كما سنبيّن في السطور التالية.

إنّ القشرة الداخلية في تماسٍّ مباشر في أسفلها مع النواة المنصهرة، أي هي معرضة لتسخين دائم، ويؤدي هذا التسخين إلى أمرين مهمّين، الأول: أن القشرة الداخلية تتمتع بالمرونة والليونة بسبب الحرارة الشديدة التي تصلها من النواة، والتي هي أشبه بموقد هائل يقوم بتسخينها، والثاني: أنّه بسبب هذه الحرارة وبسبب ليونة القشرة الداخلية -حيث تكون أقرب إلى السيولة منها إلى الصلابة- تكون في حركة دائمة، تشبه حركة الماء في وعاء نضعه على موقد، لكن بوتيرة أبطأ، فالطبقات السفلى منها الملامِسة للنواة، تسخن بشدة فتصعد للأعلى باتجاه القشرة الخارجية للأرض، حتى إذا وصلت إلى أعلى ولامست القشرة الخارجية، انخفضت حرارتها، فتعود للهبوط باتجاه النواة، لتسخن من جديد وتصعد من جديد هكذا، تمامًا مثلما يتحرك الماء في وعاء أثناء تسخينه على موقد.

وبما أنّ القشرة الداخلية هي في تماس من أعلاها مع القشرة الصخرية للأرض، وبما أنّ القشرة الخارجية كما أسلفنا ليست غلافًا مصمتًا واحدًا يغلف الأرض، بل هي مقسمة إلى صفائح قارّية متعدّدة، تطفو على سطح القشرة الداخلية المرنة، فإنّ القشرة الداخلية لا تجد متنفّسًا للطاقة الهائلة التي تتراكم فيها نتيجة التسخين، إلا في المناطق الفاصلة بين صفائح القشرة الخارجية، فتتحرك تلك الصفائح في مناطق تماسّها مع بعضها، بسبب طاقة القشرة الداخلية وحركتها، فتصطدم ببعضها، أو تتباعد عن بعضها، أو ينزلق بعضها فوق بعض، وهذا ما يؤدي للزلازل.

هل يمكن صناعة الزلزال؟

والآن: هل يمكن أن يكون هذا الزلزال بسبب قنبلة نووية؟ أو غيرها من الطرق الحديثة؟

والجواب: أنّ هذا الزلزال كان على رقعة قُـدِّرت مساحتها بمئة وعشرين ألف كيلو متر مربع على الأقل، ومتوسّط سماكة القشرة الأرضية الصخرية فيها يزيد عن خمسين كيلومترًا، (سماكة ستة من جبال الهيمالايا موضوعة فوق بعضها) أي إنّ حجمها ستة مليارات متر مكعّب، ووزنها ثمانية عشر مليار طن!

وللتقريب: هي كتلة يزيد وزنها وحجمها عن وزن وحجم مئات الجبال، فهل تستطيع قنبلة نووية مزروعة في البحر، (كما يزعمون) أن تزحزح هذه الكتلة قيد أنملة إذا علمنا أنّ مدير إدارة الكوارث في تركيا صرّح بأنّ الطاقة المنبعثة من الزلزال تعادل ٥٠٠ قنبلة نووية؟!

يكفي ما قلناه لنعتبر خبر تدبير أمريكا للزلزال غير ممكن وغير واقعي، وكلّ ما ذكروه مجرّد أخبار وهمية لا أصل لها ولا دليل على حدوثها ولا علاقة لها إطلاقًا بالزلزال، ولا بالعلم، والردّ عليها إضاعة للوقت؛ لأنّها في غياب الدليل والبرهان والمصدر الموثوق ليست سوى لغو، كان الواجب على مَن سمعه أن يُعرض عنه، فنحن قوم علَّـمنا ربّنا عندما نسمع خبرًا أن نتبين، ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: ٦]، وأن نقول لمن جاؤونا به: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ١١١]، فإذا تبيّن لنا أنّه لغو أن نُعرض عنه ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: ٣].

الأخبار تؤخذ مع أدلّتها وبراهينها من المراكز والمؤسسات العلمية المتخصصة، وليس من مقالات كتبها من لا ناقة لهم في العلم ولا جمل، خصوصًا في حق أمة الإسلام التي علَّمها ربُّها أن تتبيَّن عندما تسمع خبرًا، وأن تعرض عن اللغو والتخرص

بناء على ذلك: فإنّ أخبارًا كهذه نأخذها مع أدلّتها وبراهينها من المراكز والمؤسسات العلمية، وليس من مقالات كتبها من لا ناقة لهم في العلم ولا جمل، ومع ذلك، إليكم بعض النقاط التي تؤكد كذب هذه الإشاعات:

فمثلاً، مما ورد أنّ بعض الدول الأوربية أغلقت سفاراتها في تركيا قبل الزلزال! فما علاقة هذا بالزلزال؟ هذا له قصة أخرى تتعلّق بجريمة حرق المصحف تلك الأيام، وخوف الدول الأوربية من ردّة فعل الشعب التركي المسلم على ما فعلوه؛ لأنّ حرق المصحف الشريف حصل أمام السفارة التركية، في تحدٍّ وقح للمسلمين بشكل عام، وللأتراك بشكل خاص، كما أنّ مقرّات السفارات والقنصليات في أنقرة واسطنبول بعيدة جدًا عن مركز الزلزال ولم تتأثر به إطلاقًا.

وهل يعقل أن تزرع أمريكا ما يعادل ٥٠٠ قنبلة نووية لتصنع الزلزال؟ وأين؟ وكيف؟ وما الدليل على ذلك؟ وأين الإشعاعات النووية التي انطلقت من هذه الانفجارات؟ لو حدث ذلك فعلاً لما بقي أحد حيًّا في تركيا وفي بلاد الشام، ليس من الزلزال، ولكن من تبعات الإشعاع النووي.

كما أنّ الانفجار النووي ليس له هزات ارتدادية، هو يحدث وينتهي في لحظات، فهل ما تسجّله مقاييس الزلازل هو انفجار في لحظات؟ إنّ الهزات الارتدادية التي ما زالت مستمرة بعد أسبوعين من الزلزال (عند كتابة هذه السطور)، وقد تستمر شهورًا حتى تتخامد، هي دليل قاطع آخر على أن الخبر مختلق لا أصل له لا سيما أنّ منها هزات قوية جدًّا وكأنّها زلزال جديد.

ولماذا لا تنهي أمريكا الحرب في أوكرانيا بقنبلة من هذا النوع إن كانت قادرة عليه؟

وهل زلزال حلب الذي حدث عام ١١٣٨ ودمّر المدينة وقتل حوالي ربع مليون إنسان كان أيضًا من صنع أمريكا؟

وهل الزلازل العشر التي حصلت في تركيا على مدى السنوات الخمسين الماضية، وكانت شدتها ما بين ٦ و ٨ على مقياس ريختر من صنع أمريكا؟ وهل زلزال (توهوكو) في اليابان، الذي بلغت شدته ٩ على مقياس ريختر كان أيضًا من صنع أمريكا؟ وهل الزلازل التي سجلها التاريخ على مدى القرون من صنع أمريكا؟ فليحترم عقولنا من اختلق الخبر وكتب عنه وروج.

وكذلك ما قيل عن مشروع «هارب» وعلاقته بالزلزال، والضوء الأزرق الذي رافق الزلزال ودلالته على علاقة المشروع به، فكل ذلك أوهام لا حقيقة لها ولا أصل.

فالضوء الأزرق هو ظاهرة جوية تظهر في السماء في المناطق ذات النشاط الزلزالي، ولا تقتصر على الزلازل فحسب، بل تظهر مع البراكين كذلك، وقد تم رصد هذه الظاهرة في العديد من مناطق العالم، ومنذ سنوات طويلة.

وأما مشروع هارب فهو برنامج علمي لا يملك القدرة على التحكم بالطقس ولا إحداث الزلازل ولا غيرها، وما يشاع عن علاقته بالزلزال محض أوهام، وقد تحدث في ذلك العديد من العلماء والمختصون.

شبكات التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين، والمسلم الفطن يستخدمها في التواصل النافع، ويتجنب النشر العشوائي للأخبار دون تحقّق، سواء كان ذلك من باب التخويف والتحذير أو البحث عن الإعجابات والمتابعات

معضلة غياب التحقق والتثبت:

أما لماذا نعتبر هذا الخبر مبكيًا، فلأنّ تناقُـلَـه دون تحقّق وتأكّد في وسائل التواصل ومن مثقفين ومتعلمين، بل وتـبـنّـي بعضهم له، ودفاعهم عنه، يدلّ على أمور مزعجة يحتاج كلّ منها إلى دراسة وبحث، لمعرفة أسبابه ووضع الحلول لها لتداركها.

الأول: أنّ الكثيرين عندما يقرؤون خبرًا فيه شيء من الغرابة والخروج عن المألوف يسارعون إلى نشره، دون تأكّد وتحقّق، رغبة في نشر الجديد، أو نشر معلومة خطيرة في ظنهم، وربما بحثًا عن الإعجابات والمتابعات التي أصبح جمعها هدفًا يهون في سبيل تحقيقه نشر التوافه والغرائب، ويا ضيعة الأوقات التي يمضيها البعض على تلك المنصات في سبيل حصد الإعجابات والمتابعات، ونحن لا نقول اهجروا منصات التواصل، بل نقول استخدموها في نشر ما يفيد.

الثاني: أنّنا نحن المسلمين، قومٌ علَّـمنا ربنا عندما نسمع خبرًا أن نتبيّن، وأن نُعرض عن اللغو، وبناءً على ذلك: فإنّ أخبارًا كهذه، مع غياب الدليل والبرهان والمصدر الموثوق ليست سوى لغو كان على مَن سمعه أن يُعرض عنه، ومَن لم يفعل فهو مخالف لهذا المنهج الذي بيّنه لنا ربّنا سبحانه وتعالى، فعلينا إذن أن نحرص على أخذ العلم من أهله، من مراكز الأبحاث والخبراء الحقيقيين المعروفين، ومن مراصد الزلازل العالمية، حتى لو كانت في بلاد غير المسلمين، ومن الهيئات الرسمية ذات المصداقية، مثل إدارة الكوارث والطوارئ التركية، أما أن نأخذ المعلومات من أي مقال نراه على الشبكة، ونترك المصادر العلمية، فهذا لا ينبغي أن يكون دأب أمة (فتبينوا).

والثالث: أنّ تناقل مثل هذا الخبر على نطاق واسع، وممّن نحسبهم مثقّفين، ومن أصحاب شهادات عليا، يكشف عن قصور في المعرفة العلمية بين مثقفينا، فما بالكم بالعوام منّا، فترى أحدهم لديه حظ من الثقافة في الفنّ والرياضة والاقتصاد بينما حظّه من المعرفة العلمية ضحل قليل، لأنّها ليست في قائمة اهتماماته، لدرجة أنّه ينسى حتى ما تعلّمه من علوم في المدرسة، وكما ذكرنا آنفًا: لو أنّ لدى مَن تناقلوا الخبر بعضَ المعرفة في علوم الجيولوجيا وطبقات الأرض لضحكوا من هذا الخبر بدلاً من أن يجعلونا نضحك من تصديقهم له.

والرابع: أنّ البعض منّا ما زالوا يعتقدون للأسف، أنّ كل شيء في هذا العالم يسير بأمر أمريكا، ولو قيل لهم إنّ أمريكا تخطط لتجفيف البحر أو لإغراق القارات لَصَـدَّقـوا. وهذا مصدره على الأغلب أمران: ضعف الإيمان، وعقدة «الخواجا».

وختامًا..

سواء كان أحدنا من أنصار نظرية المؤامرة أم لم يكن، الأصل عند قراءة ما تقذفه إلينا الشبكة بشكل عام، ومثل هذه المقالات والآراء بشكل خاص، أن نتبين صدقية وموثوقية المصدر، ثم أن نعرض ما نسمعه على العلم والعقل والمنطق، وعلى أهل الاختصاص، قبل أن نصدقه ونتبناه ونشاركه.


م. فداء ياسر الجندي

كاتب من سورية.


 

X