الورقة الأخيرة مميزة

جاءه الأعمى

بينما كان نبي الله ﷺ جالسًا مع أحد وجهاء مكة يقرأ عليه القرآن رجاء إسلامه، يأتي صحابيٌّ أعمى يطلب العلم راغبًا، فيُعرض عنه النبي ﷺ وهو عابس؛ اشتغالاً بذلك الشخص، فتنزل سورة[1] تعاتبه في إعراضه عمن جاء ساعيًا يخشى الله، واشتغاله عنه بوجيهٍ معرضٍ مستغنٍ عن الاهتداء، مع أنه ﷺ غير مؤاخَذ على إعراضه.

سورة (عبس) تبيّن حقيقة دعوة القرآن، وكرامة من ينتفع بها، وحقارة من يُعرض عنها، وتؤكد في آخرها على المسؤولية الفردية عن قبول الحق، وترسم منهجًا حاسمًا في تعميم الدعوة للجميع على السواء، ثم الإقبال على من استجاب وقبِل لأجل تزكيته وتعليمه، دون تعليق النفس بالمعرضين. إنها تذكرة الله لمن استعد لها، وأول الاستعداد: قيادة العقل للنفس وضبطه لطباعها ومشتهياتها وأعراضها. أما المرشد من البشر فإنما هو مبلّغ يتلو القرآن، ويزكي من يستجيب دون غيره، ثم يوظّف من تزكى لخدمة الدين ولو كان أعمى! فأولئك هم النخبة الحقيقية.

هذا المشهد قد يتجلى في صورة شاب جادّ باحث عمن يعلمه، وعامل صادق يفتش عمن يستفتيه، وطاقة تبحث عمن يوظفها، ومصلٍّ في جامع متعطش لمن يجالسه .. أين أولئك ممن انتسب لجامعة لا يريد إلا شهادتها، أو صار عضوًا في نقابة أو رابطة دون هدف، أو حصل على فرصة تعليمية دون إقباله الجادّ عليها.

مسؤولية قادة التربية والتعليم اصطفاء ذوي البصيرة ولو كان مظهرهم لا يوحي بذلك، فهُم أساس البناء وبيئة الاستثمار المربح. وعلى المربي والداعية أن يميز بين المقبل والمعرض، والراغب والزاهد، والمتحفّز والمتثاقل، والقادر والقاصر، والصاعد والوصولي، والهميم والدنيء.. وقد صار للاختيار والترشيح أدوات ومقاييس لا يجوز التفريط بإقامة المدارس والمعاهد والجامعات والبرامج دون استخدامها في اعتماد القبول.

ينبغي أن يتسنم تعليمُ العلوم الشرعية أعلى درجات العناية الواجبة باختيار المتعلمين القادرين على تحمل أمانة الدين[2]؛ فإنما ضعف الدعوة من ضعف حملتها. ولا تجديد دون تغيير حقيقي في اختيار مستودعات العلم والفكر والتربية.

حين يتمنى الفاروق ملء البيت رجالاً كأبي عبيدة يستعملهم في أعمال المسلمين، فهو إنما يشير إلى ندرة المعادن النفيسة، وخاصة في زمن تنمو فيه الأعمال ويضمر الرجال. والمفتاح بيد أولئك المرابطين على ثغور العلم والفكر والتربية، أن يحسنوا اختيار نقاط الرباط، في بيوت الله ومرابط التربية.. والانسحاب رويدًا من ميادين الاستهلاك من برامج استعراضية أو استهلاكية أو جدلية أو سطحية أو تعيش وهم النخبوية. إنما النخبة من استجاب وتزكى وعمل.

وإذا جاء العتاب للنبي العظيم ﷺ  على التصدي لدعوة شخصٍ معرض على حساب الراغب، فما بالك بالمتصدي لتلك الصوارف! وإذا عوتب المصطفى ﷺ في رجل أعمى، فكيف بأجيال ناهضة تعاني التهميش التربوي وفقدان المربين والمفتين، الأمر الذي يقتضي ترك مألوفات والتزامات مترهلة ومطامع عاجلة؛ نهوضًا إلى أولويات منسية في اختيار البيئات والموضوعات والفئات القابلة لا الصادّة المستغنية المعتدّة بمؤهلاتها ومعلوماتها ومكتسباتها ومواقعها وعلاقاتها، مع الاكتفاء بتحفيزهم دون إلحاح، فإنما يقدّر قيمة الشيء الراغب فيه، أما البذل للمستغني فإرخاص للثمين. ولا يُترك معلوم النفع لموهوم.

في رجل أعمى، فكيف بأجيال ناهضة تعاني التهميش التربوي وفقدان المربين والمفتين، الأمر الذي يقتضي ترك مألوفات والتزامات مترهلة ومطامع عاجلة؛ نهوضًا إلى أولويات منسية في اختيار البيئات والموضوعات والفئات القابلة لا الصادّة المستغنية المعتدّة بمؤهلاتها ومعلوماتها ومكتسباتها ومواقعها وعلاقاتها، مع الاكتفاء بتحفيزهم دون إلحاح، فإنما يقدّر قيمة الشيء الراغب فيه، أما البذل للمستغني فإرخاص للثمين. ولا يُترك معلوم النفع لموهوم.

فمن علمه الله شيئًا يقدر على بذله بأي صورة، فليرابط بقليل دائم مع المقبلين بقلبه وعقله. وحقّ المعلمين على المخططين إعداد برامج تعليم بنائي متين لذوي الاستعداد الأكيد.


د. خير الله طالب


[1] ذكر المفسرون أن سورة عبس نزلت في ابن أم مكتوم t، وكان رجلًا أعمى، وهو أحد المؤذنين، ينظر: سنن الترمذي: (3331).

[2] وفي كتاب (الفصل بين النفس والعقل) للشيخ عبد العزيز الطريفي ما يستحق المطالعة، ينظر مثلًا ص: (48 – 63).

X