أدَّب ربنا تبارك وتعالى نبيه ﷺ فأحسن تأديبه، فانعكس ذلك على خطابه رقيًا وتزكية، واتسم أسلوبه الخطابي والحواري مع أصحابه وأعدائه على السواء بمزايا وسجايا تعكس عظمة الإسلام ونهجه الحضاري، مما جعل لحديثه وقعًا حسنًا في نفوس الصحابة، وأثَّر فيهم تأثيرًا بالغًا، فسهل عليهم حفظه ونقله.
تقريظ.. لا يقرأ إلا جهرًا:
نعم إنه هكذا؛ مفتاح ذهبي لكثير من موصَداتِ الأبواب، هكذا هو؛ في ثناياه سحر التغيير، إذ تملَّكتْ أطيافه قوة التأثير.
إنه ذلكم الكلام المنسوج من أحرف مُحكَمةِ التَّعاضدِ؛ راسخةٍ على التشبث بالمبدأ المعتقد به حتى الصميم، تنشكُّ في أغوار القلوب كالرُّمح الأصم، هي هكذا تؤمن أنه ليس الكريم على وَجْدِ الكلمات بمحرَّم.
ألم نسمع ألف ألف مرة بخطبة عصماء قلبت الأرض فوق رأس الدهماء والعقلاء على السواء؟
وكم مرة ومرة شهدنا وعظًا آسرًا فتَّت صخور قلوب جوفاء، فغدت –بفضل ربها- مخضرَّة غنَّاء؟ كم مرة ومرة؟
الكلمة طريقٌ معبَّدٌ إلى الجنة إن أصبت، وهي في الوقت عينه مفسدة للدين والدنيا أي مفسدة، (وهل يكبُّ النَّاسَ في النارِ على وجوههم إلا حصائدُ ألسِنَتِهم)[1].
وحيث إن المرء قد يبوح بالكلمة مِن رضا الله فيهتدي ويُهْدى به فينجو ويُنْجى به بفضل الله، أو يتفوَّه بالكلمة من غضب الله فيهوي بها ويُهْوى به في جهنم سبعين خريفًا -عياذًا بالله- من هفوات اللسان وسقطات البيان.
ومن أجل ما سلف كافة؛ كانت هذه الكلمات المقبلات المهتديات بأنوار النبأ العظيم والذكر الحكيم.
أوتي النبي ﷺ معجزة لغوية آسرة، وهذا ما أخبر عنه قائلاً: (بُعثت بِجَوامِعِ الكَلِمِ)، كما أن الحديث النبوي امتاز بقوة البيان الذي يأخذ بمجامع القلوب، حتى أن الله عز وجل سماه: (حكمة) فقال: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾
خطوط للإصلاح بالكلمات:
تعدّ طريقة الوعظ بالكلمة الحسنة المستندة إلى الفكرة المنطقية، والمسوغة بالأدلة الدامغة، من أقدم الطرق المستخدمة في الدعوة والتربية والتعليم وأكثرها شيوعًا، ويشير مصطلح الموعظة إلى مهارة توظيف النصح والتذكير بالعواقب بغية تزويد الناس بنافع المعارف ودعوتهم إلى لطائف المُثُلِ[2]، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: ١٢٥]، وقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا﴾ [النساء: ٦٣].
ويَحْسُنُ بنا أن نتعرف على مميزات الأسلوب النبوي في إلقاء الموعظة حيث أوتي النبي ﷺ معجزة لغوية آسرة، وهذا ما أخبر عنه قائلاً: (بُعثت بِجَوامِعِ الكَلِمِ)[3]، كما أن الحديث النبوي امتاز بقوة البيان الذي يأخذ بمجامع القلوب، حتى أن الله عز وجل سماه: (حكمة) فقال تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ [النساء: ١١٣]، وهذا ما جعل حديثه يقع موقعًا حسنًا في نفوس الصحابة، ويؤثر فيهم تأثيرًا بالغًا، مما سهل عليهم حفظه ونقله.
وقد كان النبي ﷺ يتخير الوقت المناسب لوعظ أصحابه، فيراعي أوقات نشاطهم خشية دخول الملل على نفوسهم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (كان النبي ﷺ يَتَخَوَّلُنَا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا)[4]، وكان ابن مسعود يُذَكِّرُ الناس كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوَدِدْتُ أنك ذَكَّرتَنا كل يوم؟ قال: (أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكُم، وإني أتَخَوَّلُكُم بالموعظة، كما كان النبي ﷺ يَتَخَوَّلُنا بها، مخافة السآمة علينا)[5]، وكان ﷺ أيضًا يخصص يومًا للنساء يعظهنَّ فيه، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (قالت النساء للنبي ﷺ: غَلَبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا من نفسك، فوعدهنَّ يومًا لقيهنَّ فيه، فوعظهنَّ وأمرهنَّ)[6].
وإنَّ من أشهر خطبه الوعظية الإصلاحية ﷺ يوم حجة الوداع مرسِّخًا أسس الدعوة الخاتمة، ومُبرِّئًا ذِمَّتَه أمام الله تعالى، ومما قال فيها: إنَّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم كحُرمةِ يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وسَتلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا لُيبلغ الشاهد الغائب، فلعلَّ بعض من يَبْلُغُهُ يكون أوعى لـه من بعض من سَمِعَهُ. وقال: ألا هل بلغت؟: قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد[7].
فيلاحظ من هذه الخطبة أن النبي ﷺ قد استعمل فيها عدة طرق ليشد السامعين إليه، فاستعمل أسلوب الاستفهام الذي يجعل المستمعين يترقبون الإجابة بشوق، وأسلوب السكوت الطويل بعد السؤال الذي يزيد من لهفة المنصتين على استظهار فحوى الإجابة، حيث إنه يثير فيهم الدافع المعرفي كما أنه كان يستعمل أساليب أخرى في خطبه؛ كالإشارات وظهور علامات الانفعال عليه؛ فقد روى جابر بن عبد الله فقال: (كان رسول الله ﷺ إذا خَطب احمرَّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتدَّ غضبه، حتى كأنَّه مُنذر جيش)[8].
وإن من بعض سجايا ومزايا الأسلوب الوعظي في المدرسة التربوية المحمدية ما يأتي:
حظي أدب التخاطب بنصيب وافر من الدعوة النبوية إلى فريضة التزكية والترقية، ويؤكد ذلك ما شملته السنة النبوية من إرشادات قيمة حول أهمية حجب الآداب الكلامية والمبادئ الخطابية عن كل نقيصة في المبنى والمعنى
أولاً: ترقية أساليب التخاطب، وتنقيتها من الشوائب:
إن ترقية الأساليب الكلامية وآداب التخاطب، عبر تنقيتها من كل ما يشوبها، يعد جزءًا من التزكية التي بُعِثَ بها سيدنا رسول الله ﷺ، قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: ١٦٤].
ولقد حظي أدب التخاطب بنصيب وافر من الدعوة النبوية إلى فريضة التزكية والترقية لما يبوح به المؤمن من خواطر وما يفيض عنه من دعوات، ويؤكد ذلك ما شملته السنة النبوية من إرشادات قيمة حول أهمية حُجُب الآداب الكلامية، والمبادئ الخطابية عن كل نقيصة في المبنى والمعنى؛ وذلك مثل دعوة صاحب الشريعة إلى وجوب حفظ اللسان، والحث على الصدق، والتنفير من الكذب، وتهذيب إجابة المسيء بكلامه، وغير ذلك مما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
فقد وردت توجيهات نبوية تحث على حفظ اللسان من التعدي على الآخرين، وشهد رسول الله ﷺ لمن يحفظ لسانه ويده عن إيذاء الآخرين بالإسلام؛ فقال ﷺ: (المسلمُ من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجِر من هَجَر ما نهى الله عنه)[9].
ولذا اتصف سابُّ الآخرين بالفسق، كما قال رسول الله ﷺ: (سِبَابُ المسلم فُسوق، وقِتاله كفر)[10].
كما نَفَّرَ ﷺ من الكذب، وعده من علامات النفاق؛ فقال: (أربعٌ من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصلةٌ منهنَّ كانت فيه خَصلة من النِّفاق حتى يدَعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فَجَر)[11].
تتجلَّى سمة الذوق العالي في التخاطب الجماعي في مدرسة النبوة التربوية من خلال الدعوة إلى ضرورة مراعاة مشاعر أفراد الجماعة فيما يتم الحديث فيه؛ وهو ما وجه إليه ﷺ بقوله: (إذا كانوا ثلاثة فلا يَتَناجَى اثنانِ دون الثالث)
وحث صاحب الخلق العظيم ﷺ على الصدق، وبين عاقبة الصادقين؛ فقال: (إنَّ الصدقَ يهدي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يهدي إلى الجنة، وإن َّالرجل ليصدُق حتى يُكتَب صِدِّيقًا)[12].
ودعا نبي الرحمة ﷺ إلى لزوم تهذيب اللسان عن القيل والقال؛ فجاء قوله الفَصْل: (إنَّ الله حرَّم عليكم: عُقوقَ الأمهاتِ، ووأدَ البنات، ومنعًا وهات؛ وكَرِهَ لكم: قيل وقال، وكثرةَ السؤال، وإضاعةَ المال)[13].
كما جاء في بيان السمات التي ينبغي أن يتحلَّى المسلم بها أو أن يتخلى عنها، أحاديث فائقة الروعة؛ ومنها قوله ﷺ: (مَن كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر؛ فليقل خيرًا أو ليصمت)[14]، وذلك لأن الصمت عن اللغو وعن فضول الكلام فضيلة، وفضيلة الصمت المقصودة في الحديث الشريف تمثل سمة من سمات الرقي، ذلك لأن الصمت في هذا الحال قد يعبِّر عما لا يفي به كثير من الكلام أحيانًا؛ كأن يضفي على هيئة المُعْرِضِ عن اللغو صفة الاتزان والعقلانية، وغير ذلك من المعاني السامية.
وتتجلَّى سمة الذوق العالي في التخاطب الجماعي في مدرسة النبوة التربوية من خلال دعوتها إلى ضرورة مراعاة مشاعر أفراد الجماعة فيما يتم الحديث فيه؛ وهو ما وجه إليه ﷺ بقوله: (إذا كانوا ثلاثة فلا يَتَناجَى اثنانِ دون الثالث)[15]، وقد أورد الإمام مسلم رحمه الله تعالى بابًا في تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث، وذلك يفيد بأن هذا الأدب أبلغ وأعمق من كونه مجرد (سِمة).
كما كره رسول الله ﷺ التقصير في الجواب، بما لا يفي بحاجة السائل؛ ومن ذلك ما جاء عن محمد بن المنكدر، قال سمعت جابرًا رضي الله عنه يقول: (أتيت النبي ﷺ في دَيْنٍ كان على أَبِي فدققت الباب، فقال: (مَن ذا؟) فقلت: أنا، فقال: (أنا، أنا!) كأنه كرهها[16]. قال ابن حجر: «قال الداودي: إنما كرهه لأنه أجابه بغير ما سأله عنه، لأنه لما ضرب الباب عرف أَنَّ ثَمَّ ضَارِبًا، فلَمَّا قال: أنا، كأنه أعلمه أَنَّ ثَمَّ ضَارِبًا، فلم يَزده على ما عرف مِن ضرب الباب»[17].
وقال الخطابي: «قوله: أنا؛ لا يتضمن الجواب ولا يفيد العلم بما استعمله؛ وكان حق الجواب أن يقول: أنا جابر، ليقع تعريف الاسم الذي وقعت المسألة عنه»[18].
لم يكن ﷺ يجيب على الجهالة بجهالة مثلها، فهو أعظم من ذلك؛ فكان جوابه إذ ذاك محفوفًا بأدب وحكمة، حفظ بهما لسانه من الامتهان وسوء المقال
وكان رسولنا الرحيم ﷺ قدوة للمسلمين في اللفظ المهذب، والكلم الطيب، حيث يتضح ذلك في عدد من المواقف النبيلة التي كان ينهجها ويرشد إليها، ومنها مثلاً ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: جاء الطفيل بن عمرو إلى النبي ﷺ فقال: «إن دوسًا قد هلكت؛ عصت وأبت، فادع الله عليهم»، فقال: (اللهم اهْدِ دوسًا وائْتِ بهم)[19]، ويفوح عبق هذا الحديث الشريف من الرحمة والرأفة والأدب اللفظي والمعنوي فوحًا سخيًا زكيًا لا حاجة للتعقيب عليه.
أما موقفه ﷺ تجاه يهود، الذين كانوا يلبسون عليه القول لإيذائه؛ فلم يكن يجيب جهالتهم بجهالة مثلها، فهو أعظم من ذلك؛ فكان جوابه إذ ذاك محفوفًا بأدب وحكمة، حفظ بهما لسانه من الامتهان وسوء المقال، حيث ذكرت عائشة رضي الله عنها: أنَّ اليهود أتوا النبي ﷺ فقالوا: السَّامُ عليكم، قال ﷺ: (وعليكم). فقالت عائشة: السَّامُ عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم، فقال رسول الله ﷺ: (مهلاً يا عائشة، عليك بالرفق وإياك والعنف أو الفحش)، قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال ﷺ: (أولم تسمعي ما قلت؟ رددتُ عليهم؛ فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم فِيَّ)[20].
أما صفته الخطابية عليه الصلاة والسلام عند المَعتَبَةِ فتتجلى فيها سمات الرقي التي ينبغي أن تحتذى، بل ويُعَضُّ عليها بالنواجذ، فقد حدث أنس رضي الله عنه فقال: لم يكن رسول الله ﷺ فاحشًا ولا لعَّانًا، ولا سَبَّابًا، كان يقول عند المَعتبة: (ما له تَرِب جبينُه)[21]، وهي عبارة رفيعة المعنى، وإن كان مفهوم ظاهرها هو التصاق التراب بالجبين، إلا أنها في الوقت نفسه شبيهة بما يحدث للساجد حين سجوده لله تعالى على الأرض الترابية، وفي ذلك تشريف له وليس امتهان.
إذا لم تحاكِ لغة الخِطاب مستوى المخاطَب فلن تؤدي الغرض، ولهذا كان لزامًا على الواعظ أن يراعي قدرات المتلقّين على الفهم والاستيعاب، فيخاطبهم بما تتحمله عقولهم، ويسامرهم بما تفقهه قلوبهم
ثانيًا: تقريب لغة الخطاب للمخاطبين:
لقد كان النبي ﷺ يحقق هذا الهدف التربوي التعليمي وفق ضربين من الخطاب:
أ. مخاطبة الناس باللهجة التي يفهمونها: وذلك أن المخاطب إذا لم يفهم كلام المتكلم فكأنه لم يسمعه أصلاً، إذ الهدف من الخطاب بالدرجة الأولى: أن يفهم المخاطب المقصود من الخطاب حتى يفيد منه، وقد كان لبعض القبائل أو المناطق لهجة عربية خاصة بهم كان النبي ﷺ يراعي هذه المسألة، حيث ورد قوله ﷺ: (ليس من البِرِّ الصوم في السفر)[22]، برواية تشير إلى مراعاة النبي ﷺ للهجة بعض الوافدين عليه يلتمسون التعرف إلى تعاليم الدين الجديد، قال الحافظ ابن حجر: «وروي هذا الحديث عن أحمد من حديث كعب بن عاصم الأشعري بلفظ: (لَيْسَ مِنَ امْ بِرِّ، امْ صِيَامُ، فِي امْ سَفَرِ)[23]، وهذه لغة لبعض أهل اليمن يجعلون لام التعريف مِيْمًا، ويحتمل أن يكون النبي ﷺ قد خاطب بها هذا الأشعري كذلك؛ لأنها لغته، ويحتمل أن يكون الأشعري هذا نطق بها على ما أَلِفَ من لغته، فحملها عنه الراوي وأداها باللفظ الذي سمعها به، وهذا الثاني أوجه عندي والله أعلم»[24].
وحديث عطية أن رسول الله ﷺ قال له: (ما أغناكَ اللهُ فلا تسأل الناس شيئًا، فإنَّ اليد العليا هي المُنْطِيَةُ (المُعْطِيَةُ)، وإن اليد السُّفلى هي المُنْطَاةُ (المُعْطَاةُ)، وإن مال الله تعالى لمسؤول ومُنْطَى (مُعْطَى)، قال: فكلمني رسول الله ﷺ بلغتنا)[25].
وروى عبد الله بن فضالة عن أبيه قال: (علَّمني رسول الله ﷺ فكان فيما علمني: وحافظ على الصلوات الخمس، قال قلت: إنَّ هذه ساعات لي فيها أشغال، فَمُرني بأمرٍ جامع إذا أنا فعلته أجزأ عني فقال ﷺ: حافِظ على العصرين، وما كانت من لغتنا، فقلت: وما العصران؟ فقال: صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها)[26].
ب. التَنَزُّلُ بالخطاب إلى مستوى المخاطبين: إن لغة الخطاب وطريقة إلقائه إذا لم تحاكِ مستوى المخاطب فسيمسي حال قائله كأحد مؤذني مالطا، ولهذا كان لزامًا على الواعظ أن يراعي قدرات المتلقين على الفهم والاستيعاب، فيروح يخاطبهم بما تتحمله عقولهم، ويجيء يسامرهم بما تفقهه قلوبهم، وقد عقد البخاري في كتاب العلم بابًا تحت عنوان: (باب من خص بالعلم قومًا دون قومٍ كراهية ألا يفهموا)، وذكر فيه حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتُحبّون أن يُكذَّب الله ورسوله؟)[27]، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما أنتَ بِمحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة)[28]، وفي هذا الحديث إشارة إلى ضرورة مراعاة مخاطبة الناس على قدر فهمهم، وألا يلقى إليهم ما لا تبلغه عقولهم.
اعتمد النبي ﷺ على سياسة تعميم الخطاب، ثم تخصيص السبب حيث يؤدي هذا المنهج وظيفتين رئيستين؛ أولاهما: بيان المرغوب بيانه من الإرشاد، ثم بيان الخطأ في حد ذاته
ثالثًا: استخدام ألفاظ العموم تجنبًا لإحراج المخاطبين:
وللخلاص الآمن إلى هذا المقصد السامي كان رسول الله ﷺ يستخدم ألفاظ العموم، قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي ﷺ إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: (ما بالُ أقوام يقولون كذا وكذا؟)[29].
وفي رواية أخرى قالت: صنع النبي ﷺ شيئًا فَرَخَّصَ فيه، فَتَنَزَّهَ عنه قوم، فبلغ ذلك النبيَّ ﷺ، فخطب فحمد الله، ثم قال: (ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية)[30].
وهنا يوجه الرسول ﷺ خطابًا يعاتب به الذين يظنون أنهم أحسنوا الفعل فيما اختاروا، ويوجه المجتمع صراحة إلى وجوب مجافاة نظير فعلهم السلبي من خلال قوله: (ما بال أقوام).
وعن عائشة في حديث بريرة رضي الله عنهما قالت: قام رسول الله ﷺ على المنبر، فقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط)[31].
ويعتمد النبي ﷺ في هذا المقام على سياسة تعميم الخطاب، ثم تخصيص السبب حيث يؤدي هذا المنهج وظيفتين رئيستين؛ أولاهما: بيان المرغوب بيانه من الإرشاد، ثم بيان الخطأ في حد ذاته؛ ليعي المخاطب من بين أفراد المجتمع أن توجيه المجتمع كان بسبب فعله، فيبادر إلى إصلاحه، كي لا يحوج الموجه إلى توجيه الإرشاد إليه هو خاصة، وليعي المجتمع في الوقت نفسه وجه الخطأ في بعض السلوكيات التي تصدر عن بعضهم؛ فيرتقي بسلوكه الاجتماعي العام.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: (ما بَالُ أقوامٍ يرفعونَ أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟)، فاشتدَّ قوله في ذلك، حتى قال: (لَيَنْتَهُنَّ عن ذلك أو لَتُخْطَفَنَّ أبصارُهم)[32].
وختامًا؛ فإن جميع ما ذكر آنفًا ليس إلا غيضًا من فيض، فالرجل الذي تَعَهَدَ رَبُّهُ بتأديبه -فأحسن تأديبه- قد زخرت سيرته العطرة بروائع الأدب وفضائل المكارم، وحفلت حياته الكريمة بالمواقف التي تؤصل خير ثقافة حلمت الإنسانية جمعاء بأن ترسو على ضفافها ذات يوم معارف الشعوب وأعرافهم، فتزكية الخطاب الإنساني نموذج من نماذج التزكية النبوية المطهرة العامة لأمة الإسلام. وهو أمر يقدم صورة مشرقة لحقيقة عظمة الإسلام، وحقيقة عظمة النبي الإنسان، وأما ما تم الاقتصار على ذكره، فليس إلا للتدليل على صدق ما نشدنا التدليل عليه، وثبوته في سنته المطهرة عليه الصلاة والسلام في الأولين والآخرين.
[1] أخرجه الترمذي (٢٦١٦)، وأحمد (٢٢٠١٦).
[2] الوَعظ والعِظةُ والموعظة: النُّصح والتذكير بالعواقب، قال ابن سيده: هو تذكيرك للإِنسان بما يُلَيِّن قلبَه من ثواب وعقاب، وفي التنزيل الحكيم: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢٧٥]، ينظر: لسان العرب: (٧/٤٦٦).
[3] أخرجه البخاري (٢٨٣٦).
[4] أخرجه البخاري، (٦٨).
[5] أخرجه البخاري، (٧٠).
[6] أخرجه البخاري (١٠١).
[7] وردت جمل هذه الخطبة في الصحيحين وغيرهما، ينظر: البخاري (٤٤٠٦)، و(٥٥٥٠)، ومسلم (١٦٧٩).
[8] أخرجه مسلم (٨٦٧).
[9] أخرجه البخاري (١٠).
[10] أخرجه البخاري (٦٠٤٤)، ومسلم (٦٤).
[11] أخرجه البخاري (٣٤)، ومسلم (٥٨).
[12] أخرجه البخاري (٦٠٩٤)، ومسلم (٢٦٠٧).
[13] أخرجه البخاري (٢٤٠٨)، ومسلم (٥٩٣).
[14] أخرجه البخاري (٦٤٧٥)، ومسلم (٤٧).
[15] أخرجه البخاري: (٦٢٨٨). وينظر: مسلم: (٢١٨٣).
[16] أخرجه البخاري (٦٢٥٠)، ومسلم (٢١٥٥).
[17] فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر (١١/٣٥).
[18] المرجع السابق نفسه.
[19] أخرجه البخاري (٤٣٩٢).
[20] أخرجه البخاري (٦٤٠١). والسَّام: دعاء بالموت.
[21] أخرجه البخاري (٦٠٤٦).
[22] أخرجه البخاري (١٨٥٧).
[23] أخرجه أحمد (٢٣٦٧٩).
[24] تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، لابن حجر (٢/٢٠٥).
[25] أخرجه الحاكم في المستدرك (٧٩٣٠).
[26] أخرجه أبو داود (٤٢٨).
[27] أخرجه البخاري (١٢٧) موقوفًا على علي بن أبي طالب t.
[28] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (١/٢٧١).
[29] أخرجه أبو داود (٤١٧٧).
[30] أخرجه البخاري (٦١٠١).
[31] أخرجه البخاري (٢٧٣٥).
[32] أخرجه البخاري (٧٥٠).
د. عماد كنعان
دكتوراه في التربية من جامعة دمشق، أستاذ جامعي في عِدَّة جامعات، باحث وكاتب، مُعدُّ ومُقدِّم برامج تلفزيونية.