حياتنا مبنية على سنن ونواميس، ومنها قانون السببية الذي يجعل النتائج مترتبة على أسبابها، وبذل الأسباب مطلوب في كل الأمور؛ في التعلم والعمل والعلاقات والعبادات، وخلف بذل السبب لا بد من دوافع فاعلة، تحفزنا للخطو نحو غاياتنا وأهدافنا المتنوعة. وهذه المقالة تضيء لنا عن كيفية معالجة القرآن الكريم للدوافع السلوكية وتهذيبها حتى يرتقي الإنسان ويسمو إلى أعلى الرتب وأسمى المعالي.
مدخل:
اهتمّت الدراسات والنظريات النفسية والتربوية بالتعرف على العوامل المؤثرة في السلوك، ومن المواضيع التي تعرّضت لها موضوع الدوافع وأهميتها وعلاقتها بالسلوك على اختلافات بينها في تحديد تلك الدوافع والعوامل المؤثرة فيها، فمنهم من ربطها بالبيئة المحيطة كالنظرية السلوكية[1]، ومنهم من ربطها بالتوقُّع كالنظرية المعرفية[2]؛ وبالرجوع إلى المصدر الرئيس للتربية الإسلامية وهو القرآن الكريم نجد أنه أماط اللثام عن دوافع السلوك الإنساني بصورة واضحة، ولم يكتف بذلك بل رسم دستورًا ومنهجًا متوازنًا لتربيتها وضبطها؛ بهدف إحداث التوازن النفسي والانفعالي، فلا تطغى مطالب الروح على مطالب الجسد أو العكس، خلافًا لبعض القوانين التي مصدرها اجتهادات بشرية أو الديانات التي حُرِّفت وحُشيَت باجتهادات البشر، فأنتجت مواقف متناقضة نحو الدوافع متطرفة بين الإفراط والتفريط. وجاء القرآن الكريم ليقف من الغرائز موقفًا وسطيًا فريدًا، وهذا أمر بدهي، لأن خالق الإنسان وغرائزه ودوافعه ونوازعه ومنزل القرآن الكريم هو الله تعالى.
مفهوم الدوافع وأهميتها:
«الدوافع هي القوى المحرّكة التي تبعث النشاط في الإنسان، وتبدأ بالسلوك، وتوجهه نحو هدف أو أهداف معينة، وهي تؤدي وظائف ضرورية مهمة، حيث تدفع الإنسان للقيام بإشباع حاجاته الأساسية الضرورية لحياته وبقائه، كما تدفعه إلى القيام بكثير من الأفعال الأخرى المهمة المفيدة له في توافقه»[3].
وللإنسان حاجات كثيرة، منها ما هو أساسي لا غنى له عنها لأنَّه يتوقَّف عليها حفظ حياته وبقاء نوعه، ومنها ما هو مهم وضروري لتحقيق أمنه وسعادته، وهذه الحاجات تدفع الإنسان إلى القيام بنشاطٍ توافقي لإشباع هذه الحاجات.
القرآن الكريم أماط اللثام عن دوافع السلوك الإنساني بصورةٍ واضحة، ولم يكتفِ بذلك بل رسم دستورًا ومنهجًا متوازنًا لتربيتها وضبطها؛ بهدف إحداث التوازن النفسي والانفعالي، فلا تطغى مطالب الروح على مطالب الجسد أو العكس
تصنيفات الدوافع:
يقسم علماء النفس المعاصرون الدوافع إلى (شعورية) أي تدفع الإنسان للسلوك عن وعي بها وغاية يقصدها، و(لاشعورية) تدفع الإنسان للسلوك عن غير وعي أو علم منه. كما يقسمونها في ضوء معيار آخر إلى فئتين رئيسيتين[4]:
1- الدوافع الفطرية (البيولوجية)، ويطلق عليها الدوافع الأولية.
2- الدوافع المكتسبة، ويطلق عليها أيضًا الدوافع الثانوية.
ويذهب بعض الباحثين إلى أن تقسيم الدوافع إلى أولية وثانوية قد تكون خادعة أحيانًا، كأن يعتقد القارئ أن الأولية أكثر أهمية من الثانوية، لذا فإنه يفضل استخدام مصطلح الدوافع الفطرية ليضم تلك الدوافع التي لها أسس بيولوجية واضحة كالجوع والعطش والجنس والأمومة، واستخدام مصطلح الدوافع المكتسبة للإشارة إلى تلك الدوافع التي يتعلمها الفرد من البيئة المحيطة، كدافع التفوق والسيطرة والاحترام.
وظائف الدوافع:
عرّفنا سابقًا الدوافع بأنها القوى المحرّكة التي تبعث وتولّد النشاط في الإنسان وتبدأ بالسلوك وتحرّكه ثم توجّهه نحو تحقيق هدف معين، وتعمل أيضًا على المحافظة على استمراريته حتى يتحقق ذلك الهدف؛ لذا يمكن القول: إن للدافعية وظائف أساسية تعمل من خلالها لاستثارة الحركة والنشاط (السلوك) وهي[5]:
أ- الوظيفة التنشيطية (التحريكية): فهو يمد السلوك بالطاقة فهو المحرك الأول له.
ب- الوظيفة التوجيهية (التنظيمية): فالدافع يعمل كمحرك في عملية اختيار السلوك المناسب الذي يلزم دون غيره في تلبية غرض الدافع.
ج- الوظيفة التدعيمية: الدافع عامل مدعّم ومعزّز، يستمر بتحريض السلوك وتحريكه وتوجيهه حتى يلبّي غرضه ويساعد الفرد على انتقاء الاستجابات الصحيحة والعمل على تدعيمها.
نلاحظ من الوظائف الثلاث السابقة أن مفهوم الهدف يعدّ مكونًا أساسيًا لطبيعة الدافعية، حيث يعتمد الهدف الذي يودّ الفرد تحقيقه على الشعور بالمشكلة، وتوجيه السلوك نحو التغلب عليها تلبية لغرض الدافع.
ويمكن تقديم المثال الآتي لتوضيح الوظائف التي تعمل الدافعية من خلالها:
طالب يدخل المكتبة، ويتوجه إلى رفوف الكتب، ويبدأ يتناول كتابًا بعد كتاب، متفحصًا العناوين ويعيد الكتب مرة ثانية، وهو ينتقل من كتاب لآخر بسرعة متزايدة ويذهب إلى بطاقات الفهرس ويسحب كتابًا ثم يجلس بهدوء مع الكتاب على أحد المقاعد؛ من هذا التتابع للأفعال التي قام بها الطالب يَستنتج معظم الباحثين دافعًا من الدوافع: أن الطالب “أراد” كتابًا معينًا أو “احتاج إلى” كتاب معين، وإذا أخفق في إيجاده بسهولة طفق يبحث عن طريقة أخرى لعله يجد فيها التوفيق المنشود، وحالما يتوصل إلى الشيء الذي يرغبه ويصبح في متناول يديه ينتهي التتابع الأول للسلوك (البحث) ويبدأ تتابع جديد (القراءة)، فالدافع هنا يستثير النشاط للحركة ويحدد الوجهة التي يأخذها النشاط في سبيل الوصول إلى الهدف وتحقيقه[6].
مفهوم الهدف يعدّ مكونًا أساسيًا لطبيعة الدافعية، حيث يعتمد الهدف الذي يودّ الفرد تحقيقه على الشعور بالمشكلة، وتوجيه السلوك نحو التغلب عليها تلبية لغرض الدافع
نظرة الإسلام للدوافع:
لعل أهم ما تتميز به نظرة الإسلام للدوافع البشرية عن النظريات الأخرى أنها تراعي طبيعة الإنسان البشرية ثم تعمل على سمو هذه الطبيعة، فهي لا تقسر الكائن البشري على ما ليس من طبيعته كما تصنع النظم المثالية، وإن كانت في الوقت ذاته تعمل على تهذيب هذه الطبيعة إلى الحد المستطاع، دون أن تكبت شيئًا من النوازع الفطرية، أو تطلق لهيجانها العنان -كما فعلت بعض النظريات- ولا تمزق الفرد بين الضغط الواقع عليه من هذه النوازع وبين المثل العليا التي يرسمها له، فالإنسان لديه نوازع فطرية تربطه بالأرض، لأن الحياة -في أهدافها العليا– لا تتحقق بغير وجود هذه النوازع القوية الملحة، ولديه في الوقت ذاته نزعة فطرية تهدف به إلى الارتفاع والسمو، ومحاولة الانطلاق ولو قليلاً من روابط الأرض؛ والإنسان في نظر الإسلام «كائن لا هو بالملاك ولا هو بالحيوان، وإن كان قادرًا أن يصبح أسوأ من الحيوان أحيانًا، وفي أحيانٍ أخرى يستطيع أن يسمو بروحه إلى مستوى الملائكة من الطهر، ولكن في حالته الطبيعية شيء بين هذا وذاك»[7].
ومن هنا كان إيجاد التوازن في نفس الفرد من أهداف التربية الإسلامية، فالإسلام يكره فقدان التوازن حتى لو كان إلى أعلى، لأنه يحرص على أهداف الحياة العليا التي لا تتحقق بغير الاستجابة لنوازع الأرض، ومن هنا جاء في الشرع الإسلامي (لا رهبانية في الإسلام)، قال تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ [الحديد: 27]. فالرهبانية –من وجهة نظر مؤيديها- ارتفاع بالحياة عن نوازع الجسد، ورقي بالروح للمستوى الملائكي، ولكنها –في نظر الإسلام– اختلال وعدم توازن، يعطل أهداف الحياة، ويعذب الفرد في سبيل هدف –مهما يكن نظيفًا في ذاته- فهو غير عادل بالنسبة للفرد والمجتمع والحياة، ومن هنا يتضح أن الإسلام يسعى إلى التوفيق الدائم بين أهداف الحياة وضرورات المجتمع ونوازع الفرد، دون أن يطغى هدف على هدف، ولا مصلحة على مصلحة، وإنما يسير الكل في توافق واتِّساق[8].
الإسلام يقر ويعترف بالأنواع الثلاثة للدوافع، ولكن ليس المراد بالدافعية من المنظور الإسلامي الدوافع الفيسيولوجية التي تنتقل للفرد عن طريق الوراثة وتُلبّى بدافع فطري فقط، ولا الدوافع المكتسبة التي يكتسبها الفرد من مثيرات بيئته الخارجية فتجعله خاضعًا للبيئة والظروف الخارجية، وإنما المراد بالدافعية الإسلامية «تلك الدوافع التي يكتسبها الفرد المسلم جراء تفاعله مع تعاليم دينه ومن خلال عملية التربية الإسلامية في مجتمعه المسلم، بحيث يكون رضى الله ومحبته وثوابه والسعي لجنته والهروب من ناره محور حياته»[9]، ومِن ثَمَّ فالدوافع ستلبى لا امتثالاً لها، بل امتثالاً لأمر الله، ولأن الله تعالى أمر بتلبيتها.
كما عبّر بعض الباحثين عن مفهوم تربية الدوافع في الإسلام بـ “الضبط الذاتي التربوي”: فيرى عبد الحميد الهاشمي أن «الميزة الكبرى لعملية الضبط الذاتي في تنشئة الإنسان وتربيته هي كونها تستند إلى عوامل داخلية عضوية جسمية إلى جانب عوامل نفسية ذاتية، وهذا ما يجعل الضبط الذاتي التربوي عملية صحية في تكامل الفرد ونموه السوي السليم، بعكس عمليات (الكبت)؛ فإنها مفروضة قسرًا من المجتمع على النفس، كما أن ما يُدعى بعمليات (الإرشاد والتوجيه النفسي) وحدها هي في عمومها عمليات تبدأ من خارج النفس؛ لذا فإن عمليات الضبط الذاتي التربوي تكون أكثر يسرًا وسهولة في نمو النفس لأنها تمسُّ الدوافع ذاتها قوة ودرجة واتجاهًا وهدفًا»[10].
نظرة الإسلام للدوافع تراعي الطبيعة البشرية؛ فهي لا تقسر الإنسان على ما ليس من طبيعته، وفي ذات الوقت تعمل على تهذيب هذه الطبيعة إلى الحد المستطاع، دون أن تكبت شيئًا من النوازع الفطرية، أو تطلق لهيجانها العنان، ولا تمزِّق الفرد بين الضغط الواقع عليه من هذه النوازع وبين المثل العليا التي يرسمها له
طرق وأساليب تربية الدوافع في القرآن:
«لم يَدَعِ الإسلام وسيلة نافعة لا شر فيها إلا استخدمها في إدارة دوافع الإنسان وتربيتها، وذلك لأن الناس أصناف، وكل صنف منهم قد تلائمه وسيلة من الوسائل وتتناسب مع خصائصه النفسية والفكرية، في حين أنه قد لا تجدي معه وسيلة أخرى، وحركة الإسلام الإصلاحية لابد أن تأخذ بكل الوسائل لتلائم كل الناس»[11]، وهذه الوسائل نابعة من روح الشريعة الإسلامية، ومنهجها الذي يأمر بتحري الحلال، والإشباع المتوسط، وعدم الإسراف، والحرص على إخلاص النية حتى لا تتحول الوسائل إلى غايات، وحتى تبقى هذه الدوافع موجهة لخدمة المقصد الكبير من خلق الإنسان[12].
ولقد تعددت طرق تربية الدوافع وتهذيبها في القرآن، وذلك حسب نوع الدافع واختيار الطريق المشروع لإشباعه ونستطيع أن نجملها بالآتي:
1- الترويض التربوي والتدريب العملي:
أودع الله تعالى في النفس الإنسانية الاستعداد الفطري لتعديل ميولها واكتساب الفضائل، وجعل سبحانه وتعالى الإنسان مسؤولاً عن تصرفاته وسلوكياته، وأعطاه القدرة على اختيار السلوك المناسب وفق إرادته، ومن الأمور التي سلكتها التربية الإسلامية في تهذيب سلوك الإنسان وإكسابه الفضائل: ترويض النفس على التزكية ومخالفة الهوى بالتمرس والمران، فالتدريب العملي والممارسة التطبيقية من الأمور التي تكسب النفس العادة طال الزمن أو قصر، وإذا تغلغلت في النفس أصبحت أمرًا محببًا، وتطورت لتصبح سجية ثابتة تدفع صاحبها لممارسة ظواهرها باندفاع ذاتي دون أن يجد مشقة أو معارضة أو عقبة من داخل نفسه، فهي بمنزلة الدوافع المكتسبة[13]، ويدل على هذا المعنى قول الله تعالى في تدريب النفوس على الصبر لتهذيب غريزة الغضب: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: 35]، يقول ابن عاشور في تفسير هذه الآية: «وهذا تحريض على الارتياض بهذه الخصلة، بإظهار احتياجها إلى قوة عزم، وشدة مراس للصبر على ترك هوى النفس في حب الانتقام»[14].
وقول النبي ﷺ: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه)[15].
وقوله ﷺ: (من يستعفف يعفُّه الله، ومن يستغن يغنِهِ الله، ومن يتصبر يصبِّره الله)[16].
2- الغمس في البيئات الصالحة:
من الطرق المتبعة في تربية الدوافع وضبطها الانغماس في البيئات الصالحة؛ وذلك لأن الإنسان عندما ينخرط في سلك جماعة صالحة يجد نفسه مدفوعًا بقوة -لا شعورية- ضاغطة لاستحسان ما تستحسنه، واستقباح ما تستقبحه والنفور منه، يضاف إلى ذلك أن عنصر التقليد والقدوة الحسنة ودافع التقبل والاستحسان الاجتماعي ودافع المنافسة الموجود في الإنسان؛ كل ذلك يجعل الفرد يتقبل ويُقبِل على التدريبات العملية لتربية النفس التي تمارسها الجماعة، كما أن عامل التكرار ومرور الزمن مع الانخراط في تلك الجماعات يجعل المكررات عادات متمكنة في الفرد وذات جذور عميقة في نفسه، وذلك حتى لو كانت نفسه نزّاعة إلى غير ذلك؛ وبذلك يغدو أمر تربية دوافع سلوك الفرد وتهذيبها تعمل بشكل تلقائي ويُسر، وهنا لا يتعرض الفرد للصراع والنزاع الذي يتعرض له من يعيش في البيئات المنحرفة التي تؤدي الدور نفسه في اتجاه معاكس تمامًا، يقول الإمام الغزالي: «أما الفاسق المصرّ على الفسق فلا فائدة في صحبته،… ومشاهدة الفسق والفساق تهوّن أمر المعصية على القلب، وتبطل نفرة القلب عنها»[17]، وبهذا جاء التوجيه الرباني في قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: «اجلس مع الذين يذكرون الله، ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه، ويسألونه بكرة وعشيًا، من عباد الله سواء كانوا فقراء أو أغنياء، أو أقوياء أو ضعفاء،.. وقوله: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا﴾ أي شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا ﴿وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ أي أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعًا ولا محبًا لطريقته، ولا تغبطه بما هو فيه»[18].
“أما الفاسق المصرّ على الفسق فلا فائدة في صحبته، ومشاهدة الفسق والفساق تهوّن أمر المعصية على القلب، وتبطل نفرة القلب عنها”
الإمام الغزالي
3- الترغيب والترهيب:
لا شك أن تحريك محوري الطمع بالإثابة والخوف من العقاب، له الأثر الكبير والقوي في تربية السلوك الإنساني، وقد أوجد الله للإنسان من دوافع الرغبة والرهبة ما هو كفيل لخلق التحفيز والتحريك الداخلي للنفس الإنسانية للإقبال على كل ما يجلب الإكرام والمكافأة، والابتعاد عما يسبب الألم والعقاب.
ولمّا كانت الدوافع هي محركات وبواعث تدفع الشخص للقيام بسلوك ما، لسد خلل أو نقص أو لتحقيق كمال، عمل الإسلام على تربية الدوافع وتوظيفها المثمر في ربط تغيير السلوك وتهذيبه لدى الإنسان بتحصيل المنافع المادية والمعنوية للفرد، مثل: الحسنات، البركات، التوفيق، الجنات، الرضوان، انشراح الصدر وغيرها.. وبدفع مضار مختلفة عنه مادية ومعنوية مثل: السيئات، والعذاب، الخسران، وضيق الصدر[19].
وهذه كلها تعمل كمعززات سلوكية قوية لدى النفس الإنسانية التي جُبلت على حب تحصيل المنافع لها ودفع المضار عنها، والأدلة على ذلك في القرآن الكريم كثيرة؛ فلا تكاد تخلو سورة مِن ذكر نوع من أنواع الترغيب والترهيب، ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97].
وقوله تعالى: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ١٢٣ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ١٢٤ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا 125 قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه: 123-126].
4- التوجيه والتحويل:
من المعلوم أنه لا يوجد دافع من دوافع السلوك إلا ويمكن توجيهه للخير أو للشر، والقرآن الكريم جاء بأساليب لتوجيه الدافع نحو الخير والنفع للإنسان والمجتمع وتحويله للوجهة السليمة التي شرعها الله للعباد، وفي ذلك محاولة لتوجيه طاقات وشحنات الدافع لاستثمارها وتوظيفها فيما فيه الخير والنفع.
ومن أمثلة ذلك:
أن نأخذ إنسانًا لديه دافع قوي في امتلاك المال، ثم نملأ قلبه إيمانًا بالله واليوم الآخر وأن ما عند الله خير وأبقى، ونوجهه إلى السعي لامتلاك المال بطريق مشروع وحلال دون أن يستحوذ هذا المال على تفكيره وعقله وقلبه، ثم نعمل على تحويل حبه للامتلاك كوسيلة لمرضاة الله –فهو ليس هدفًا بحد ذاته- فنرشده إلى قيمة التصدق والإنفاق في سبيل الله ونحثه عليها، وهكذا تنصرف نفسه –انصرافًا كليًا أو جزئيًا- عن التعلق بالمال ويتجه إلى مرضاة الله بالكسب والإنفاق.
وبهذا التحويل الكلي أو الجزئي يعتدل دافعه، ومِن ثَمَّ يتكون لديه سلوك فاضل، وهنا فإن التربية الإسلامية لم تقتلع الدافع من جذوره ولم تكبته أو تَحرم إشباع ذلك الدافع، ولكن جرى فيه تحويل إلى ما هو خير.
وهكذا انتهج القرآن الكريم خطة التوجيه والتحويل في تهذيب كثير من الدوافع، فعلى سبيل المثال جاء في توجيه دافع التنافس لأعمال الخير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ٢٢ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ٢٣ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ٢٤ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ٢٥ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 22-26]، وقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
لا يوجد دافع من دوافع السلوك إلا ويمكن توجيهه للخير أو للشر، والقرآن الكريم جاء بأساليب لتوجيه الدافع نحو الخير والنفع للإنسان والمجتمع وتحويله للوجهة السليمة التي شرعها الله للعباد
5- التصعيد:
وهو نوع من «تحويل التطلع الإنساني عن الصغائر والدنايا وتوجيهه لمعالي الأمور..، لما فيه كمال ورفعة بين الناس وكمال ورفعة عند الله»[20]، وبمعنى آخر هو إعلاء الدوافع عن مقاصدها الآنية إلى مقاصد بعيدة أجلُّ وأسمى، تحقق لصاحبها سعادة دائمة ومجدًا حقيقيًا، وذلك كتوجيه دافع العدوان إلى مجاهدة الأعداء والظالمين.
ومن التربية بالتصعيد قول الله لرسوله ﷺ: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 131]، فقد وضح الله تعالى في الآية أن كل ما يتمتع به الناس في الحياة الدنيا هو في واقع حاله كالزهرة، ومن صفات الزهرة أنها تغري ولكنها قصيرة العمر سريعة الذبول والفناء، فالعاقل يبحث عن نعيم حقيقي باقٍ وهو أيضًا مادة لامتحان الناس وابتلائهم ﴿لِنَفتِنَهُم فيهِ﴾[21].
وضَّح الله تعالى أنَّ كلَّ ما يتمتَّع به الناس في الحياة الدنيا هو في واقع حاله كالزهرة، ومن صفات الزهرة أنها تُغري ولكنها قصيرة العمر سريعة الذبول والفناء، فالعاقل يبحث عن نعيمٍ حقيقي باقٍ
6- الإقناع الفكري والتبصير:
وهي من الطرق المؤثرة في تهذيب الدوافع، فبث المعرفة التي تدرك فيها الفضائل والرذائل، وتعلم آثارها المحمودة والمذمومة، وثمراتها العاجلة والآجلة، من شأنه أن يولد حافزًا ذاتيًا يشجع النفس على كبح جماح الدافع وتوجيهه نحو غايات نبيلة وعظيمة، وقد حازت التربية بالإقناع الفكري والتثقيف أهمية كبيرة في القرآن، ولها وسائل وأساليب متعددة كالموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والحوار، وهي من الطرق التي سلكها رسولنا الكريم ﷺ لتهذيب الأخلاق والسلوك، ومن الأمثلة التي تدل على قوة الإقناع الفكري في تهذيب الدوافع قصة ذلك الشاب الممتلئ شبابًا وقوةً وشهوةً الذي جاء يستأذن النبي ﷺ في الزنا، فما كان من النبي ﷺ إلا أن حاوره وفتح عينه إلى الجوانب الفكرية والوجدانية التي قد غفل عنها؛ حيث قال له: (ادْنُه) -إشعارًا له بالأمن- فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: (أتحبه لأمك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس يحبونه لأمهاتهم) قال: (أفتحبه لابنتك؟) قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس يحبونه لبناتهم) قال: (أفتحبه لأختك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس يحبونه لأخواتهم) قال: (أفتحبه لعمتك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس يحبونه لعماتهم) قال: (أفتحبه لخالتك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس يحبونه لخالاتهم) قال: فوضع يده عليه، وقال: (اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه) قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء[22].
وقد لفت القرآن في تهذيب دافع العدوان إلى سعي الشيطان لتحفيز العدوان عند الإنسان، وإيقاع الكراهية بين الناس بوسائل شتى فأشار إليها بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: 91].
لفت القرآن في تهذيب دافع العدوان إلى سعي الشيطان لتحفيز العدوان عند الإنسان، وإيقاع الكراهية بين الناس بوسائل شتى، ووجه إلى اليقظة والتنبه لذلك
الخاتمة:
مما سبق نجد أنه تعددت طرق تربية الدوافع وتهذيبها في القرآن، وذلك حسب نوع الدافع واختيار الطريق المشروع لإشباعه، ونرى أن التربية القرآنية تنظر للمتربي من منظور استخلاف، لذا فإن تربية الدوافع وفق توجيهات القرآن الكريم اتجهت نحو التنظيم لا المنع، وحتى عندما كانت بعض التوجيهات تمنع جانبًا من إشباع الدافع فلم يكن الهدف كبت الدافع؛ بل لتضبط انطلاقه وتوجه مساره، ولترفع مستواه لينطلق في أفق أعلى وأرقى.
أ. دانية نديم محمد صفو
ماجستير في التربية الإسلامية- بكالوريوس علم نفس.
[1] النظرية السلوكية: نظرية مشهورة في علم النفس تركز على السلوك الظاهر الذي يمكن ملاحظته وقياسه بغض النظر عما يحدث داخل الفرد، وترى أن السلوكيات جميعها تُكتَسب عن طريق التكيّف والإشراط. أبرز مؤسسيها: جون واطسون John Watson)) وبي. إف. سكنر (B.F.SKINNER).
[2] النظرية المعرفية: نظرية في علم النفس تركز على الحالات الداخلية مثل التحفيز، الدافع، حل المشكلات، التفكير والانتباه. تسعى إلى شرح العمليات العقلية المختلفة بما فيها طريقة معالجة العقل للمعلومات وكيفية تأثير أفكارنا في المشاعر والسلوك. أبرز مؤسسيها جان بياجيه (Jean Piaget).
[3] التوجيه والإرشاد النفسي من القرآن الكريم والسنة النبوية، لمسفر الزهراني، ص (77).
[4] ينظر: أسس علم النفس التربوي، لمحيي الدين توق، وعبد الرحمن عدس، ص (207).
[5] دوافع السلوك في سويتها وانحرافها، لأحمد أبو شنب، ص (10).
[6] أسس علم النفس العام، لطلعت منصور وآخرين، ص (110) بتصرف.
[7] الإنسان بين المادية والإسلام، لمحمد قطب، ص (69).
[8] المرجع السابق، ص (70) بتصرف.
[9]الدافعية النفسية في العقيدة الإسلامية، لمروان القيسي، مجلة جامعة الملك سعود، م10، العلوم التربوية والدراسات الإسلامية، ص (95)، 1998م.
[10] لمحات نفسية في القرآن، لعبد الحميد الهاشمي، مجلة دعوة الحق العدد 11، 1402هـ، مكة المكرمة، ص (116-117).
[11] الأخلاق الإسلامية وأسسها، لعبد الرحمن حبنكة الميداني، ص (207)، بتصرف يسير.
[12] ينظر: دليل الأنفس بين القرآن الكريم والعلم الحديث، لمحمد عز الدين توفيق، ص (436).
[13] الأخلاق الإسلامية وأسسها، لعبد الرحمن حبنكة الميداني، ص (209)، بتصرف شديد.
[14] التحرير والتنوير، لابن عاشور (24/294).
[15] أخرجه الطبراني في الأوسط (2663).
[16] أخرجه البخاري (1469)، ومسلم (1053).
[17] إحياء علوم الدين، للغزالي (2/171-172).
[18] تفسير ابن كثير، (3/100).
[19] ينظر: أصول التربية الإسلامية وتطبيقاتها، لعدنان خطاطبة، ص (230).
[20] الأخلاق الإسلامية وأسسها، لعبد الرحمن حبنكة الميداني (2/200).
[21] المرجع السابق (2/201).
[22] أخرجه أحمد (22211)، والطبراني في الكبير (7679).