دعوة

تحديات تواجه المشهد الدعوي الشامي

الشام أرض مباركة ذات أهمية قصوى في أحداث آخر الزمان، يدرك أعداء الأمة خطرها ويسعون لعرقلة الحراك الدعوي فيها، ويواجه المشهد الدعوي في الشام تحدّيات كبرى؛ كالانشغال بدائرة الاهتمام على حساب دائرة التأثير، والقابلية للاختلاف والتنازع، وضعف روح المبادرة، ونقص التمويل؛ مما يوجب سرعة التعامل مع هذه التحديات، وإيجاد الحلول لها.

تقع سوريا في قلب بؤرة الصراع الحضاري بين أهل الإسلام وأعدائهم في آخر الزمان، وقد جاء في شرفها وبيان خطرها وعِظَم صالحي أهلها نصوص صحيحة عدة، فهي أرض خير مباركة مدعو لها، فقد ورد: (اللهمَّ بارك لنا في شامِنا) ثلاثًا[1]، و(طُوبى للشام، قلنا: لأيّ ذلك يا رسول الله؟ قال: لأنَّ ملائكةَ الرحمنِ باسطةٌ أجنحتها عليها)[2]، و(إني أختار لك الشام؛ فإنها صفوة الله من بلاده، وإليها يجتبي صفوته من عباده، يا ‌أهل ‌اليمن ‌فعليكم ‌بالشام، فإنما صفوة الله من الأرض الشام)[3]، وهي خير الأرض وموضع أهل الإيمان حين تقع فتن آخر الزمان، فقد ورد: (الإيمانُ حينَ تقعُ الفتنُ بالشام)[4]، وفساد أهلها بوابة شر عظيم على الأمة، كما جاء في الحديث: (إذا فَسَدَ أهل الشام فلا خير فيكم)[5].

وأعداء الأمة يدركون ذلك أكثر بكثير مما يدركه كثير من أبنائها؛ ولذا فهم يبذلون جهودًا مضادة تسعى إلى إعادةِ احتواء المشهد الشامي ليعود مظلمًا كما كان في عهد دولة البعث، ومنعِ أي حراك دعوي فاعل داخلها؛ حتى لا يتم توسيع نطاق المعرفة الشرعية، ولا تعميق التدين الحق وزيادة مظاهره هناك، ولا توحيد كلمة دعاتها على كلمة سواء ورؤية سواء وإطار عملي سواء يتمكن من تجاوز مخططات إنهاك الدعوة وتمزيق أهلها، وتشتيت جهود دعاتها وإلهائهم بأنفسهم بدل أمتهم، ومشاريع إلهاء طلبة العلم هناك بمجالات هي أقرب للعبثية، وبجوانب مما لا ينفع الخوض فيها الناس في الأرض.

وإيماني كبير بأنّ الوقت في هذا الصراع الضخم ليس في مصلحة الدعاة البتة، وأنّ كلّ لحظة تمضي منه فالصعاب بعده تكثر، والعوائق تتعاظم، وتكلفة التنفيذ ترتفع، وفرص النجاح تتعقد وتقل، وهو ما يجعل من تسريع وتيرة العمل الدعوي العام في كافة جوانبه ضرورة، والعمل على تجويده وتوسيعه وتجذيره في المجتمع، ومسابقة الزمن في ذلك؛ يأتي في قائمة الأولويات. وكلما نجح الدعاة في ذلك اتسعت دائرة الأمل، وكلما أخفقوا -فقلَّ العطاء، وضعفت الحركة والفعل- خفتت أنوار الأمل.

أعداء الإسلام يدركون أهمّية الشام بالنسبة للأمّة أكثر مما يدركه كثير من أبنائها؛ ولذا فهم يبذلون جهودًا مضادة تسعى إلى إعادةِ احتواء المشهد الشامي ليعود مظلمًا كما كان في عهد دولة البعث، ومنعِ أي حراك دعوي فاعل داخلها.

ومع أنّ الحالة الدعوية الشامية -بحمد الله وفضله- يكثر فيها الصادقون الأغيار الحريصون على تقوية المشهد الدعوي وتجذيره ونجاحه النوعي والكمي، وتعظم فيه الفرص الدعوية بل وتتزايد، وأصحاب القدرات والخبرات الراغبون في الممارسة والفعل جد كثر؛ إلا أنّ الساحة الدعوية هناك تواجه جملة من التحديات والإشكالات الضخام، لعل من أبرزها:

أولاً: دائرة الاهتمام أم دائرة التأثير؟

اشتغال كثير من أهل الدعوة هناك –كما يقول صاحب كتاب العادات السبع– بـ”دائرة الاهتمام” على حساب “دائرة التأثير”، وتوجّه كثير منهم إلى التنظير والحديث عن الأولويات والفرص -التي لا يمكن للكثيرين فعلها وإن قدر الواحد منهم على فعلها لم يمكنه جمعها- على حساب المبادرة إلى الفعل، وهو ما أدّى إلى تكثير المشرفين -كما يقولون- على حساب الأساتذة، وأقحم كثيرين في جوانب ليسوا من أهلها ولا عناية لهم بها، وأضعف التخصص والتركيز والتكامل -والذي لا نجاح لأي عمل من دونه- وشتت الجهود، وأخَّر البدء في الأعمال، وفوَّت العديد من الفرص والمساحات التي كان بإمكان الدعوة كسبها وتقديم شيء ذي بال لو أنّ حملتها بادروا إلى الفعل الفاعل.

ولو أنّ كلّ مؤسسة دعوية، أو حتى داعية، بدأ الفعل في جانب يُحسنه ويرى أولويته وعِظم حاجة المشهد إليه، ثم أخذ في تطوير أدائه وتجويده، وتوسيع خارطة انتشاره في ثنايا ممارسته له؛ لكان ذلك أسدَّ للفراغ، وأنفع للعباد، وأمكن للدعوة؛ فإنّ من أعظم شروط النجاح: التركيز، والمبادرة، والقدرة على استثمار الفرص، والإسهام في تقديم نماذج فعل ناجحة ومحفِّزة للمتفرجين الراغبين في المشاركة والعمل.

ثانيًا: القابلية للتنازع والاختلاف:

مع قوة أهل الشام، وعِظم جدّيتهم، وشديد بأسهم، وإخلاصهم في العمل متى اقتنعوا، إلا أنّ القابلية بينهم للتنازع والاختلاف والبعد عن نهج الوفاق كبيرة، والتصلّب بينهم في الآراء والمواقف عالية، ومراعاتهم للنفسيات والخواطر منخفضة، والتدقيق بينهم في التفاصيل على حساب النظر الكلي سِمة، حتى قيلت عنهم تلك الكلمة الجائرة في تعميمها: الشاميان كسيفين في غمد واحد، لا يجتمعان إلا لنظام نافذ أو قانون حاكم.

وهو ما يحتم على كبار العقلاء والحكماء من العلماء هناك، وكبار الدعاة والمفكرين، أن يطرحوا رؤية جامعة تعمل على تشجيع المبادرة، وسد الفراغ الدعوي في كلّ منطقة، وأن يختاروا من أهل العلم والصدق والدعوة في كلّ بلدة مَن يكون رمزًا يصلح لقيادة المشهد، والتصدر لتحفيز الدعاة ودلالتهم على أولويات الدعوة وتوجيههم نحو الممارسة والفعل.

وبالتأكيد فلست أتحدث عن الفعل الدعوي الرسمي على أهميته، بل عن الجهد الشعبي العام المستقل، والذي يُعد منذ بدء تاريخ الأمة الطويل هو الحامل الحقيقي لمجالات التعليم والدعوة والتربية في مجتمعات المسلمين. ويزداد هذا الأمر أهمية في ظل تفاعل كثير من أبناء الأمة في الخارج السوري مع المشهد الدعوي العام هناك بعد فترات طويلة من الحرمان في ظل دولة حزب البعث حتى سقوطها، وفي ظل غياب الجماعات الإسلامية عن الفعل في الجملة، وبقائها في واقعٍ هي فيه أقرب إلى التاريخ والهياكل منها إلى الممارسة والقدرة على التأثير والفعل.

وفي ظني.. أنّ الدعوة هناك ما لم تولِ اجتماع الكلمة ورصّ الصف -أو أقله التكامل والتنسيق والتقارب بين جماعات الصادقين- ما يستحق من جهد وتخطيط واهتمام، وما لم تُسهِم بفاعلية كبيرة في صناعة رموز ميدانية (مجالس / قيادات دعوية) ممن يجتمع فيه العلم والحكمة والقدرة الحقيقية على المباشرة والنزول إلى الميدان بصورة فاعلة؛ لتسهم بفاعلية في قيادة المشهد وتفعيله والإسهام في تصويبه وحمايته، بعيدًا عن الأسماء والمؤسسات التي غادرت الميدان أو خفَّت حركتها لانشغال أو هجرة أو تقدم عمر؛ فإنّ الدعوة -مهما علا الصوت وكثر الضجيج- تفقد فرصها الكبيرة على التأثير والإسهام الفاعل في قيادة المشهد بصورة مفزعة يومًا بعد آخر، بل ويمكن القول -من دون مجازفة- بأنها لن تتقدم البتة -وحالتها هذه- بالصورة المطلوبة.

ثالثًا: الانتظار وضعف روح المبادرة:

أدت قولبة المجتمع السوري من خلال سياسة القمع التي مورست ضده في العهد البائد وعمله الدؤوب على مصادرة قرار المجتمع منه وتجريده من حريته؛ إلى قتل روح المبادرة لدى كثير من أفراده، وانتظار الجميع -في الجملة– الإذن في الفعل، وإن كان من حقهم الأصيل شرعًا وعقلاً البدء به.

والجانب الدعوي مما لحقه الضرر الكبير في هذا الباب نتيجة التدجين القسري الذي مورس على الدعاة في الفترة التي ولَّت، مع أنه في الأصل من واجبات المجتمع وحقوقه، والذي لا يحتاج فيه الفرد إلى إذن من أحد كائنًا مَن كان، والمفترض أن يقتصر فيه واجب الجهات الرسمية على المساعدة والتسهيل، ومساعدة العلماء الكبار الموثوقين في الحيلولة دون الشذوذ والتمزيق، لا احتكار القرار وامتلاك حق تنظيم الفعل. وما لم يتنبه القائمون بالشأن الدعوي العام إلى أهمية امتلاك المجتمع الدعوي لحقه في المبادرة والفعل، وما لم يُبادروا إلى تنظيم أنفسهم والتخطيط لأنفسهم بأنفسهم، وإلى امتلاك رؤيتهم وتنسيق حركتهم وقرارهم بعيدًا عن أي تغوُّل رسمي؛ فإنهم بسبب ذلك التقصير هم مَن سيجعل من الدعوة أسيرة لقرار هذا المسؤول أو ذاك، وحتى وإن سمح لها المسؤول الحالي، فقد يمنعها مَن يخلفه. ومَن لا يملك حرية قراره، فلن يملك حرية حركته واستقلاله في طرح كلمته.

بل ويمكن القول بجلاء في هذا الجانب أنّ الاستمرار في ربط الجهد الدعوي العام بالمؤسسات الرسمية يمكن أن يكون أعظم كارثة تحل على الدعوة في أرض الشام، لدور ذلك في تحجيم الدعوة والحد من تجذرها في المجتمع واتساعها، بل وقد يكون ذلك خطأ استراتيجيًا يقع فيه مجتمع الدعاة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الشام الخطير.

أدّت سياسات القمع التي مارسها النظام البائد إلى قتل روح المبادرة لدى كثير من أفراد المجتمع، وانتظار الجميع –في الجملة– الإذن في الفعل، وإن كان من حقهم الأصيل شرعًا وعقلاً البدء به.

رابعًا: ضعف التمويل:

ضعف التمويل من أعظم عوائق الممارسة الدعوية الكبيرة والنشطة، فالدعاة وطلاب العلم هناك من أفقر الناس في الجملة، وقدرتهم على الحركة وتمويل الفعل الكبير جد محدودة، ولخطورة هذا الجانب يحسن تسجيل النقاط الآتية:

» التنبيه إلى أنّ النظام السابق قد سقط، ولكن لم تسقط بعد قراراته في تأميم الأوقاف وسلب المجتمع حريته في الدعوة والتعليم، وهو ما يوجب على الجميع العمل الدؤوب على عودة الأوقاف الكثيرة إلى القيام بدورها العظيم -الذي كانت تقوم به قبل تأميمها من نظام البعث- في نشر التعليم والدعوة، والتنبه إلى أنّ الفرص تزول، والأيام تتبدل، وممكن اليوم قد لا يبقى ممكنًا في الغد.

» أنّ المال غالبًا ما يفرق الناس أكثر مما يجمعهم، وأنّ مَن يملك المال غالبًا ما يملك القرار، وينفرد بصناعة المشهد وتشكيل رؤيته وفرض اجتهاداته على أهل الميدان، بعيدًا عن تقدير احتياجات دعوتهم وما يتناسب مع قدراتهم والظرف الذي يعيشونه، هذا إن لم يصل به الحال إلى فرض مَن يقود المشهد ممن لا يقوده، ومَن يعمل في الميدان ممن لا يعمل.

» خطورة التمويل الخارجي المشبوه للمؤسسات الدعوية والنشاط الدعوي، وأنّ أعظم دور له هو توسيع الشقة بين الدعاة، والاشتغال بجوانب جدلية لا صلة لها برفع ما قد يوجد في المجتمع من مظاهر أمية، ولا بتعميق التدين في المجتمع، ولا برعاية جادة لأهل العلم والميدان دعويًّا وتربويًّا.

» أن يبقى دور التمويل الخارجي الصديق -إن صحت التسمية- بعيدًا عن جانبين، أولهما: رسم العمل وتشكيل خارطته؛ لأنّ تشكيل الرؤية دور منوط فقط بالقيادات الدعوية في الميدان لكونها الأقدر والأعرف باحتياج الساحة. ثانيهما: تحمُّل كلفة التشغيل بداعي كفالة الدعاة، لأنّ نتيجته الكارثية ستكون: إفقاد الدعاة لمواردهم المحلية، ونقلهم في حال تحسُّن دخلهم إلى مستويات معيشة أعلى، فإذا انقطع التمويل –وحتمًا سينقطع في يوم آتٍ– فالنتيجة ألّا دخل يملكه الدعاة؛ وبالتالي دخولهم القسري في سوق البطالة، وحتى لو عادت لبعضهم مواردهم السابقة فإنها لم تعد تكفي لسد حاجتهم وحاجة أسرهم الكبيرة. ولذا ينبغي أن تسعى المؤسسات الدعوية إلى توجيه التمويل إلى تأسيس المشاريع المتنوعة لا إلى تشغيلها في الجملة، وإلى إقامة أوقاف ناجحة تمكِّنها من الاستمرار في أداء رسالتها وكفالة القائمين عليها.

» ضرورة أن يعي الدعاة في الميدان جيدًا أنّ الأمّة عبر تاريخها الطويل قام على نشر دعوتها تجّارها المتنقلون بين الأصقاع، وأنّ عامة علماء الأمة ودعاتها كانوا يجمعون مع الدعوة والتعليم الترزّق والاكتساب، فكان منهم الزجّاج والنحّاس والبزّاز والدقّاق والورّاق والزرّاع واللّحام والورّاق والقاضي والوزير، ولم تكن الكفالة موجودة إلا في أقل القليل، وبما لا يؤثّر في موقف أو يحدّ من بيان.

ينبغي أن تسعى المؤسسات الدعوية إلى توجيه التمويل إلى تأسيس المشاريع المتنوعة لا إلى تشغيلها في الجملة، وإلى إقامة أوقاف ناجحة تمكِّنها من الاستمرار في أداء رسالتها وكفالة القائمين عليها.

خامسًا: المحافظة على الطابع الشامي الخاص:

من الأهمية بمكان أن تبقى الدعوة شامية النكهة، مع مرونتها العالية تجاه تقبّل كلّ مفيد، وقابليتها المستمرة للتجدد والتطور والانفتاح على تجارب الآخرين. ويتأكد هذا الأمر في ظلّ تداعٍ كبير من الدعاة في كلّ مكان على إحياء المشهد الدعوي الشامي، وفي ظلّ مخططات كبرى من أعداء الأمّة وطلائعهم في الإقليم لوأد الدعوة الإسلامية في الشام، والعمل على حرفها وتشويهها ومنع قيامها بما يجب كما يجب.

وهذا ما يحتم على الدعاة أمورًا، منها:

» ضرورة أن يبقى العقل الدعوي من خارج الشام تابعًا ومساندًا بحسب رؤية أهل الشام واحتياج أهل الشام، لا مؤسسًا ولا قائدًا.

» ضرورة توطين التعايش بين أهل المذاهب الإسلامية العقدية والفقهية والسلوكية، وأن يبقى النهج نهج حوار مع الاحترام، والقبول بوجود الآخر، لا أن تتحول الجهود من جهود تعليم الإسلام وتمكينه والدعوة إليه ووقاية الأمّة من الضلال البيِّن، إلى جهود عنيفة في الصراع بين أهل الإسلام لمجرّد الاختلاف بين أهل الصدق والتنزيه وتعظيم الله جل في علاه والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة أو تلك، والتي قتلت بحثًا من مئات السنين، وعُرفت رؤية أهل كلّ مذهب فيها.

» العمل بكلّ جهد على كفِّ السفهاء ومثيري الفتنة من هذا الطرف أو ذاك؛ فمعركة أهل الإسلام في أيامنا هذه هي معركة وجودية لا تحتمل بحال تسيد مثل هذه المعارك الثانوية للموقف ولا هيمنتها على العاملين في الميدان. ولو أنّ عقلاء الناس خرجوا بوثيقة تأصيلية تضبط المشهد، وتَحول دون ضرب الاتباع تحت أردية ضرورة الاجتماع، أو ضرب الاجتماع تحت شعار تعظيم الاتباع -كما فعل علماء نجد والحجاز في بدايات تأسيس الدولة السعودية الثالثة في وثيقتهم الشهيرة بنداء علماء البلد الحرام، وكما فعل علماء الشافعية والزيدية في صنعاء اليمن في بدايات الجمهورية بالاتفاق على كتاب الإيمان للزنداني وعلى تدريس فقه الشوكاني في المعاهد العلمية ومدارس التعليم العام- لكان في ذلك خير كثير.

» الحذر من أعداء الدعوة المرتبطين بجهات خارجية مشبوهة، تسعى للتمزيق وتشتيت الجهود، واستهداف البرامج الدعوية الجادة بكلّ وسيلة بألبسة الدعاة، وباسم مصلحة الدعوة.

» الحذر من جماعة التملق للرسميين وتقديسهم –واقعًا لا قولاً– وتزيين كلّ قرار بالمطلق، ووأد النصح، وغلق باب النقد أو تجريمه واقعًا، وتبرير كلّ خطأ أو زلل؛ فإنهم -بعيدًا عن النوايا- كثيرًا ما يكونون أعداء في ثياب أهل الغيرة والصدق وحماة النهج والدعوة، وصيانة المكتسبات، والحفاظ على المصلحة، ويا لله، ما أعظم خطرهم وأقبح شرهم، لا كثّرهم الله تعالى.

من الأهمّية بمكان أن تبقى الدعوة شامية النكهة، مع مرونتها العالية تجاه تقبّل كلّ مفيد، وقابليتها المستمرة للتجدد والتطور والانفتاح على تجارب الآخرين.

سادسًا: الانخراط الواسع في تفاصيل الميدان:

وهو مما قد يقود الداعي وطالب العلم إلى تبرير المشهد وتسويغه وترك نقده، بل وتخطئة أو تجهيل منتقديه، مع ما فيه من حالة صواب وخطأ، وخير وشر، وحالة فعل بعض الشر تجنبًا لما هو أشر، وتجاوزٍ تحت غطاء المصلحة أو أردية الضرورة على حساب بيان الحق المحض الذي يريد الله من عباده امتثاله، وهذا كلّه قد ينقله -متى تحول مَن موقّع عن الله إلى مجرد مسوغ بالمطلق للمشهد ومسوق للقائمين عليه- إلى ملبّس للحق بالباطل؛ حتى وإن لم يرد ذلك.

ولو أنّ بعض أهل العلم عنوا ببيان الحقّ الأصلي العام الذي يريده الله من عباده، وحتى لا يحصل خفاؤه، وعُني مَن يتصدر منهم للفتيا في الضرورات بذكر قيودها الناصّة في فتياه على طبيعة الحالة ومقدار الضرورة فيها، مع الإشارة إلى أنّه لا يجوز تعميم الاستثناء -اللحظي أو الشخصي- ولا تحويله إلى أصل دائم في كلّ وقت أو لكلّ شخص أو حتى للشخص المفتى له؛ متى اختلفت حالته مع مرور الوقت عن الحالة التي أفتي بها حتى يرتفع توهّم وجود تلبيس أو تناقض أو بيع ذمم، وحتى لا يعود ذلك على الأصل بالنقض -في ذهن الشباب والعامة- فتسقط الثقة بالعالم مع مرور الوقت من ذهن مستمعيه وعامّة المتلقين عنه.

وختامًا:

تجذير العمل الدعوي في الشام الحبيب ضرورة ملحة؛ فالأعداء كثر، والتحديات ضخام، والمسألة تحتاج إلى تجرد ونيّة نقية، وهمّة عالية، ومثابرة مستمرة. وتتطلب قوة وحكمة عالية، واجتماع كلمة، وتفرض امتلاك رؤية استراتيجية عميقة، ووجود تخطيط تنفيذي طموح ومرن، وتوجب وجود تقويم دائم ومراجعات مستمرة، وتحتم التركيز والتخصص، مع مسارعة ومسابقة وامتلاك مبادرات عملية غير منتهية.

والله الهادي.


د. فيصل البعداني

باحث، عضو الهيئة العليا لحزب الرشاد اليمني


[1] أخرجه البخاري (7094).

[2] أخرجه الترمذي (3954).

[3] أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (2540).

[4] أخرجه أحمد (21733).

[5] أخرجه الترمذي (2192).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *