تزكية

الهدايات القرآنية للمتدبِّرين

في القرآن الكريم موضوعاتٌ متنوعة، وقضايا متفرِّقة، تتَّفق في أنَّها تحقق هدفاً محوريًا يتلخَّص في كون القرآن هدى للناس يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن تلك الموضوعات: الهدايات التي تشتمل عليها الآيات، لأهميتها الكبرى وفائدتها العظيمة، فما هو المقصود بها؟ وما أقسامها؟ وما ضوابطها؟

مقدمة:

تختلف اهتمامات المتأمِّلين لكتاب الله في حلقات التدبُّر والتفسير والمدارسة القرآنية:

فمنهم مَن يصرف الجهد في النظر إلى جوانبَ تتعلَّق باللغة والنحو والصرف، ومنهم من يتتبَّع ما في القرآن مِن وجوه البلاغة مما يندرج تحت علم البيان: كالحقيقة والمجاز والتشبيه والاستعارة، أو علم المعاني: كالخبر والإنشاء والقصر والفصل والوصل والإيجاز والإطناب وصيغها وأغراضها، أو علم البديع: كالمحسِّنات اللفظية من جناسٍ واقتباسٍ وسجعٍ وتوريةٍ وطِباقٍ ومقابلةٍ ونحوها.

ومنهم مَن يتأمَّل ما فيه مِن اللفتاتِ الفنيةِ وجوانب الجمال في النسَق والنظم والسياق وحُسن تركيب الكلام والآيات وتركيب الجُمل في الآية الواحدة والمقطع والسورة، ومِن مهتمٍّ بما فيه مِن معارفَ وعلومٍ وأخبار، وما تضمَّنه مِن الإخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان، أو الغيب أو قصصِ مَن سبق مِن الأمم والأحداث، ومِن متتبِّعٍ لصور الإعجاز العلمي والطبي، والإعجاز الاقتصادي، والتشريعي، ونحوه. وهذا بلا شكٍّ خيرٌ كلُّه وعلمٌ جدير بالدراسة والتأمل.

قال شيخ الاسلام: «وكونُ القرآن أنه معجزة ليس هو مِن جهة فصاحته وبلاغته فقط، أو نظمه وأسلوبه فقط، ولا مِن جهة إخباره بالغيب فقط، ولا مِن جهة صرف الدواعي عن معارضته فقط، ولا مِن جهة سلب قدرتهم على معارضته فقط، بل هو آية بينة معجزة مِن وجوه متعددة: مِن جهة اللفظ، ومِن جهة النظم، ومِن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومِن جهة معانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته، وغير ذلك.

ومِن جهة معانيه، التي أخبر بها عن الغيب الماضي، وعن الغيب المستقبل، ومِن جهة ما أخبر به عن المعاد، ومِن جهة ما بين فيه مِن الدلائل اليقينية، والأقيسة العقلية التي هي الأمثال المضروبة …، وكل ما ذكره الناس مِن الوجوه في إعجاز القرآن هو حجة على إعجازه، ولا تناقض في ذلك، بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له»[1].

الهدايات القرآنية هي أعظم الهدايات وأقومُها، فمن اهتدى بما فيه كان أكملَ الناس علمًا وعملاً وخُلُقًا وسيرة، وقد كان وصفُ الكمال في خُلُق النبي r أنه امتثل القرآن واهتدى به حتى كان خُلُقه وسجيَّته

الهدايات القرآنية:

إلا أنَّ بابًا مِن أعظم أبواب العلم والخير جديرٌ بأن نلفتَ النظر إلى مزيد من الاهتمام به في حلقات التدبُّر والتفسير والمدارسة القرآنية مما يُسهم في تحقيقِ شيءٍ من أعظم مقاصد نزول القرآن؛ ألا وهو ما يُعرف بـ «الهدايات القرآنية»، فكتاب الله تعالى جاء بالهدى والنور ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ١٥ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾ [المائدة: ١٥-١٦]، ومِن أظهر أوصافه أنَّه كتاب هداية: قال تعالى في وصفه: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢]، وقال في معرض ذكر مقاصد تنزيله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: ١٠٢]، وقال: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [فصلت: ٤٤]، بل وصَفَه الجنُّ حين استمعوا إليه بأنَّه كتاب هداية فقالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ١ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ [الجن: ١-٢].

المراد بالهدايات القرآنية وضوابطها:

الهدايات القرآنية هي أعظم الهدايات وأقومُها ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩]، فمن اهتدى بما فيه كان أكملَ الناس علمًا وعملاً وخُلُقًا وسيرة، وقد كان وصف الكمال في خُلُق النبي ﷺ أنه امتثل القرآن واهتدى به حتى كان سجيَّته؛ وذلك حين سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُق النبي ﷺ فقالت للسائل: «ألستَ تقرأ القرآن؟» قال: بلى، قالت: «فإن خلق نبي الله ﷺ كان القرآن»[2].

وتعرّف الهدايات القرآنية بأنها الدلالات المُبَيّنة لما تضمنه القرآن من إرشادات تبيّن الحق من الباطل، وتوصل لكل خير وتمنع من كل شر، من العلم النافع والعمل الصالح وذلك يشمل أبواب الاعتقادات والعبادات والمعاملات، وجوانب الأخلاق والحكم والسياسة والاقتصاد، وسائر الأمور الدينية والدنيوية.

والثمرة من تتبُّع الهدايات القرآنية هي إخراجُ المستهدي بها من الظلمات إلى النور، وهدايتُه إلى التي هي أقوم في الاعتقادات والعبادات والمعاملات، لذا يَشترط أهل العلم لصحة الهدايات شروطًا يجب مراعاتها عند التناوُل والتأمُّل، ومن أهمِّها: أن يحتمِل المعنى المستنبطَ ظاهرُ لفظ القرآن، وألا يخالف صريحَ القرآن وصحيحَ السنة، وأن تُبنى الهداية على معنًى تفسيريٍّ ولغويٍّ صحيح، فلا يخوضُ في الهدايات بلا أهليةٍ وتأصيلٍ كافٍ في اللغة والأصول والتفسير وغيره، وألا يخوض فيما استأثر الله بعلمه، وأن يجرِّد نفسَه من الهوى إلى غيرها من الضوابط والشروط، وإلا فإن المرء سيضل من حيث أراد الهداية، ويزيغ ولا يهتدي![3]

علم التفسير يهتمُّ ببيان معاني القرآن العظيم، أما علم الهدايات فيهتمُّ بما تهدي إليه الآيات من دلالاتٍ وإرشاداتٍ عِلميةٍ وعَمَلية؛ فالتفسير كالقاعدة والمقدِّمة، والهداياتُ غاية، وبدون معرفة التفسير الصحيح لا يُمكن الوصول إلى الهدايات القرآنية الصحيحة

الفرق بين التفسير والهدايات:

علم التفسير يهتمُّ ببيان معاني القرآن العظيم، وهو علمٌ قد استوعب شرح وبيان المعاني القرآنية بما نُقل في كُتُب التفسير عن السلف وبفهم أصحاب القرون المفضَّلة، أما علم الهدايات فيهتم بما تهدي إليه الآيات من دلالاتٍ وإرشاداتٍ عِلميةٍ وعَمَلية؛ فالتفسير كالقاعدة والمقدِّمة، والهداياتُ غايةٌ، وبدون معرفة التفسير الصحيح لا يُمكن الوصول إلى الهدايات القرآنية الصحيحة، كما أنَّ الخطأ في التفسير يُنتج هداياتٍ خاطئة، وإن كان بابُ التفسير قد اكتمل من حيث الجملة، فإنَّ الفتحَ من الله على عبادِهِ في باب الهدايات والاستنباط لا ينتهي ولا حدَّ له، وهو الذي عناه عليٌّ t حينما سئل: هل عندكم كتاب؟ فقال: «لا، إلا كتاب الله، أو فهمٌ أُعطيه رجلٌ مسلم، أو ما في هذه الصحيفة»[4].

أقسام الهدايات:

تقسّم الهدايات القرآنية من حيث الجملة إلى: هداياتٍ جزئيةٍ تفصيلية، وأخرى كليةٍ شاملة:

أولاً: الهدايات الجزئية التفصيلية:

يُراد بالهدايات الجزئية: «الإرشادات المستخرجة بطرقٍ علميةٍ من ألفاظ القرآن وجُمَله وأوجُه قراءته وأساليبه وما يتعلق به من قرائن»[5] فهي تتناول الجملة أو الآية من القرآن وتتعلق بمعنى تفصيلي جزئي كالهداية إلى حكمٍ شرعي في العبادات أو المعاملات أو إلى خُلُق أو توجيه تربوي خاصٍّ أو هدايةٍ في الاعتقادات أو التصوُّرات المعرفية السلوكية، ويشمل ذلك الهدايات الظاهرة من الآيات التي لا تحتاج إلى تفسيرٍ لوضوحها، أو الهدايات من الآيات التي تحتاج إلى تفسير حتى يُمكن الاستنباط منها، وللعلماء طرقٌ كثيرةٌ في استخراج الهدايات الجزئية، كالنظر في اختلاف الأقوال في التفسير والقراءات في اللفظة أو الجملة أو الآية، وجمع ما نقله المفسرون عن السلف فيها، والنظر في منطوق الألفاظ ومفهومِها ولازمِها، أو النظر في اختلاف الإعراب؛ إذ به يتغيَّر المعنى فتتنوَّع الهدايات المستفادة منه، كما أنَّ ربط الآيات بالواقع من أكثر ما يُعين على استنباط الهدايات وينمّي فيها المعاني واللطائف، ومن أكثر التفاسير التي عُنيت بالهدايات الجزئية: تفسيرُ تيسير الكريم الرحمن للسعدي رحمه الله تعالى.

ثانيًا: الهدايات الكلية للسور والمقاطع القرآنية:

يُراد بالهدايات الكلية: «الإرشادات المستخرجة بطُرُقٍ علميةٍ من مجموعة آياتٍ في سورة واحدة أو أكثر في معنى يضمُّها»[6] فهي تهتمُّ بتسليط الضوء على المقاصد الكبرى والمحكمات الشرعية العظمى، وتهتمُّ بالأولويات العليا للقرآن الكريم، وتؤكِّد على الغايات التي لأجلها نزل القرآن مما هو متَّفقٌ عليه بين علماء المسلمين، وتأتي كالقواعد الكلية المحكمة العامة التي يندرج تحتها عشرات الهدايات الجزئية، والتي تجمع بينها بتناسُبٍ وانسجامٍ كامل، وللعلماء طرقٌ كثيرة في استخراج الهدايات الكلية، منها: النظر في سياق الآيات وأسباب النزول، والنظر في أصول الشريعة وكلِّياتها ومقاصد وحِكَم التشريع، والتأمُّل في تناسُب الآيات والسور، ومقاصد السور والمقاطع وغيرها من الطرق والوسائل.

قال ابن عاشور: «إنَّ حقَّ التفسير أن يشتمل على بيان أُصول التشريع وكلِّيّاته، فكان بذلك حقيقًا بأن يسمى عِلمًا؛ ولكن المفسِّرين ابتدؤوا بتقصِّي معاني القرآن، فطفحت عليهم وحسرت دون كثرتها قواهم، فانصرفوا عن الاشتغال بانتزاع كليات التشريع إلا في مواضع قليلة»[7].

قال الشاطبي: «اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولاً، وهي التي نزل بها القرآن على النبي ﷺ بمكة، ثم تبعها أشياء بالمدينة، كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة، وكان أولها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة؛ كالصلاة، وإنفاق المال وغير ذلك، ونهى عن كل ما هو كفر أو تابع للكفر»[8].

الهدايات الجزئية تُستخرَج من ألفاظ القرآن وجُمَله وأوجُه قراءته وأساليبه وما يتعلَّق به من قرائن، وتتعلَّق بمعنى تفصيليٍّ جزئي، بينما تُستخرَج الهدايات الكلية من مجموعة آياتٍ في سورة واحدة أو أكثر في معنى يضمُّها، فهي تهتمُّ بالأولويات العليا للقرآن الكريم، وتؤكِّد على الغايات التي لأجلها نزل

الفرق بين الهدايات الجزئية والكلية:

  1. الهدايات الجزئية تظهر من خلال الألفاظ والجمل والآيات في سياقها القرآني الموضعي مع العناية بأوجه القراءات، والأساليب، والقرائن من أحوال النزول والسياق وغيرها، والهداياتُ الكلية تظهر من خلال استقراء تلك الهدايات الجزئية في هداياتٍ كلية تجمعُها وتؤلِّف بينها، أو روابط العلاقات الموضوعية بين مجموعة آيات، أو بين السور.
  2. الهدايات الجزئية أوزاعٌ من المعاني، والكليّة نَسَقٌ من البناء شاملٌ كاملٌ في مقصده؛ ولذا يراعى فيها الجمع والضم الذي لا يُراعى في الهداية الجزئية.
  3. الغالب في الهدايات الكلية جوانب المنطوق الظاهر المتكرِّر، والغالب في الهدايات الجزئية جوانب المفهوم المستنبط.
  4. الهدايات الكلية نسبة الاتفاق عليها غالبة، لكثرة أدلَّتها وبراهينها، والهدايات الجزئية أقل نسبةً في درجة الاتفاق عليها، خاصةً ما يُستنبط منها بطُرُقٍ خفية[9].

أقسام الهدايات الكلية:

يمكن تقسيم الهدايات القرآنية الكلية إلى ثلاثة أنواع رئيسية:

النوع الأول: هداياتٌ كلية تستوعِب السورة الواحدة كاملةً، تجمع بين آياتها وتَلُم ما تفرَّق فيها من هدايات ومعان تفصيلية، يقول الشيخ محمد عبد الله دراز: «إنَّ السورة مهما تعددت قضاياها فهي كلامٌ واحدٌ يتعلَّق آخرُهُ بأوّله، وأوّله بآخره، ويترامى بجملته إلى غَرَضٍ واحد، كما تتعلَّق الجُمل بعضها ببعض في القضية الواحدة، وإنه لا غنى لتفهُّم نظم السورة عن استيفاء النظر في جميعها، كما لا غنى عن ذلك في أجزاء القضية»[10]، فالهداية الكلية من سورة الفاتحة مثلاً هي تحقيق العبودية لله تعالى وذلك من خلال عدَّة هدايات جزئية هي التعريف بالمعبود سبحانه، وبالطريق الموصل إليه وهو الصراط المستقيم، وبيان عاقبة مَن عَبَد الله ومن ضل أو ظلم، وقد أوْلَت بعض كتب التفسير اهتمامًا خاصًّا بمثل هذا النوع من الهدايات كنظم الدرر للبقاعي، والتحرير والتنوير لابن عاشور وغيرهما.

النوع الثاني: هداياتٌ كليةٌ مستخرجةٌ من مجموع آياتٍ متتالية يجمعها عنوانٌ واحدٌ أو قصةٌ واحدةٌ أو حدثٌ أو سبب نزولٍ واحد؛ وتلك الهدايات تُعلم بالنظر في سياق القصة أو المقطع في السورة؛ فالهداية الكلية من إيراد قصة ذبح البقرة في سورة البقرة مثلاً هي التسليم لله ولأمره، وفي مواطن أخرى تُعلم الهداية الكلية بنصِّ الآيات عليها في ثنايا الحديث أو قبله أو بعده، فالهداية الكلية من إيراد قصة ميلاد المسيح عيسى ابن مريم في سورة آل عمران ومريم هي إثبات بشرية عيسى ونفي الولد عن الله سبحانه وتعالى حيث نصت الآية بعد القصة على هذا المعنى: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ٣٤ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [مريم: ٣٤-٣٥] وغيرها من المقاطع والقصص القرآنية، والتي هي بحاجة إلى تأمُّلٍ ليظهر مقصدها الأولي العام، وقد تميَّز تفسير الظلال بتقسيم مقاطع السورة الواحدة مع حُسن تقديمه لكلِّ مقطع بما يحقق هذا النوع من الهدايات.

«إنَّ السورة مهما تعددت قضاياها فهي كلامٌ واحدٌ يتعلَّق آخرهُ بأوّله، وأوّله بآخره، ويترامى بجملته إلى غَرَضٍ واحد، كما تتعلَّق الجُمل بعضها ببعض في القضية الواحدة، وإنه لا غنى لتفهُّم نظم السورة عن استيفاء النظر في جميعها، كما لا غنى عن ذلك في أجزاء القضية»

محمد عبدالله دراز

النوع الثالث: هداياتٌ كلية مُستخرَجة من مجموع آيات متفرقة: وهذه يُتوصل إليها من خلال الاستقراء للموضوع أو المعنى المراد في عددٍ من المواضع المتفرِّقة في القرآن، سواء كانت في الفقه أو العقيدة أو القصص أو الأخلاق وغيرها؛ كتتبُّع صفات المتقين أو المحسنين مثلاً، أو تتبع صفات النفاق والمنافقين واليهود، أو تتبُّع صفة البعث ومشاهد الآخرة والجنة والنار وغيرها من الموضوعات الكبرى التي نزل من أجلها القرآن، وهذا أشبه ما يكون بالتفسير الموضوعي للقرآن الكريم، ومن أفضل من خدم هذا النوع من الهدايات: موسوعة التفسير الموضوعي من إعداد مركز تفسير للدراسات القرآنية[11].

المواضيع الكبرى التي يدور حولها حديث القرآن:

مما يُعين الباحثَ في تتبع الهدايات القرآنية الكلية الإلمامُ بالمواضيع الكبرى التي يدور حولها حديث القرآن والتي تُثنَّى حولها الآيات، وقد اجتهد أهل العلم في تتبُّع تلك الموضوعات، وفي استقراء المقاصد الكبرى للقرآن، من ذلك قول الشاطبي: «وذلك أنه (أي القرآن) محتوٍ من العلوم على ثلاثة أجناس هي المقصود الأول؛ أحدها: معرفة المتوجَّه إليه، وهو الله المعبود سبحانه، والثاني: معرفة كيفية التوجُّه إليه، والثالث: معرفة مآل العبد ليخاف الله به ويرجوه، وهذه الأجناس الثلاثة داخلة تحت جنسٍ واحدٍ هو المقصود، عبَّر عنه قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]؛ فالعبادة هي المطلوب الأول»[12].

وهنا أضع جملةً من المواضيع الكبرى التي يدور حولها حديث القرآن، وهي من المحكمات التي يحسُن التأكيد عليها وتأمُّلها في سياق السور والآيات القرآنية، نوردها هنا على سبيل التمثيل لا الحصر، نفتح بها الباب لمزيد من التأمل في الكليات التي يقرِّرها القرآن:

  • أولها وأهمها: التعريف بالله جلَّ جلاله وأسمائهِ وصفاتِه وأفعالِه في خلقه، وتحقيقُ التوحيد والاستدلالُ له، والتحذيرُ من الشرك وبيانُ بُطلانه وفساده، قال ابن القيم رحمه الله: «بل نقول قولاً كُليًّا: إنَّ كلَّ آية في القرآن فهي متضمِّنةٌ للتوحيد، شاهدةٌ به، داعيةٌ إليه؛ فإنَّ القرآن: إما خبرٌ عن الله، وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العِلميُّ الخبري، وإما دعوةٌ إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلعُ كل ما يُعبَد من دونه، فهو التوحيد الإراديُّ الطلبي، وإما أمرٌ ونهيٌ، وإلزام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوق التوحيد ومُكَمِّلَاتُه، وإما خبرٌ عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته، وما فَعَل بهم في الدنيا، وما يُكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبرٌ عن أهل الشرك، وما فَعَل بهم في الدنيا من النكال، وما يحلُّ بهم في العقبى من العذاب، فهو خبرٌ عمن خرج عن حُكم التوحيد، فالقرآن كلُّه في التوحيد، وحقوقِه، وجزائه؛ وفي شأن الشرك، وأهله، وجزائهم»[13].
  • ثانيها: معرفة الصراط المستقيم الموصل لعبودية الله وبيان أركان الدين وشعائره العظام، قال الشاطبي: «الثاني: (أي من مقاصد القرآن) يشتمل على التعريف بأنواع التعبُّدات من العبادات والعادات والمعاملات وما يتبع كلَّ واحدٍ منها من المكمِّلات، وهي أنواع فروض الكفايات، وجامعُها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنظر فيمن يقوم به»[14].

جاء القرآن لبيان الحق وهداية الخلق وتثبيت أهل الإيمان وترقيتهم في مدارج الهداية والعبودية، ويتطلَّب ذلك إدامةَ النظر في آيات القرآن واستخراج الهدايات منه وتأمُّلَها ومعايشتها، وتصحيح التصورات والاعتقادات على ضوئها، وتمثُّلها في قول المؤمن وعمله وسلوكه وخلقه

  • ثالثها: إثبات الجزاء والعاقبة في الدنيا والآخرة، وذلك بذكر أخبار الناجين أو الهالكين في الدنيا بالنصر أو الهزيمة، وبيان سنة الله في نصر رسله وأوليائه وأن العاقبة لهم، وبيان سنته في خذلان أعدائهم وهزيمتهم، وإثبات الجزاء في الآخرة بالجنة أو النار، وذكر مشاهد البعث والآخرة، ويدخل في ذلك قصص الأنبياء والرسل وغزوات الرسول ﷺ وسير الأولياء والحُكَماء، وقصص الطغاة والمكذبين وعصاة الرسل والمنافقين للاعتبار بها ولتكون شاهدةً على الجزاء والعاقبة، قال الشاطبي: «والثالث: يدخل في ضمنه النظر في ثلاثة مواطن: الموت وما يليه، ويوم القيامة وما يحويه، والمنزل الذي يستقر فيه، ومكمل هذا الجنس الترغيب والترهيب، ومنه الإخبار عن الناجين والهالكين وأحوالهم، وما أداهم إليه حاصل أعمالهم»[15].
  • رابعها: التزكية وإصلاح القلوب، وإصلاحُ المسلم والمجتمع المسلم، ويظهر ذلك في آيات الترغيب والترهيب والوعظ والإرشاد والحكمة؛ فالقرآن كلُّه موعظة كما قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٥٧]، وما يتبع ذلك من آيات تُقرِّر وجوب حفظ النفس وتحريمَ قتلها بغير حق، وتحريمَ سائر الفواحش ومنها الزنا، وحفظَ المال وأداءَ الحقوق، والوفاءَ بالعهد، ووجوبَ العدل في الإنفاق والوزن بالقسط وغيره.
  • خامسها: الدعوة إلى تأمُّل آيات الله في الكون والنفس وسُنن الله في الآفاق والأنفس وفي الأمم والمجتمعات، وذلك بابٌ عظيم من أبواب العِلم يحسُنُ تأمُّله في الكتاب المقروء والكون المنظور؛ قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف: ١٠٥]، ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [الأنعام: ١١]، ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت: ٢٠].

قال الشاطبي: «وإذا تقرَّر هذا تلخَّص من مجموع العلوم الحاصلة في القرآن اثنا عشر علمًا، وقد حصرها الغزالي في ستة أقسام: ثلاثة منها هي السوابق والأصول المهمة، وثلاثة هي توابع ومتممة.

فأمَّا الثلاثة الأول؛ فهي تعريف المدعو إليه، وهو شرح معرفة الله تعالى، ويشتمل على معرفة الذات والصفات والأفعال، وتعريف طريق السلوك إلى الله تعالى على الصراط المستقيم، وذلك بالتحلية بالأخلاق الحميدة، والتزكية عن الأخلاق الذميمة، وتعريف الحال عند الوصول إليه، ويشتمل على ذكر حالي النعيم والعذاب، وما يتقدم ذلك من أحوال القيامة.

كلَّما ازداد المرء تأمُّلاً وتفكُّرًا في الهدايات القرآنية ازداد هدايةً ونورًا؛ فهو في تخليةٍ وتحليةٍ مستمرّةٍ متجدِّدة، كما أنَّ نشر تلك الهدايات وتوعية الناس بها مما يزيدُ من أثرها في نفس الداعي والمدعوّ

وأمَّا الثلاثة الأخر؛ فهي تعريف أحوال المجيبين للدعوة، وذلك قصص الأنبياء والأولياء، وسره الترغيب، وأحوال الناكبين وذلك قصص أعداء الله، وسره الترهيب، والتعريف بمحاجة الكفار بعد حكاية أقوالهم الزائغة، وتشتمل على ذكر الله بما ينزه عنه، وذكر النبي ﷺ بما لا يليق به، وادِّكار عاقبة الطاعة والمعصية، وسره في جَنَبَةِ الباطل التحذير والإفضاح، وفي جنبة الحق التثبيت والإيضاح، والتعريف بعمارة منازل الطريق، وكيفية أخذ الأهبة والزاد، ومعناه محصول ما ذكره الفقهاء في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات…»[16].

خاتمة:

جاء القرآن لبيان الحق وهداية الخلق وتثبيت أهل الإيمان وترقيتهم في مدارج الهداية والعبودية، ويتطلَّب ذلك إدامةَ النظر في آيات القرآن واستخراج الهدايات منه وتأمُّلَها ومعايشتها، وتصحيح التصورات والاعتقادات على ضوئها، وتمثُّلها في قول المؤمن وعمله وسلوكه وخلقه، وكلَّما ازداد المرء فيها تأمُّلاً وتفكُّرًا ازداد هدايةً ونورًا؛ فهو في تخليةٍ وتحليةٍ مستمرّةٍ متجدِّدة، كما أنَّ نشر تلك الهدايات وتوعية الناس بها مما يزيدُ من أثرها في نفس الداعي والمدعوّ، ولذلك أدوات ووسائل عديدة من أعظمها وأشدها أثرًا في الناس وعموم المسلمين ما يكون بنشر الوعي العام والإجمالي لمعاني القرآن بمعناها الكلي العام والجزئي التفصيلي، وذلك بقراءة مختصرات التفسير وتدارسها مع الاهتمام بالهدايات القرآنية وتنزيلها على واقع الناس وحياتهم ويومياتهم وأحداثهم.

 


 

د. عمر النشيواتي

طبيب، وكاتب مهتم بالقرآن وعلومه.


 

[1] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية (٥/٤٢٨-٤٢٩).

[2] أخرجه مسلم (٧٤٦).

[3] ينظر: تقريب الهدايات القرآنية، لمحمد المطري، ص (٩).

[4] أخرجه البخاري (١١١).

[5] طرق العلماء في استخراج الهدايات القرآنية وصياغتها، للدكتور طه عابدين طه حمد، ص (١٧).

[6] المرجع السابق (١٨).

[7] التحرير والتنوير، لابن عاشور (١/١٣).

[8] الموافقات، للشاطبي (٣/٣٣٥).

[9] طرق العلماء في استخراج الهدايات القرآنية وصياغتها، للدكتور طه عابدين طه حمد، ص (٢٠).

[10] النبأ العظيم، لمحمد عبد الله دراز، ص (١٩٢).

[11] طرق العلماء في استخراج الهدايات القرآنية وصياغتها، للدكتور طه عابدين طه حمد، ص (٢٥٧) وما بعدها.

[12] الموافقات، للشاطبي (٤/٢٠٤).

[13] مدارج السالكين (٣/٤١٧-٤١٨).

[14] الموافقات، للشاطبي (٤/٢٠٥).

[15] المرجع السابق.

[16] الموافقات، للشاطبي (٤/٢٠٦-٢٠٧).

X