قضايا معاصرة

العلاقات الدولية (الإيرانية الإقليمية) من منظور المفكّر نبيل خليفة

يرى المفكر نبيل خليفة أن المشروع الإيراني ليس مشروعًا دينيًا بقدر ما هو توسعي سياسي يخدم مصالح الغرب وإسرائيل بتفكيك الكتلة السنّيّة وإضعافها، حيث تستثمر طهران الطائفيةَ والقضيةَ الفلسطينية وغيابَ مشروع سنّي جامع لتعزيز نفوذها الإقليمي، ويدعو خليفة إلى ولادة مشروع سنّي سياسي عصري يواجه هذا التمدّد، فالعلاقات الإيرانية محكومة بخطط استعمارية تتقاطع مع مطامع إيرانية تاريخية وعدوانية.

عُرف الباحث اللبناني المسيحي الدكتور نبيل خليفة خريج جامعة السوربون بصورةٍ أكثر من خلال كتابه (استهداف أهل السنة) الذي نَفَدَ من سوق الكتاب بطبعاته المتعددة، وَوُصف كتابه هذا بحياديته العلمية وإنصافه في القراءة عن العرب والمسلمين، بل وعن الإسلام وتاريخه بالرغم من اختلاف ديانته، حتى إنه أشاد بالتاريخ الإسلامي كأنموذج بمعظم تطبيقاته مع حقوق الأقليات، فهو يرى أن سلام المسلمين السنة هو سلام لكل الأقليات في العالم الإسلامي عبر تاريخ الإسلام، وذلك عند كتابته عن المشروع العالمي للمنطقة في القرن الواحد والعشرين حينما قال: «إن استراتيجية الغرب وإسرائيل اليوم في الشرق الأوسط مبنية على نظام إقليمي تفكيكي جديد يستجيب لمصالح الغرب وإسرائيل في المنطقة، وفيه مجال واسع لضرب وتفكيك العالم الإسلامي بإدخاله في الفتنة الشيعية – السنية، وأضفت منبهًا ومحذرًا: نحن المسيحيين كنائس حدودية، ولكننا لسنا ولا ينبغي أن نكون حرس حدود، لا لإسرائيل ولا للغرب، ومن واجبنا العمل لمنع كل فتنة بين المسلمين؛ لأن سلام المسلمين هو سلام لنا أيضًا»[1].

ولم تكن كتابة نبيل خليفة عاطفية، فقد كانت نتيجة قراءات فكرية وسياسية وتاريخية متعددة حين إقامته في باريس، وقبل عودته إلى لبنان، وهي جهود ومسؤوليات علمية صحبت دراسته الأكاديمية وما تلاها، كما صحبت بداية الثورة الإيرانية التي انطلقت من باريس إلى طهران عام 1979م، وقد أشار إليها في مقدمة كتابه المعني هنا، وذلك بشيءٍ من التفصيل.

تقاطع في الاستراتيجيات العالمية:

اتسم كتاب خليفة الخبير بالواقع السياسي العالمي والإقليمي والمؤلف لكتاب (استهداف أهل السنة)، بشيءٍ من الكشف والتشخيص للاستراتيجيات المستقبلية لما يسمى (النظام العالمي الجديد) و(الشرق الأوسط الجديد) من خلال ما كتبه عن الاستراتيجية العالمية للمنطقة، وفيها أن إيران الثورة تُعدُّ مشروع احتلال وتوسع سياسي وعسكري؛ حيث تحتل حاليًا ثلاث عواصم عربية بعد سقوط النظام الأسدي بدمشق آواخر عام 2024م، مع ما صَحِبَ ويصحب هذا من القتل والتدمير والتهجير لأهلها[2]، وهذا المشروع ليس مشروعًا صديقًا للغرب بصورةٍ مباشرة، لكنه ليس مشروعًا معاديًا للمشروع الغربي الصهيوني الذي تتربع على عرشه أمريكا، بل إن المشروع الإيراني يتخادم ويتماهى مع الغرب بناءً على المصالح المشتركة والمتحققة لكلا المشروعين، وهذا ما يحكم طبيعة العلاقة الإيرانية الإقليمية المتوترة في الغالب.

ويرى خليفة أن هذا الاستهداف الكبير لأهل السنة ودولهم تتقاطع فيه المصالح العالمية والقوى الدولية والإقليمية مع المطامع الإيرانية، وهو ما انعكس على العلاقات الإيرانية مع العالم العربي ودول الخليج بصورةٍ خاصة، وذلك بقوله: «أهل السنة في مواجهة العالم: في مواجهة العالَم المسيحي بفروعه: البروتستنتية (الولايات المتحدة وألمانيا)؛ وفرعه الكاثوليكي (فرنسا وإيطاليا وأوروبا)، وفرعه الإنغليكاني (بريطانيا)؛ وفرعه الأرثوذكسي (روسيا). وخلاصته أن الكتلة السنية هي في مواجهة مع الحضارة الغربية المسيحية!

» وفي مواجهة مع العالَم اليهودي: إسرائيل وأجهزتها السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية… والصهيونية وامتداداتها في كل أنحاء العالم.

» وفي مواجهة مع العالَم الشيعي – الإيراني بكل أهدافه ومطامحه ومطامعه لتزعُّم العالم الإسلامي، وفرض سيطرته الكاملة على شرقي المتوسط.

» وفي مواجهة مع العالَم الهندي: استمرارًا للصراع الهندي الباكستاني حول الانفصال وحول كشمير، وحول الكتلة السنية في الهند وهي في حدود ١٥٠ مليون نسمة فقط!

» وفي مواجهة مع العالَم الصيني: انطلاقًا من مشاكل مقاطعة كنغ سيانغ (Xinziang) على امتداد ۱.۲ مليون م۲، في غرب الصين، وما يزيد على ٥٠ مليون مسلم يشكلون أزمة للمجتمع الصيني الذي يخشى من امتداد العالم الإسلامي داخل الصين»[3].

ويذهب خليفة بكتابته إلى أن الكتلة السنية -التي تُشكِّل 85% من مسلمي العالم- مُستَهدفٌ رئيس من هذه القوى العالمية وعلى رأسها إيران، وهو ما يكشف عن حقيقة العلاقة الدولية العدائية من إيران تجاه المسلمين في محيطها الإقليمي، وهذه العداوة ثوابت وأهداف تلتقي فيها الأطماع والمصالح الغربية مع الإيرانية، والتي لا يمكن تحقيقها مع هذا الوجود السُّني الكبير والقوي في المنطقة، وذلك بقوله: «ثلاثة أهداف أساسية كبرى يُراد تحقيقها: أولها: إزاحة النفوذ السني عن دول شرقي المتوسط واستبداله بالنفوذ الإيراني الشيعي، وثانيها: إدماج إسرائيل کجسم طبيعي في المنطقة ضمن دولة كونفدرالية، وثالثها: السيطرة على نفط العراق: أفضل وأغزر نفط في العالم (۳۸۰ مليار برميل بحسب آخر التقديرات)»[4].

والمؤلف نبيل خليفة يَعدُّ البُعد العقدي لإيران والأقلية الشيعية من خلال مرجعية الولي الفقيه وسيلة لتحقيق الغايات السياسية؛ حيث البُعد السياسي الذي يُعدُّ الأخطر في المشروع الإيراني، فالتشيع السياسي هو ما يخدم البُعد السياسي الإيراني كما هو واقع علاقة بعض الدول والحركات الإسلامية المنخدعة بدولة إيران.

وتتوافق هذه الرؤية عند خليفة مع ما أورده المفكر هشام ناظر حول استغلال الأقليات في صناعة الاضطرابات وتفتيت الدول والمجتمعات؛ حيث يتم استغلال وتأجيج التنوع العرقي والديني في الدول المُستهدَفة لإشعال فتيل الضغط والابتزاز السياسي والاقتصادي والحرب أحيانًا، فيقول ناظر: «وفي مناخ من الاضطرابات المتزايدة الناتجة عن عدم الرضا السياسي والاقتصادي، فإن وجود أكثر من ثلاثة آلاف مجموعة إثنية حول العالم سوف يُمهِّد بشكل انتقائي لمبررات دائمة للتدخل بحجة حماية حقوق الفرد»[5]، وبهذه الإثنية العقدية تتشكل طبيعة العلاقات الإيرانية الإقليمية خاصةً مع دول الجوار.

يرى المفكر نبيل خليفة أن هذا الاستهداف الكبير لأهل السنة ودولهم تتقاطع فيه المصالح العالمية والقوى الدولية والإقليمية مع المطامع الإيرانية، وهو ما انعكس على العلاقات الإيرانية مع العالم العربي ودول الخليج بصورةٍ خاصة.

المشروع الاستراتيجي الإيراني:

يرى خليفة في كتابه أن العلاقات الإيرانية الإقليمية مبنية وقائمة على استغلال وتوظيف ما سبق، بل وتوظيف القضية الفلسطينية كرافعة تاريخية؛ حيث كَتَبَ قائلاً: «إن الاستراتيجية الإيرانية الهجومية -ومعها النظام السوري وحزب الله والقوى الشيعية النابعة من اضطهاد تاريخي- هي استراتيجية مبنية على الألم، ولذا فهي تستخدم كل أساليب الذكاء والدهاء والرياء، مدعومة من قوى دولية، ومستخدِمةً كل إمكانات وإمكانيات الطاقات الشيعية للسيطرة على الهلال الخصيب كمدخل للسيطرة على العالم العربي الإسلامي، ومتخذة القضية الفلسطينية كرافعة تاريخية لتحقيق هذه السيطرة»[6].

ويوضح بصورةٍ أدق عن المشروع الاسترايتيجي الإيراني بقوله: «استغلال القضية الفلسطينية -القضية الإسلامية بامتياز- كرافعة تاريخية للإسلام الشيعي بواسطة حزب الله، ورفع شعار القدس في مواجهة مكة المكرمة»[7].

ويؤكد خليفة أن إيران مستثمر كبير للتاريخ بصناعة العداوات التاريخية، وتأجيج الطائفية في الخليج العربي بصورةٍ خاصة، لا سيما مع غياب أي مشروع حالي أو مستقبلي للكتلة السنية في العالم العربي والإسلامي، خاصةً أن الخليج -حسب قوله- هو المنطقة الأقل استقرارًا على الكرة الأرضية، والشرق الأوسط هو بؤرة تفجير العالم، وما ذلك إلا لاحتوائه ثروات نفطية هائلة، مع تشابك النزعات القومية والدينية فيه وحوله[8].

بل إن خليفة يُفسِّر حقيقة الحرب الإيرانية العراقية (۱۹۸۰-۱۹۸۸م) وأنها حرب مبادئ وثوابت عقدية، ليكشف بهذا حقيقة العلاقة الإيرانية الإقليمية وما يُفتعل فيها وبها من أزمات، وذلك بقوله: «إن حرب الثماني سنوات (۱۹۸۰-۱۹۸۸م) بين العراق وإيران لم تكن كما يقول إيف لاكوست على (عشرة أمتار في شط العرب)، بل على حدود تاريخية بين عالمين: عربي وفارسي، وحدود دينية بين مذهبين: السنة والشيعة، وهو صراع يأخذ اليوم معاني جديدة وأبعادًا جديدة، في ظل المعطيات الجديدة التي تواجهها المنطقة والعالم»[9].

فالمشروع الإيراني بأهدافه وملامحه، يتعارض بصورة كلية مع إقامة علاقات دولية ودبلوماسية تقوم على تبادل الثقة والتسامح والاستقرار والسلام، وذلك كما يقول خليفة عن الهدف: «إقامة شرق أدنوي أقلّوي [قائم على الأقلية] خالٍ من النفوذ السني، ومحكوم بالنفوذ الشيعي الإيراني برضى إسرائيلي ودعم غربي – روسي»[10].

ويؤكد خليفة مُكررًا أن طبيعة هذه العلاقات الإيرانية العربية والإسلامية محكومة بمشروع أكبر يخدم مصالح القوى العالمية، والذي يُلخِّصه بقوله: «إنه عملية اقتلاع مذهبي مجتمعي متبادَل بين قوى مذهبية ودينية إقليمية ودولية، للسيطرة على الشرق الأوسط وإسقاط حدود جديدة فيه وعليه»[11].

وهو يُعبِّر عن سر نجاح المشروع الإيراني واستمرار مخاطره الإقليمية بقوله: «وقد نجحوا إلى حدٍّ كبير في ذلك بسبب ضعف المناعة في الجسم السني، وهو ضعف عائد لافتقارهم إلى مشروع سياسي عصري»[12]، وهو ما يُكرره كثيرٌ من الباحثين في الشأن السياسي، ولهذا فإن من الخطأ السياسي الرهان على ما حدث في سوريا من سقوط في الشهر الأخير من عام 2024م للنظام الأسدي المرتبط بإيران، أو ما حدث لحزب الله الشيعي اللبناني من إضعاف وضرب عسكري إسرائيلي ومقتل لقيادته.

يؤكد المفكر نبيل خليفة أن إيران مستثمر كبير للتاريخ بصناعة العداوات التاريخية، وتأجيج الطائفية في الخليج العربي بصورةٍ خاصة، لا سيما مع غياب أي مشروع حالي أو مستقبلي للكتلة السنية في العالم العربي والإسلامي.

والسؤال الكبير: هل يُمكن لكتابة الدكتور نبيل خليفة ومفاهيمها السابقة أن تتأثر أو تضعف مصداقيتها بعد انكسار إيران في حوادث التأديب الأمريكية الإسرائيلية لأطرافها وأجنحتها من الميليشيات والأحزاب في لبنان والعراق واليمن بعد 7 أكتوبر عام 2024م؟ وهل ما حدث لإيران ذاتها في 13‏ يونيو 2025م من ضربات عسكرية جوية قوية موجعة من الكيان الإسرائيلي على مدى 12 يومًا استهدفت مفاعلاتها النووية ومقتل مجموعة من علمائها النوويين، ومقتل آخرين من قياداتها العسكرية سوف ينهي المشروع الشيعي الكبير؟ ثم هل سقوط النظام الأسدي في سوريا سوف يُفشِل خطط إيران الاثني عشرية ومخططاتها الثورية التوسعية ومشروعها الشيعي العالمي الكبير؟

إن من يقرأ في تاريخ وعقائد الباطنية الشيعية بكُمونها وظهورها، وانتصارها وانكسارها عبر التاريخ، ومن يتأمل خطة إيران الخمسينية بمراحلها ومشروعها، ومن يتأمل ما كتبه نبيل خليفة كذلك من استهداف مشترك لأهل السُّنة، ويستوعب كذلك ما ورد في كتاب (حلف المصالح المشتركة – التعاملات السرية بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة) لمؤلفه الباحث الأمريكي تريتا بارسي Trita Parsi، يدرك تمام الإدراك أن التحالف الغربي الإيراني سيبقى رغم الانكسار، والتمدد الشيعي الباطني سوف يستمر، والمشروع الإيراني لا يمكن استغناء الغرب المتعصب عنه، لكن ربما باستراتيجيات سياسية جغرافية أخرى (جيوسياسية) وتموضعٍ جديد للمشروع الشيعي الباطني الإيراني، وذلك باستخدام وسائل أكثر ذكاءً وتَقيّة[13]، فالمشروع الغربي العالمي والإيراني مشروع استراتيجي متلاقٍ في المصالح، وقد تحقق الكثير منه مع دول الجوار الإسرائيلي حتى أصبحت دول السنة دولاً غير فاعلة أو مؤثرةٍ على الكيان الصهيوني، وربما أنها تحولت إلى دولٍ فاشلة تنمويًا وسياسيًا، ويُعدُّ هذا من الانتصار للمشروع الباطني والغربي والكيان الإسرائيلي على حدٍّ سواء، ولا بد من المحافظة على هذا الإقصاء السني الفاعل على المستوى الغربي والإيراني، والإبقاء على دولة إيران الاثني عشرية التي حققت هذا الإقصاء بنجاح.

إن من الخطأ الكبير الرهان السياسي لو ضُربت إيران ذاتها بأكثر من هذه الضربات التي حدثت لها، حيث إن إيران لديها مشروع استراتيجي متماهٍ مع الغرب، ويمكن أن يضعف في مكان، لكنه سوف يظهر وينشط في أماكن أخرى كما هي عقائد الباطنية الشيعية عبر التاريخ.

إضافةً إلى أن المشروع الغربي الذي أشار إليه الباحث خليفة حول الاستراتيجيات العالمية تجاه أهل السنة يتطلب بقاء حكومة إيران الحالية وحلفائها وأحزابها وميليشياتها، وذلك بقدر يُسمح لها بأن تبقى عنصر مناورة وإرهابٍ وتخويفٍ وإضعافٍ لدول الإسلام السنية، دون أن يُسمح لها بأن تكون منافسًا بالقوة والنفوذ للكيان الإسرائيلي في المنطقة.

المشروع الغربي العالمي والمشروع الإيراني متلاقيان في المصالح؛ لذا فإنّ التحالف بينهما سيبقى؛ لأنّ الغرب لا يستغني عن إيران في إضعاف وتخويف الدول السنّية، لكن في حدود معيّنة لا تجعلها منافسة للكيان الصهيوني.

مشروع مقابل المشروع:

بغض النظر عن ملاحظات منهجية وردت في كتاب نبيل خليفة، إلا أنه كتاب يتصف بالتشخيص العميق لإشكالية العلاقات الدولية الإيرانية الإقليمية القائمة على ثوابت أيديولوجية، لكن المؤلف أمام هذه الثوابت لدى المشروع الإيراني يطرح الحل من خلال تكرار حديثه عن أهمية ميلاد مشروع للكتلة السنية يُقابِل ويُواجِه مشروع عدوهم ويُجهضه، وهو ما يمكن أن يكون العقيدة مُقابِل العقيدة، والدعوة بالدعوة، والثوابت بثوابت، وهي القوى الممكنة التي تواجه القوة الإيرانية في الساحات الإقليمية والدولية، وذلك بقوله بصيغة التساؤل: «فما هو مشروع أهل السنة في لبنان، والخليج والشرق الأوسط والعالم العربي والعالم؟ والجواب -بكل أسف- ليس لأهل السنة مشروع على امتداد العالم السني: لا وطنيًا ولا إقليميًا ولا دوليًا. وأسارع إلى القول: لديهم بعض الأفكار والتصورات، ولكن ليس لديهم مشروع متكامل يقوم على فكر حداثي سياسي معاصر، ويُرفَق باستراتيجية فاعلة ومناسبة للمرحلة التي يمر بها العالم الإسلامي في بداية القرن الحادي والعشرين»[14].

ويختم نبيل خليفة كتابه بخلاصة حول مكانة المملكة العربية السعودية، وأهمية المشروع مقابل المشروع، وذلك بقوله: «ليس من دولة في العالم -سوى المملكة العربية السعودية- تجتمع فيها ولديها مصالح العالم وترتبط بها استراتيجيات كل الدول، وكل اقتراب منها يشكل مساسًا بالأمن الدولي ومصالح الدول الكبرى والصغرى على السواء. فهي سيدة الاحتياط النفطي، وسيدة الإنتاج والتصدير في آن؛ لذا فالمملكة هي دائمًا عرضة للتجاذبات الإقليمية والدولية لكونها حاضنة لأغلى وأغنى ثروة استراتيجية»[15].

بل إن خليفة يُتابع ما يراه مهمًا للرد على المخاطر والتهديدات والتحديات التي تواجهها المملكة بقوله عن أهمية المشروع السعودي الاستراتيجي بشكلٍ خاص: «هذا الوضع الدقيق والصعب والخَطِر في آنٍ يستدعي من المسؤولين السعوديين ومن الشعب السعودي أن تكون لديهم اليقظة الدائمة والوعي الكافي والوسائل المناسبة للرد على كافة المخاطر والتهديدات والتحديات التي تواجهها المملكة، وهذا لا ولن يتحقق إلا بوضع استراتيجية شاملة للمملكة»[16].

ونبيل خليفة وهو يطرح المشكلة والحل، يؤكد أن الأكثرية العربية الإسلامية (السنّية) لديها المشكلة والحل كذلك؛ حيث الحقيقة التاريخية والواقعية تسند الحل، وذلك بقوله عن نفسه وعن ما كَتَبَ بقوله: «هذا لا يعني الانحياز للسنة، بل يعني الانحياز للحقيقة السوسيولوجية الموضوعية التاريخية التي تفرض نفسها على الجميع»[17].

وسائل جديدة للمشروع الممكن:

من يقرأ في كتاب نبيل خليفة يدرك تمام الإدراك وأكمله بأن النظام الإيراني بهذا المشروع الاستراتيجي الإمبريالي القائم على ثوابت سياسية ودينية بعيدٌ كل البُعد عن علاقات السلم والسلام الإقليمية، بالرغم من حِرص دول الجوار على هذا؛ حيث العبث الإيراني بالعلاقات يُعدُّ أيديولوجيا سياسية مُطعَّمة بالطائفية الدينية المقيتة، كما أنها استراتيجية تقوم على المبادئ العدوانية التي تتوافق فيها مع المصالح الإمبريالية العالمية، بل إن هذا الموقف الإيراني الـمُتصلب تجاه العلاقات الـمُثلى وحُسن الجوار، هو ما يُفسِّر ويكشف عن اللغز الـمُحيِّر عند بعض السياسيين والدبلوماسيين والإدارات الأمنية الاستخباراتية في الدول الـمُستهدَفة حول الممانعة الإيرانية طويلة المدى تجاه تحسين علاقاتها الإقليمية، والإصرار على غياب حُسن الجوار الإيراني الإقليمي.

وتأتي كلمة الأمير تركي الفيصل رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق، وسفير المملكة سابقًا في الولايات المتحدة الأمريكية، بمناسبة طوفان الأقصى -بغض النظر عن تجيير الطوفان لمصالح إيران ومشروعها- وهي الكلمة التي تفتح شيئًا كبيرًا من الآفاق والأمل، بل وتضع بعض الملامح الممكنة للمشروع المقابل لمشروع إيران وغيرها من دول الإمبريالية العالمية؛ حيث اهتزاز نظرية (توازن القوى) العسكرية، وأن القوة العسكرية مهما عَظُمَت لا تستطيع أن تقف أمام الإرادة القتالية للأمم والشعوب والدول، وهي قوة من نوع آخر، وذلك بقوله: «تحطيم الصورة التي كانت لدى الكثير من الناس في العالم عن أن إسرائيل هي المانع المنيع ضد أي قوة ممكن أن تنافسها أو تجاريها أو تتحداها في المنطقة»[18].

ومن مفاهيم هذا التصريح وما يُشابهه –وهي كثيرة- أن هزيمة الكيان الصهيوني ممكنة، وأن هذه العملية قد عززت قِيَم الانتصار لدى كثيرٍ من شعوب العالم، كما أنها منحت مفاهيم جديدة مختلفة حول القوة العسكرية المتفوقة للكيان وغيره.

فإرادة الأمم والعقيدة القتالية والإيمان بالسيادة الذاتية، أو بالقضية أيًا كانت، تصنع فوارق في تحطيم ما يُسمى (توازن القوة والقوى) لتنتهي بهذه المعادلة الجديدة، أو تَضعُف بها صور الابتزاز الإيراني والدولي العالمي لدول المنطقة، وهو الابتزاز القائم على قوة التسلح والسلاح النووي وما شابهه، وحيث انتصار (قوة التسليح) القائم على الأسلحة التقليدية البسيطة أمام (قوة التسليح) القائم على الأسلحة الحديثة الفتَّاكة حسب تعبيرات إحدى الصحف الأمريكية بمقالها المعنون: (تقلص تكلفة الحرب يهدد الجيوش الغربية) وهو ما يُفسِّر تَقَلُّص تكلفة الحرب على الشعوب المظلومة والدول الـمُحتلة التي يمكن لها أن تُهدِّد الجيوش الغربية في الصراعات والحروب العالمية، ولا سيما مع اختلال هذه المعادلة[19].

ومع كل ما سبق، فإن العلاقات الإيرانية الإقليمية تتطلب المزيد من الدراسات والبحوث حول إمكانية العمل، حتى لو بالتكتيكات الـمُمكنة للعلاقات العربية والإسلامية الوقائية مع إيران، إضافةً إلى العمل بقوة في جانب المشروع والاستراتيجيات العربية والإسلامية في الوقت ذاته، لتفويت فُرص صور الابتزاز الإقليمي والدولي الذي يستنزف المقدرات ويوتِّر العلاقات، ويُبرر التدخلات الأجنبية.

حمى الله جميع أوطان المسلمين من كيد الكائدين ومكر الماكرين، إنه سميع مجيب الدعاء.

من يقرأ في كتاب نبيل خليفة يدرك تمام الإدراك وأكمله بأن النظام الإيراني بهذا المشروع الاستراتيجي الإمبريالي القائم على ثوابت سياسية ودينية بعيدٌ كل البُعد عن علاقات السلم والسلام الإقليمية، بالرغم من حِرص دول الجوار على هذا.


د. محمد بن عبد الله السلومي

باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث


[1] استهداف أهل السنة، للدكتور نبيل خليفة، ص (9).

[2] المرجع السابق، ص (28) بتصرف.

[3] استهداف أهل السنة، ص (11-12).

[4] المرجع السابق، ص (13).

[5] القوة من النوع الثالث، لهشام ناظر، ص (120).

[6] استهداف أهل السنة، ص (15).

[7] المرجع السابق، ص (25).

[8] المرجع السابق، ص (17) بتصرف.

[9] المرجع السابق، ص (17-18).

[10] المرجع السابق، ص (29).

[11] المرجع السابق، ص (33).

[12] المرجع السابق، ص (32).

[13] التَّقِيَّة عند الشيعة هي التظاهر بعكس الحقيقة، وهي تبيح للشيعي خداع غيره؛ فبناء على هذه التقية ينكر الشيعي ظاهرًا ما يعتقده باطنًا، وتبيح له أن يتظاهر باعتقاد ما ينكره باطنًا، ولذلك تجد الشيعة ينكرون كثيرًا من معتقداتهم أمام أهل السنة؛ مثل القول بتحريف القرآن وسب الصحابة وتكفير وقذف المسلمين وإلى غير ذلك من المعتقدات. الوشيعة في كشف شنائع وضلالات الشيعة، لصالح الرقب، ص (131). وينظر تفاصيل أوسع عنها في الكتاب نفسه ص (131-140).

[14] استهداف أهل السنة، ص (30).

[15] المرجع السابق، ص (151).

[16] المرجع السابق، ص (152).

[17] المرجع السابق، ص (34).

[18] تصريح الأمير تركي الفيصل، قناة الاخبارية، بعنوان: (سياسة المملكة 2023م مع الأمير تركي الفيصل)، بتاريخ 1 يناير 2024م، الرابط التالي: https://youtu.be/vaRBp469qy0?si=gYbs2gpW_yJ7bSCO.

[19] مجلة ناشيونال إنترست الأمريكية، بعنوان: (تقلص تكلفة الحرب يهدد الجيوش الغربية)، بتاريخ 26 ديسمبر 2023م، الرابط التالي:

https://nationalinterest.org/feature/shrinking-cost-war-threatens-western-militaries-208177.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *