تُعد “إسرائيل” خنجرًا مسمومًا في خاصرة الأمة، بلغ فسادها وطغيانها كل مبلغ، وتطاير شررها إلى كل بيت من بيوت المسلمين، وفي الوقت الذي تكاد تجمع الشعوب على بغضها، تكاد تجمع القوى الكبرى في الشرق والغرب على دعمها وتأييدها، فكيف نشأت؟ وما علاقتها بالدول الغربية؟ وهل من سبيل إلى الانتصار عليها؟ وكيف؟
مقدمة:
فلسطين أرض النبوات ومهد الرسالات، ومهاجَر الخليل ومهد المسيح، ومنتهى الإسراء ومبتدأ المعراج، وأرض الرباط والثبات والمحشر والمنشر، وهي أرض مباركة مقدسة بارك الله فيها للعالمين، وهذه البركة تحمل في معناها اللغوي والشرعي الثبات والديمومة والنمو الإيجابي وإدرار الخير من حولها “جعلنا الخير فيها ثابتًا دائمًا لأهلها”[1]، قال تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ [الأعراف: 137]، وقال تعالى على لسان موسى عليه السلام: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: 21]، قال البقاعي: “أي المطهرة المباركة التي حكم الله أن يطهرها بأنبيائه ورسله من نجس الشرك ووَضَرِ المعاصي والإفك”[2].
ومن فقه الأولويات اليوم: أن تعرف الأمة -على نحو خاص- مَن هو عدوها الحقيقي لتأخذ حذرها، ولتضعه نصب عينيها فتتمكن من إعداد العدة للتغلُّب عليه أو مقاومته.
وإذا كان الشيطان الذي قال الله فيه: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ [فاطر: 6]، قد تعهد بإغواء بني آدم وإضلالهم، وأجلب عليهم بخليه ورَجِله وأرسل أتباعه في الآفاق حتى يشغل الناس عن طاعة الله ويوقع بينهم العداوة والبغضاء، فكذلك استطار شر اليهود في زماننا هذا حتى بلغ شرهم مبلغًا عظيمًا، وعاثوا في الأرض فسادًا تارةً بالقتل والتدمير، وتارة أخرى بنشر الرذيلة والانحلال، ولا غرابة في التشابه، فهم الذي قال الله فيهم: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [المائدة: 82].
فكان لا بد من الكتابة في هذا الموضوع لأمرين:
- الأول: أنَّ اليهود الصهاينة قد أوردوا الأمة العربية والإسلامية اليوم موارد الهلاك وتسببوا لها بالدمار.
- الثاني: اليأس العام من حل هذه المعضلة التي دخل شررها وتطاير بلاؤها إلى كل بيت من بيوت المسلمين. والقرآن الكريم يتحدث عنهم بصيغة الفعل المضارع المستمر ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ [المائدة: 64].
ولا يوقف إفسادهم، ولا يزول عن الأمة خطرهم إلا عندما تصحو الأمة التي طال ليلها، وتتجرع “الدواء المر” الذي لا يتم لها الشفاء بغيره.
أولاً: الصهيونية الاستعمارية وقيام دولة إسرائيل:
لم تتحدد الملامح السياسية للحركة الصهيونية أو تأخذ شكلها وأبعادها التنظيمية إلا على يد (تيودور هرتزل) وهو رجلٌ يعتنق أفكارًا تُخالف جميع الأديان التي على وجه الأرض[3]، لكنه على الرغم من ذلك قام بإقناع الشعوب الغربية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ليس لمجرد إيوائهم من الشتات، بل إن ذلك لصالح العالم كله، الذي سيثرى بثراء اليهود وينعم بالحرية أيضًا، فعقد مؤتمره الصهيوني الأول في بازل عام 1897م وقرر في مؤتمره أنه في خلال عشرين عامًا قادمة تكون بريطانيا قد استعدت فعليًا لقرارها بقيام وطن قومي لليهود في فلسطين، وتحققت خطته فعلاً في شهر أغسطس 1917م وهو المعروف (بوعد بلفور) وزير خارجية بريطانيا آنذاك، بمنح اليهود وطنًا قوميًا في فلسطين[4].
يرى المسيري “أن الصهيونية ما هي إلا فكرة استعمارية، والدولة الصهيونية هي امتداد للإمبريالية التي تقوم على الربح الاقتصادي وتحقيق النفوذ السياسي وصرف الانتباه عن القلاقل الداخلية في الوطن المستعمر عن طريق شن الحروب”[5]، والاستعمار الغربي هو مَن صنع إسرائيل لتكون خنجرًا في خاصرة الأمة العربية، وهذا الاستعمار -كما يقول د. جمال حمدان- “هو مهندس إسرائيل في المحل الأول وطبيبها في المحل الثاني… وقد تحولت الصهيونية العالمية إلى عميل خاص ووكيل دائم للاستعمار العالمي ملتحم به أشد الالتحام مصيريًا وبقائيًا”[6].
وأما غاية المشروع الصهيوني فتتمثل في السيطرة على الأراضي العربية من النيل إلى الفرات ليمثل ذلك محورًا مهمًا للدول الغربية المستعمِرة، “وقد وُجدت في خزانة روتشيلد خارطة كتب عليها “مملكة إسرائيل”. وتضم هذه الخريطة فلسطين والأردن وسوريا ولبنان ووسط العراق وجنوبه وصحراء سيناء ودلتا النيل والمدينة المنورة والأراضي الواقعة في شمالها بين بني قريظة وبني النضير وخيبر”[7].
وسرّ نفاذ الصهيونية إلى أرض فلسطين يرجع إلى “قوة الصهيونية العالمية، وهذه الأخيرة لا تعمل وحدها في الميدان، بل تعمل معها قوَّتان أخريان أكبر منها، وهما قوة المصالح الاستعمارية، والتعصب الشديد على الإسلام”[8]، “وإسرائيل في جوهرها ما هي إلا شركةٌ سريةٌ مساهمةٌ بين الاستعمار العالمي والصهيونية العالمية، وكانت بهذا صورةً مُقَنَّعةً من الاستعمار الجماعي، وما هي إلا قاعدةٌ عسكريةٌ كاملةٌ أماميةٌ للمعسكر الغربي، لا تتجزأ عن نظامه الاستراتيجي العدواني الذي أقامه حول العالم”[9].
وفكرة إمكانية قيام دولة إسرائيل كما صاغها لهم هرتزل في كتابه (الدولة اليهودية) تقوم على إبادة الآخر والإحلال محله، يقول: “إذا أردنا اليوم أن نقيم دولة فلن نقيمها بنفس الطريقة التي كانت هي الإمكانية الوحيدة منذ ألف سنة، إنه من الغباء الرجوع إلى المراحل الحضارية السابقة لما يريد كثير من الصهاينة أن يفعلوا؛ لنفرض مثالاً على ذلك أنه كان علينا أن نخلي أرضًا من الحيوانات المفترسة فلن نقوم بالمهمة بنفس الطريقة التي اتبعها الأوروبيون في القرن الخامس؛ فلا يصح أن نأخذ رمحًا وحربة ونخرج أفرادًا وراء الدببة، بل ينبغي أن ننظم مجموعةً قويةً من الصيادين فتسوقَ الحيواناتِ لتجمعهم في مكان واحد ثم تقذف في وسطهم قنبلة مدمرة”[10] ولك أن تلاحظ ترجمة هذا الإسقاط حينما يتفوَّه قادة الحرب في الكيان المحتل فيصفون شعب فلسطين بالحيوانات. والمحتل لا يُواجه في القتال رجلاً لرجل، بل يرمي أطنان القنابل على رؤوس المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ من بعيد.
“إسرائيل في جوهرها ما هي إلا شركةٌ سريةٌ مساهمةٌ بين الاستعمار العالمي والصهيونية العالمية، وكانت بهذا صورةً مُقَنَّعةً من الاستعمار الجماعي، وما هي إلا قاعدةٌ عسكريةٌ كاملةٌ أماميةٌ للمعسكر الغربي، لا تتجزأ عن نظامه الاستراتيجي العدواني الذي أقامه حول العالم”
د. جمال حمدان
ثانيًا: طبيعة الشعب اليهودي في ميزان الإسلام:
تؤكد النصوص والدراسات أنَّ الشعب اليهودي دون غيره من شعوب الأرض يتفرَّد بطبيعةٍ خاصة، وهذه الطبيعة جعلته شعبًا بغيضًا إلى الناس ممقوتًا مكروهًا -رضي أو لم يرض- حيثما حلَّ أو ارتحل، وذلك من كسب أيديهم وظُلمهم وسعيهم الدؤوب للإفساد في الأرض، وعداوتُهم لغيرهم ظاهرةٌ بينة، وهي للمؤمنين أشدّ كما قال تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [المائدة: 82]، يقول السعدي: “فهؤلاء الطائفتان على الإطلاق أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين، وأكثرُهم سعيًا في إيصال الضرر إليهم، وذلك لشدة بُغضهم لهم بغيًا وحسدًا وعنادًا وكفرًا”[11]، واليهود “أورثهم تاريخهم الخاص نفسيةً غريبةً لم توجد في أمة غيرهم، وانفردوا بخصائص خُلُقية كانت لهم شعارًا على تعاقُب الأعصار والأجيال؛ منها الخنوع عند الضعف، والبطش وسوء السيرة عند الغلبة، والختل والنفاق في عامة الأحوال، والقسوة والأثرة وأكل أموال الناس بالباطل، والصد عن سبيل الله”[12].
إنَّ القسوة من طبيعة القوم، بل تكاد تكون هذه الصفة مع صفة المراوغة والاحتيال هما أبرز صفات اليهود في القديم والحديث، بحيث إنَّها صارت تمثِّل حجر الزاوية في حياة اليهود بوجهٍ عام، كما لو كانت صفةً لازمةً وهيئة راسخة لا تنفك عنهم، قال تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: 74]، قال أبو حيان الأندلسي: “وهذه جملة ابتدائية حكم فيها بتشبيه قلوبهم بالحجارة؛ إذ الحجر لا يتأثَّر بموعظةٍ، ويعني أنَّ قلوبهم صلبة لا تخلخلها الخوارق كما أن الحجر خُلق صلبًا”[13]، ولابن عاشور لفتةٌ جميلةٌ في هذا المعنى، يقول: إن “هذه القلوب قساوتها عند التمحيص أشدُّ من قساوةِ الحجارة؛ لأنَّ الحجارة قد يعتريها التحوُّل عن صلابتها وشدتها بالتفرق والتشقق وهذه القلوب لم تُجْدِ فيها محاولة”[14].
واليهود لا يحترمون ميثاقًا ولا يراعون ذمةً أو يُحسنون جوارًا، طبيعتهم المراوغة والمخاتلة والمخادعة ﴿أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 100].
ومن عَجَبٍ أنَّا ما زلنا نُخدع فيهم رغم أنَّ المؤمنَ لا يُلدغُ من جُحرٍ مرَّتين، فهل بَهَتَ سمتُ الإيمان عندنا حتى نتجرَّع منهم كلَّ يومٍ مصائبهم وشرورَهم ونلدغ آلاف المرات من جحر واحد نعرف أنه ممتلئ بالحيات والآفات؟![15].
إنَّ القسوة مِن طبيعة اليهود، بل تكاد تكون هذه الصفة مع صفة المراوغة والاحتيال هما أبرز صفات اليهود في القديم والحديث، بحيث إنَّها صارت تمثِّل حجر الزاوية في حياة اليهود بوجهٍ عام، كما لو كانت صفةً لازمةً وهيئة راسخة لا تنفك عنهم
ثالثًا: واجب الأمة الإسلامية اليوم:
إنَّ طبائع النفوس وخواصَّ الأرواح البشرية قلّما تتغيَّر، وعلى الرغم من وثيقة المدينة النبوية التي عقدها النبي r منذ أن وطئت أقدامه أرض يثرب وإقرارهم عليها، إلا أنهم لم يحتملوا الوفاء بها، وإنما نقضوها جملةً وتفصيلاً؛ فطبعُ الإنسان غلّاب عليه، ومن نافذة التاريخ يبدو لنا بجلاء أن هؤلاء الصهاينة لا يُسكتهم إلا صوتُ القُوة وجلبة الخيل ولمعان السيوف وصيحة الجهاد تدوّي في ربوع الديار، وعندها سيقرؤون التاريخ بوضوح ويتتبعون السوابق والآثار ويعلمون أن ما جرى على أحد المثَلين يجرى على الآخر، وأن الأشباه بنظائرها، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم “ما مات وما خلف بنات”[16]، وإنما خلَّف أسودًا مغاوير يحملون أكفانهم على أيديهم قد بايعوا بيعة لا ينكثون فيها أبدًا.
وقد يظنُّ ظانٌّ أنَّ المسلمين اليوم لن تقوم لهم رايةٌ أبدًا، لتخلُّفِهم عن ركب المدنية والتطوُّر، وهذا فهم قاصر، ونظرةٌ تشاؤمية مَقيتة؛ فمنذ متى كانت القوة العددية شرطًا في انتصار المسلمين في معركة من المعارك أو غزوة من الغزوات؟
والصحيح أنَّ الأمة اليوم في حاجة إلى انبعاثٍ جديد وإلى روح قتالية تؤمن بالشهادة نصيبًا واصطفاءً، وإلى روحٍ قادرةٍ قاهرةٍ تكره الخنا وترفض الضعف بكل صوره وأشكاله، ليبقى الواجب المقدس والأكبر على الأمة المسلمة اليوم، والذي تقرِّره النصوص الشرعية وتفرضه الضرورة الحياتية هو الجهاد في سبيل الله لحماية الأنفس وصيانة الأعراض والمقدسات ودفع الصائل المعتدي وحماية بيضة الإسلام، وبين يدي هذا الواجب لا بد من معينات أُخَر تدفع بالأمة في ليل الكدح وظلام المادة وانتفاشة الباطل واستعلائه، فتكون لها حداءً وتسلية تقطع بها مراحل الطريق ومفازته.
إنَّ الأمة اليوم في حاجة إلى انبعاثٍ جديد وإلى روح قتالية تؤمن بالشهادة نصيبًا واصطفاءً، وإلى روحٍ قادرةٍ قاهرةٍ تكره الخنا وترفض الضعف بكل صوره وأشكاله، ليبقى الواجب المقدس والأكبر على الأمة المسلمة اليوم هو الجهاد في سبيل الله.
ومن أهم واجبات الأمة اليوم:
-
زيادة ثقة الأمة في نصر الله:
فقد وعد الله الأمة المسلمة المرابطة بالنصر والتأييد والمنعة إن كرّست نفسها لحماية دينه وإعلاء كلمته، قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47]، وليس من شكٍّ في أنَّ الظنَّ الحسنَ بالله تعالى من أتمِّ العُدَّة وأعظم المدد، وهذه الثقة كانت وما زالت عونًا لأنبياء الله وأوليائه الصالحين، ترافقهم وتدفعهم للعمل وتنفض عنهم اليأس والقنوط، وفي الحديث: (لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)[17] ، وها هم اليوم المجاهدون في فلسطين المحتلة ينزلون بأسهم بالعدو الغاصب.
-
فهم قضية فلسطين واستيعابها جيدًا:
لتشكل أرضيةً لوعي جمعي فاعل، فالحقوق المغتصبة لا تسقط بالتقادم الزمني ولا بسلطة الأمر الواقع، وترسيخ ذلك في الأذهان، والعمل على نشر الوعي في عدد من المحاور والدوائر التي حولنا (الأسرة والأقارب والأصدقاء، وفي وسائل المواصلات ومواطن تجمع الناس ومناسباتهم، واستثمار المنابر ووسائل الإعلام بأنواعها والصالونات والمنتديات الثقافية وغيرها).
ينبغي فهم قضية فلسطين واستيعابها جيدًا، فالحقوق المغتصبة لا تسقط بالتقادم الزمني ولا بسلطة الأمر الواقع، ولا بدَّ من ترسيخ ذلك في الأذهان، والعمل على نشر الوعي في عدد من المحاور والدوائر التي حولنا
-
الإعداد المادي والمعنوي:
إعداد العدة والعتاد اللازمَين لقهر العدو وإحداث النكاية به، والأخذ بثأر المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، مع الأخذ في الحسبان بما يناسب طبيعة المعركة من الأدوات والخطط والاستراتيجيات، وقبل ذلك كله الإعداد الإيماني والعقدي.
واليهود -كما نعرف من تاريخهم الأسود- لا يصلح معهم إلا القوة بمفهومها المتكامل، بما في ذلك: (قوة العقيدة، قوة الأخوة “الحاضنة الشعبية”، قوة الساعد والسلاح).
-
المرابطة على الثغور:
والرباط ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم، ويشمل ذلك حمل النفس على العزائم، وقد علق سبحانه الفلاح على الصبر والمصابرة والمرابطة، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200]، والشام أرض الرباط إلى يوم القيامة كما دلَّت النصوص والآثار، ومن ذلك أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن أفضل جهادكم الرباط، وإن أفضل رباطكم عسقلان)[18] ، وأجر المرابطة عظيم وثوابها مستمر لا ينقطع، كما جاء في الحديث: (كلُّ ميتٍ يُختَمُ على عملِهِ إلا الذي مات مرابطًا في سبيلِ اللهِ؛ فإنَّهُ يُنْمَى له عملُهُ إلى يومِ القيامةِ ويأمنُ من فتنةِ القبرِ)، ورواية أبي داوود (يَنمو لَهُ عملُهُ إلى يومِ القيامةِ)[19].
-
العمل على وحدة الأمة العربية والإسلامية:
واتحادها على كلمة سواء (في المعركة السياسية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية)، والسعي نحو هذا الهدف بكل السبل والطرق المشروعة والممكنة، بالتربية والتوعية والتعليم والإرشاد والتفاهم والتنازل وتقديم التضحيات، وعند منة الله بتحقق ذلك ستجد الأمة أن ما بيدها من أوراق القوة والضغط أكثر وأخطر مما تتصور، كالثروات والإمكانات، والسواعد المستعدة، وإمكانية التحكم في المعابر التجارية والاستراتيجية، ووقتها لن يبقى للاتفاقيات المقيدة أي قيمة تذكر. كل ذلك أو بعضه يغير المعادلة بين عشية وضحاها للتخفيف عن أهلنا في الأراضي المحتلة، وعندما تجتمع الأمة تحت مظلة العقيدة تقوى شوكتها ويعلو بنيانها، وتبقى عزيزة مرهوبة الجانب، كما حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة واجتمع بالمهاجرين والأنصار قال شاس بن قيس اليهودي: “قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار”[20].
-
بعث الأمل في النفوس:
لأنَّ رفع الروح المعنوية يُعيد للأمة حيويَّتها وقُدرتها على مواصلة الكفاح، ويُشعرها أنها ما تزال فتية وحية وعصيّة على الانكسار، بما تملك من رصيد تراثي وعقائدي ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139]، وها هي غزة اليوم تُسطِّر ملحمةً جديدةً من الصمود والعِزَّة والفَخَار وبعث الأمل في عروق أجيالٍ متعاقبةٍ تبحث لها عن بصيص أمل ليوجه بوصلتها، فقدَّمت نموذجًا فذًّا في الإرادة والصمود والإقدام.
-
الجهاد بالمال:
فهؤلاء المجاهدون يشملون جل مصارف الزكاة (الفقير والمسكين والغارم والمجاهد في سبيل الله وابن السبيل… للذين خرجوا من بيوتهم وانقطعت بهم السبل) وفي الحديث (أفضلُ الصدقاتِ ظِلُّ فُسْطاطٍ في سبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ومِنْحَةُ خادمٍ في سبيلِ اللهِ، أو طَرُوقَةُ فَحْلٍ في سبيلِ اللهِ)[21]، وقد قدم الله الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في معظم المواضع في القرآن الكريم، وذلك لأنَّ الجهاد دائمًا وأبدًا يبقى بحاجة للمال، والمجاهد بماله قد يبلغ لما ينفق منازل المجاهدين، وفي الحديث الصحيح عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه مرفوعًا: (مَن جَهَّز غازِيًا فِي سبيلِ الله فَقَد غَزا، وَمَن خَلَف غازِيًا في أهلِه بخَير فقَد غزا)[22].
-
واجب النصرة:
قال تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ [الأنفال: 72]، وترك المجاهدين في الميدان وحدهم فيه ضرر كبير عليهم قد لا يمكن تداركه “وقد يجر إلى مفسدة” كما قال البقاعي، ولذلك جاء التحذير في الآية ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: 73] “أي إن لم تفعلوا مثله من تولّي المؤمنين ومعاداة الكافرين كما يفعل الكفار بالتعاضد والتعاون بالنفس والمال،… فاللائق بكم أن تكونوا أعظم منهم في ذلك،… ولو ترك المؤمنون التناصر بينهم انخلَّ النظام فاختل كل من النقض والإبرام فتباعدت القلوب وتزايدت الكروب”[23].
وفي الحديث الصحيح (ما من امرئٍ يخذل امرءًا مسلمًا في موطنٍ يُنتَقَصُ فيه من عِرضِه، ويُنتهَكُ فيه من حُرمتِه، إلا خذله اللهُ تعالى في موطنٍ يحبُّ فيه نُصرتَه، وما من أحدٍ ينصر مسلمًا في موطنٍ يُنتقَصُ فيه من عِرضِه، ويُنتهَكُ فيه من حُرمتِه، إلا نصره اللهُ في موطنٍ يحبُّ فيه نُصرتَه)[24].
ومن النصرة أن يقاطع المسلمون كلَّ ما يعود على هؤلاء الصهاينة من منفعةٍ ماديةٍ أو معنوية، وهو أمرٌ ذو بال لما يحدثه من النكاية في العدو، والمقاطعة تدخل في مفهوم الجهاد بمعناه العام، فالله تعالى أوجب على المؤمنين مجاهدة الكفار والمنافقين، سواء أكان جهادًا عينيًا أو كفائيًا، ومن المعلوم أن في جهادهم دفعًا لشرِّهم بالنكاية البالغة فيهم، فإلحاق الضرر بهم عن طريق المقاطعة الاقتصادية مشروع من باب أولى.
ومما يدل على مشروعية المقاطعة ما فعله ثمامة بن أثال رضي الله عنه بعدما أسلم، حيث قال لكفار قريش: (والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي ع)[25] ووجه الدلالة من الحديث هنا: أن ما فعله سيدنا ثمامة رضي الله عنه وقيامه بتهديد الكفار بأن يقطع عنهم الحنطة هو صورة من صور المقاطعة الاقتصادية، ولو كان هذا الفعل غير مشروع لما وافقه عليه صلى الله عليه وسلم.
ومن أوجب الواجبات لإغاثة الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة: فتح المعابر لإدخال المساعدات الإنسانية الغذائية والدوائية، وهذا يتطلَّب صدقًا وشجاعةً من الدول المجاورة، ولن تستطيع دولة الاحتلال أن تفعل شيئًا معهم، فشعوبهم معهم في هذا الأمر، والأمة من خلفهم.
-
الدُّعاء:
الدعاءُ للمؤمنين بالتأييد والنصرة، والدعاء على الظالمين المعتدين بالهلاك والثبور فيه رحمة للأمة، ومخرج من الأزمة، وشفاء للصدور، وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن غدر أهل نجد بسبعين من أصحابه الكرام رضي الله عنهم، عن أنس رضي الله عنه قال: “بعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً لحاجة، يُقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من بني سليم: رِعل وذَكوان فقتلوهم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا في صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت“[26].
قال النووي في شرح مسلم: “الصحيح المشهور أنه إذا نزلت نازلة كعدو وقحط ووباء وعطش وضرر ظاهر في المسلمين ونحو ذلك، قنتوا في جميع الصلوات المكتوبة”[27].
وأهل فلسطين اليوم في حاجة ملحة إلى الدعاء والإخلاص فيه لرفع ما هم فيه من الضر والبلاء.
مِن النُصرة للقضية الفلسطينية: مقاطعة كل ما يعود على الصهاينة من منفعةٍ ماديةٍ أو معنوية، والمقاطعة تدخل في مفهوم الجهاد بمعناه العام، ومن المعلوم أن في جهادهم دفعًا لشرِّهم بالنكاية البالغة فيهم، فإلحاق الضرر بهم عن طريق المقاطعة الاقتصادية مشروع من باب أولى
كلمة أخيرة:
إنَّ اليسر قادم وإن الفرج آت وإن المستقبل للإسلام وحده، فكلُّ حضارات الأرض كادت شمسُها أن تغيب، أما الإسلام وحضارته فقد اشتدَّ ساقه ونمت فروعه في كل المعمورة، وهو وحده القادر على بعث الأمة من جديد. يقول أرنولد توينبي: “إذا كان للسوابق التاريخية أي معنى عندنا وهي إشعاعات الضوء الوحيدة التي يمكن أن يلقيها على الظلمات التي تكتنف مستقبلنا، فإنَّها تُنذر بأنَّ الإسلام قادرٌ على التأثير في المستقبل بأساليبَ عِدَّة تسمو على فهمنا وإدراكنا”[28].
ولعلنا نُدرك أنَّ القرن القادم بما يحمل من تحدِّيات لا يحترم أصحاب الإرادات الضعيفة والعزائم الخائرة بقدر ما يحترم ذوي البأس والنفوذ والعلم والتقدم وبناء الإنسان من جديد. والأمة الإسلامية -والمقاومة في طليعتها- معنية بوجه خاص برد الأمور إلى نصابها، فهي شاهدة على غيرها من الأمم، وهى أمة النذارة والنفير والخيل والكر والفر، وإن عجلة الحياة ماضية ومسيرة التاريخ لا تتوقف، وفي صفحات التاريخ يُدوَّن كسب الأمة واكتسابها (لها أو عليها) يقول د. جمال حمدان: “إنَّ المستقبلَ القريبَ جديرٌ بأن يثبت أنَّ إسرائيل لن تكون إلا مجرَّد مرحلةٍ في رحلةِ الشَّتات التاريخية، مجرَّد جملةٍ اعتراضية في تاريخ فلسطين، وقريبٌ هو لا شك الخروجُ الجديدُ؛ لأنَّها نبتٌ شيطاني اصطناعي يعيش تحت صوبة زجاجية يتنفس في مناخ مفتعل تحت خيمة أوكسجين دائمة ويحيا على عمليات نقل الدم التي لا تنقطع”[29]، ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ [الإسراء: 51].
د. علي مدني رضوان
دكتوراه في الشريعة، جامعة طنطا.
[1] جامع البيان، للطبري (10/404).
[2] نظم الدرر، للبقاعي (6/74).
[3] تيودور هرتزل كان حسب كثير من المؤرخين ملحدًا، أو على أقل تقدير لا دينيًا، ينظر مقالة: إسرائيل بين اليهودية الدينية والصهيونية السياسية! لمحمد جميح، على موقع القدس العربي، والتفريغ النصي لمقابلة أجراها الصحفي أحمد منصور مع المفكر الفرنسي روجيه جارودي على قناة الجزيرة، بعنوان: إسرائيل أنشأها الملحدون، والتفريغ موجود على موقع أحمد منصور.
[4]اليهود واليهودية، للدكتور عبد الجليل شلبي (بتصرف يسير) ص (192-193).
[5]ينظر: الأيدلوجية الصهيونية، للدكتور المسيري (1/121).
[6]فلسطين أولاً، للدكتور جمال حمدان، ص (58).
[7]الموجز في تاريخ القضية الفلسطينية، لقسطنطين خمار، ص (27).
[8]ينظر: الصهيونية العالمية، لعباس العقاد، ص (27).
[10]ينظر: الدولة اليهودية، لهرتزل، ص (17).
[12]ينظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، للندوي، ص (38) وما بعدها.
[15] هذا عند إصرارهم على ضلالهم وباطلهم، أما من أسلم منهم وحسن إسلامه، وخالطت بشاشة الإيمان قلبه فيصبح خلقًا آخر، ولكن هؤلاء قليل جدًا في اليهود عبر التاريخ وهذا شاهد آخر على سوئهم في الجملة.
[16] كان اليهود يردِّدون عبارة “محمد مات وخلف بنات” لدى احتلالهم فلسطين، أخزاهم الله.
[17] أخرجه عبدالله بن أحمد في زياداته على المسند (22320)، وأصله في صحيح مسلم (1037) بلفظ: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس).
[18] أخرجه الطبراني (11138).
[19] أخرجه الترمذي (1621) وأبو داود (2500).
[20] سيرة ابن هشام (2/146).
[22]متفق عليه: أخرجه البخاري (2843) ومسلم (1895).
[23] ينظر: نظم الدرر، للبقاعي (8/345) وما بعدها.
[24]أخرجه أبو داود (4884) وأحمد (16368).
[27] شرح صحيح مسلم، للنووي (5/176).
[28] الحملة الصليبية على العالم الإسلامي والعالم، ليوسف العاصي (4/281).
[29] ينظر: اليهود أنثروبولوجيا، للدكتور جمال حمدان، ص (56)، وص (84).